استراتيجيات التأويل وأصول العنف في الفكر الإسلامي
فئة : حوارات
استراتيجيات التأويل وأصول العنف في الفكر الإسلامي[1]
د. حسام الدين درويش
د. سامح إسماعيل مبروك
أ. صبحي نايل
د. ميادة كيالي
كلمة الدكتورة ميادة كيالي:
أهلاً وسهلاً بكلّ الأصدقاء والمهتمّين في هذه الندوة الحوارية الثامنة من سلسلة الندوات، وأرحّب ترحيباً كبيراً بالأستاذ صبحي نايل، وسعيدةٌ جدّاً بحضوره معنا في إطلالةٍ على منصة «زوم»، لمناقشة كتابه الصادر عن مؤسسة «مؤمنون بلا حدود» «استراتيجيات التأويل والعنف الديني في الفكر الإسلامي المعاصر». كما أرحّب ترحيباً كبيراً بالصديق العزيز الدكتور سامح إسماعيل مبروك؛ إذ سيمثل حضوره معنا، اليوم، إضافةً نوعيةً تساهم في تحقيق الفائدة المرجوة من هذا اللقاء. وهو كان وما يزال رفيق الدرب، ونجماً من نجوم مؤسسة مؤمنون بلا حدود.
أما بالنسبة إلى كتاب «استراتيجيات التأويل وأصول العنف في الفكر الإسلامي المعاصر»، موضوع لقاء اليوم، فقد ارتأى المؤلف أن يتوزع على بابين؛ تضمن كل منهما عدة فصول، بالإضافة إلى مقدمة وخاتمة، مع تقديم مهمّ للمفكر عبد الجواد ياسين. وقد تناول المؤلف في الباب الأول (القرآن وأصول العنف الديني) الجذور التي تفسر علاقة النص القرآني بالعنف في الفكر الإسلامي، مع توضيح كيف تم توجيه النصوص لخدمة السلطة السياسية في التاريخ الإسلامي، وانقسم هذا الباب إلى ثلاثة فصول. فاستعرض المؤلف، في الفصل الأول، الموسوم بــــــــــــ«التأويل بين الموضوعية والذاتية»، نشأة وتطور التأويل في الفكرين الغربي والإسلامي، وكيفية تعامل الفكر الإسلامي مع مفهوم التأويل عبر العصور. وركز، في الفصل الثاني، الموسوم بـــــــ: «نقد العقل الإسلامي، التوظيف الأيديولوجي للدين»، على استخدام النص القرآني، كأداةٍ أيديولوجيةٍ في التاريخ الإسلامي، ووضَّح كيف تم تسخير الدين لخدمة السلطة. وناقش، في الفصل الثالث، الذي عنونه بـــــــ«في أصول العنف الديني ومحورية القرآن في الواقع الإسلامي»، دور النص القرآني في تبرير العنف داخل المجتمعات الإسلامية، وأهمية إعادة التفكير في العلاقة بين النص والواقع المعاصر.
أما في الباب الثاني، «القراءات المعاصرة للقرآن»، فاستعرض المؤلف القراءات التأويلية لأهم المفكرين المعاصرين الذين قدموا استراتيجياتٍ جديدةً لتفسير النصوص القرآنية، بما يتماشى مع التطورات الفكرية والاجتماعية الحديثة، على ضوء فصولٍ أربعةٍ. فعرض الباحث في الفصل الأول - «استراتيجية محمد أركون التأويلية (الأنسنة)» - تحليل أركون للتأويل، حيث دعا إلى تحرير النص من الأطر التقليدية. وناقش في الفصل الثاني - «استراتيجية نصر حامد أبو زيد التأويلية (من النص إلى الخطاب)» - جهود نصر أبو زيد في إعادة النظر في النصوص الدينية، بوصفها خطاباً يمكن تأويله بأكثر من طريقةٍ. وركز، في الفصل الثالث - «استراتيجية عبد الجواد ياسين التأويلية (اجتماعانية النص)» - على الرؤية التي ترى في النص الديني جزءاً من التكوين الاجتماعي، ويجب تأويله بما يخدم التفاعل مع الواقع. أما في الفصل الرابع - «استراتيجية علي مبروك التأويلية (القرآن الحي)» - فقدم قراءةً لنصوص القرآن، بوصفها أدواتٍ قابلةً للتطور والتفاعل مع الواقع الاجتماعي المتغير.
ويطرح الكتاب قضيةً معقدةً وحديثةً حول «تأويل العنف» في الفكر الإسلامي، وهو موضوعٌ ذو أهميةٍ بالغةٍ في ظلّ التحولات الفكرية والثقافية التي يمرّ بها العالم الإسلامي اليوم. وكما أشار عبد الجواد ياسين، في مقدمته: «الحداثة لم تؤدِّ إلى خلق مجتمعٍ سلميٍّ مثاليٍّ، لكنها فتحت الوعي على ثقافةٍ أقلّ تقبلاً للعنف وأكثر احتفاءً بحرية الفكر والتعددية. انفتح النقاش على التناقض الصريح بين الدين وسفك الدماء تأسيساً على المعنى الأخلاقي المفترض للدين». فهذا الكتاب يعالج الأزمة الحالية في الفكر الإسلامي، وهي التوتر بين النصوص القرآنية التي تتناول العنف والقتال، والضغوط الحداثية التي تدفع باتجاه التعددية وحرية الفكر. كما بيّن المؤلف أن هناك مستوياتٍ متعددةً من التعامل مع هذه الأزمة، من الطرح الأصولي المتطرف الذي يرى الجهاد تكليفاً إلهيّاً، إلى الطرح التجديدي الذي يحاول إعادة تفسير النصوص بما يتوافق مع الثقافة المعاصرة. وأختم بما قاله الأستاذ صبحي نايل: «يحاول الكتاب أن يسلّط الضوء على التوتر القائم بين النص القرآني والواقع المعاصر، مؤكداً أن التأويل ليس مجرد آليةٍ نصيةٍ، بل هو ضرورةٌ اجتماعيةٌ لاستيعاب التطورات التي تفرضها الحداثة».
نأمل أن يثري هذا النقاش فهمنا لأهمية تأويل النصوص الدينية، في ضوء التطورات الفكرية والاجتماعية، وأترك الآن إدارة الحوار للدكتور حسام الدين درويش.
د. حسام الدين درويش:
شكراً لك د. ميادة، على هذا التقديم، ولأسباب مختلفةٍ، سروري مضاعفٌ بمناقشة كتاب الصديق العزيز صبحي نايل، وبحضور الصديق العزيز د. سامح إسماعيل. قد يكون موضوع الكتاب راهناً أكثر من اللازم. كتاب اليوم هو الكتاب الأول للعزيز صبحي، وكالعادة، كنا نتناقش قبل الجلسة، «هل يشبه الكتاب الأول المولود الأول أم الحبّ الأول؟». الكاتب صبحي نايل باحثٌ مجدٌّ نشيطٌ، ويشخص، في كتابه، المشكلة التي يتناولها بجرأة، ويتحدث عن حلٍّ ما لها. إذن، هناك تشخيصٌ للمشكلة، وهناك تشخيصٌ للحلّ. لدينا جماعاتٌ إسلاميةٌ تحلّ محلّ الله وتتكلم باسمه، وهذه هي المشكلة. والحلّ هو التأويل، والقول إن هناك مسافةً بين ما نقوله وما يقدمه الكتاب. ويحذر الكاتب من أنه يجب ألا نظن أن المشكلة دينيةٌ أو في الفكر الديني فقط؛ فهناك مشاكل سياسيةٌ اقتصاديةٌ اجتماعيةٌ ...إلخ. هذه هي الخطاطة أو الرؤية العامة التي يقدمها، لكن إذا عدنا إلى مسألة المولود، كيف ولد هذا الكتاب؟ هل يمكن، العزيز صبحي، أن تحكي قصته والأطروحة التي تناولها؟ وما الذي أردت أن تقوله فيه؟
أ. صبحي نايل:
في البداية أشكر د. ميادة العزيزة، والصديق العزيز د. حسام، والصديق الغالي د. سامح، ومؤسسة مؤمنون بلا حدود على احتفائها بالكتاب. الحقيقة أنني جئت من خلفيةٍ ملتزمةٍ دينيّاً، تقدِّس العادات وأنماط التدين، ثم بدأ احتكاكي بنصر حامد أبو زيد، فقرأت له حتى بدأ شغفي به. لقد قرأت مشروعه، وأنا طالبٌ في مرحلة الإجازة «الليسانس»، ثم قرأت، بعد ذلك، مشروع محمد أركون، ولمحت تماسّاً ما بين الاثنين، حيث ينطلقان من رؤيةٍ ما للواقع، وحاجةٍ إلى علاقةٍ جديدةٍ مع القرآن، وتأويلٍ جديدٍ له، كي ينفتح الواقع وما إلى ذلك. هذا من ناحيةٍ. ومن ناحيةٍ أخرى، أنا أعيش أزمات الواقع العربي، فأنا عربيٌّ مصريٌّ مسلمٌ، أعيش أزمات هذا الواقع، فانطلقت من أزماتي، ومن حبّي لنصر حامد أبو زيد ومحمد أركون. وبدأت، في مرحلة الماجستير، الاشتغال على مشروعيهما. وكنت مهتمّاً بهما جدّاً، وعلى إطِّلاعٍ جيدٍ بمشاريعهما. ولما أنهيت أطروحة الماجستير، تنبّهت إلى أن ثمة مشاريع مشابهةً من خلال الدراسة، ومنها مشروع د. علي مبروك، ومشروع المستشار عبد الجواد ياسين، فبدأت قراءتهما ودراستهما، حتى كونت رؤيتي عنهما، وبدأت الكتابة فيهما فعليّاً، ثم نظمت الكتاب، وخلصت إلى صورته الأخيرة التي صدر بها. لقد كانت بدايتي كباحثٍ يتحد مع موضوعه، وينبهر به، بانبهارٍ واتحادٍ مع نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون. وأنت تعرف، يا د. حسام، أن مسألة الانبهار تبدأ مع مرور الوقت في فقدان رونقها، فتعمل على نقد هذه الأفكار وإنتاج رؤىً مختلفةٍ. وقد حاولت المشاريع المطروحة، بأدواتها وآلياتها، ويختلف كلّ منها عن الآخر في طريقة التعبير، وله رؤيةٌ مختلفةٌ، اختزال أزمات الواقع في البعد الديني، بيد أن الواقع له احتياجاتٌ وأزماتٌ مختلفةٌ. ولا يمكن اختزال الواقع العربي في البعد الديني فقط، فهو أكبر من ذلك، وله أبعادٌ أخرى مختلفةٌ: سياسيةٌ واقتصاديةٌ وما إلى ذلك. فهؤلاء كانوا يعرضون استراتيجياتهم التأويلية هذه، بوصفها حلاً لأزمات الواقع العربي. وما أردت أن أقدمه في هذا الكتاب هو، كما تفضلت الدكتورة العزيزة ميادة، طرح حالة التوتر القائمة، في السياق العربي الإسلامي، بين القرآن والواقع المعيش، حيث يتم فرض القرآن على الواقع الإسلامي المعيش، بوصفه نصّاً يحمل كافة الإجابات عن التساؤلات الممكنة، ويطالب الواقع بالامتثال إلى هذا النص، إلى أن وصل الحد بأن أصبح الواقع عاجزاً عن مواجهة أزماته وعيش واقعه ومشكلاته، وأصبح النص عاجزاً عن تقديم حلولٍ لأزماتٍ ومشكلاتٍ لم يأت في عصرها أو يواجهها. وأنبّه إلى أنّني، هنا، لا أقصد أن القرآن جاء لفترةٍ معينةٍ، وانتهى العمل به، لكن ما أرغب أن أقوله هو أن القرآن لم يمنع أهل شبه الجزيرة العربية من مواجهة واقعهم، ولم يمنع المسلمين من الاطلاع على الفلسفة اليونانية وإنتاج فلسفتهم. والمشكل الرئيس في العقل المعاصر الذي يتكاسل هي أنه يردّ كل شيءٍ إلى القرآن ويتخفّى خلفه، ويطالب الواقع بالامتثال إليه، حتى أصبح القرآن - بالمفهوم المطروح - عبئاً على المجتمع وثقلاً عليه. ومن ثم أضحى حاضراً بشكلٍ صوريٍّ. فهذا التعامل أفضى، كما قال نصر أبو زيد، إلى أن أصبح كلاهما أسطورةً. ومن ثم، ظهر الرهان على التأويل، بوصفه حلّاً لأزمات الواقع العربي، وكان العمل على توضيح أهميته بوصفه أداة سحب القرآن من الجماعات الجهادية، وفتح الباب نحو تعدد القراءات، وعودة القرآن إلى العمل الواقعي. وهذا ما قصده علي مبروك، حين قال بالقرآن الحيّ، وما ستفضي إليه التعددية في الواقع المعيش؛ وذلك من خلال عدم سيادة نمطٍ محددٍ ووحيدٍ على الفكر الإسلامي؛ ومن ثمَّ الانفتاح على التعددية. وفي الوقت نفسه تأكيد شدة تعقيد الواقع الإسلامي، وعدم اختزال أزماته في البعد الديني، الناتج عنها اختزال مجمل الحلول في التأويل. فالتأويل حلٌّ مهمٌّ لزاوية الفكر الديني وللواقع كذلك، لكنه، في الوقت نفسه، ليس الحلّ الوحيد والكلّي، فهو حلٌّ ضمن مجموعةٍ أخرى من الحلول التي يجب أن تُطرح.
لذلك، بدأ الموضوع، كما قلتَ، بالحبّ الأول، فقد كنت مغرماً بنصر حامد أبو زيد وبقية المشاريع التأويلية، إلى أن خلصت في النهاية إلى بعض الملاحظات والانتقادات عليها، وهي انتقاداتٌ لا تقلّل من قيمة هذه المشاريع بقدر ماهي مآخذ إنسانيةٌ طبيعيةٌ معرفيةٌ؛ لأن المعرفة تراكميةً كما تعرف، د. حسام. ويمكن القول إن مجمل المشاريع المقدمة سعت إلى تنمية الحسّ النقدي، وطالبت بانتقاداتٍ ودراسة مشاريعها؛ لأنها تقدم رؤيةً لها دورٌ، بكل تأكيدٍ، في بناء رؤيةٍ جديدةٍ تعمل على استكمالها.
د. حسام الدين درويش:
جميل جدّاً، شكراً لك. إن حبّ الباحث أو حبّ المفكر، في البحث والفكر، ليس حبّاً أعمى، بل هو حبٌّ واعٍ بالانتقادات والسلبيات والمآخذ. نبدأ بالفصل الأول، والسؤال عن الدور المركزي للقرآن؛ إذ كتب المستشار عبد الجواد ياسين تقديماً للكتاب، وهو أحد المفكرين الذين تناول الكتاب فكرهم، ويتضمن التقديم بعض التوتر أو الاختلاف البسيط عما يتضمنه الكتاب، حيث يعبِّر عبد الجواد ياسين بكثير من اللطف والحذر عن اختلافه، ويقدمه بطريقة تساؤلٍ سنعود إليه لاحقاً. ويحمل الباب الأول عنوان «القرآن وأصول العنف الديني»، والسؤال الرئيس، في هذا السياق هو: إلى أيّ حدٍّ يمكن ردّ العنف الديني إلى القرآن؟ وتتناول الفصول الثلاثة لهذا الباب معنى التأويل، ودور القرآن في إنتاج العنف الديني، وعلاقة السلطة السياسية بالقرآن في التاريخ. إذا انتقلنا إلى الفصل الأول الذي يتحدث عن «التأويل بين الموضوعية والذاتية في الفكرين الغربي والإسلامي»، نجد أنه يتضمن القول إن التأويل، في الفكر الغربي، موضوعيٌّ ومنهجيٌّ، في حين أن التأويل، في الفكر الإسلامي، ذاتيٌّ وغير منهجيٍّ. ويتم تقديم هذا التباين في صورةٍ مثنويةٍ. فهل يمكن أن تحدثنا عن معنى التأويل، ومعنى تلك الثنائية أو المثنوية، كما وردت في الفصل الأول؟
أ. صبحي نايل:
في معنى التأويل في السياق الغربي، فإن نشأة كلمة «الهرمينوطيقا» وترجمتها بــــــــ«التأويل» هي ترجمةٌ غير صحيحةٍ؛ لأن الهرمينوطيقا هي منهج التفسير أو نظريةٌ في التفسير، لكن التأويل هو كيفية التفسير؛ أي عملية التفسير نفسها. ففي نشأة الهرمينوطيقا، كانت نشأةً داخل بيئةٍ تحاول الانفلات من العقل الديني، ووضع الإطار الديني وسلطة رجل الدين في حدها، وتكون للعقل سلطته. فمع نشأة الهرمينوطيقا العامة مع شلايرماخر مثلاً، أصبحت نظريةً عامةً في تجنب سوء الفهم، وكانت محاولةً لسحب حق الحديث الإلهي باسم الدين من الكنيسة أو المؤسسة الدينية. وتعد المحاولات المعاصرة شبيهةً، إلى حدٍّ بعيدٍ، بمحاولات شلايرماخر. وتبلور هذا الطرح مع النزعة المنهجية التي جاءت بها الثورة التنويرية، في عصر النهضة، وتبلورت الهرمينوطيقا، في الأخير، بأن أصبحت منهجاً له حيثياته وزواياه.
على المختلف، في السياق العربي الإسلامي، كانت كلمة التأويل، مثلاً، عند ابن منظور؛ آل يؤول وأول الشيء عاد الشيء إلى أصله. وفي منشئها داخل شبه الجزيرة العربية، نشأت مع وجود النبي صلى الله عليه وسلم، حين كانوا يسألونه عن بعض معاني الآيات؛ فهي جاءت بوصفها الحديث عن المعنى الكامن في الضمير الإلهي؛ أي المعنى الصحيح والنهائي لهذه الآية أو لهذا النص أو لهذا الخطاب. وهنا أصبح الموضوع أكثر ذاتيةً، وبدأ الموضوع يتشعب بعد موت النبي؛ إذ لم يكن هناك من يتلقى الوحي، أو من هو قادر على القيادة الدينية والسياسية كالنبي صلى الله عليه وسلم.
وأخذ التأويل، في التاريخ الإسلامي، بعداً سياسياً، حيث صاغت السلطة السياسية مشروعيتها، من خلال تأويل القرآن، وإنتاج النصوص السنية، فلم يكن النص السنّي قد أغلق بعد. ومن ثم، أنتجت مجموعةً هائلةً من الأحاديث تقرّ بحكم الأمويين، وكذلك العباسيين، من بعدهم. والقرآن كان قد أغلق، ولم تجد السلطة حياله غير التأويل. وقد أفرزت العمليات التأويلية المدارس الكلامية التي جاءت بوصفها تأويلاتٍ عقائديةً. وأخذت كلّ مدرسةٍ طريقتها في فهم القرآن وتعاطيها معه. أما التأويل، بالمعنى المعاصر والمطروح في الكتاب، فيأخذ، بشكلٍ أو بآخر، معنى الهرمينوطيقا، ويأخذ دورها في النشأة، حيث يتشابه في ميلاده معها، فيتم طرحه بوصفه أداةً لسحب النص من الجماعات والسلطات التي ترى في نفسها حق الحديث باسم القرآن، وجاء الموضوع، من خلال زاويتين: الأولى إعلان غياب وجود قراءةٍ واحدةٍ ونهائيةٍ للقرآن تزعم امتلاك المعنى النهائي في الضمير الإلهي، وإلا فإن مقدم هذه القراءة يتعالى على النقصان البشري، ويأخذ سمات الألوهة. والثانية، تقديم قراءةٍ جديدة تطرح نفسها بوصفها قراءةً إنسانيةً تعمل على عقلنة القرآن، وطرح مفاهيم جديدةٍ للوحي، وطرائق مختلفةً للتعاطي معه.
د. حسام الدين درويش:
سنتحدث عن مسألة التوظيف الإيديولوجي للدين، لاحقاً، لكن بالعودة إلى مسألة التأويل؛ ينبغي الإشارة إلى أن الجذور أو الأصول أو الأسس الدينية للهرمينوطيقا، سواءٌ كمصطلحٍ أو كنشأةٍ، قوية في الفكر الغربي؛ فمصطلح الهرمينوطيقا مشتقٌّ من هرمس، وهو رسول بين الآلهة والبشر، ليوضح لهم الرسالة. وشلايرماخر هو أول من حاول تأسيس الهرمينوطيقا العامة، فقبله كان هناك الكثير من التأويلات، ومحاولة التنظير لكيفية فهم الكتاب المقدس، في الفكرين الغربي والعربي الإسلامي، على حدٍّ سواء. وفي السياق العربي الإسلامي الوسيط، كان الحديث، دائماً، عن التأويل، بوصفه انتقالاً من المعنى الحرفي أو الحقيقي إلى المعنى المجازي؛ فثمة دائماً تعدديةٌ في الفهم والمعنى في هذا السياق. لكن مع ذلك، أنت لا ترى أن هناك رؤيةٌ منهجيةٌ للتأويل، في الفكر العربي، مماثلةً لتلك الموجودة في الفكر الغربي.
ما أودّ أن أسألك عنه هو ربطك أصول العنف الديني بمسألة التوظيف الإيديولوجي للدين، وقد بدا ذلك الربط إشكاليّاً. فمن ناحيةٍ أولى، أنت ترى أن التأويل أو الرؤية التأويلية ذاتيةٌ، أو فيها شيءٌ من الذاتية، ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، أنت ترى أن السلطات السياسية أنطقت النص بما ليس فيه؛ أي أسقطت على النص رغباتٍ، من دون وجه حقٍّ. هل يمكنك شرح مضمون الفصل الثاني من هذه الناحية: مسألة التوظيف الأيديولوجي للدين؟
أ. صبحي نايل:
لا يمكن إنكار البعد الذاتي في العملية التأويلية؛ فالعنصر الذاتي له دورٌ كبيرٌ في العملية التأويلية، حيث يقرأ الإنسان النص أو الخطاب بخبراته الإنسانية وعواطفه كذلك، ومرجعيته المعرفية والأيديولوجية. وهو أمرٌ اعترفت به الهيرمينوطيقا منذ شلايرماخر، بل إنها جاءت معه كفنٍّ لتجنب سوء الفهم، كما تم ذكره. أما في السياق العربي الإسلامي، فلم تعترف التأويلات المطروحة بالعنصر الذاتي، وقدمت نفسها بوصفها متعاليةً على التاريخ والرؤى القاصرة، وهو أمرٌ مفهومٌ في سياقها، حيث لم يكن للمنهج التاريخي أو التفكير التاريخي وجودٌ في هذا الأفق المعرفي. أما عن وجود تعدديةٍ، فإنها كانت موجودةً بنزعةٍ ضيقةٍ للغاية. والحديث عن المعنى الحقيقي والمجازي، في نظري، أمرٌ تبريريٌّ لتمرير رغبات السلطة السياسية أو شرعنة رؤية المؤول.
وعلى الرغم من أن الخطاب القرآني يخاطب الفرد، من خلال حديثه الدائم والودود إلى المؤمن، كقوله عز وجل: }نحن أقرب إليه من حبل الوريد{ {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبَّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا}، والتي تحمل، في مجملها، عباراتٍ مطمئنةً، يخاطب بها الله الإنسان المؤمن، فإن للسلطة السياسية حيثياتٌ مختلفةٌ، عادة، حيث سعت إلى السطو على النص وامتلاكه، وفرض رؤيتها على القرآن، وسعت إلى توظيفه في آليات وأدوات سيطرتها وشرعنة وجودها لقيادة الجموع. وقد بدأت آليات التوظيف الإيديولوجي، من رفع المصاحف على أسنّة الرماح، وإدراك معاوية بن أبي سفيان، طبعاً، على يد عمرو بن العاص، أن للمصحف سلطةً أقوى ومجاوزةً للسيف. منذ ذلك الحين، بدأ التوظيف الإيديولوجي للدين، واستنطاق معاوية للقرآن بما يهوى. وبدأت السلطة تبلور نظريتها في صورتها الدينية، واستغلال الفقهاء من قبل الدولة وتوظيفهم لرغباتها. وكان معروفاً، في فترة الحكم الأموي، النزاع بينهم وبين الفقهاء؛ فإذا لم يكن الفقيه خاضعاً للدولة ومنطقها، يتم اضطهاده من قبل السلطة. وقد تمَّ قتل الكثير والتنكيل بهم وما إلى ذلك. وهناك من اعتزل الطرفين بمنطق اعتزال الفتنة وما إلى ذلك. فنتج أن الفقه صاغ مفاهيمه ومفرداته، وفق مضامين السلطة وإرادتها. وبدأت السلطة تفرض نفسها بوصفها نسقاً دينياً، فظهر المذهبان الرئيسان في الإسلام: المذهب السنّي، والمذهب الشيعي.
أما عن سؤال من أطلق أهل «السنة والجماعة» على الأمويين؟ فلا نجد إجابةً، هم أطلقوا على أنفسهم هذا اللقب، واحتكروا السنّة النبوية، واحتكروا الدين: نحن أهل السنّة والجماعة، والآخرون هم الشيعة. وهنا، بدأ التوظيف الإيديولوجي للدين؛ إذ إن فرض السلطة لرؤيتها لا يمنع وجود النزعة الذاتية، لكن للسلطة دائماً قوتها، وتفرض نفسها بقوة الواقع وما إلى ذلك. وأحسن الأمويون إنتاج الاتهام الرئيس بأن من لا يقف مع الأمويين فهو شيعيٌّ، وأحسنوا استخدامه كذلك؛ أي إن معاوية استخدم هذه المعادلة بأن من لا يقف مع الأمويين، لا يقف مع السنة والجماعة، وهو شيعيٌّ، وهو اتهامٌ يحمل تكفيراً ضمنيّاً. وهذا الاتهام بالكفر جعل كثيراً من الناس، لا أقول يؤمنون بمنطق السلطة، وما تستنطق به من نص، ولكن يخضعون لهذا المنطق، مع قوة السلطة وهيبتها، بطبيعة الحال.
د. حسام الدين درويش:
الفصل الثالث ربما هو الأهم في هذا الإطار، وهو، بالفعل، فصلٌ مركّبٌ فيه أكثر من أطروحةٍ، وكلٌّ منها يستحق الانتباه والاهتمام والتفكير. فمن ناحيةٍ أولى، هناك حديثٌ عن أن هناك أسباباً واقعيةً للعنف غير مسألة الدين والنص والفكر الديني، ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، هناك حديثٌ عن محورية دور النص في العنف.
إذن، لدينا أطروحتان مختلفتان ومتكاملتان، وانطلاقاً منهما، هناك حديثٌ عن ضرورة إيجاد علاقةٍ جديدةٍ مع النص تتمثل في التأويل، أو العلاقة التأويلية. فهل هذه العلاقة تمثِّل ما هو قائمٌ بالفعل دائماً ومسبقاً في علاقتنا مع النص، أم هي ما يجب أن نقوم به ويكون عليه التأويل؟ وبكلماتٍ أخرى، هل علاقتنا مع النص تأويليةٌ، أحياناً، وغير تأويليةٍ، أحياناً أخرى؟ فهل يمكن أن تحدثنا عن هذه الثلاثية: الدور المحوري للنص في العنف الديني، ووجود أسبابٍ أخرى غير النص لهذا العنف، وضرورة إيجاد علاقةٍ جديدةٍ مع النص في الواقع الإسلامي.
أ. صبحي نايل:
الفصل، طبعاً، هو صلب الكتاب؛ لأنه يمثل مرحلة الانتقال من الباب الأول إلى الباب الثاني، ويربط البابين ببعضهما. وقد جاء في شقين: الشق الأول يتحدث عن أصول العنف الديني (آلياته منطلقاته)، ومسألة أصول العنف الديني. الواقع يفضي إلى عدم إمكانية حصر موقفٍ اجتماعيٍّ، أو ظاهرةٍ اجتماعيةٍ ما، في شيءٍ واحدٍ، أو في نمطٍ واحدٍ بعيدٍ، خاصةً وأنه موقفٌ اجتماعيٌّ له حركات وديناميات الاجتماع والتعدد الاجتماعي. والمشكل هو حصر العنف في النص الديني. وإذا كانت جماعات الجهاد العنيفة، أو الجماعات الإرهابية، حين تعلن عن نفسها، تعلن أنها تنفذ الأوامر الإلهية، وأنها قادمةٌ بالأمر الإلهي، وتفعل كذا وكذا بأمرٍ مباشرٍ من القرآن، حتى مشاهد الرعب التي تدينها كافة الأديان، والتي كانت تتم بالتكبير، وباسم الله، فإن هذا لا يعني التسليم بما تطرحه. والسؤال هو عما إذا كان النص قادراً على أن ينتج هذا العنف؟ فهل هو قادرٌ على تحريك الإرادة الإنسانية الحرة؟ هل يمسك بيد فلانٍ ويدفعه إلى ارتكاب العنف؟ فالنص له، ما لأيّ نصٍ، سلطةٌ معرفيةٌ ويقدم معرفةً ما. وغير ذلك لا توجد له أي سلطةٍ. ومن ثم ننتقل إلى السؤال عما إذا كان الخطاب القرآني في يد الجماعات الجهادية يمثل أداةً من أدواتهم الإيديولوجية التي تسعى، من خلاله، إلى فرض رؤيتها، ومن أين جاءت هذه الرؤية؟ هل جاءت من الواقع المنهزم أمام الواقع الغربي الذي لا يحمل أي ندّيةٍ سياسيةٍ أو ندّيةٍ معرفيةٍ أو ندّيةٍ اقتصاديةٍ، أم جاءت من خلال هذا الخطاب القرآني؟
حين تقدم الجماعات الجهادية نفسها، فإنها تعرض جماعتها بوصفها حامية الدين، وحمايةً لذاتٍ إسلاميةٍ مُتخيلةٍ غير الموجودة الآن، ولا في التاريخ الإسلامي. فهي عبارةٌ عن ذاتٍ منزَّهةٍ عن أيّ جرائم أو نزوعٍ بشريٍّ. هي أمةٌ لا تُهزم، ولها أحقيةٌ في قيادة العالم. وهذه الذات القديمة اخترعتها هذه الجماعات وصاغتها؛ لأن هذه الذات العربية الإسلامية الموجودة، الآن، غير مُرضيةٍ لطموحها، منهزمةٌ أمام الآخر، ويتنكر لتمثلها الإسلام. أما مشروعها، فيُعرض، بوصفه إحياءً لهذه الذات الإسلامية القوية التي لها حق قيادة العالم. فهو خارجٌ من بنية الواقع المنهزم أكثر مما يخرج من النص. ومن ثم، فإن النص يمثل أحد أدواته أكثر مما يعد نقطة انطلاقٍ له.
ومن خلال انطلاق الجماعات الجهادية من الواقع، وعرض مشروعها، بوصفه حلّاً لمشكلات الواقع المنهزم وإحياءً للقرآن، يأتي الحديث عن محورية النص في الواقع الإسلامي، وحضوره القوي بشكلٍ سلطويٍ، ويحصل استخدامه كسلطةٍ لفرض الرؤية، عادةً، أو لإقصاء الآخر. أذكر وجود شجارٍ بين اثنين، الثاني يقول للأول «أنا الشيخ فلانٌ حافظٌ للقرآن»، وينطلق في قوله من اعتقاده بأنه يملك هذه السلطة التي تعطيه كافة الامتيازات، وهي امتيازاتٌ دينيةٌ نبويةٌ. ومحورية النص في الواقع قال عنها نصر أبو زيد، نحن حضارة نصٍّ، والتأسيس الإسلامي جاء من خلال الخطاب القرآني. وعادةً، حتى في منطق السلطة السياسية أنها تتحدث باسم القرآن، حتى الآن، وتتحدث باسم الدين، وما إلى ذلك. فهو حاضرٌ بوصفه سلطةً حاكمةً من جانبٍ، ومن جانبٍ آخر، بوصفه حاملاً للإجابات عن كافة التساؤلات. وعليه، يجب أن يقود المجتمع، ويكون محورياً. وعن كيفية الحضور المحوري للنص في الواقع، فإن أصحاب الاتجاه التجديدي يرون بأنه يكون محوريّاً، حين يتم سحبه من هذه الجماعات، من خلال الاستراتيجيات التأويلية التي عرضتها، بوصفها حلّاً لأزمات الواقع العربي، والخروج به، من أفق القراءة الواحدة الصحيحة والحاملة للحقيقة، إلى أفق القراءات المتعددة وتعددية المجتمع. وتقدم الجماعات الجهادية نفسها بأنها تعمل على الحضور المحوري للقرآن في الواقع، لكن بالكيفية التي تراها هي، حيث تسيطر على هذه المجتمعات وتحكمها. وتاريخيّاً، كانت هذه هي حجة النظم الاستبدادية التي ارتكبت جرائم تتبرأ منها كافة الأديان.
ومن ثم، فإن الحضور المحوري، هنا، للنص هو حضورٌ توظيفيٌّ استغلاليٌّ، حيث تستخدمه الجماعات الجهادية كأداةٍ لنيل مآربها، وكذلك يستخدمه الاتجاه التجديدي لسحب النص من أيدي الجماعات الجهادية. فعن محورية القرآن في الواقع، يمكن أن نقول إنه حاضرٌ بوصفه معياراً يتم البناء عليه، وحاضراً كأداةٍ يتم استغلالها، وحاضراً كسلطةٍ تحجِّم الأفراد، ويتم قمعهم من خلاله. فهو محوريٌّ وموجودٌ، وتستغله هذه الجماعات من خلال تأثيره المحوري في نفوس المسلمين. ويوجد الكثير من الأوساط الإسلامية التي تتضامن، بشكلٍ أو بآخر، مع هذه الجماعات، بدعوى أنها تمثل الدولة الإسلامية. وهذا يعبر عن وجود تأثيرٍ للنص القرآني وسلطته داخل المجتمع التي يتم استغلالها من قبل هذه المؤسسات الدينية. والدليل على هذا وجود رهان استراتيجيات التأويل التي تراهن على التأويل، بوصفه آلية إنتاج واقعٍ جديدٍ ومختلفٍ عن القائم.
د. حسام الدين درويش:
سأقوم بتبسيطٍ أظن أنه ليس مخلّاً كثيراً: المشكلة التي يبحثها الكتاب هي، ببساطةٍ وجزئيّاً على الأقل، أن هناك جماعاتٍ تحتكر الحديث باسم الله، وتتكلم باسمه، وتزعم التطابق بين ما تقوله وما يريد الله أن يقوله في قرآنه أو في كتابه. المشكلة هنا هي في الزعم بوجود هذه المطابقة بين فهمنا للنص وما يقصده. الاستراتيجية المقابلة، وهي الحلّ، أن نظهر لهؤلاء، أو لغيرهم، البعد البشري في فهم النص الديني وتأويله. تبدو مضامين هذه الثنائية (المشكلة والحل) مفهومةً، لكن كتابك يذهب أبعد من ذلك، خصوصاً مع محمد أركون ونصر حامد أبو زيد، حيث يذهب/ ليس فقط إلى أنسنة فهمنا للنص أو إظهار البعد البشري فيه، وإنما يذهب إلى درجة الحديث أن القرآن نفسه ليس كلام الله في حد ذاته، وهذه قفزةٌ كبيرةٌ؛ فثمة اختلافٌ كبيرٌ بين أن نقول: «هذا كلام الله، وفهمنا بشريٌّ جزئيٌّ ومختلف»، وأن نقول: «القرآن نفسه ليس كلام الله، ولا يمكن أن يكون كلام الله في ذاته، وإنما صيغة من صيغ تجلياته، وفقاً لفهمنا ولقدراتنا».
حتى تكون الأمور واضحة، فلنبدأ باستراتيجية محمد أركون التأويلية: الأنسنة؛ ما هي هذه الاستراتيجية؟ وبأيّ معنىً هي حلٌّ؟ وبأيّ معنىً أو طريقةٍ تبين هذه الاستراتيجية بشرية الفهم، وأنه، لا أحد مخوّلٌ، أو لديه المشروعية، أن يتكلم باسم الله؟
أ. صبحي نايل:
يبدأ مشروع أركون من التمييز بين الدين والأيديولوجيا، حيث يمثل الأول الرعشة الروحية التي يشعر بها الفرد داخله، ويعبد الله، وفقها، ووفق إيمانه بها. أما الأيديولوجيا، فهي عمليات الصياغة والتأطير التي تمت على هذا الدين، فحصرته في داخلها، وأخذت لنفسها قدسيةً محايثةً ومساويةً للنص، ويعاملها المسلم المعاصر كذلك، وهي لم تخرج عن رغبة السلطة السياسية وغايتها. وعليه، انطلق محمد أركون، في مشروعه، من ثلاثة مفاهيمَ رئيسةٍ لبناء رؤيةٍ نقديةٍ تميز بين الدين والأيديولوجيا، هي: المستحيل التفكير فيه، واللامفكر فيه، والمفكر فيه؛ فاللامفكر فيه هو الأشياء الخارجة عن الإطار الإبستيمي المجتمعي؛ فنحن الآن لا يمكن أن نفكر في...
د. حسام الدين درويش:
لا يمكن أن نفكر الآن في ما لا نستطيع أن نفكر فيه؛ فلنتجنب البحث عن مثال للامفكر فيه.
أ. صبحي نايل:
نعم بالضبط، والمستحيل التفكير فيه هو الأشياء التي يمكن التفكير فيها، ولكن سلطةً ما تحاول أن تحتفظ لنفسها بالحق في هذا التفكير، وتجعله ضمن المستحيل التفكير فيه. وكان في مشروع أركون، حسب ما يعلن هو، زحزحة الأشياء التي ضمن المستحيل التفكير فيه إلى إطار المفكر فيه. فكان من ضمن هذه الأشياء التفسيرات أو التأويلات المطروحة لخطاب القرآن. وهذه التأويلات يتم تقديمها على أنها تتحدث باسم الضمير الإلهي، وأنها تعرف المعنى النهائي للخطاب القرآني. وهي ليست كذلك؛ لأنها، في الأخير، نتاجٌ بشريٌّ منحصرٌ في بشريته وفي إطاره الاجتماعي والسياسي وما إلى ذلك. ويعد هذا جانباً من أنسنة أركون، وهو وضع هذه التفسيرات في موضعها الإنساني، وخروجها من إطار التقديس الذي تم وضعها فيه.
وكانت هذه بداية مجمل المشاريع المقدمة في الكتاب، وهذا لأنهم ينطلقون من الواقع الإسلامي/ العربي المعاصر، ولأننا محكومون بالتراث، وأننا نفكر من خلال العقل العباسي الذي صيغ في عصر التدوين؛ فكلّ شخصٍ كان يحاول أن يقدم رؤيته بأنها لا تتعارض مع التراث، وأن التراث منفتحٌ على هذه الرؤى، وما إلى ذلك. فحاول محمد أركون، بدايةً، أن يعرض هذه التفسيرات بوصفها تفسيراتٍ إنسانيةً، وأنها لا تملك الحق في الحديث باسم الضمير الإلهي، أو تملك، كما يقول، قوانين التاريخ والاجتماع، وقابضةً على قوانين التاريخ والاجتماع والفكر كله. ثم انتقل إلى الجانب الآخر من الأنسنة، وهو مستوىً آخر مختلفٌ يضع فيه الإنسان، ضمن سياق الخطاب القرآني، بوصفه مستقبلاً له، ومن ثم عليه أن يأتي بمحدداته المعرفية والإدراكية وشروط إنتاجه للمعنى. ويعد هذا المستوى نُقلةً ضمنيةً داخل هذا الطرح. وهو طرح المفهوم الأركوني للوحي، ليميز بين «أم الكتاب، والقرآن، والمصحف». فالأولى تمثل كتاباً محفوظاً عند الله لا يمكن للبشر التوصل إليه، وهو ما يسميه بالكتاب السماوي أو كلام الله. أما القرآن، فهو المرحلة الشفهية التي بلّغ بها النبي المسلمين الوحي، وهو يعد تجلّياً لكلام الله يوافق عقل رجل شبه الجزيرة العربية حينها؛ أي إنه النسخة الأرضية لكلام الله المرهونة بحدود الإدراك الإنساني. ويمكننا القول إنها تمثل المرحلة الشفهية للوحي، قبل أن يصل إلى المدونة الرسمية المغلقة على يد عثمان بن عفان. في حين أن المصحف (المدونة الرسمية المغلقة والنهائية) فيمثل انعكاساً جزئيّاً للأولى، جاء متحققاً داخل السياق التاريخي والثقافي والاجتماعي، متخذاً بنيته، ولا ينفي عنه أركون خضوعه إلى الشروط الاجتماعية والثقافية لإنتاج المعنى.
فأركون يقول إن القرآن ليس كلام الله في ذاته، ولكنه أحد تجلّياته، والخطاب الإلهي الذي يمثل المعنى الكامن في الضمير الإلهي غير قابل للحصر أو التأطير، ولا يمكن حصره أو تأطيره في هذا الكتيب أو المصحف الذي بين أيدينا. لكنه أحد تجلّياته؛ بمعنى أن أيّ خطابٍ إذا تعاملنا مع القرآن كخطابٍ، وهو يعرض المفهوم الخطابي للقرآن، مرهونٌ بعقل المخاطب أكثر مما هو مرهونٌ بالذي صاغ الخطاب. ويجب أن يلتزم الخطاب بالشروط المعرفية، وشروط إنتاج المعنى لعقل المخاطب. بهذا المعنى، يرى أركون أن القرآن جاء خطاباً إلى مجموعة الساكنين في شبه الجزيرة العربية عام 610 م، يحاول أن يقنعهم بهذا الدين. جاء بناءً على شروطهم الإبستيمية والمعرفية في هذا الإطار، وقال إن ما بين أيدينا هو النسخة الأرضية من القرآن. إذن، لا يمكن أن نتحدث عن المعنى الكامل في الضمير الإلهي بقدر ما يمكن أن نحاول أن نفهم هذه النسخة بفهمنا من خلال تطورنا. وهو يرى أن هذا الفهم والطرح، من هذا النوع، يعطي القرآن راهنيةً دائمةً؛ فكلما تتجدد المناهج، ترى فيه شيئاً جديداً راهنيّاً.
ومن خلال المفهوم الأركوني للوحي الذي ينطلق فيه من النظريات اللسانية المعاصرة، ويضع كلام الله في ذاته داخل الضمير الإلهي الذي لا يمكن المساس به، يعلن عدم أهلية أي بشريٍّ الحديث باسم الله أو امتاك المعنى النهائي الكامن في الضمير الإلهي؛ لأن هذا يفترض امتلاكه عقلاً إلهيّاً يمكنه من استنتاج المعنى الإلهي في القرآن. ومن خلال طرحه للقرآن، بوصفه النسخة الأرضية من كلام الله، المرهونة بالمدركات الإنسانية الاستدلالية التصورية، فإنه يجعل من دراسة القرآن بالمناهج المعاصرة والمتجددة فرضاً دينياً، وأصرّ على هذا في كتاباته، حيث إنه يعد بذلك خاضعاً للفهم الإنساني بمقوماته، في كلّ زمانٍ ومكانٍ، وهذا يعطيه سمةً راهنيةً تجعله مفتوحاً على كل زمانٍ، غير مقيد بزمنٍ محدد. لكن سياق نزوله مفيدٌ وضروريٌّ في فهمه وفهم غايته، خاصةً وأن العقل الإسلامي يطالبه بالحضور الواقعي. وهذا ما يحتم عليه البحث عن كيفية حضوره، وغاياته، من خلال دراسة الواقع الذي جاء مخاطباً إياه.
د. حسام الدين درويش:
النتيجة نفسها هي ما ترى أن نصر حامد أبو زيد وصل إليها: «القرآن ليس كلام الله في ذاته»، وتتحدث عن هذه النقلة غير المكتملة، لديه، من مفهوم النص إلى مفهوم الخطاب. على أيّ أساسٍ، قال نصر حامد أبو زيد ببشرية أو بأنسنة القرآن وفهمه؟
أ. صبحي نايل:
بدايةً، أنبّه إلى أن نصر أبو زيد لم يقل ببشرية القرآن، والأنسنة لا تعني البشرية، لكن دخول الإنسان المعادلة الدينية التي جعلها العقل المدرسي والسلفي في البعد الإلهي فقط، وركز على كيفية نطق الملائكة له والإدغام والغنّة، ولم يسعَ إلى الحضور الاجتماعي الفعلي للقرآن، وطالب الواقع بالجمود والامتثال للنص، الذي يطرحه طرحاً يعزله عن أيّ بعدٍ إنساني. وهذا ما يقصد بالأنسنة؛ أي أن يضع الإنسان، ضمن هذه المعادلة للبحث، عن حضوره الفعلي؛ لأنه جاء يصوغ الواقع للإنسان.
بعد ذلك، يمكنني القول إن من مميزات مشروع د. نصر أبو زيد، أنه خرج من بنية اللغة العربية كرجلٍ لغويٍّ، أستاذ للغة العربية، فقال إن القرآن لا مدخل له غير اللغة. وبدأ بعرض مفهومٍ علميٍّ للنص، حاول أن يخرج به من سجال الناسخ والمنسوخ، في الفقه، والمحكم والمتشابه، في الدائرة الكلامية، هذه الثنائيات التي جعلت كلّ فريقٍ يكفّر الآخر. وعرض مفهومه العلمي للنص الذي سعى، من خلاله، إلى الخروج به من دائرة الصراع على امتلاك معناه. وقدم آليتين لإنتاج الأحكام، من خلال الخطاب القرآني، هما الكشف والإخفاء، ولكنه اكتشف أن الآليتين اللتين يطرحهما لا تختلفان عن المحكم والمتشابه، ولا عن الناسخ والمنسوخ. وفي الأخير، اكتشف أن المفهوم العلمي للنص الذي سعى إلى تقديمه لم يحل هذه الثنائية، ووقع في ما وقعت فيه التفسيرات القديمة وما أخذه عنها؛ أي وقع في الأخطاء نفسها، واكتشف، عندها، أن المشكل في مفهوم النص بالأساس. وفي دراسةٍ له بعنوان «القرآن في الحياة اليومية للمسلمين»، رأى أن القرآن، في حضوره في الحياة اليومية للمسلمين، يحضر بشكلٍ شفهيٍّ خطابيٍّ؛ أي خطابٌ شفهيٌّ يوجه للجموع، بآياتٍ متفرقةٍ، كل آيةٍ تخدم الموقف الذي تحضر فيه، وليس كنصٍّ متكاملٍ ذي وحدةٍ متكاملةٍ. وعدّت هذه الدراسة النقلة إلى مفهوم الخطاب في فكر نصر أبو زيد؛ أي يتم استخدامه بصيغةٍ شفاهيةٍ، وليس بصيغته الكتابية في المصحف، النص الكامل المكتمل، لكن يتم استخدامه بخطاباتٍ ما محددةٍ، مثلاً ويسألونك عن كذا ويسألونك عن كذا...إلخ، في استخدامه في الحياة اليومية. من هنا، انتقل نصر حامد أبو زيد من مفهوم النص إلى مفهوم الخطاب، في كتاب «التجديد والتحريم والتأويل»، وهو، في عرضه لمفهوم الخطاب، تبنى المفهوم الأركوني للخطاب، والثلاثية نفسها: كلام الله، الوحي، والمصحف. وكلام الله في ذاته، عنده، كما هو عند أركون غير قابل للتأطيرٍ، وهو موجودٌ في الذهن، وفي الضمير الإلهي، ولا يمكن أن نعرفه. فالكلام، حسب النظريات اللسانية المعاصرة، هو أقرب صورةٍ للفكر، وليس مطابقاً له، ونصر ومن قبله أركون، حين طرحا مفهوميهما للوحي، طرحاه بهذا الشكل، بأن القرآن ليس كلام الله، كما في الذهن الإلهي، ولكنه الصورة الأقرب له التي يمكن أن يفهمها البشر. وإذا تحدثنا عن كلام الله، فكيف يكون؟ وماذا عن قول الله عز وجل: «وكلم الله موسى تكليما»؛ فبأيّ لغةٍ كلم الله موسى مثلاً؟ باللغة العربية أم بالعبرية؟ وإذا كان بالعربية، هل يعني ذلك أن الله لا يعرف غير العربية؟ وكان ثمة تركيزٌ، في السياق العربي، على كيفية نطق الملائكة للقرآن؟ هل تنطقه بالعربية أم تنطقه بلغةٍ أخرى؟ فاللغة هي قالبٌ تم تقديم كلام الله غير القابل للتأطير فيه، ليصبح القرآن، عوضاً عن أن الكلام لا يعني مطابقة الأفكار، بل هو الصورة الأقرب لتصوير الأفكار الموجودة في الذهن. ونجد هذا في محاولات التوضيح المعتادة لأفكار بعض الفلاسفة أو الأحاديث اليومية. ومن ثم، لا يمكن الجزم بمعنىً محددٍ في الضمير الإلهي. والمصحف هو نسخةٌ مجمعةٌ اختار لها عثمان البقاء، وتم طرحها كوحدةٍ نصيةٍ متكاملةٍ في ما بينها، بيد أن القرآن نزل على بضعٍ وعشرين سنةٍ، في مواقف ومناطق مختلفةٍ، وهذا ما دفعه إلى التمييز بين المصحف، والقرآن، وكلام الله في ذاته.
د. حسام الدين درويش:
في الفصلين الأولين من الباب الثاني، يبدو أننا انتقلنا من طرفٍ إلى طرفٍ، أو بالأحرى من تطرفٍ إلى تطرفٍ. من طرفٍ متطرفٍ أول يقول هذا خطابٌ إلهيٌّ، هذا كلام الله في ذاته، ونحن البشر لا علاقة لنا به أصلاً، وإنما، فقط، نقدم فهمنا للمعنى الأصلي للنص، إلى طرفٍ آخر يقول هذا نصٌّ بشريٌّ، هذا فهم بشريٌّ، وليس فيه أي شيءٍ إلهيٍّ. ألا ترى أن ثمة تطرفاً في كلتا الحالتين؟ فليس هناك منظومةٌ معرفيةٌ أو هيرمينوطيقيةٌ يمكن أن تنكر وجود جدلٍ وتكاملٍ بين الذات والموضوع، بين النص والقارئ أو المؤول. ومع ذلك، فإن عبد الجواد ياسين، كما ذكرت أنت في الكتاب، وكما نعرف، يتحدث عن جانبٍ إلهيٍّ مطلقٍ ثابتٍ في الدين. فهل يمكن أن تشرح لنا وجهة نظرك، في هذا الخصوص؟
أ. صبحي نايل:
كي يُفهم الموضوع، إن أركون وأبو زيد لم ينكرا البعد الإلهي في الخطاب القرآني، ولكنهما حاولا فهمه؛ يعني هو إلهٌ يخاطب مجموعةً من البشر. هو خالقهم، ويجب أن يخاطبهم بلغتهم وبفهمهم وبأطرهم الاجتماعية، وإلا جاء بلغةٍ مفارقةٍ لا يفهمونها. فهذا القرآن خاضعٌ للفهم البشري. يعني إذا جاء شخصٌ مختلفٌ عن البيئة الموجودة، وخاطبهم بلغته وبأعرافه وتقاليده، فليس هناك أرضيةٌ مشتركةٌ يمكن الالتقاء عليها، ويصبح هو في وادٍ، والمجتمع في وادٍ آخر. على هذا الأساس، قال محمد أركون ونصر أبو زيد إن القرآن ليس كلام الله في ذاته، ولكنه تجلٍّ له؛ أي ما يمكن أن نقول عنه إنه ترجمةٌ من الفهم والإدراك الإلهي اللامحدود واللانهائي إلى الإدراك البشري المحدود والنهائي. والترجمة، كما تعلم، دكتور حسام، مُلزمةٌ بتوصيل الفكرة من خلال الثقافة التي تترجم إليها النص. وهي تعبّر عن أقرب صورةٍ للأصل يمكن أن يتم تقديمها للمستقبِل، لكنها، في الوقت نفسه، ليست الأصل. ولا ينفي هذا الطرح ألوهية القرآن بقدر ما يؤكدها. فهو، حسب النسق الإيماني، من إلهٍ إلى خليقته وصنيعته. ومن ثم، فالله الأقدر على معرفة عقل صنيعته، وكيف يقدم لها ذاته وخطابه، من هنا، تعد هي تأكيدٌ لقدرة الله ومعرفته بخلقه.
فالمسألة ليس أنه ينكر ألوهية النص أو ينكر البعد الإلهي في النص، ولكن يحاول أن يفهم هذا البعد الإلهي في النص، لا سيما أن القرآن خطابٌ جاء في بضعٍ وعشرين سنةً، من خلال الحوار، ويعبّر عن هذا سجاله مع جماعة غير المؤمنين بالنص، حيث يحاول أن يقنعهم بالديانة ويؤمنون بها. وفي بعدٍ آخر للمؤمنين بها، يشرع لهم بعض الأمور الحياتية، وما إلى ذلك. وخير تعبيرٍ عن هذه الحالة السجالية ردّه على العديد من الأسئلة. وجاء في الخطاب القرآني من خلال لفظة يسألونك، ثم يجيب عن هذا التساؤل؛ فهو جاء كخطابٍ. هذا الخطاب، بآليات الخطاب وبآليات فلسفة اللغة المعاصرة، يجب أن يكون مرهوناً بعقل المخاطب، وأنا أفهمه بعقل المخاطب، وليس بالعقل الإلهي، من دون أن ينكر بعده الإلهي، لكن يضع الإنسان ضمن هذه المعادلة؛ لأن الإنسان في البعد الآخر غير موجودٍ ضمن هذه المعادلة، ويعرض القرآن، بشكلٍ معزولٍ، على اعتبار أن الله يتحدث بهذا، فقط ليس إلا، خاصةً مع الرؤية السلفية التي ترى أن صدور الأحكام من الخطاب القرآني لا يحتاج إلى أيّ وسيطٍ معرفيٍّ أو تأويليٍّ. الخطاب هو هكذا، يطبق كما هو دون أي منهجٍ أو أداةٍ أو وسيطٍ معرفيٍّ، خلاف الاتجاه المدرسي والمؤسسة التراثية، التي ترى، مثلاً، أن اللغة وسيطٌ معرفيٌّ، وأن اللغة تمثل مدخلاً كافياً للخطاب القرآني. هو لا ينكر ألوهية النص، لكن يحاول فهمها. وهذا ما قاله أركون: أنا لا أنكر التعالي، لكن أحاول أن أفهمه ضمن شروط التعالي. التعالي الإلهي لا يمكن أن يأتي بلغةٍ مفارقةٍ. هو مطلقٌ، المطلق حين يتحدث إلى النسبي أو الزمني، حين يلتقي بالأزلي، يجب أن يضع نفسه، ضمن إطار المدركات الإنسانية، وضمن إطار النسبي، كي يفهمه النسبي.
عند المستشار عبد الجواد ياسين، تكون هذه المسألة واضحةً أكثر في مسألة الدين والتدين؛ فهو يرى أن الدين شيءٌ مفارقٌ للوجود الإنساني، لكنه حين يحضر في الاجتماع تظهر أنماط التدين، وهو ما قال عنه اجتماعانية النص؛ أي إن النص ذو بعدٍ اجتماعيٍّ يحاول أن يقنع هؤلاء الأشخاص بأفكارٍ محددةٍ، ويحاول أن يشرع لهؤلاء الأشخاص. فالدين، في ذاته، عند المستشار عبد الجواد ياسين، وهذا عرضه في كتاب اللاهوت، غير قابلٍ للقبض عليه، فهو المطلق، ولكن يمكن فهمه في تجلّيه أو ظهوره في البعد الاجتماعي، وهو أنماط التدين والديانة. ولا يعني هذا أن هذه الأنماط مطابقةٌ للدين في ذاته، بقدر ما يعني أن هذه الأنماط هي الموافقة لهؤلاء البشر في هذه البقعة. وهذا يجعل الرؤية الدينية أكثر اتساعاً؛ فللمسيحي اعتقاده، ولليهودي اعتقاده، وللمسلم اعتقاده، والرسالة الأخيرة هي رسالةٌ تسامحيةٌ، لكنها جاءت لكل بيئةٍ بلغتها وبمنطقها المتعارف عليه. فلا يوجد تعارضٌ، في ظنّي، بين أركون وأبو زيد وعبد الجواد ياسين؛ لأن كافة الاستراتيجيات المقدمة أصرّت، إصراراً شديداً، على أن القرآن إلهيُّ المصدر، وأن عرضه، بوصفه خطاباً إنسانيّاً موجّها إلى الإنسان، وهو يعلن عن نفسه كذلك، لا يتعارض مع ألوهية مصدره. وعلى الرغم من أن عبد الجواد ياسين لم يتحدث عن الخطاب، فإن مضمون اجتماعانية النص يلتقي، بشكلٍ كبيرٍ، مع مفهوم الخطاب، الذي يضع النسق الاجتماعي ضمن عملية بناء المعنى.
د. حسام الدين درويش:
دعني أقول إن التوتر موجودٌ في التنظير الهيرمينوطيقي عموماً. فغادامر، الفيلسوف الهيرمينوطيقي البارز أو الأبرز، يشدد على أن السؤال الهيرمينوطيقي لا يتعلق بالمفاضلة بين الفهوم أو الأفهام، بل في التركيز على الاختلاف بينها. في المقابل، رأى هابرماس في إهمال الهيرمينوطيقا لسؤال الحقيقة والمفاضلة بين الأفهام أو التأويلات كعب آخيل أو نقطة ضعف الهيرمينوطيقا. فالسؤال الأساسي هنا، كيف نفاضل بين هذا الفهم وذاك؟ أو كيف نحسم الصراع او الاختلاف المعرفي بين الفهوم المختلفة؟ وما المعايير التي يمكن وينبغي الاستناد إليها في هذه المفاضلة؟ إمبرتو إيكو تحدث عن لا نهائية التأويل وعن العمل المفتوح، لكن، في النهاية، تحدث عن قصد النص، وأن هناك شيئاً في النص نحن ملتزمون به، ولسنا أحراراً، بالمطلق، في هذا الصدد، وإلا كانت كل التأويلات صحيحةً، أو كل التأويلات خاطئةً، ولكان الحكمان صحيحين، ويحملان المعنى ذاته. سؤالي، هنا، عن الفصل الأخير من الكتاب، وعن استراتيجية علي مبروك التأويلية، كيف نفاضل بين التأويلات؟
أ. صبحي نايل:
أنا متفقٌ، تماماً، أن التأويل له بعدٌ ذاتيٌّ كبيرٌ. وهذه التأويلات، في عرضها لنفسها، طبعاً، لها الانحياز الذاتي. وقلت إنها تحاول أن تنطلق من الحداثة، وتفرض الحداثة بشكل قسريٍّ على الخطاب القرآني، لكن كانت لها ميزةٌ كبرى، وهي أنها تعرض نفسها، بوصفها قراءاتٍ إنسانيةً؛ لأنها، في الأخير، تحاول أن تنفي القراءة النهائية والإلهية للنص، وتضع القراءات المقدمة ضمن الإطار الإنساني، وأنها ليست إلهيةً في الأخير، ولا تنادي بالنسبوية المطلقة. فهذه الاستراتيجيات تقول: الخطاب القرآني، في إعلانه عن نفسه، قال إنه جاء ليحاول أن يصل إلى المصلحة البشرية العامة، وهذا يظهر، ظهوراً قويّاً، عند علي مبروك؛ لأنه يقول إن هناك إطاراً كلّياً وهناك إطاراً إجرائيّاً. الإطار الكلي هو المصلحة البشرية العامة التي يسعى الإنسان إليها، من خلال محاولته وبحثه الدائم عن الحياة، وعما هو أفضل، والذي يجعله يتقدم ويصنع واقعاً أفضل، وما إلى ذلك. لكن الإطار الإجرائي هو تمثُّل هذه المصلحة العامة التي يهدف إليها الدين، في الإطار الاجتماعي المحدد، وهو شبه الجزيرة العربية. والإطار التأسيسي الكلي، كما قلت، ممكن أن نقول هو مثالٌ أفلاطونيٌّ نحاول أن نصل إليه، وما حضر في شبه الجزيرة العربية عام 610 م كان ظلاً لهذا المثال؛ أي أمراً إجرائيّاً يحاول أن ينظم آليات الاجتماع الإنساني، وأن يعرض نمطاً اجتماعيّاً مختلفاً عن نمط شبه الجزيرة العربية القبلي المعروف بشدة الجلافة، وهدفه النهائي المصلحة البشرية العامة التي تعمل بوصفها إطاراً كلّيّاً.
وبالحديث عن مسألة أن أيّ قراءة يمكن أن تكون صحيحةً، وأيّ قراءة يمكن أن تكون غير صحيحةٍ، فإن كافة المشاريع المقدمة، على الرغم من انحيازها للحداثة؛ هي، في الأخير، تنطلق من هذا الأفق المعرفي، ولها رؤيةٌ تفيد أن الواقع هو الحاكم لهذه القراءات، ويجب أن تقدم قراءاتٍ مختلفةً، ولها أن تتفاضل في ما بينها، ولكن لا يجب أن تسود قراءةٌ ما؛ لأن سيادة قراءةٍ ما على كافة القراءات يعني انحصار البعد الديني في هذه القراءة. وكان الهدف المرجو لهذه الاستراتيجيات البحث عن أفقٍ لوجود قراءاتٍ مختلفةٍ؛ لأن وجود هذه القراءات المختلفة يعني وجود أفقٍ جديدٍ غير أحاديٍّ أو ثنائيٍّ (خير وشر) يدفع، عادةً، إلى الاستبداد، والإقصاء، وما إلى ذلك، لكنه أفقٌ متعددٌ له قراءاتٌ متعددة، فكان الهدف الرئيس هو تقديم منفذٍ لوجود القراءات المتعددة. أنا قلت هذا، في الكتاب، كان هدفهم الرئيس هو سحب النص، وحق الحديث باسم الضمير الإلهي من الجماعات الجهادية والسلطة الدينية من زاويةٍ. ومن زاويةٍ أخرى تقديم قراءةٍ ما تحاول أن تضع النسبية الإنسانية، وتضع العنصر الإنساني، في هذه القراءة، وأن هذه القراءة تعرض نفسها، بوصفها قراءةً إنسانيةً، لا يقول قال الله، ولكن يقول إن فهمي، في هذا العصر، بهذا الإطار، أنا أفهمه بهذا الشكل؛ لأن القرآن أو الخطاب القرآني له جزءٌ أساسيٌّ، هو مصلحة الإنسان. فالنقطة الرئيسة والركيزة الأساسية في هذه الخطابات هي مصلحة الإنسان، وأن على العقل الإنساني أن يبحث فيها، ويجد أدواتها وآلياتها، وكيفية تنفيذها، وترى أن هذا ما جاء به الخطاب القرآني.
د. حسام الدين درويش:
هل الحديث عن التأويل، والتأثر بالذات وبالسياق الاجتماعي، حديثٌ وصفيٌّ أم معياريٌّ؟ هل هذا ما يحصل، بالضرورة، في كلّ قراءةٍ، حيث يمكن القول، من ناحيةٍ وصفيةٍ، إن كل قراءةٍ تأويلٌ، شاءت أم أبت، وكل قراءةٍ تتأثر بالذات وبالسياق الاجتماعي والأوضاع الاجتماعية والمصالح، بوعيٍ أو من دونه؟ في المقابل، يبدو، أحياناً، أنك تقدم التأويل على أنه حلٌّ، أو ما يجب أن يكون. فتقول لهذه الجماعات أنتم تقدمون القراءات على أساس أنها ليست تأويلاً، ويجب أن تقدموها على أنها تأويلٌ؛ بمعنى أنها قراءةٌ بشريةٌ، وليست تعبيراً عن إلهٍ أو عن رؤيةٍ إلهيةٍ. من منظورٍ هيرمينوطيقيٍّ، كل قراءةٍ تأويلٌ، وكلّ معرفةٍ تأويليةٌ. سؤالي، هنا، يتعلق بمسألة الحل الذي تقترحه وحدود هذا الحل: هل هو حلٌّ، بمعنى أنه ينبغي لنا أن نجعل قراءاتنا تأويليةً، أم بمعنى أن تلك القراءات تأويليةٌ، أصلاً ودائماً، بالضرورة؟ وماذا عن رؤيتك أن المشكلة ليست (فقط) في الفكر الديني أو في العقل الديني أو في النص الديني، وإنما هناك مسائل اجتماعية وسياسية واقتصادية لا تقلّ عنها أهميةً وتأثيراً، بل ربما كانت أهم وأقوى عموماً. ما رأيك؟
أ. صبحي نايل:
الحديث عن أن التأويل والتأثر بالذات وبالسياق الاجتماعي هو حديثٌ وصفيٌّ في نظري؛ فالإنسان هو، في الأخير، ابن بيئته ونسقه الاجتماعي، ولا يمكن أن ينسلخ بالكامل عنه. هذا من جانبٍ. ومن جانب آخر، فإن البعد الذاتي، عادةً، يكون حاضراً، ويعمل على تشكيل العالم، من زاوية الذات. وهذا ما نعبِّر عنه بمصطلح الانحيازيات الإنسانية الطبيعية. لذا، تعد كل قراءةِ تأويلاً، شاءت أم أبت، وتحمل في طياتها رغبات الذات والنسق الاجتماعي الذي تنطلق منه. فحسب فوكو، إن الذات تدور، عادةً، في أفقٍ معرفيٍّ هو الذي يحدد أهدافها ورغباتها. فحديثنا، الآن، عن التأويل؛ لأنه مشكلةٌ راهنيةٌ تطرح نفسها علينا، ونعيشها في أفق الاجتماع.
وعن تقديم التأويل، بوصفه حلاً، فإنه، في المشكلة التي يعرضها الكتاب، يعدّ حلاً. فالفكرة الرئيسة في التأويل التي عرضوها، هي كما قال ريكور، غياب القراءة الوحيدة والحاسمة. والتأويل، بالمعنى المطروح، والذي يقدمه الكتاب لا يختلف عمّا يطرحه ريكور.
لقد جاءت هذه المشاريع لسحب النص من أيدي الجماعات الجهادية والمؤسسات الدينية الرسمية التي تحتكر حق الحديث باسم القرآن والله، وتقدّم قراءاتها على أنها مطابقةٌ للمعنى الكامن في الضمير الإلهي. ومجمل هذه المشاريع، في محاولاتها، تعمل على نفي القراءة الوحيدة والحاسمة؛ لأن المشكل الرئيس، في الواقع العربي، أنه يتعامل بمنطق هذه القراءة الوحيدة والحاسمة، وكذلك يحاول أن يدخل البعد الاجتماعي لنزول الخطاب القرآني ضمن سياق القراءة الذي يجب أن يفهم من هذا الإطار؛ لأن الرؤية المطروحة السائدة والمعاصرة هي أن الماضي يجب أن يحكم الحاضر. فهو يحاول أن يوضح أن حضور الماضي، أو حكمه في الحاضر، يجب أن يكون بآلياتٍ مختلفةٍ. وهذا ما عرضه د. علي مبروك تحت عنوان «القرآن الحي»، وعودة الإسلام من الغربة، وأن هذا القرآن، الحي حين يكون موجوداً، يكون موجوداً بآليات العصر، وبفهم العصر.
النقطة الثانية، في مسألة أن التأويل حلٌّ كافٍ. التأويل حلٌّ لزاويةٍ من زوايا الفكر العربي، لكنه ليس الحل الكافي لأزمات الواقع؛ لأن أزمات الواقع العربي الرئيسة هي أن كلّ تيارٍ يقدم نفسه، بوصفه الحل الفوري والرئيس لكافة المشكلات: الإسلام هو الحل، التأويل هو الحل، الحداثة هي الحل، العلمانية هي الحل،...إلخ، لكن الواقع له مشكلاتٌ سياسيةٌ أكثر تعقيداً. وطبعاً، د. حسام، أنت أكثر الناس العارفين، أننا نركز على الفكر الديني؛ لأن هذا متاحٌ نقده، مثل ما قال محمد عابد الجابري. إن المشاكل السياسية والمشاكل الاقتصادية، وكافة هذه الأزمات التي تقع في المنطقة العربية، تجعل التأويل ليس حلّاً كافياً، لكنه حلٌّ ضمن حلولٍ كثيرةٍ يجب أن يتم النظر إليها من زوايا الواقع العربي، منها الأمور السياسية والاقتصادية التي تتعامل، بشكلٍ مبعثرٍ غير ممنهجٍ وغير مفهومٍ، في كثيرٍ من الأحيان.
د. حسام الدين درويش:
شكراً جزيلاً، وأودّ أن نستمع الآن إلى قراءة العزيز د. سامح للكتاب. سأتركه، ليشتبك معك، قليلاً، ثم أعود للاشتباك معكما.
د. سامح إسماعيل:
مساء الخير، وتحياتي للصديقة الغالية د. ميادة، والصديق الغالي د. حسام، وتهنئةٌ خاصةٌ بهذا المولود الأول لصديقي العزيز أستاذ صبحي؛ أيّاً كان الحب الأول أو المولود الأول، فهو منجزٌ أولٌ أتمنى أن يبنى عليه؛ لأنّ الباحث، في الحقيقة، كانت لديه جرأةٌ أحسده عليها في هذا السن، وأن يكون عمله الأول في هذا الحقل التداولي الملتبس، والذي اشتبك معه كثيرون، وخشت الأغلبية أن تشتبك معه، فهو دخل إلى الحقل المركزي لإنتاج المعنى في الإسلام، وهو القرآن. تحدث الباحث عن الأدلجة، وأدلجة النص، وكيف تمّ استهلاك النص في ساحة الصراع الأيديولوجي. وقبل توظيف النص، كانت هناك تجربةٌ مهمّةٌ جدّاً لاستخدام النصوص الثواني أو «الحديث»، وكانت البداية مع حدثٍ بحجم سقيفة بني ساعدة، عندما قال الخليفة الثاني عمر بن الخطاب «الأئمة من قريش»، فوضع، هنا، الطرح الإيديولوجي الأول لحديثٍ أو لروايةٍ منسوبةٍ إلى النبي. ومن هذه اللحظة، دخلت السياسة كفاعلٍ أساسيٍّ في عملية إنتاج المعنى، ليس في رواية الحديث، وإنما في توظيف النص القرآني نفسه، الذي حُمل على أسنّة الرماح في الصراع المحتدم بين علي ومعاوية. الطرح الإيديولوجي، عموماً، ليس بجديد، وليس بمستغربٍ، وهو ما تناوله الباحث في كتابه، واستعرض ذلك، في الباب الأول، بالتحديد.
ومنذ قتل عمار بن ياسر في صفين، عندما قال عمرو بن العاص لمعاوية: سمعت رسول الله يقول: ويحك يا ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية، فقال معاوية: إنما قتله من أخرجه لقتالنا. هذا نوعٌ من أنواع التأويل المتحايل، التأويل السياسي الذي وضع النص الديني، بشكلٍ عامٍّ، سواءٌ القرآن أو الحديث، في ساحة الصراع السياسي. والباحث أشار إلى ذلك، أيضاً، وهو ما أنتج المعنى الأول للسلطة في الإسلام. فكانت السياسة الحاضنة التي أُنتج فيها الكثير من المعاني لخدمة الفرقاء السياسيين من أصحاب الرايات الخضر، وأصحاب الرايات السود، إلى آخره. فالنص كان، هنا، ابن الفضاء السياسي، وابن الفضاء الاجتماعي، بامتيازٍ.
الكتاب يتحدث عن مرحلةٍ، أو ينتقل بين مرحلتين، وبين فكرتين رئيستين؛ الفكرة الأولى هي كيف قامت جماعات الإسلام السياسي وجماعات العنف السياسي بتوظيف النص؛ من أجل خلق حالةٍ سياسيةٍ ربانيةٍ مفارقةٍ يمكن من خلالها الحصول على، أو الوصول إلى، السلطة والهيمنة والسيطرة؛ بادعاء أنها تملك الفهم النهائي والناجز للقرآن، بوصفه النص المركزي في عملية إنتاج المعنى في الإسلام. وفي الجانب الآخر هؤلاء الذين حاولوا نزع فتيل اللغم وإعادة قراءة النص أو إعادة قراءة معنى النص من جديدٍ، وإنتاج معانٍ جديدةٍ مغايرةٍ ومفارقةٍ، وهي تحاول سحب عملية الأدلجة من جماعات الإسلام السياسي إلى حقل التداول. وأعتقد أنّ هذا الفريق، أيضاً، سقط في بعض الأدلجة؛ لأنه قال، في بعض الأحيان، بإنتاج معانٍ نهائيةٍ، أيضاً.
قراءة أركون قدمها لنا الباحث، بشكلٍ رشيقٍ وجيدٍ، وتحدث عن أنسنة الوحي، أو أنّ الوحي عبارةٌ عن تجلٍّ من تجليات الله؛ لأن كلام الله غير قابلٍ للحصر أو التأطير؛ فهو لا نهائيٌّ ومطلقٌ، لكن جاء في الصورة النهائية وغير المطلقة التي يمكن للإنسان أن يستوعبها في لحظة التنزيل، وهي لحظةٌ امتدت لحوالي عقدين أو أكثر من الزمان. ومن ثمَّ، القرآن خاضعٌ، هنا، لآليات الفهم الإنساني، ولآليات الفهم التاريخي، أيضاً، ويمكن تطبيق المناهج المعرفية الإنسانية عليه، قصد ضمان السيرورة عبر العالم المتغير، ومن ثم يكون صالحاً لكل زمانٍ ومكانٍ. وهي الفكرة ذاتها التي انطلق منها نصر حامد أبو زيد، والمتمثلة في أن القرآن خطابٌ ومنتجٌ ثقافيٌّ، وهو خاضعٌ لأسئلةٍ وأجوبةٍ يجيب عنها الوحي، سواءٌ في تجلّيه اللغوي البسيط والمباشر أو المتماهي مع فهم العرب في شبه الجزيرة، في هذا الوقت بالتحديد، أو في بعض المعاني الأخرى التي يمكن أن تكون معانٍ ربانيةً مفارقةً، كما يقول المستشار عبد الجواد ياسين، لكنها خاضعةٌ، أيضاً، للاجتماع الإنساني أو للاجتماعانية، كما يقول الباحث. والنقطة التي يمكن وضع أيدينا عليها، بالتحديد، هي فعل الأطلقة الذي تحدث عنه علي مبروك، وكيف بدأ يطرح مفهوم القرآن الحي. فالقرآن الحي، بالنسبة إلى علي مبروك، والباحث أشار إلى هذا في بعض المناطق المهمة، مفهومٌ غير خاضعٍ لآليات اللغة نفسها، بدليل، في كتابه المهم الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، يطرح رواية جلال الدين السيوطي بأن عمر بن الخطاب قال: سمِعتُ هشامَ بنَ حَكيمِ بنِ حزامٍ يقرأُ سورةَ الفرقانِ، فقرأَ فيها حُروفاً لم يَكُن نبيُّ الله ِصلى الله عليه وسلم أقرأَنيها، قُلتُ: مَن أقرأَكَ هذِهِ السُّورةَ؟ قالَ: رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قُلتُ: كذبتَ، ما هَكَذا أقرأَكَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم! فَأخذتُ بيدِهِ أقودُهُ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ! إنَّكَ أقرأتَني سورةَ الفرقانِ، وإنِّي سمِعتُ هذا يقرأُ فيها حروفاً لم تَكُن أقرأتَنيها! فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اقرأ يا هشامُ. فقرأَ كما كانَ يقرأُ، فقالَ رسولُ اللهِ: هَكَذا أُنْزِلَت. ثمَّ قالَ: اقرَأ يا عمرُ. فقرأتُ، فقالَ: هَكَذا أُنْزِلَت. ثمَّ قالَ رسولُ اللهِ: إنَّ القرآنَ أُنزِلَ علَى سَبعةِ أحرُفٍ. ويقول علي مبروك إن السبعة أحرف ليست القراءات الدارجة، وإنما هي الترجمة البشرية لمعنى الآية أو معنى القرآن نفسه، وإن الإنسان حرٌّ، وإن النص ليس مطلقاً، وإن النص كان فاعلاً وحيويّاً وديناميّاً ومفتوحاً على الاجتماع. وبعد عهد النبي، تم رد الرسالة، مرةً أخرى، إلى السماء، وكأن المسلمين رفضوا أن يكون القرآن أرضيّاً، فأطلقوه، مرةً أخرى، وردّوه إلى السماء. أعتقد أن الجزء المهم من كل هذا الجهد النظري الكبير جدّاً كان في مشروع نصر حامد أبو زيد، وهو يتحدث عن الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول. فهو حاول أن يذهب، وفقاً لما فهمته من الكتاب أو استوعبته من رؤية الباحث، نحو اكتشاف أسباب نزولٍ جديدةٍ، من داخل النص نفسه، ومن داخل اللغة نفسها، باعتبار أنّ الحضارة العربية هي حضارة اللغة وحضارة النص، فقال إن أسباب النزول التي جاءت في الروايات ليست نهائيةً وليست الأخيرة، وإنما النص، نفسه، مفتوحٌ على أسباب نزولٍ يمكن أن نستلهمها أو نستنتجها منه. ويتحدث عن الناسخ والمنسوخ، ويتحدث عن الآيات التي بقيت نصّاً، لكن زال حكمها، فيقول إن الآيات موجودةٌ في القرآن؛ لأنه إذا توفرت الشروط الموضوعية، مرةً أخرى، لتحققها، فمن الممكن أن تعود الأحكام مرةً ثانيةً. هو لا يغلق الباب حتى أمام المنسوخ، ويرفض الطروحات الفقهية التي قالت بالأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ويرى أن الأخذ بعموم اللفظ أغلق الباب، أو قوض رغبة النص نفسه في أن يكون حيّاً، فهناك سيرورةٌ اجتماعيةٌ ما، تستدعيه باستمرارٍ.
كل هذه الطروحات مهمةٌ جدّاً، وأعتقد أنها عتبةٌ لما بعد؛ لأننا ما زلنا حتى الآن لم نتحرك في مرحلة الما بعد. الباحث، وهو مشكور جدّاً، وضعنا أمام كل الإشكاليات، سواء الإشكاليات السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية، في العقل العربي، وشرح ذلك، بمرونةٍ فائقةٍ، ثم بدأ يطرح الحلول من خلال التأويل، لكن نستلهم من الكتاب أو نستدعي منه التساؤلات، وكما يقول المستشار عبد الجواد ياسين، إننا لم نضع المؤسسة الدينية التقليدية أمام التساؤلات الصعبة؛ لأنها هي وحدها القادرة على إنتاج معنىً جديدٍ ومعنىً مغايرٍ. ونحن، الآن، ما زلنا نتحدث عن الحداثة، في عالم ما بعد الحداثة، ولم نستطع أن نقطع مع كل النظريات الكلاسيكية القديمة التي لم تفِ بوعودها، ولم تقدم الحلول، كما يقول فرانسوا ليوتار مثلا. إن كل النظريات القديمة لم تقدم هذا الحل، وعملية التأويل نفسها، على الرغم من كل هذا الجهد النظري الكبير، لم تقدم بعد الحل الذي يمكن أن يشتبك مع الاجتماع ومع السياسة، ومع البنية الكلية للمجتمعات العربية التي يحتاج الفضاء الاجتماعي والفضاء السياسي الكثير جدّاً من هذه التساؤلات.
هل النص، وتفسير النص، وإنتاج المعنى داخل النص، خاضعٌ للاجتماع وحده، خاضعٌ للسياسة وحدها، خاضعٌ للاحتياجات الإنسانية وحدها؟ أعتقد أنه خاضعٌ لكل هذا، وإشكاليات القراءة والتأويل التي تحدث عنها نصر أبو زيد، وضعت كل هذه التساؤلات الإشكالية، وتقاطعت مع بعض الحلول، لكن نصر، نفسه، عندما حاول أن يستدعي نموذجاً جديداً يباهي به أو يقارع به الأصولية، استدعى ابن عربي بكل مقولاته، مقولات ابن عربي فيها هذا القدر من التسامح، لكن فيها، أيضاً، هذا القدر من التوتر والارتباك، وبعض العنصرية وبعض الألغاز، وبعض الفكر الأسطوري أو الخيالي إلى آخره. فهل كان استدعاء التصوف في الإسلام، في هذه اللحظة، بالتحديد، هو الحل؟ وهل يمكن أن يقدم الحل، أم إن الحل هو أن نستدعي نموذجاً مغايراً لمرحلةٍ جديدةٍ، تماماً، لا نقطع فيها مع التراث، كما ينادي عبد الله العروي، ولا نغربل أو ننتقي كما فعل محمد عابد الجابري، ولكن نحاول أن نقرأ التراث من جديدٍ، وأن نشتبك معه من الداخل، من جديدٍ، وأن نشتبك مع مفهوم التأويل نفسه. هل الهرمينوطيقا، وهي ابنة الفكر والفلسفة الغربية، بكل آلياتها وكل مناهجها، قادرةٌ، هنا، في الشرق، بثقافة الشرق وفهم الشرق، والظروف التاريخية والصراعات السياسية، أن تكون بديلاً، أو تسهم في حلّ هذه الإشكاليات، أم إننا في حاجة إلى إنتاج نظريةٍ جديدةٍ للفهم، نظريةٍ جديدةٍ للمعرفة، من داخل هذا الاجتماع وليس من خارجه؟ كل هذه التساؤلات كانت تدور في ذهني، وأنا أتابع الباحث، وهو يشتبك مع عملية إنتاج المعنى التي نتجت عن قراءة النص القرآني في التاريخ، واستخدام وتوظيف النص القرآني في التاريخ الذي كان، فعلاً ورد فعلٍ، كما يقول نصر أبو زيد. سؤالٌ وإجابةٌ من السماء. هناك ملقي للخطاب، وهناك متلقي لهذا الخطاب، وهناك وسيطٌ لغويٌّ بين هذا وذاك، يحاول أن يوفق بين الطرفين. كلّها أسئلةٌ أتمنى من الباحث، في المراحل القادمة، أن يحاول فعلاً الاشتباك معها، ويجيبنا عنها، وسيكون هذا رائعاً جدّاً. وأحييه، مرةً ثانيةً، وأحيّي مؤسسة مؤمنون بلا حدود على تبني هذه العقول الشابة، وأعتقد أننا في أمس الحاجة لأمثال هذا الباحث القادر على الاشتباك مع القضايا الصعبة، شكراً.
د. حسام الدين درويش:
شكراً جزيلاً د. سامح، مداخلةٌ قيمةٌ، وأسئلةٌ مهمةٌ، وننتظر أبحاثاً وكتباً قادمة، للإجابة عنها. وسأترك للعزيز صبحي، الآن، الفرصة لتقديم تعليقٍ، عامٍّ ومكثّفٍ، على ما جاء في مداخلتك الجميلة.
أ. صبحي نايل:
كان مشروع علي مبروك الرئيس هو تخفّي السلطة خلف القرآن، يعني أن السلطة حكمت من خلف القرآن، وفرضت نمطاً محدّداً للتعامل مع القرآن تسعى من خلاله إلى فرض رؤيتها، بوصفها فرضاً دينيّاً. فكان شغله الشاغل فعليّاً هو إثبات دينامية القرآن، وأن عودة القرآن الحيّ تعني عودة الإنسان ضمن إطار القرآن؛ أي أن تكون المصلحة الإنسانية هي الهم الرئيس للقرآن. وهو، بالمناسبة، حتى في طرحه لهذا القرآن الحيّ، قال الأنسنة، أن يكون الإنسان ضمن المعادلة من خلال أن يدخل المصلحة البشرية.
في مسألة التساؤلات والإجابة عنها واقعيّاً، كان الكتاب، بالنسبة إليّ، انطلاقةً، أني أدركت هذه المشاريع وغيرها من المشاريع، مثلاً الجابري وما إلى ذلك، للانطلاق نحو هذه الجوانب الأخرى، الجوانب السياسية وما إلى ذلك، وهذا الواقع الدينامي المختلف كيف يمكن أن تكون هناك أدوات لإنتاج الواقع المختلفة؛ ففعليّاً بعض هذه التساؤلات تدور في ذهني.
د. حسام الدين درويش:
دعني أشير إلى ملاحظتين على ما قاله د. سامح، فالسؤال يتعلق بهيكلية الكتاب ومضمونه. فحسبما فهمت، يتضمن الكتاب محاجّةً بضرورة العودة إلى التراث؛ بمعنى قراءة التراث، وكأن كنوزاً ما زالت موجودةً فيه، للإجابة عن الأسئلة التي نطرحها. هذه المسألة إشكاليةٌ أو مختلفٌ عليها. وهناك من يتحدث عن أننا عانينا من أن الفكر العربي انكب أكثر من اللازم على العودة إلى هذا التراث، وكان لديه نوعٌ من عصاب العودة إلى التراث، والبحث فيه عن أصول مشاكلنا. هذا من ناحيةٍ أولى. من ناحيةٍ ثانيةٍ، ربما أكثر إشكاليةً وخلافيةً، هناك حديثٌ عن الهرمينوطيقا، بوصفها نتاج فلسفةٍ خاصةٍ غربيةٍ أو ثقافةٍ غربيةٍ، وهنا ننزلق إلى نوعٍ من النسبوية الثقافية؛ بمعنى نحن لدينا ثقافةٌ ذات سماتٍ أساسيةٍ مختلفةٍ، جوهريّاً، عن سمات الثقافات الأخرى، وليس هناك سماتٌ أو قيمٌ أو أفكارٌ كونيةٌ أو عامةٌ أو مشتركةٌ بين الثقافات المشتركة. أرى، مع كثيرين، أنه، في المعرفة، ثمة ما هو كونيٌّ أو إنسانيٌّ، بغض النظر عن الانتماء الإثني أو القومي أو الديني أو الهوياتي عموماً. فثمة منطقٌ ومضمونٌ مشتركٌ إنسانيٌّ عامٌّ، يمكن الاتفاق عليه. ومن هنا يأتي الحديث عن إمكانية العلوم والمعارف عموماً. وعندما نتحدث عن الفهم والتأويل، ليس بالضرورة أن نتحدث عن أيّ ثقافةٍ معينةٍ. فالتأويل هو التأويل، في أيّ ثقافةٍ. بعد هذه الكونية، يمكن أن نتحدث عن خصوصيةٍ، لكن ليس قبلها. ثمة خطرٌ في نسبنة وخصخصة المعارف، وفقاً للانتماءات الهوياتية والخصوصيات الثقافية التي لا تنتهي، والتي تنفي إنسانية الإنسان معرفيّاً.
السؤال الرئيس الذي أودّ طرحه، في هذا السياق، يتعلق بأطروحة «التأويل هو الحلّ». ففي تقديمه للكتاب، أظهر عبد الجواد ياسين اختلافه معك، في هذا الصدد، ورأى أنك بمفهوم التأويل تضعنا، دائماً، مع النص، وتقول، دائماً، بمحورية النص، وأن الحلّ في قراءةٍ جديدةٍ للنص. وقد سبق للدكتورة ميادة أن قالت إن علاقتها المعرفية بفكر عبد الجواد ياسين سمحت لها برؤية أن العلاقة مع الإسلام يمكن أن تخرج خارج هذه العلاقة الضيقة المحدودة المتزمتة مع النص، أي يمكن أن نخرج من النص أو نتجاوزه. وهذا ما سمح لها بتجاوز علاقتها المعرفية مع فكر شحرور. أنت تريد أن تقول إن التأويل هو الحل، وبذلك أنت تبقى وتبقينا في النص. في المقابل، يرى عبد الجواد ياسين أننا نصل إلى مرحلةٍ من عدم التطابق أو الهوية أو الاختلاف، بين النص واحتياجات الواقع، لا ينفع فيها أو معها التأويل. وحينها، يجب الخروج من النص. الإشكالية الرئيسة الموجودة، من خلال تقديم عبد الجواد ياسين، أنه اختلف مع اتفاقك معه. ففي حين أنك في الكتاب تتفق معه، فإنه، في تقديمه للكتاب، يعلن اختلافه معك، ومن ثم اختلافه مع اتفاقك معه. قد يكون الجسر الواصل بين المسألتين قولك إن المسألة لا تتعلق بالنص وحده، وإن هناك أشياء أخرى يجب ألا نقلل من أهميتها، وهي مركزيةٌ أيضاً. هذا التوتر الضمني، ليس بالمعنى النفسي، وإنما بالمعنى المعرفي، إيجابيٌّ ومثيرٌ للتفكير، ما رأيك؟
أ. صبحي نايل:
فيما يخص الاختلاف مع المستشار، أولاً، عرض التأويل، هنا، كحلٍّ، ليس عرضي أنا، لكن هذه الاستراتيجيات قدمته بوصفه حلّاً، وفي الأخير، قلت إنه ليس حلّاً كافياً ناجعاً لكافة المشكلات، ولكنه يمكن أن يكون حلّاً ضمن مجموعةٍ من الحلول الأخرى، وليس حلّاً كافياً جامعاً مانعاً بالمعنى الفلسفي. واختلاف المستشار عبد الجواد ياسين معي، في هذه النقطة، هو أنه يرى أن على الواقع العربي الخروج من إطار النص، ولكن أنا أرى أن محورية النص في الواقع تحول دون ذلك. قبل دقائق، تحدثنا عن حضور التراث واستدعائه لتوجيه الواقع؛ لأنه يعد هباتٍ إلهيةً مخصوصةً، وتعبيراً عن الهوية الإسلامية وما إلى ذلك. فاستدعاء التراث ما هو إلا محاولةٌ لاستدعاء النص واستدعاء الماضي القديم في الواقع المعيش. فمسألة محورية النص، بالنسبة إلي، غير متنازعٍ عليها، مسألة واقع نعيشه، فعليّاً، وهذا ما أقره نصر أبو زيد، من النص تكوّن العقل الإسلامي، ويدور حوله، والحديث الآن يدور حول النص.
د. حسام الدين درويش:
هذا تأويلك، أن محورية النص ليس متنازعاً عليها، وعبد الجواد ياسين ينازعك القول هنا.
أ. صبحي نايل:
المستشار عبد الجواد ياسين ينازعني القول؛ لأنه يقول بالخروج عن أفق النص، وقد أفاجئك بالقول إنني أتفق مع المستشار عبد الجواد ياسين في اختلافه معي؛ فعبد الجواد ياسين يقول إن التعاطي التأويلي مع النص سيصل إلى انسدادٍ تأويليٍّ يدفعنا إلى الخروج من النص إلى الواقع، وأنا، كذلك، ومعي الاستراتيجيات التأويلية الأخرى، نقول بالخروج عن أفق النص، بمفهوم النص المطروح الذي يجب أن يحكم الواقع، ليس بمفهوم النص الروحي المتسائل. وهو، بهذه المناسبة، متفقٌ معي؛ بمعنى، إذا عرضناه بمفهوم الخطاب المتشعب ذي الأبعاد الاجتماعية المختلفة، ستصبح حمولةً مختلفةً. الخطاب، عادةً، ليس غايةً في ذاته، وهذا فرقٌ بين النص والخطاب؛ فالخطاب له مضمونٌ يحاول قوله، يحاول الوصول إليه، وهذا ما يقصده عبد الجواد ياسين بالخروج عن أفق النص؛ أي الخروج عن التأويل الفيلولوجي (اللغوي) للنص؛ لأن اللغة ليست مدخلاً كافياً للتعاطي مع النص. ومن هنا، جاءت تسمية الأطروحات المقدمة استراتيجيات التأويل؛ لأنها استراتيجياتٌ جديدةٌ ومختلفةٌ عن بعضها، وتلتقي في أن الخطاب القرآني يسعى إلى مصلحة الإنسان، ومن ثم، تبحث عن كيفية الوصول إلى هذه المصلحة؛ فهو يتحدث عن مفهومٍ محددٍ للنص، تحدث عنه نصر حامد أبوزيد، كذلك، في نقلته من النص إلى الخطاب. وتحدث عنه محمد أركون، كذلك، في مسألة الدين والإيديولوجيا، وهي مشابهةٌ، كثيراً، للحديث عن الدين والتدين عند المستشار عبد الجواد ياسين، ومسألة الخروج من أفق الأيديولوجيا إلى أفق الدين الروحي المتعالي. فالخروج عن النص، هنا، يعبِّر عن الخروج من هذا المفهوم للنص. في هذه الناحية، نحن لا نختلف، وهذا ما قدمته في الإطار المفاهيمي للكتاب، وتوضيح أن مفهوم التأويل الذي يقدمه الكتاب يتسع لكيفية التعاطي مع القرآن في الواقع، والمناهج المقدمة لفهمه وقراءته، وتعاطي العقل الإسلامي معه. وهذا ما جعلني أضع أركون، ونصر أبو زيد، وعبد الجواد ياسين، وعلي مبروك ضمن استراتيجيات التأويل، على الرغم من الاختلافات القائمة في ما بينهم، لكنهم مثلوا، في ظني، العقل الإسلامي المعاصر ومحاولة تعاطيه مع القرآن، بيد أن سوء فهمٍ ناتجٍ عن المفهوم السلفي للنص الذي يخيم على العقل العربي، ويرى في النص إجابةً عن كافة التساؤلات المطروحة، والتي ستطرح في ما بعد. وبهذا المعنى، نعم، يجب الخروج عن النص؛ لأنه عاجزٌ عن حمل كافة الإجابات. وفي مسألة دراسة التراث، وتعقيباً على ما قاله الدكتور سامح، أظن أنها حيلةٌ للتحايل على الفكر القائم الذي يحاول أن يفرض التراث على الواقع، ويحاول أن يكون الحاضر صورةً من الماضي، ويقدم نفسه، بوصفه صوت الدين والعقل معاً. ومن ثم، نحاول أن نرى ما يلزمنا منه، وهو استهلاكٌ أيديولوجيٌّ له. التراث، في الأخير، تراثٌ، ولا يمكن أن يكون إلا تراثاً، لا يمكن أن يكون أي شيءٍ غير التراث، إذا درسناه أو لم ندرسه، المشكل الرئيس هو في هذا الواقع الذي يستدعي التراث.
د. حسام الدين درويش:
أظن أن الدكتور سامح لديه ما يضيفه هنا.
د. سامح إسماعيل:
توضيحٌ بسيطٌ: طبعاً، المعرفة كونيةٌ بطبيعتها، وأكيد أن هناك خصوصياتٍ، أعتقد أنها تتضاءل باستمرارٍ في عصر أصبحت فيه المعرفة متاحةٌ للجميع. غير أن حديثي ينصبّ على اللحظة، لحظة الاستدعاء، نحن، دوماً، متأخرون، نتحدث عن التنوير في زمن ما بعد التنوير، وعن العلمانية في ما بعد العلمانية، وعن الحداثة في ما بعد الحداثة. وهنا يبرز السؤال: هل تأخرت عملية استدعاء المناهج الحديثة لدراسة النص عموماً؟ وهل هي أولويةٌ، في هذه اللحظة، أن أدرس النص، وأؤوله، وأعيد تفكيكه وتركيبه وبناء معانٍ جديدةٍ، أم إن النص هو ابن اللحظة التاريخية التي تنزل فيها، وانتهت تاريخيّاً، وتم البناء عليه، وحدثت هذه السيرورة مع عملية تراكم المعرفة البشرية؟ أعتقد أن تلك العملية قد تجاوزت النص، في بعض الأحيان. فمركزية النص، هنا، كانت في التاريخ، ولا يمكن أن يحلّ النص محلّ الواقع، ويهيمن التراث، أو يصبح له كل هذا الزخم في حياتنا، ونترك المستقبل، هذا للتوضيح، وشكراً.
د. حسام الدين درويش:
توضيحٌ مهمٌّ وإضافةٌ مهمةٌ فعلاً. ويجب أن نتفاكر أو نفكر مع بعضنا في مسألة محورية أو مركزية النص في الثقافة أو في الفكر أو في الواقع العربي. هل هي محوريةٌ قائمةٌ، فعلاً، أم هي محوريةٌ معياريةٌ؛ أي تنتمي إلى ما ينبغي أن يكون من منظورٍ ما؟ المسلمون، عموماً، يرون أن هذا النص ينبغي أن يكون هو الأساس والمعيار الذي ننطلق منه، لكن، في أفعالهم، قد لا ينطلقون من النص إلا نادراً. وعلى هذا الأساس، تبدو المحورية نظريةً ومعياريةً أكثر من كونها وصفيةً وتحليليةً. فهل هي محوريةٌ معياريةٌ نظريةٌ لا تُنفذ، أم هي محورية عمليةٌ وفعليةٌ؟ وهذا الأمر يتعلق بالسؤال الذي طرحه العزيز صبحي، هل لهذا النص دورٌ فعليٌّ في هذا الأمر أو ذاك، أم هو مجرد أساسٍ نظريٍّ نسوغ به ما نفعله لأسبابٍ أخرى؟
وتعليقاً على سؤال الأستاذ عبد الرحمن إسماعيل المتعلق بالغاية من الخلق، ينبغي التذكير بآية «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون»؛ بمعنى أن النص والدين ليس لخدمة الناس فقط، وإنما هناك غاياتٌ إلهيةٌ أخرى أُعلن عنها. فالنص لخدمة البشر، ولغاياتٍ أخرى، أيضاً. وينبغي أخذ ذلك في الحسبان، عند محاولة فهم النص وتأويله، ما رأيك؟
وتعقيباً على وجهة نظرٍ خلافيةٍ شائعةٍ أشار إليها الدكتور صابر، وترى أن كلّ إنسانٍ هو إنسان نصٍّ، وكل حضارةٍ هي حضارة نصٍّ، وأن الحضارة الغربية الحالية هي حضارة إنجيلٍ أو توراةٍ، ألا ترى أن القطائع المعرفية التي حصلت لم تعد تسمح بالحديث عن الحضارة الغربية الحالية؛ الحضارة الأمريكية أو الأوروبية، على أنها حضارة إنجيلٍ أو توراةٍ؟
أ. صبحي نايل:
السؤال الإشكالي الذي قدمه الصديق العزيز عبد الرحمن، هل يمكن أن نتجاوز النص؟ إذا نظرنا إلى صياغة العقل الإسلامي المعاصر، فأول مرحلةٍ له، بالتماس مع الحداثة، جعلت الذات العربية ذاتاً مهددةً؛ لأن في ذهنها أن الإسلام هو صاحب الإطار التقدمي الذي تعمل من خلاله، ويمكن أن تتقدم من خلاله. فجاءت الحداثة، لتحاول فرض نفسها، كسياق تقدمٍ مختلفٍ، فظهر مقترح الذات الإسلامية المختلفة عن الواقع، وأن هؤلاء لا يمثلون الإسلام ولا يمثلون المسلمين، لكنهم تركوا الإسلام، ولذلك تخلفوا. ومن هذا المنطلق، بدأ الحديث عن التراث وحضور النص، وبدأت مرحلة السلفية، وهي تقديم النص بوصفه حاملاً لكافة الإجابات، ومن دون أيّ وسيطٍ معرفيٍّ. وطبعاً، ترك النص يجعل الموضوع، بالنسبة إلى هذه الهوية، أكثر تهديداً؛ لأنها ستفقد كامل أصالتها. فهو، كطرحٍ واقعيٍّ، أمرٌ غير مقبولٍ. يعني، بالنسبة إلى هذا الواقع الذي يحاول أن يقدم مفهوماً مغايراً للنص، ولا ينجح في ذلك، إذا كان نجاحاً، حتى على مستوى الإطار الأكاديمي، فإنه في إطارٍ ضيقٍ؛ فعبد الرحمن يعرف، بما أنه زميلٌ في القسم، أن لا أحد يستطيع الكلام عن نصر أبو زيد في قسم الفلسفة نفسه. فحتى، في الإطار الأكاديمي، موجودٌ بشكلٍ ضيقٍ. هذا من زاويةٍ. من زاويةٍ أخرى، والتي تكلم عنها د. صابر، أن تترك النص لهؤلاء الذين يتحدثون باسمه، فاستراتيجيات التأويل، لما قدمت نفسها، قدمت نفسها بوصفها محاولةً لسحب النص من هؤلاء. فإذا تركت النص، فأنت تتركه لهؤلاء الذين يتحدثون باسم القرآن، وهم، فعليّاً، لهم سلطةٌ داخل الواقع الإسلامي المعيش، فأنت، في الأخير، تترك قيادة هذا الواقع لهم.
المسألة الأخرى، إن مفهوم الخطاب، بديناميته، يعطي بعداً روحيّاً مختلفاً قد يأتي بتجربةٍ مختلفةٍ عن التجربة الأوروبية. كثيرٌ من العرب سافروا إلى أوروبا، بخلاف د. حسام، لديهم أزماتٌ في التعاطي الأوروبي مع القيم، وما إلى ذلك، ويطمحون إلى أن تكون هناك تجربةٌ أكثر ثراءً، بالمعنى الجدلي الهيجلي، أن تكون هناك تجربةٌ مضادةٌ لها، ومن ثم تنتج تجربةً أخرى ما بين المختلفيْن أو المضاديْن، فلمَ لا يكون ذلك؟
د. حسام الدين درويش:
جميل. أودّ منك، الآن، توضيح وجهة نظرك في خصوص العلاقة بين النص/ القرآن، من ناحيةٍ أولى، والعنف (المادي) الذي يمارسه المتطرفون الأحاديون الدوغمائيون المتشددون، من ناحيةٍ ثانيةٍ. هل هناك رابطٌ؟ هل هناك دورٌ للنص الديني في حد ذاته؟ ومن الواضح أن النص يتيمٌ، كما يصفه أفلاطون؛ بمعنى أن من أنتجه/ أنجبه لم يعد موجوداً، ليدافع عنه، وبذلك يمكن لأي قارئٍ أن يفهمه أو يؤوله بأي طريقةٍ يريدها، «من دون رقيبٍ أو حسيبٍ». فبأي معنى نربط بين مضمون النص والعنف؟ وعندما نتحدث عن العنف، يمكن أن نتحدث عن العنف الرمزي المتمثل في نفي تأويلية المعرفة أو القراءة. فهناك عنفٌ رمزيٌّ بقدر ما يكون هناك إقصاءٌ تعسفيٌّ للمعارف الأخرى. فالقول بالتأويل يقتضي، حتماً، الحديث عن التعددية. فمفهوم التأويل يتضمن أن هناك إمكانيةً لفهمٍ أو تأويلٍ آخر. فكلمة التأويل، في حد ذاتها، تتضمن معنى التعددية. فالعنف الرمزي الأول يتمثل في نفي التأويلية، والقول بحقيقةٍ واحدةٍ أحاديةٍ لا شريك لها. فما العلاقات الضرورية و/ أو غير الضرورية، في رأيك، بين هذا العنف الرمزي؛ أي القول إن المعرفة التي نقدمها ليست تأويليةً، والعنف الفعلي المادي الذي يجعل أشخاصاً أو أطرافاً يفرضون وجهة نظرهم وتأويلهم الأحادي أو رؤيتهم الأحادية على الآخرين؟ كل المداخلات حامت حول هذه المسألة، بطريقة أو بأخرى.
أ. صبحي نايل:
العنف الرمزي هو احتكار الحقيقة، وهو، بشكلٍ أو بآخر، احتقارٌ للناس، كما يقول علي حرب. والعنف الرمزي هو مقدمةٌ للعنف الاجتماعي والعنف اليدوي. هو، في البداية، يقول أنا أملك الخطاب القرآني، وأملك حق الحديث عن الذات الإسلامية، وأملك تطبيق هذه الذات الإسلامية، وأملك تقديم مشروعٍ موازٍ للمشروع الغربي، وهذا المشروع يعبر عن الهوية الإسلامية، وعن الخطاب الإسلامي، وعن الدين. هذا المشروع ينطلق من منطلقاتٍ غير واقعيةٍ، ولا ينطلق من الواقع المعيش؛ فمنجزاته الواقعية تساوي صفراً، فيحاول فرض نفسه بالقوة، ويقصي هذا الآخر، يرى هذا الآخر قاصراً عن قيادة نفسه. فهناك جملةٌ كانت تستخدم في معسكرات داعش، وتستخدم في خطاباته، تعبيد الناس لربّهم، وكأن هؤلاء الناس في حاجةٍ إلى القيادة، مثل الأطفال أو مثل الحيوانات أو ما إلى ذلك، إلى ربهم بالقوة، فهو، في البداية، احتكر لنفسه حق القراءة الوحيدة الكامنة في الضمير الإلهي، وأنه هو المتحدث باسم الإله، ومن ثم يحاول أن يفرض هذه الرؤية، بوصفها رؤيةً إلهيةً، لا بوصفها رؤيةً إنسانيةً؛ لأنها تعطي امتيازاً مجاوزاً لكافة الرؤى الموجودة بأنها إلهيةٌ لا تحمل الانحياز الإنساني والنقصان الإنساني، ومن ثم، لا توجد رؤيةٌ أخرى معارضة لها. وهذه الرؤية هي الرؤية السائدة.
في سؤال د. خلدون، عن الواقع الإسلامي المعاصر، هل العنف يخرج من الواقع أم من الفقه أم من الخطاب؟ الواقع أن العنف، كظاهرةٍ، لا يمكن أن يكون له عنصرٌ واحدٌ أو سببٌ رئيسٌ، كلنا نعلم أن لأي موقفٍ اجتماعيٍّ أو ظاهرةٍ أسباباً كثيرةً، لكن بإعلان هذه الجماعات نفسها، بوصفها الممثلة للهوية المفتقدة، والمشروع الذي يحيي الذات الإسلامية، فإنها تنطلق من الواقع المنهزم حضاريّاً. بطبيعة الحال، تختلف أحياناً مع الفقه، وترفضه تماماً. مثلاً الوهابية أو السلفية لم تشر، في منهجها، إلى أي فقيهٍ، بمن في ذلك ابن تيمية بالمناسبة، فهي تحاول أن تتعاطى مع القرآن والسنة النبوية بهذا الشكل من دون أي وسيطٍ معرفيٍّ. وإذا تعاملنا مع الخطاب القرآني، بوصفه خطاباً جاء لفئةٍ اجتماعيةٍ ما، نجده، في مواقف ما، خطاباً عنيفاً، وفي بعض الأحيان، خطاباً للرحمة. وقد جاء هذا التناقض الظاهر من التعامل معه كنصٍّ، وفرضه بوصفه نصاً، وحدةً كاملةً متكاملةً، جعل العقل الإسلامي يدخل في الاجتماع من رؤيةٍ خلفيةٍ، أو من بابٍ خلفيٍّ، من خلال الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه، من خلال أن هناك آياتٍ تتعارض مع أخرى. لكن إذا فهمناه، بوصفه خطاباً اجتماعيّاً، فلا يوجد تعارض في هذا الموقف الذي استدعى الخطاب أن يكون بهذه اللهجة وبهذا الشكل. وفي الموقف الاجتماعي الآخر، كان له خطابٌ مغايرٌ؛ لأنه يرتبط بالسياق. والسياق، حسب النظريات القرائية المعاصرة، هو ضمن المعنى، هو جزءٌ من المعنى.
بالنسبة إلى السيدة ريم الدندشي، أتفق معك كلّياً، فالمشاريع المقدمة، قدمت نفسها، بوصفها حلّاً مبدئيّاً لمحاولة فتح الباب على المعنى، ومحمد أركون كان يقول إنه يقدم قراءاتٍ للقرآن لا تفعل أي شيءٍ غير أنها تحاول الانفتاح على المختلف وعلى الجديد، لعلها تأتي بشيءٍ جديد مختلفٍ عن الحداثة وما بعد الحداثة، تأتي بشيءٍ مُرضٍ للذات الإسلامية وتقدمها، وفي الوقت نفسه، مرضٍ لتقدم الحضارة العربية مثلاً.
طبعاً، د. عماد عبد المسيح، أيّ تعاطٍ مع النص هو تعاطٍ معرفيٍّ، قبل أيّ شيءٍ. والخطاب، بوصفه خطاباً إلهيّاً، والنص، الآن، يحكم الواقع العربي المعاصر. وأرى أنه جزءان، حيث يتم وضعه بوصفه معياراً، والوصفي أن هذا الواقع يحاول أن يمتثل لهذا النص. فهو بالمعنى المعياري الكثيف على حد توصيف د. حسام. وإذا كان النص، بهذا الشكل، فالحديث، هنا، في هذا الإطار، هو كيف بالتأويل، بوصفه ضرورةً واقعيةً، ألا يكون ضرورةً معرفيةً؟ ربما يكون ضرورةً معرفيةً، قبل أن يكون ضرورةً واقعيةً. وقد أشرت في الكتاب، خلال حديثي عن المفاهيم الإجرائية، إلى أن التأويل، هنا، بالمعنى الواسع، معنى التعاطي مع النص، معنى كيفية مطالبة النص بالحضور الواقعي والحي في الواقع، وليس بالمعنى الهيرمينوطيقي اللغوي الفيلولوجي الضيق، لكن بمعنى كيف تخرج هذه العقول من الأفق المحدد المفروض عليهم. لذا، جاء انطلاقهم من هذا الواقع، قبل الضرورة المعرفية.
د. حسام الدين درويش:
قبل الختام، سأشير إلى ملاحظةٍ أخيرةٍ قد تبيِّن ضرورة التدقيق في هذه المسألة. هناك من يتحدث عن النص بوصفه كائناً مستغَلّاً، كما يقول د. أُنس الطريقي، حيث تكون هناك علاقة استغلال للنص لتبرير العنصرية، ولا يكون النص مسؤولاً على الإطلاق، بل يتم استغلاله من قبل آخرين لتبرير العنف. في المقابل، أنت تتحدث عن دور النص؛ أي إن النص يقوم بدورٍ ما، بمعنى أن للنص فاعليةً. وهذه وجهة نظرٍ مقابلةٌ ومختلفةٌ. فوجهة النظر الأولى تقول إن النص بريءٌ بالكامل؛ فقط، هناك من يستغله، لأغراضٍ لا تتفق معه أصلاً؛ بينما الطرف الآخر يقول إن النص يحمل هذه الممكنات، ممكنات التأويل لممارسة العنف. ما رؤيتك، ووجهة نظرك، في هذا الخصوص؟ هل هناك دورٌ للنص؛ بمعنى هو، نفسه، من حيث المضمون والبناء والأسس، يقوم بدورٍ ما، أم إنه مجرد مستغَلٍّ بريءٍ لا حول له ولا قوة، ويتيمٌ، بالمعنى الأفلاطوني، ويتم ظلمه بهذه الطريقة؟
أ. صبحي نايل:
للتوضيح، أنا لا أقول بدورٍ محوريٍّ للنص في إنتاج العنف، وأتفق مع الدكتور العزيز أنس الطريقي، لكني أؤكد أن النص يحمل، في داخله إمكانية التأويل العنيف، وهو كأيّ نصٍ يخضع للقارئ، والدليل على ذلك أن المتصوفة بكل ما يعرفونه من تسامح يستدلون بالنص على عقيدتهم، في الوقت التي تزعم الجماعات الجهادية أنها تنطلق منه. وحسب التاريخ الإسلامي، فإن النص كان موجوداً، بالمعنى الأفلاطوني، خاصةً في هذا الاستخدام. والدليل على ذلك العبارة التي قالها الإمام علي في حادثة التحكيم، هو كلامٌ بين دفتي صحفٍ، لا ينطق. والحديث أن من يتحدث باسمه يملك المعنى النهائي، ويملك قوانين الاجتماع وقوانين التاريخ، يجعلنا نرى فيه ما هو مجاوزٌ لقدرته كنصٍّ إرشاديٍّ روحيٍّ يتحدث إلى الإنسان كفردٍ، ويتم استغلاله بهذا الشكل. دور النص في إنتاج العنف، هذه المسألة، معرفيّاً، لا يمكن الجزم بها أو الحكم فيها، ولكن حسب ما تعلنه الجماعات الجهادية، فإنها تنطلق من مشروعٍ نهضويٍّ يعمل على خروج هذه الذات المنهزمة من حالة التيه وعدم الحضور، وتستحضر النص، هنا، كأداةٍ تشرعن به أفعالها. فضلاً عن أن الحديث عن سببٍ وحيدٍ مفارقٍ للواقع المعيش وراء موقفٍ أو ظاهرةٍ واقعيةٍ هو أمرٌ غير مقبولٍ منطقيّاً. فالواقع هو المحدد لعملياته وظواهره ومواقفه. ومن ثم، يمكن القول إن المعطيات الواقعية تشير إلى أن القرآن يتم استغلاله، فعليّاً، في هذا العنف؛ لأنه يتم عرض هذه الرؤية، وهذا العنف، بوصفه أمراً ربّانيّاً من هذا القرآن. لكنه ليس كذلك، فكما أمر القرآن بكذا، أمر بالرحمة، وهذه المشاريع العنيفة تقدم نفسها، في البداية، أنها ممثلةٌ لهذه الذات المنهزمة، وأنها تمثل الندية لهذه الذات الغربية الأوروبية المنتصرة حضاريّاً. وبعد ذلك، يأتي دور النص؛ إذ يعلنون أنهم من هذا النص ينطلقون، وأن رؤيتهم إلهيةٌ، لكن دور النص في إنتاج هذا العنف ليس بقدر الواقع المعيش، وحضور القرآن يأتي من أفق طرحهم لمفهوم النص الكامل الذي يجيب عن كل التساؤلات. لذلك، جاء المفهوم الآخر المغاير. د. حسام الدين درويش:
يعني، أنت تنوس بين تبرئة النص وتحميله جزءاً من المسؤولية، بين القول إن للنص دوراً وفاعليةً والقول إن النص بريءٌ ومظلومٌ ومستغَلٌّ؟
أ. صبحي نايل:
هو فقط موضوع الاستغلال بالفعل.
د. حسام الدين درويش:
إذا كان العنف، من الناحية الوصفية، طبيعيّاً، أي إنه من الطبيعي أن يكون الإنسان عنيفاً؛ فهو، من الناحية الأخلاقية، غير طبيعيٍّ؛ بمعنى إنه مرفوضٌ أو غير مقبولٍ. هذا من جهةٍ أولى. من جهةٍ ثانيةٍ، بغض النظر عن الدور المفترض للنص، فالسؤال هو: هل يحمل النص يحمل (إمكانية) هذا المعنى أم لا؟ ما الأساس المعرفي الديني للعنف في النص. وفي كل الأحوال، لا يكون العنف مسوغاً، من منظور الدولة الحديثة، سواء أكان هناك نصٌّ دينيٌّ يؤسِّس له أم لا.
د. ميادة كيالي:
لا يمكننا إلا أن نربط حديثنا اليوم، حول التأويل وأصول وجذور العنف، بما يعانيه العالم العربي اليوم، نتيجة بعض التأويلات للنصوص الدينية. جزءٌ من النقاش كان محوريّاً حول كيفية الخروج من تأصيل العنف عبر النصوص. وأودّ أن أضيف إلى ما غمز به الدكتور حسام، وأؤكد، هنا، أنني أتفق، تماماً، مع المفكر عبد الجواد ياسين، في أننا بحاجة إلى تحرير النص من كونه المصدر الحصري لكل الحلول لأوجاعنا وآلامنا. ولا يعني عهذا التحرير التخلي عن النصوص الدينية أو التقليل من قيمتها، بل، على العكس، النص سيبقى في أعماق وجداننا بما يقدمه من قيمٍ أخلاقيةٍ وإنسانيةٍ. لكن علينا أن نفهم أنه لا يمكن للنص، وحده، أن يقدم الإجابات عن كل الأسئلة والقضايا المعقدة التي نواجهها اليوم. علينا أن نتعلم من تجربة النص في تفاعله مع الاجتماع، وأن نبحث، اليوم، عن إجاباتٍ جديدةٍ لقضايا حديثةٍ. وعلينا أن نوجه أسئلتنا للقانون، ونسأل العلوم، ونسأل عن كل ما يمكن أن يقدم لنا حلولاً واقعيةً وعمليةً لمشكلاتنا. النص سيظل جزءاً من ثقافتنا وهويتنا، لكنه ليس المصدر الوحيد الذي يجب أن نلجأ إليه في كل موقفٍ.
د. سامح إسماعيل:
في عجالةٍ سريعةٍ، أشتبك، من بعيدٍ، مع صديقي الغالي د. أنس، لو أخذنا تفسير شلايرماخر للهيرمينوطيقا نجد أنها هي فن الاستيعاب والتأويل أو فن الفهم والاستيعاب، وكان يركز على سوء الفهم، ويقول لدينا، دائماً، سوء فهمٍ تجاه النصوص الدينية، وأخذ الهيرمينوطيقا إلى حقل العلوم الإنسانية، بعد ذلك. لو استدعيت توصيف ريكور للهرمينوطيقا، نجده يحدد ثلاثة شروط: الترابط بين التفسير وفقه النصوص واللغة وترابط العلوم التاريخية، هل هذا حصل في المحاولات التأويلية القديمة التي ظهرت عند الأشاعرة وغيرهم، ولغة القرآن الذي وصلنا هو بلغة قريش، أين باقي لغات القرآن، هذيل وثقيف وهوازن وكنانة وتميم واليمن، وكل ما استعرضه السجستاني في الكتابات التي كتب بها القرآن؟ تطور العلوم التاريخية، هل حدث عندنا، في تاريخ الإسلام، نوعٌ من أنواع الاشتباك مع العلوم التاريخية والمصادر التاريخية، وتطورت إلى فهمٍ تاريخيٍّ حقيقيٍّ؟ وهل كتبنا التاريخ من أسفل، وليس تاريخ السلطة أو التاريخ من أعلى؟ لم يحصل هذا؛ فالحوار بين علوم الإنسان والعلوم الطبيعية، وبين الفهم والتفسير، لم يحصل؛ لأن تأخراً حضاريّاً كبيراً حصل في ما بعد في العلوم الطبيعية. الخلل، عندي، في موضعة الهرمينوطيقا، كما حدث من قبل التيار الحداثي الذي حاول استدعاءها بالمفاهيم والمناهج الحديثة. أنا أتكلم عن محاولات التأويل، في التراث الإسلامي نفسه. أعتقد أنها لم تحصل، بشكلٍ منهجيٍّ، أو بشكلٍ حقيقيٍّ، يتماس مع الهرمينوطيقا.
عندي كلمةٌ أخيرةٌ قد تكون صادمةً للبعض، وهي أن النص القرآني، في تموضعه في الاجتماع الإسلامي، هو نصٌّ نخبويٌّ بامتيازٍ؛ فالنص القرآني هو نصٌ فسرته السلطة ومعارضو السلطة، وعلماء الكلام والفقهاء، أو المؤسسات الدينية. أما العوام، الشعب، الملايين، فأعتقد أن النص القرآني كان حاضراً بقيمه الأخلاقية بالكليات؛ حفظ العرض، حفظ النفس، حفظ المال، إلى آخره، بالقيم الأخلاقية الكبرى، لكنه هو، نفسه، كنصٍّ ولغةٍ ومفرداتٍ وأحكامٍ وتفسيرٍ، أعتقد أنه كان نخبويّاً بامتيازٍ. وأنا أفضل الميل إلى الأنثروبولوجيا، والكتابات الأنثروبولوجية، والكتابات التي تناولت الاجتماع العربي والإسلامي في عصورٍ قديمةٍ، العصر المملوكي والعباسي وما قبله. وفي هذه النصوص، النص غير حاضرٍ بين العوام. العوام يسمعون عن النص من السلطة، ومن الفقهاء ورجال الدين، لكن النص، بمفرداته، غير حاضرٍ. مخطوطة هز القحوف في شرح قصيدة أبي شدوف مثلا لأحد الكتاب المصريين، والتي تحدثت عن المصريين وأحوالهم في العصر العثماني، نجد أن الناس فيها ليس لديهم أي فهمٍ أو وعيٍ بالنصوص. البسطاء والعوام تعاملوا مع الصلاة، ومع الصوم، ومع كل المفردات الدينية التي تجري أمامهم، بشكلٍ شعبيٍّ عفويٍّ، تماماً، بعيداً عن النص. إذن، النص نخبويٌّ، وتم اختطاف النص، بواسطة السلطة، والفقه، والمفسرين، والمؤسسات الدينية. النص على الدوام يتم اختطافه، وإعادة تفسيره، وتأويله، لمصالح وأهداف، سواء أهداف سلطوية أو أهداف شخصانية، لكن النص، في النهاية، غائبٌ، في اعتقادي، حتى اللحظة، عن الاستخدام الواسع النطاق في الاجتماع العربي والإسلامي. وشكراً.
د. حسام الدين درويش:
أطروحةٌ مهمةٌ ومثيرةٌ للتفكير جدّاً، دكتور سامح. القول إن النص القرآني نخبويٌّ وغير موجودٍ، في التدين الشعبي. في المقابل، يمكن القول إنه موجودٌ بوصفه المعيار الذي يحكم. فهو المعيار المثالي، لكنه غير حاضر فعليّاً.
النقطة التي انطلق منها عبد الجواد ياسين، وتابعتها د. ميادة هي ضرورة تجاوزه معياريّاً؛ بمعنى أنه من الضروري ألا يبقى المعيار (الوحيد) الذي من خلاله نبحث عن حلٍّ لكل مشكلاتنا. فالمطلوب التجاوز المعياري، وليس التجاوز الفعلي العملي فقط، فهو متجاوزٌ، جزئيّاً ونسبيّاً، من الناحية الفعلية العملية، في أفعالنا وأقوالنا. وإذا كان المقصود بالهيرمينوطيقا التنظير العام للتأويل والفهم، فهذا لم يحدث إلا في العصر الحديث. فمع شلايرماخر، حصل الانتقال من الهيرمينوطيقا الدينية إلى الهرمينوطيقا العامة، مع الاستناد إلى من سبقه طبعاً. وهذه الهرمينوطيقا العامة عابرةٌ للثقافات؛ فحين نقرأ كتاب «الحقيقة والمنهج» لغادامر، فهو لا يتحدث عن فهم شخصٍ معينٍ أو ثقافةٍ معينةٍ، وإنما يتحدث عن فهم الإنسان بوصفه إنساناً. وفي تراثنا العربي الإسلامي، هناك أفكارٌ مهمةٌ لابن رشد، وابن عربي، والجرجاني. وهناك أسسٌ لنظريةٍ هيرمينوطيقيةٍ تأويليةٍ، عند ابن حزم مثلاً وخصوصاً، من دون أن يكون هناك تنظيرٌ واضحٌ للتأويل عموما. ما رأيك؟
أ. صبحي نايل:
أشكر جدّاً متابعة د. عفراء، وأتفق معها ومع د. صابر سويسي، في أشياء كثيرة، منها في مسألة أن النص يحمل هذه المضامين، وأن النص، في الأخير، خاضعٌ للقارئ. لذلك، إذا قلنا، معرفيّاً، بمسؤولية النص تجاه العنف، بالنسبة إلي، هو غير مسؤولٍ؛ لأنه، في الأخير، يتم استدعاؤه كأداةٍ من أدوات هذه الجماعات. بالنسبة إلى كلمة د. ميادة، مجمل المتحدثين عن الخروج عن النص، يتحدثون عن الخروج عن هذا الأفق للتعامل مع النص. حتى علي مبروك، حين تحدث عن هذا الأمر تحدث عن القرآن الحيّ، القرآن المتفاعل مع الواقع الموجود من خلال المسألة الخلقية، ومن خلال التعامل داخل منطقة الاجتماع الذي أشار إليه د. سامح؛ أي يكون من خلال حفظ العرض وما إلى ذلك، لكن التعامل مع النص تم استلابه، وفرضه بوصفه سلطةً يتم الإذعان إليها. والهدف الرئيس من هذه الاستراتيجيات هو الخروج عن هذا النمط. حتى علي مبروك قال بالقرآن الحي، والمستشار عبد الجواد ياسين قال باجتماعانية النص، طبعاً، من داخل بينة اللغة، قال نصر حامد أبو زيد بمفهوم الخطاب، وقال أركون بمفهوم الأنسنة، وهو حضور الإنسان، وأن هذا القرآن لا يقدم المعرفة النهائية، لكنه قدم نمط خطابٍ محددٍ لمجموعةٍ من غير المؤمنين به، يحاول أن يؤمنوا به، ومجموعةٍ من المؤمنين يحاول أن يضع لهم تشريعاتٍ محددةً. طبعاً، د. مولاي صابر، في الحديث عن أن النص، بوصفه نصّاً، يحمل نزوع المؤول؛ فهو لا يخرج عن نزوع المؤول، فإذا تم تأويله، بهذا الشكل، على أنه نصٌّ عنيفٌ، سيكون نصّاً عنيفاً. د. مهند خورشيد، عميد معهد الدراسات الإسلامية في جامعة مونستر، له مشروعٌ بأن التجلي الخطابي للوحي هو تجلٍّ للرحمة، وأن القرآن يقرأ من خلال الرحمة، وأن الخطاب الرئيس في القرآن هو خطاب الرحمة. والآخر يرى الخطاب العنيف هو الخطاب الرئيس في القرآن. الفكرة، في هذه الاستراتيجيات، أنها تحاول أن تخرج من هذا الأفق، ولا تقدم استراتيجيةً بوصفها الاستراتيجية الشافية، لكنها تراهن على التأويل بوصفه خروجاً إلى التعددية، كما قال د. حسام.
في الأخير، هذا الرهان على التأويل في ظنّي، ليس رهاناً كاملاً، لكنه مرهونٌ بظرفه المعيش، مرهونٌ بهذه العقول التي جاءت، وهي تحاول أن تخرج عن هذه السلطة المقدمة. والحوار الذي يدور، الآن، هو حوارٌ عن خروجٍ عن هذه السلطة. حتى ضمن الحوار الذي نتحدث فيه، الآن، عن كيفية الخروج عن هذه السلطة التي تحكم باسم النص، وتؤطر الاجتماع، وتفرض عليه هذه النماذج التي تجعل المجتمع، لا هو مجتمعٌ قادرٌ على مواجهة أزماته وإنتاج آليات هذه المواجهة، ولا هو قادرٌ على حضور هذا النص فعليّاً؛ لأنه يجعله مفروضاً عليه قصراً. في الأخير، هي حلولٌ يجب الاستكمال عليهاٌ برؤىً أخرى ومختلفةٍ.
د. حسام الدين درويش:
أشكرك، جزيل الشكر، العزيز الأستاذ صبحي نايل، على هذا التفاعل الجميل مع الأسئلة والمناقشات عموماً، والشكر ذاته أوجهه لكل الزميلات والزملاء، الصديقات والأصدقاء، الذين كانوا معنا في ندوة اليوم، وأغنوا الندوة بحضورهم وتفاعلهم بالأسئلة والتعليقات. وأخص بالشكر الصديق العزيز الدكتور سامح إسماعيل، على تعقيبه المهم ومناقشاته المميزة. وأترك الكلمة الأخيرة للدكتورة ميادة كيالي، لتختم هذه الندوة مسكاً.
د. ميادة كيالي:
في الحقيقة، لا يسعني إلا أن أشيد بهذه الحوارية التي وجدتها، حقّاً، شائقةً، وقد استُنزف فيها العزيز صبحي، بشكلٍ كبيرٍ. لذا، نحن في أمسّ الحاجة إلى جيلٍ من الشباب الباحثين الذين يتمتّعون بهذه المرونة وهذا الحضور. فأشكرك جزيل الشكر. كما أشكر لكم حضوركم ومشاركتكم، ونتطلع إلى مزيدٍ من مثل هذه الحوارات الفكرية التي تُسهم في بناء مجتمعاتٍ أكثر تسامحاً وفهماً للآخر.
[1] - عقدت الندوة عبر الزوم في يوم الجمعة 4 تشرين الأول/ أكتوبر، 2024.. وتجدون التسجيل الكامل له على اليوتيوب: https://www.youtube.com/watch?v=ZtkOMoAOxw4&t=12s كما تجدون النص المنشور على موقع مؤمنون بلا حدود: https://www.mominoun.com/articles/الندوة-الحوارية-الثامنة-حول-كتاب--استراتيجيات-التأويل-وأصول-العنف-في-الفكر-9581






