الإسلام في السياق الأوروبي


فئة :  مقالات

الإسلام في السياق الأوروبي

الإسلام في السياق الأوروبي

تحديات الإسلام في السياق الأوروبي وأسئلته وإشكالاته، ليست هي نوع التحديات والإشكالات في مختلف دول العالم الإسلامي ذات الأغلبية المسلمة، فالإسلام في أوروبا يشكل ديانة الأقلية المسلمة، في مقابل الأكثرية المسيحية؛ فضلا عن أن السياق الأوروبي سياق خاضع لنظام العلمانية وشروطها، التي تتمحور حول مبدأ فصل الدين عن السياسة، وحصر الدين في مجاله الخاص؛ أي الكنيسة والمسجد... فالناس يلتقون في المجال العام كمواطنين بمعزل عن هوياتهم وانتماءاتهم الدينية، وقد تتباين مواقف العلمانية، من مجال إلى آخر ومن دولة إلى أخرى، في الموقف من حضور الدين والرموز الدينية في المجال العام، وتدريس الدين في المدارس ومؤسسات الدولة، ففي الوقت الذي نجد فيه ألمانيا تسمح بتدريس الدين في مدارس الدولة لمختلف المواطنين، سواء كانوا مسيحيين أو وافدين من المسلمين وغيرهم، نجد فرنسا تحجم عن ذلك، فدراسة الدين في فرنسا أمر يعود إلى الكنائس وجمعيات المساجد... ولا تتحمل الدولة تبعاته، وهذا يعني أن نظام العلمانية في بعدها القانوني والإجرائي في التعاطي مع أمر الدين، ليس هو نفس النظام في كل من فرنسا وأمانيا.

في فرنسا، تثار بين الحين والآخر مشكلة حضور الرموز الدينية في الفضاء العام بما فيه مختلف مؤسسات الدولة، وعلى رأس تلك الرموز قضية غطاء الرأس في فرنسا، وهي قضية أثارت جدلا كبيرا في فرنسا بشكل متكرر، في سنة (1989م)، وتكرّرت المسألة سنة (2004م). فالعلمانية الفرنسية لا تسمح للطالبات اللائي يرتدين غطاء الرأس بالحضور إلى المدرسة وهن يغطين رؤوسهن، وكذلك الأمر نفسه بالنسبة إلى الموظفات والعاملات في مختلف مجالات العمل، بينما في دول أوروبية أخرى لا تأخذ المسألة نفس الأبعاد التي تأخذها في فرنسا. موطن النزاع في القضية يعود إلى طبيعة تصور الدولة الفرنسية إلى نظام العلمانية التي تحضر كل أشكال الرموز الدينية في مختلف مجالات الدولة، في وقت ينظر فيه الكثير من أبناء الجالية المسلمة إلى غطاء الرأس بأنه أمر ديني لا نقاش فيه.

ما يسمى قضية الحجاب، ليست هي المشكلة الوحيدة بقدر ما أنها قضية تخفي من ورائها إشكالات اجتماعية وثقافية متعددة كل ينظر إليها من منظوره؛ فالدول الأوروبية تنظر إليها من زاوية العلمانية مع تباين وجهات نظرها، وتنظر إليها الجاليات المسلمة من زاوية انتمائها الثقافي والحضاري الإسلامي. فالموضوع يزداد تعقيدا بكون الكثير من أبناء الجالية الإسلامية ينعمون بحق المواطنة في مختلف الدول الأوروبية؛ فالمواطنة تقتضي الالتزام بمختلف قوانين الدولة العلمانية، وهو وضع جعل الكثير من الأقلية المسلمة ذات الأصول الغربية من جهة الولادة والنشأة والمواطنة، في تردد بين الالتزام بقوانين الدولة العلمانية، وبين ما تقتضيه ثقافتهم الإسلامية. وحقيقة الأمر أن هذه المعضلة التي يتمايز فيها الولاء بين الوطن ذي القوانين العلمانية وبين الانتماء الحضاري والثقافي للإسلام في حاجة إلى فكر ونظر وفقه معاصر، يراعي خصوصيات السياق الأوروبي، ومفردة السياق تجمع بين البعد الثقافي والحضاري والبعد الجغرافي والبعد الزمني...

يفرض علينا السياق في بعده الحضاري والثقافي معرفة الثقافة الأوروبية من جهة ماهية الروافد الفكرية والفلسفية التي شكلت الغرب كما هو الآن منذ القرن السادس عشر حتى وقتنا الحاضر، مرورا بلحظة الإصلاح الديني وبفلسفة الأنوار وبالحروب الدينية الطاحنة التي مرت بها أوروبا ما بين المذاهب الدينية من جهة، وما بين العلم والدين من جهة أخرى، وما بين مختلف القوميات الأوروبية، وكيف تأصلت وتطورت فكرة الحريات الإنسانية الفردية بمعزل عن الغطاء والتوجيه الديني المباشر.

أما السياق في بعده الجغرافي، فيفرض علينا معرفة المجال الجغرافي الأوروبي الذي تزاحمت فيه مختلف المصالح التي انصهرت في مصلحة حدود الجغرافية الأوروبية ومن بعدها الجغرافية الأمريكية ككيان له القدرة على التوافق بقدر معقول فيما بين مختلف مكوناته حول مختلف مصالحها الاستراتيجية. وما هي الأدوار التي لعبتها المسيحية الغربية في تسييج الجغرافية الأوروبية منذ التاريخ الروماني، وهل المسيحية اليوم لازال لها نفس الدور في تسييج المجال الأوروبي، وجعله سياقا متقاربا من حيث الوجدان والذوق والنظرة إلى العالم والإنسان في حضن التصورات العلمانية، فإن وجهنا أوروبيا اليوم بالسؤال ما هو الغرب؟ سيجيبك بالغرب المسيحي أو أوروبا المسيحية؛ بمعنى أن العلمانية لم تمح فكرة الانتماء الجمعي للديانة المسيحية؛ فالتيارات اليمينية الآن في مختلف الدول الأوروبية تنظر إلى المجال الأوروبي بكونه مجالا مسيحيا بدرجة أولى، ولا تقبل باتساع حضور ديانة أخرى بالأخص الإسلام، وهي تعمل على نشر الخوف من خطر اتساعه. وفي إطار ما هو جغرافي وبخروع الغرب إلى العالم بدءا من القرن التاسع عشر مرورا بالقرن العشرين، لماذا بقي الغرب محافظا على نموذجه الثقافي داخل مجاله الجغرافي دون أن يتأثر وتؤثر فيه ثقافات مختلف الشعوب التي اتصل بها وتواصل معها من خلال لحظة الاستعمار. وهذا معطى يجعلنا نرجح بأن الغرب له ذاتية وجغرافية مسيجة لا تقبل بثقافة الآخر، وحتى إن اقتربت من معرفته، فهي تدرسه وتتعرف عليه من خلال رؤيتها الفوقية والمتعالية كما هي مختلف الأبحاث والدراسات في الاستشراق القديم، التي نظرت إلى الشرق بكونه شرقا متخلفا وإلى ذاتها بكونها ذاتا غربية متحضرة جعلت من الرجل الأبيض رجلا يتحمل عبء المسؤولية التاريخية التي تقع على عاتقه لترقية وتحضير البرابرة من سكان الدول التي خضعت للاستعمار الأوروبي، والذين هم بطبيعة الحال ليسوا أوروبيين.

أما السياق في بعده الزمني، يفرض علينا معرفة الزمن الغربي في أبعاده الثلاثة، الحاضر والماضي والمستقبل، على مستوى الحاضر فالغرب ليس واحدا، فهناك الغرب الديمقراطي والإنساني والقابل بالآخر وبالتعددية الثقافية والدينية والقابل بأن يجد حلولا لمختلف القضايا العالقة بين مختلف المواطنين والداعم لفكرة التعايش والاندماج الثقافي للآخر في المجتمع مع توفير مختلف الشروط لذلك، وهناك الغرب النقيض لكل ذلك، لا يقبل بشكل مباشر أو غير مباشر بالآخر، ويرى في التاريخ الغربي بكونه تاريخ أحادي الديانة والثقافة، فعلى طول تاريخ أوروبا لم تعرف تعددية دينية، فقد عانى اليهود قبل لحظة الإصلاح الديني الكثير من الإجحاف والعنصرية، وقد تخلصت أوروبا من اليهود بتصديرهم إلى المشرق، بفعل الصهيونية الغربية، ووفقا لهذا فمن الصعب على هؤلاء تقبل ثقافة ديانات أخرى في الغرب الآن. وهناك الغرب السياسي والاقتصادي، والذي تتحكم فيه المركزية الغربية وتعمل على توظيف مختلف القضايا للحفاظ على الهيمنة الغربية على مختلف دول العالم الى جانب أمريكا. أما على مستوى الماضي، فعلينا معرفة تاريخ الأقليات ووضعها في الغرب، فهل الغرب يعرف في ماضيه تجربة للتعددية الدينية والثقافية؟ وهل هناك أقلية مسلمة عرفتها أوروبا في تاريخها القديم؟ وتبقى لحظة الأندلس بكونها التجربة الثرية التي عرف فها الغرب اتصالا وثيقا مع الشرق والثقافة الإسلامية؛ فبعد سقوط الأندلس 1492م، لم يستطع الغرب الممثل في إسبانيا الاعتراف بالأقلية المسلمة من أصول غربية إسبانية، وتم طرد أحفاد المسلمين 1609م بإبعادهم عن المجال الأربي. وليس بالبعيد نشوب حرب عرقية ضد الأقلية المسلمة الأوروبية في البوسنة والهرسك ما بين (1992م/1995م). أما المستقبل، فهو مخاض الحاضر ولا يمكن أن نجزم فيه بقول، ولكن الأفق الذي ينبغي العمل من أجله هو الاشتغال بالمستقبل الحضاري المشترك لمختلف الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط.

استحضار السياق بمختلف أبعاده سيساعدنا في معرفة الغرب، كما أنه سيمكننا من فهم الممرات الفكرية والفلسفية الثقافية والسياسية التي مرت من خلالها أوروبا في تشكل نظام العلمانية في الغرب الحديث، فكل هذا من أجل التفكير لطبيعة ما ينبغي أن يكون عليه الإسلام في الغرب.

وقد نجد أنفسنا ملزمين لمعرفة السياق الثقافي والحضاري والجغرافي والزمني للعالم الإسلامي، فعلى طول التاريخ الإسلامي نجحد الواحد والمشترك في الثقافة الإسلامية هو النص الديني القرآن؛ فهناك نص واحد ويشكل مرجعية واحدة وموحدة، بينما الثقافة الإسلامية متعددة ومتنوعة من جهة فهم الأصل المشترك، فالإسلام متعدد ومتنوع بتنوع الخصوصيات الثقافية والمذهبية والجغرافية في العالم الإسلامي، وعليه بالإمكان التمييز من جهة ما هون ثقافي بين الإسلام المغربي أو المغاربي، وبين الإسلام الأندونيسي أو التركي أو الفارسي... ولا شك أن التاريخ ومختلف العوامل الثقافية لها دورها في فهم ذلك الأصل المشترك أي القرآن، ماذا يعني هذا؟ يعني أنه من الضروري فهم ذلك الأصل المشترك وفق مقتضيات المحيط الجديد والحضارة الحديثة.

مع الأسف تحضر الجاليات المسلمة في السياق الأوروبي، وهي محملة بخصوصياتها الثقافية المحلية المتعددة ما بين المغاربة والأتراك والمصريين والأفارقة... وهذا ليس عيبا ولكن العيب عندما نختزل الكوني أي الإسلام فيما هو محلي أي الثقافة المغربية أو التركية... والعيب عندما لا نعي الشروط الحضارية والثقافية للانسجام مع محيط حضاري مفارق للمحيط الثقافي والحضاري للعالم الإسلامي. فمن البديهي أنه استحضار خصوصيات الثقافة الإسلامية في السياق الأوروبي بشكل فيه نوع من الإسقاط وعدم تعبئتها مع المجال سيخلق مشاكل كثيرة.

فمثلا عندما نتحدث عن الإدماج، هل ذلك يعني إدماج العلمانية وقوانينها في الثقافة والشريعة الإسلامية أم العكس؟ مع العلم أن أهل الشريعة والثقافة الإسلامية يشكلون الأقلية، فمنطق العقل يقتضي إدماج الجزئي فيما هو كلي وفق خصوصيات السياق الأوروبي، وهو أمر يقتضي "تخليص الشريعة من تصور الهيمنة الذي تشكوا منه ... الشريعة لا تسعى إلى الهيمنة، وإنما هي أحكام مع الواقع انطلاقا من عدد من القيم، وحيث يكون التعبير عنها متعلقا بفقه موضوعي للواقع"[1] فكرة أن يكون للغرب نسخة خاصة من الإسلام، فكرة بعيدة المنال بالنظر، إلى واقع المسلمين في أوروبا بكون واقع حالهم يعبر بأنهم نسخ من مختلف أنماط الثقافة العربية الإسلامية تم تصديرها بشكل مباشر أو غير مباشر إلى الغرب، بفعل الهجرة إليه بشكل كبير خاصة بعد الحرب العالمية الثانية. ولا نغيب هنا فئة من الأوروبيين الذين اتخذوا الإسلام دينا لهم. وبالنظر إلى خطاب مختلف الفاعلين وبالأخص في المجال الديني داخل مختلف الجاليات المسلمة الأوروبية، فخطاباتهم في مجملها تستحضر سياق الثقافة العربية الإسلامية أكثر ما تستحضر خصوصيات السياق الأوروبي.

السياق الأوروبي في حاجة إلى "إسلام بسيط جداً فيما يتعلق بمظاهره الشعائرية والأخلاقية؛ وذلك من خلال (شريعة الأقلية) فهي محاولة أصولية تأصيلية تسهم في تمكين المسلمين من الارتقاء إلى مستوى اجتماعي/ اقتصادي يسمح لهم بالمقابل، متى تم استقرارهم نهائياً في نوع من الرفاهية الفكرية، بإدراك دقائق عمق دينهم. فعوضاً عن أن يكونوا مستهلكين للحداثة، فإنهم سيصبحون مساهمين فيها، كما أنهم سيعملون على إثراء الحضارة بالمعنى الأوسع والكوني"[2]. الوعي بشريعة الأقلية إلى جانب الوعي بأهمية استحداث إسلام يستجيب لخصوصيات السياق الأوروبي، قد تخرج المسلمين في الغرب من وهم أن العلمانية ضد الدين، كما أنها ستخرج الكثير من الغربيين من وهم الخوف من الديانة الإسلامية. ذات التاريخ الحضاري الغني بالتنوع الديني والمذهبي بفضل تعاليم هداية القرآن الكريم.

[1] طارق أوبرو، إمام في فرنسا، نقله إلى اللغة العربية سعيد بن سعيد العلوي، جداول للنشر والتوزيع، بيروت، ط. 1، سنة 2014م. ص.42

[2] نفسه، ص. 211