الـــدرامــاتــورجيا: إرث ارفنغ غوفمان


فئة :  ترجمات

الـــدرامــاتــورجيا: إرث ارفنغ غوفمان

الـــدرامــاتــورجيا: إرث ارفنغ غوفمان[1]

تشارلز ايدجلي[2]

ترجمة: رشيد ابعوض

مقدمة

عندما يفكر معظم الباحثين في العلوم الاجتماعية في مصطلح "الدراماتورجيا"، فإنهم غالبًا ما يستحضرون المسيرة اللافتة لعالم الاجتماع الراحل إرفينغ غوفمان. وليس ذلك بالأمر المستغرب. فقد قدّم مساهمات عميقة ودائمة في التفكير الدراماتورجي من خلال أعمال كلاسيكية مثل عرض الذات في الحياة اليومية (1959)، والمصحات (1961أ)، واللقاءات (1961ب)، وطقوس التفاعل (1967)، من بين العديد من المؤلفات الأخرى. لكن الدراماتورجيا وغوفمان ليسا أمرًا واحدًا، مهما بلغ عدد الباحثين الذين يعاملونهما كما لو كانا مترادفين. في هذا المقال، سنعرض بعض البدايات التي تشكّل منها المنظور الدراماتورجي للإنسان، والبنية الأساسية للتفكير الدراماتورجي، وسنوضح مبدأ الدراماتورجيا وعلاقته بالوعي الدراماتورجي. وأخيرًا، يُختتم النقاش بتلخيص لأعمال غوفمان كما ترتبط بالفكر الدراماتورجي، يليها تقييم موجز لإرثه البارز.

الدراماتورجيا قبل غوفمان

قبل غوفمان بزمن طويل، كانت الدراماتورجيا موجودة. وإذا فهمنا أن الدراماتورجيا ليست مجرد استراتيجية لخداع الآخرين – رغم أنها قد تُستخدم بهذه الطريقة – وليست مجرد محاولة لتحقيق مكسب استراتيجي – وإن كان يمكن توظيفها كذلك – بل هي ببساطة تقنية للتواصل، فإننا نرى أن الدراماتورجيا متجذّرة في جوهر الوجود الإنساني. ومن هذا المنطلق، ليس علينا سوى العودة إلى الإغريق لاستلهام بدايات الدراما. فقد كُتبت مجلدات عن المسرحيين الإغريق، ولا سيما مآسي القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد التي كتبها إسخيلوس، وسوفوكليس، ويوربيديس، وأريستوفان. وكانت المأساة موضوعًا مفضلًا لدى المسرحيين الإغريق، وغالبًا ما كانت تتمحور حول شخصية محورية – بطل مأساوي قدّر له المجد، لكنه يلقى حتفه في النهاية بسبب غروره. لقد اخترع الإغريق المسرح، حيث كان الممثلون يقتطعون مشاهد من الحياة ليعرضوها على الجمهور، ويستخدمون حيلاً متنوعة، مثل الأقنعة، التي تُمكّن ممثلًا واحدًا من أداء عدة شخصيات في المسرحية الواحدة.

وبالنظر إلى هذا المثال القوي للدراماتورجيا الإغريقية، يتضح أن غوفمان لم يكن أول من أدرك أن الحياة الاجتماعية تتسم بالكثير من سمات المسرح. فالناس يؤدون أدوارًا أمام آخرين يشكلون جمهورًا لهذه العروض، ثم تنعكس الأدوار: يصبح الممثلون جمهورًا، والجمهور ممثلين في مواقف أخرى، وهكذا دواليك. «الدنيا مسرح كبير»، كما قال ويليام شكسبير في القرن السادس عشر. وبالفعل، قدّم شكسبير عروضه الناجحة في مسرح "The Globe" في لندن. وكان المسرح آنذاك يمثل ثقافة الجماهير، وبقيت الصور التي قدّمها عن الحياة على خشبة المسرح حية حتى بعد رحيله، لأنها لامست موضوعات يشترك فيها الجميع كمشاركين في دراما الحياة.

إذن، كان لغوفمان العديد من السابقين وبعض المعاصرين الذين ساعدونا أيضًا في فهم جدوى هذا النمط من التفكير. فعلى سبيل المثال، قدّم الناقد الأدبي كينيث بورك، خلال مسيرته الطويلة والمتميزة، نموذجًا للحياة الاجتماعية أطلق عليه اسم "الدراماتية "(dramatism)، حيث رأى أن أي وصف متكامل للحياة الاجتماعية يتطلب تحليلًا لما أسماه "البنتاد Pentad"[3] المكوَّن من: الفعل، والمشهد، والفاعل، والوسيلة، والغاية (Burke 1945)[4]. وقد كان مشروع بورك الدراماتيكي بالأساس أداة لتحليل الأدب، لكنه سبق في بعض نواحيه غوفمان، خاصة في كتاباته المبكرة. طرح بورك السؤال الجوهري: «ما الذي يتضمنه قولنا عما يفعله الناس ولماذا يفعلونه؟» ثم شرع في تحديد المصطلحات الخمسة الأساسية للدراماتورجيا التي ينبغي تناولها عند تقديم أي وصف متكامل للدوافع الإنسانية، وهي كما يلي:

الفعل (Act)

وفقًا لبورك، يشير الفعل إلى ما حدث، سواء كان ذلك في الفكر أو في الفعل. إنه ما جرى بالفعل، سواء أكان قُبلة أم جريمة قتل.

المشهد (Scene)

نظرًا لأن كل الأفعال تحدث في مكان ما، فإن المشهد يُعد عنصرًا حاسمًا في التفكير الدراماتورجي. إنه مكان الحدث، خلفيته، والوضعية التي جرى فيها.

الفاعل (Agent)

يُؤدَّى كل فعل من قبل شخص ما. إذن، السؤال هنا هو: من هو الشخص، أو ما نوع الشخصية التي قامت بالفعل؟ لا يتحدث بورك هنا عن الجانب النفسي الشخصي، بل عن نوع الشخصية التي يتم تقديمها دراماتورجيًا: بطل، شرير، أحمق، أو حتى كيان جماعي مثل لجنة. فالأشخاص، وفقًا لبورك، ليسوا أشياء، بل هم بناءات اجتماعية.

وقد استفاد غوفمان من بورك حين شرح ما يعنيه بـ"الذات"، فقال:

"بينما تُتصوّر هذه الصورة عن الفرد، حيث تُنسب إليه ذات ما، فإن هذه الذات لا تنبع من حاملها، بل من المشهد الكامل لفعل هذا الفرد... فـ"ذات" مُنَفَّذة بصورة صحيحة في مشهد مُؤدَّى بشكل جيد تدفع الجمهور إلى إسناد ذات إلى الشخصية المؤدّاة، غير أن هذا الإسناد – هذه الذات – هو نتيجة لمشهد نجح في أدائه، وليس سببًا فيه".

غوفمان 1959: 252

الوسيلة (Agency)

تُعد الوسيلة ضرورية في نظر بورك لأنها تجيب عن سؤال: "كيف؟". فالممثلون يعتمدون على أدوات لتنفيذ أفعالهم. وتشمل الوسيلة طيفًا واسعًا من الأشياء، بدءًا من الأسلوب – أي كيف يظهر الفرد أمام الآخرين – إلى الأسلحة كالسكاكين والمسدسات كأدوات عنف. وبالطبع، تُعد اللغة الرمزية الأداة الأساسية التي يستخدمها البشر لأداء ذواتهم، وبالتالي فهي تُشكّل الوسيلة.

الغاية (Purpose)

الغرض هو الجواب عن سؤال: "لماذا؟". ومرة أخرى، يربط بورك الدوافع بالفعل الدرامي، لا بعلم النفس الشخصي أو الضرورة البيولوجية. وسيلحظ القارئ المُدقِّق أن هذه العناصر الخمسة هي أول ما يُدرّس في دروس الصحافة حول كيفية كتابة المقالات للمنشورات: "من؟ ماذا؟ أين؟ كيف؟ ولماذا؟". فهذه هي المعلومات الأولى التي يحتاج القارئ إلى معرفتها. ببساطة، من دون عناصر "البنتاد"، لا يمكن للدراما الإنسانية أن تتشكّل.

إلى جانب بورك، نشر تابعه هيو دالزيل دنكن العديد من الأعمال في مجالات تتماشى مع فكر بورك (مثل دنكن 1962، 1968). وكان دنكن عالم اجتماع استخدم أفكار بورك وطبّقها على موضوعات تقليدية مثل السياسة والدين والتواصل. وقد كان شخصية مثيرة للجدل؛ إذ هاجم في كتبه علماء الاجتماع بسبب تجاهلهم للتواصل بوصفه أساس النظام الاجتماعي. لكنه أيضًا أدخل دراماتيزم بورك إلى جمهور علم الاجتماع من خلال ترجمته لأفكاره الكبرى إلى مصطلحات سوسيولوجية، خصوصًا الفرضية القائلة إن السلوك الرمزي يمكن تحليله بأفضل شكل كدراما طقسية تتألف من الذنب، والتراتبية، والخلاص، والتضحية بالضحية. أما غوفمان فقد أخذ الدراماتيزم خطوة أبعد حين طبّق الاستعارة الدرامية على دراسة السلوك التفاعلي وجهًا لوجه.

بحلول ستينيات القرن العشرين، كان هناك العديد من المؤيدين لصورة الإنسان بوصفه كائنًا دراماتورجيًا. وقد أجبر المقال الرائد لغريغوري بي. ستون، "المظهر والذات"(Stone 1962)، على التفكير في أن الذات لا تظهر فقط من خلال الأداء اللفظي، بل أيضًا من خلال المظهر، وأن مثل هذه الأمور كالألبسة وتسريحات الشعر والإشارات غير اللفظية وجميع ملحقات الموضة تُعد عناصر أساسية في تكوين الذات. لقد اعتبر ستون هذه الأمور جوهرية لفهم الذات، تمامًا كما فعل غوفمان[5]. ونظرًا لأن التركيز في هذا المقال ينصب على دراماتورجية غوفمان، فمن المهم توضيح ومناقشة الأفكار فيما يعتبره كثير من الباحثين أكثر أعماله دراماتورجية: عرض الذات في الحياة اليومية (1959). لقد جادل غوفمان بأن الأداءات متعددة الطبقات، ولا تتكوّن ببساطة من تفاعلات فردية بين شخصين، بل أيضًا من أشخاص يعملون كأعضاء فيما يُسميه بـ "الفِرق". وقد تتكوَّن هذه الفرق بسرعة أو عبر الزمن، ويمكنها أن تختفي بنفس السرعة. ويتم تقييم أعضاء الفريق بناءً على معيار بسيط: فهم يُعدّون زملاء جيدين إذا ساهموا في ترسيخ الانطباع المراد إيصاله، وسيئين إذا فضحوا العرض. ونحن نعرف هذا الأمر أيضًا. كما يقول غوفمان: نظرًا لأننا جميعًا نشارك في فرق، فلا بد أن نحمل في داخلنا الشعور الجميل بالذنب كمشاركين في مؤامرة". (Goffman 1959:105)

الزوج والزوجة اللذان يذهبان إلى "عرض رسمي" (مثل تجمع في المكتب بحضور المدير) يفهمان ضمنيًا أنه من المتوقع منهما أن يؤديا دور "الزوجين السعيدين" بكل ما يحمله هذا الدور من مثاليّات اجتماعية وثقافية. فقد تتخفف الزوجة المسيطرة من سيطرتها، وتتصرف كزوجة مطيعة أمام المدير، فيما قد يداعب الزوج البارد زوجته لإحداث التأثير المطلوب في الحفل ذاته. ويتم تقييم أعضاء الفريق وفقًا لما إذا كانوا يحافظون على صورة الفريق أم يتصرفون بخلافها. وتُستدعى في مثل هذه السياقات مهارات مثل الولاء الدراماتورجي والتحفّظ الدراماتورجي، بينما يُتجنَّب أي سلوك قد يُقوِّض الانطباع الذي يسعى الفريق إلى ترسيخه[6]. من الواضح أنهم يدركون حقيقة مثل هذه المواقف، وهي أن "الناس سيتحدثون".

تحدث العروض دائمًا في أماكن معينة، وهذه "جغرافيا الأداء" تتضمن قواعد وفهمًا خاصًا بها. وأشهر تمييز مفاهيمي لغوفمان - والذي يسهل فهمه - هو التمييز بين الكواليس والواجهة الأمامية. الواجهة الأمامية هي المكان الذي تُقدَّم فيه العروض، وهو حيث يبلغ التحفّظ الدراماتورجي ذروته. فالمؤدي في هذه الواجهة يكون دائمًا "قيد العرض"، وكل ما يظهر أمام الجمهور يُعدّ بالضرورة جزءًا من العرض. في المقابل، الكواليس هي المكان الذي يُحضَّر فيه العرض. ومن المهم أن يدرك الشخص كمؤدٍ هذه الحدود ويحترمها. فكثير من المسيرات المهنية دُمِّرت في التلفزيون؛ لأن ميكروفونًا كان مفتوحًا عندما ظنه صاحبه مغلقًا[7]. الكواليس هي الأماكن التي يُناقض فيها الأداءُ الانطباعاتِ المصنوعةَ في الواجهة الأمامية. وهي الأماكن التي "يسترخي" فيها الناس، يزيلون فيها مساحيق التجميل، ويتحدثون عن عروضهم أو عروض الآخرين. في هذه الأماكن، يجد المرء...

المناداة المتبادلة بالأسماء الأولى، اتخاذ القرارات بشكل تعاوني، استخدام الألفاظ النابية، التعليقات الجنسية الصريحة، الشكوى المطولة، التدخين، اللباس غير الرسمي الخشن، الجلوس والوقوف بوضعيات "متراخية"، استخدام اللهجات أو الكلام غير الفصيح، التمتمة والصراخ، العدوانية المرِحة و"المزاح الثقيل"، قلة الاعتبار للآخر في أمور بسيطة لكنها رمزية محتملة، والانشغالات الذاتية البسيطة مثل الهمهمة، والصفير، والمضغ، والقضم، والتجشؤ، وإطلاق الريح.

(Goffman 1959:128)

الكواليس (Backstages) ضرورية للغاية لضمان نزاهة الأداء، إلى درجة أن وجودها غالبًا ما يُحاط بعلامات تحذيرية: "الموظفون فقط"، "طاقم المطبخ"، "ممنوع الدخول"، أو حتى التخصيص البسيط لبعض الغرف لـ "الرجال" وأخرى لـ "النساء"، وهي إشارات تنبّه الداخلين المحتملين إلى المتطلبات المسرحية المرتبطة بالنوع الاجتماعي. ففي الحالة الأخيرة، تُستخدم هذه الغرف المخصصة للجنسين من أجل تعديل أو إعادة ترتيب أو حتى التخلي مؤقتًا عن الملابس والمكياج التي تُشير للآخرين إلى هوية الجنس الذي ينتمي إليه الممثل، وبالتالي الدور الذي يؤديه والمظهر المصاحب له، وذلك على أساس افتراض أن الممثلين سيقابلون فقط أفرادًا من نفس الجنس[8]. وقد يتمثل "الخروج عن الدور" فقط في الظهور في المكان الخاطئ، كما لو شوهد قسيس يوم الأحد وهو يخرج من مسرح أفلام إباحية مساء السبت.

إن التعريف القاموسي البسيط للمصطلح "دراماتورجيا" قد يوحي بأنها مجرد عملية كتابة المسرحية وعرضها على المسرح. لكن بالنسبة إلى علماء الاجتماع الذين يستخدمون هذا المنظور، فإن الدراماتورجيا أكثر من ذلك بكثير. إنها تقدير وتوضيح لفكرة أن كونك إنسانًا يعني أن تعيش حياة تحمل تشابهًا واضحًا مع المسرح. وقد قال غوفمان هذا مرارًا في مجموعة أعماله الواسعة، وكانت عرض الذات في الحياة اليومية (1959) مجرد البداية. ورغم أنه قلّل أحيانًا من أهمية هذا المنظور، مشيرًا إلى "نواقصه الواضحة"، إلا أنه عاد إليه مرارًا في تفكيره وكتاباته. وليس من المبالغة القول إن الدراماتورجيا كانت الاستعارة المسيطرة في فكره، إذ كما كتب: "العالم ليس، بطبيعة الحال، مسرحًا، لكن الجوانب الحاسمة التي لا يُشبه فيها العالمُ المسرحَ ليست من السهل تحديدها" (غوفمان 1959: 72).

مبدأ الدراماتورجيا

بصيغته الجوهرية، تتعلق الدراماتورجيا بكيفية خلق الناس للمعاني في حياتهم. وكغيرها من النماذج التفسيرية، فهي "تربط الفعل بمعناه، لا بالسلوك وأسبابه" (غيرتز 1983: 34). يظهر المعنى في السياق الدراماتورجي من خلال توافق الفاعلين الإنسانيين على الأداء. وقد أطلق جورج هربرت ميد على هذا المعنى اسم "الفعل الاجتماعي"، ووصفه كما يلي:

"يجب ألا يُنظر إلى المعنى، من حيث الأساس، كحالة وعي، أو كمجموعة من العلاقات المنظمة التي توجد ذهنيًا خارج مجال التجربة الذي تدخل فيه؛ بل يجب النظر إليه بشكل موضوعي، له وجوده الكامل داخل هذا المجال نفسه. إن استجابة أحد الكائنات الحية لإيماءة كائن حي آخر ضمن فعل اجتماعي معين، هي معنى تلك الإيماءة."

تركز الدراماتورجيا على دراسة هذه المعاني الاجتماعية الناشئة والمتحققة خلال التفاعل، وما هو جوهري في الرؤية الدراماتورجية للحياة الاجتماعية هو أن المعنى "ليس ميراثًا من الثقافة، أو التنشئة الاجتماعية، أو الترتيبات المؤسسية، كما أنه ليس تحقيقًا لإمكانات نفسية أو بيولوجية، بل إن المعنى هو إنجاز دائم الإشكال للتفاعل البشري، وهو مليء بالتغير والجدة والالتباس" (بريسيه وإدجلي 1990: 2).

تأمّل في المشهد التالي الذي كتبه مؤلّف هذا الفصل، ولاحظ المعاني المتغيّرة بسرعة التي تظهر خلال تفاعل واحد:

يدخل زوجان جذابان في الثلاثينيات من عمرهما إلى مطعم راقٍ. الأجواء هادئة وراقية. يُجلسان على طاولة بعيدة عن مدى سمع الزبائن الآخرين. يمكن رؤيتهما، ولكن لا يمكن سماع ما يقولانه. لا نعرف عنهما شيئًا سوى مظهرهما وسلوكهما التعبيري. يدخلان وهما متشابكا الذراعين. يبدو أن سهرة حميمة في الانتظار. هل هي ليلة موعد؟ عيد ميلاد أو ذكرى زواج؟ ربما. تسير الأمسية على ما يرام. ولكن لسبب ما، يتغير المزاج. تحل العبوسات محل الابتسامات. فجأة يصبح الجو مشحونًا. يزداد غضبه تجاهها، وتغضب هي بدورها. يدخلان في جدال محتدم - حول المال؟ الأطفال؟ العمل؟ "العلاقة" بينهما؟ قد يكون أي شيء. هي تبكي. هو يغلي من الغضب. فجأة، تتوقف شفتاهما عن الحركة. تُستبدل أجواء البهجة بصمت قاتم. تمر الدقائق. ثم، يمد يده عبر الطاولة المضاءة بالشموع ويمسح دمعة من خدها بلطف. تبتسم. يضحك. تلحق به في الضحك. يصل الطعام كما لو أنه حُدد له توقيت مسرحي. انتهت العاصفة، وحل مكانها حوار خفيف على الطاولة وهما يستمتعان بالعشاء. وعندما ينتهي الطعام، يتجهان نحو البار، متشابكا الذراعين، كما لو أن شيئًا لم يحدث.

ماذا يمكن أن نفهم من هذه اللمحة الصغيرة من الحياة؟ من الواضح أن المعاني المنسوبة إلى المواقف والأفعال قد تتغير ببطء مع مرور الوقت أو بسرعة كبيرة، كما يُظهر هذا المثال. لاحظ أيضًا أن هذا المثال مستند بالكامل إلى الملاحظة البحتة. لا نسمع كلمات، بل نرى فقط الإيماءات. ومع ذلك، فإن الموقف مليء بالمعنى. أي شخص معتاد على مثل هذه الأماكن، سواء أكان من العاملين في المطعم أم من الزبائن الآخرين، يمكنه أن يستشف الكثير مما جرى دون أن يعرف شيئًا عن المشاركين سوى سلوكهم الخارجي. وكما لاحظ إرنست بيكر (1971)، فإن المعنى يُولد، يعيش لبعض الوقت، ثم يموت.

سواء بالكلمات أو بدونها، نرى أن معنى ما يفعله الناس يتجلى في طريقة تعبيرهم عن أنفسهم في تفاعلهم مع آخرين يعبّرون بدورهم. المواقف لا تعرّف نفسها بنفسها، مهما تكررت أو تشابهت في الحياة اليومية، بل يجب أن يتم تجسيدها من جديد في كل مرة، بكل ما يرافق ذلك من إمكانات للخطأ أو التغيير. وقد كان غوفمان واعيًا بهذا جيدًا، وكانت عيناه الحادتان تستكشفان باستمرار ما ينطوي عليه هذا الأمر. في نظرية الدراماتورجيا، البشر محكومون بعالم المعنى كما أنهم، في عالم سارتر، محكومون بالحرية[9].

لكن كيف ينشأ المعنى؟ إنه ينشأ عبر "القدرة التعبيرية" – وهي القدرة الأساسية لدى البشر. وهذه التعبيرية تنشأ بطريقتين: التعبيرات المعطاة والتعبيرات المنبعثة. هذان النوعان من التعبير يتكاملان ليشكّلا الانطباع الذي يُحدثه الفاعل في جمهوره.

النوع الأول، التعبيرات المعطاة، يتجلى في التواصل بمعناه الضيق والتقليدي، وهو يتكوّن بشكل أساسي من الكلمات وأشكال اللغة الرمزية الأخرى.

أما النوع الثاني، التعبيرات المنبعثة، فهو يشمل كل الطرائق التي يعبّر بها الناس دون استخدام اللغة؛ إذ إنهم يظهرون، ومجرد ظهورهم في سياق دلالي معين يخبر الآخرين بالكثير – بل ربما أكثر – مما يمكن أن يقولوه بالكلمات. وتتكوّن هذه التعبيرات من أمور مثل اللباس، الشارات، الحُلي، تسريحات الشعر، الرائحة، المكان – والقائمة لا تنتهي. إنها "لغة المظهر" التي تعلن عنّا في كثير من الأحيان حتى قبل أن ننطق بكلمة.

كما ذُكر في البداية، لم يكن غوفمان هو من كتب المشهد المتعلق بالزوجين في المطعم، لكنه يمثل مثالًا على النوع من المواقف التي كان غوفمان يسعى لتحليلها باستخدام ترسانته الغنية من المفاهيم، ومن خلال عدسة مجهرية كانت تفتنه كسوسيولوجي. إنه ذلك النوع من الاهتمام بأدق تفاصيل الحياة اليومية الذي دفع بيير بورديو إلى وصف غوفمان بأنه "مكتشف اللامتناهي في الصغر" (بورديو 1983).

ربما لا يكون مصطلح "المكتشف" هو الأدق. فالكثيرين غيره في تاريخ الفكر الاجتماعي سعوا أيضًا إلى استكشاف هذا العالم السفلي الدقيق. فقد أنشأ جورج زيميل كامل مشروعه الفكري حول الميكروسوسيولوجيا، ولكن برنامجه كان مختلفًا بما يكفي، ولم يشمل النطاق الذي تناوله غوفمان. زيميل تحدث عن الأدوار وكان لديه نظرة دقيقة لحياة المدينة وتفاصيلها، لكنه لم يقترب يومًا من استثمار قوة الاستعارة المسرحية كما فعل غوفمان. زيميل كان منظّرًا اجتماعيًّا نيو-كانطيًّا، تمحور مشروعه حول فهم شكلي للعلاقات الاجتماعية، ومن هنا تطويره للأشكال المثالية: الثنائيات والثلاثيات، الهيمنة/الخضوع، الريف/المدينة، الصراع/التعاون وغيرها. أما منظّرو الدراماتورجيا، فعادة ما يستلهمون فلسفتهم من البراغماتية، ويعملون من منطلق مدرسة شيكاغو التي ترى أن الحياة الاجتماعية تنشأ من التفاعل، ومن اللقاءات المباشرة، وما إلى ذلك. وجذورها تعود إلى التقاليد الفلسفية للبراغماتية.

الوعي الدراماتورجي

مبدأ الدراماتورجيا الذي يرى الإنسان كصانعٍ للمعنى هو شيء. أما وعي الفرد به، فهو شيء آخر تمامًا. فالوعي بهذا المبدأ يمكن استخدامه بطرائق متنوعة. يمكن استخدامه لتنظيم التجربة الشخصية، أو للتواصل بفعالية أكبر مع الآخرين، أو للتلاعب بهم وخداعهم، أو لتقديم الذات في صورة أكثر إيجابية. وغالبًا ما يُركّز على هذا الاستخدام الأخير للدراماتورجيا؛ وذلك بشكل أساسي بسبب معالجة غوفمان لمفهوم "إدارة الانطباع" – أي الجهد الذي يبذله الفاعل من أجل التأثير في إدراك الجمهور له، من خلال إبراز جوانب معيّنة من ذاته والتقليل من شأن جوانب أخرى (سواء كانت إيجابية أو سلبية).

نميل إلى تضخيم الأشياء التي تعزّز صورتنا، وتقليل ما قد يسيء إليها. وهذا ما يؤدي إلى المعضلة الأساسية للذات، كما يتجلى في هذا الحوار الخيالي بين كانديس بيرغن وآرت غارفنكل، حيث يجدان نفسيهما يتحدثان عن مسألة "التعرّف على الناس". كان ذلك خلال لقاء طلابي في فيلم المعرفة الجسدية Carnal Knowledge [10](1971):

كانديس بيرغن: هذه أول مرة أذهب فيها إلى حفلة جامعية.

آرت غارفنكل: أنا أيضًا. أكرهها!

كانديس: وأنا أكرهها أيضًا!

آرت: إنها طريقة مزيفة تمامًا للتعرف على الناس.

كانديس: الجميع يتظاهر بشيء.

آرت: لذلك حتى لو تعرفت على أحد، فأنت لا تعرف من الذي تتعرف عليه.

كانديس: لأنك تتعرف على التظاهر.

آرت: بالضبط، وليس على الشخص نفسه.

كانديس: لست متأكدة أنني أوافق.

آرت: على ماذا؟

كانديس: على ما قلته للتو.

آرت: ولا أنا كذلك.

كانديس: لا توافق على ما قلته للتو؟

آرت: ما رأيك في ذلك؟

كانديس: أعتقد أن الناس يحبون أن يظنوا أنهم يتظاهرون، لكن في الحقيقة هذا ليس تظاهرًا، بل هو حقيقتهم. إذا اعتقدوا أنه مجرد تظاهر، يشعرون بتحسن؛ لأنهم يظنون أنه بإمكانهم تغييره في أي وقت.

آرت: تقصدين أنهم يخدعون أنفسهم لأنه في الواقع ليس مجرد تظاهر؟

كانديس: نعم، هو تظاهر، لكنهم هم التظاهر. التظاهر هو ذاتهم.

آرت: لكن إن كان هو ذاتهم، كيف يكون تظاهرًا؟

كانديس: لأنهم تظاهروا.

آرت: لكنهم أيضًا حقيقيون.

كانديس: لا.

آرت: تقصدين أنني لست حقيقيًا؟

كانديس: لا.

آرت: أنا تظاهر؟

كانديس: لا بأس. أنا أيضًا أتظاهر. ألا تتصرف بطريقة مختلفة مع أشخاص مختلفين؟

آرت: لا.

كانديس: ومع عائلتك؟

آرت: ظننتك تقصدين أشخاصًا مختلفين. حسنًا، طبعًا، مع عائلتي.

كانديس: ومع أصدقائك تكون بطريقة أخرى؟

آرت: طبعًا، مع أصدقائي.

كانديس: ومع أساتذتك تكون بطريقة مختلفة أيضًا – إذًا أي واحد من هؤلاء هو أنت الحقيقي؟

آرت: ينبغي أن تصبحي محامية.

كانديس: سأصبح محامية.

يعرض هذا المشهد السينمائي تصور غوفمان الدراماتورجي للذات بشكل جيد. فالذات ليست كيانًا مفردًا يقع في زمان ومكان معينين، بل هي معنى متغير يظهر في سياق تفاعلها مع الآخرين. نحن ذوات متعددة نؤدي أدوارنا أمام جماهير مختلفة.

لكن، بالنظر إلى ما تتطلبه عملية إنتاج هذه الذوات من براعة وتعدد، كيف نفسر مسألة الإخلاص؟ هل هناك شيء اسمه الإخلاص أصلًا؟ بوصفه معنى سياقيًّا، بالطبع يوجد، ويمكن العثور عليه ضمن نفس المواد التفاعلية التي نجد فيها عدم الإخلاص. فالإخلاص عند غوفمان هو حين يقتنع الممثل بعرضه الخاص. أي عندما يُقنع نفسه بأن الأداء الذي يقدمه في لحظة معينة هو أداء حقيقي، أصيل، وقابل للتصديق. ولكن، بما أننا لا نستطيع أبدًا أن نعرف ما يجري في داخل أي شخص، ولا نملك سوى أدائه الذي نستنتج منه المعتقدات، فإننا لا نستطيع سوى التخمين. وحين يُكتشف الممثل وتظهر تناقضات في أدائه لا يمكن تفسيرها، فإننا نستنتج أنه شخص مزيف، غير أصيل، ولا يُوثق به. وهذا أشبه بلعبة صالون في هذا العصر المليء بعدم الأصالة، حيث أصبحت الزيف تجارة رائجة، والسياسيون يُنتخبون بناءً على براعتهم في الكذب على جماهير اعتادت ذلك بل وربما تطلبه. كما تقول المغنية كورتني لوف: «أنا أتظاهر بدرجة من الواقعية تجعلني أتجاوز حدود التظاهر». وهذا القول يمكن أن ينطبق أيضًا على الرئيس دونالد ترامب، خاصة خلال تجمعاته الانتخابية الكثيرة التي تحمل جميع خصائص عرض Rocky Horror Picture Show، حيث يصبح الجمهور جزءًا من العرض، يتوقعون ويهتفون بجمل حفظوها مسبقًا.

الوعي الدراماتورجي، بطبيعة الحال، متغير بدرجة كبيرة. فالناس لا يقصدون بالضرورة أن يكونوا دراماتورجيين، كما أنهم لا يحتاجون إلى ذلك. أحيانًا يهتم الناس كثيرًا بكيفية ظهورهم أمام الآخرين، وأحيانًا لا يهتمون على الإطلاق. لكن، بغض النظر عن درجة وعي الممثل بكيفية تقديمه لنفسه أمام الجمهور، فإن هذا الوعي ليس ضروريًا لفهم الدراماتورجيا، مهما كانت الملاحظات الذكية والبصيرة التي يقدمها غوفمان – وهو مراقب بارع للواقع السياقي. في الواقع، كما يجادل ستانفورد إم. لايمان ومارفن بي. سكوت (1970) في مقالتهما حول رهبة المسرح ومشكلة الهوية، فإن الانشغال المفرط بكيفية الظهور أمام الآخرين قد يعيق أداء الشخص. فالوعي لا يعطي الكثير من الفهم حول كيفية ترك الانطباع في الآخرين. أي عدد من المنظورات السوسيولوجية – من البنائية الوظيفية، إلى نظرية التبادل، إلى التحليل النفسي، إلى الإشراط الكلاسيكي – يمكنها أيضًا أن تُستخدم في إدارة الانطباعات. ولذلك، رغم تزايد الاهتمام بفكرة الوعي الدراماتورجي لفهم السلوك البشري – وغالبًا بطريقة ساخرة أو ازدرائية – إلا أنه ليس ضروريًا لفهم ما تدعي الدراماتورجيا أنها تفسره، لأن الأمر في النهاية يتعلق بالسلوك، وليس بالوعي. وكثير من الباحثين، رغم تقديرهم للدور الذي تلعبه التعبيرية في حياتنا، وكونها عنصرًا أساسيًّا في التفاعل والعلاقات الاجتماعية، يصلون إلى نتيجة مختلفة حين يتعلق الأمر بالوعي. كما يقول دينيس بريسيت وتشارلز إدجلي:

       "هناك من يصفون الدراماتورجيا عمومًا، وخاصة أعمال غوفمان، بأنها دراسة مفرطة في الوعي الدراماتورجي. إذ يُفترض أن الصورة الدراماتورجية للإنسان هي تلك التي تصور الشخص ككائن يوظف وعيه الدراماتورجي باستمرار من أجل التأثير على الانطباعات التي يكونها الآخرون عنه".

بريسيت وإدجلي 1990: 6

غالبًا ما يستشهد المنتقدون بهذا المقطع من كتاب عرض الذات في الحياة اليومية لغوفمان، حيث يقول: «عندما يمثل فرد أمام الآخرين، سيكون لديه العديد من الدوافع لمحاولة التحكم في الانطباع الذي يتلقونه عن الموقف» (غوفمان 1959: 15). ومن هذا التصريح الذي يبدو بريئًا، يسارع النقّاد إلى الافتراض بأن تلك الدوافع خبيثة، وأن التحكم يُنظر إليه باعتباره تلاعبًا، وأن الانطباع يُفهم بوصفه عدم أصالة. وبهذا كله، يُصوَّر الفرد الدراماتورجي بوصفه أنانيًا، محتالًا، ماكرًا، ومخادعًا، يصوغ وجودًا زائفًا لنفسه عبر التلاعب بأفكار الآخرين وتصرفاتهم. لكن هذه صورة كاريكاتورية مشوهة للطريقة التي ترى بها الدراماتورجيا الحالة البشرية. فرغم أننا نعرف مواقف وأشخاصًا ينطبق عليهم هذا الوصف، فإننا لا نلبث أن ندرك صحة الرؤية الأكثر اعتدالًا لهذا النوع من التواصل البشري. كما يقول أولف هانرز: «ليست كل العروض تمويهًا»، بل إن «الناس قد يكونون مهتمين بالكشف بقدر اهتمامهم بالإخفاء» (هانرز 1980: 210، 235).

أما غوفمان نفسه، فلم تكن رؤيته دائمًا بهذه الدرجة من الاعتدال تجاه المجاز المركزي الذي اعتمده. ففي كتابه تحليل الإطار: مقالة في تنظيم الخبرة (1974)، يعترف بهذه الانتقادات بل ويتبناها حين يقول في المقدمة إن المادة التي يعالجها تمثل «محاولة أخرى لتحليل الخداع، والغش، وحيل النصب، والعروض من شتى الأنواع، وما إلى ذلك»[11] (غوفمان 1974: 14). لكن، ومع أن غوفمان نفسه أقر بذلك، فإن الوعي الدراماتورجي ليس شرطًا لفهم الدراماتورجيا. ويمكن التفكير في الأمر على نحو آخر: الدراماتورجيا لا تحاول أن تعكس وعي الممثل، كما تفعل الظاهراتية، بل تسعى ببساطة إلى وصف سلوكه وعملية تصرفه.

حين توفي غوفمان، كان قد أنهى لتوّه مسودة خطابه الرئاسي الذي كان سيلقيه أمام الجمعية الأمريكية لعلم الاجتماع. وهو خطاب لم يُقدَّر له أن يُلقى، لكنه كان يطرح فيه برنامجًا لميكروسوسيولوجيا مستقلة بذاتها. وكان عنوان الخطاب هو نظام التفاعل، وكان متأثرًا بإميل دوركهايم بقدر ما كان متأثرًا بجورج هربرت ميد والتفاعليين الرمزيين الذين اعتادوا أن ينسبوا غوفمان إلى صفوفهم. إلا أن اللافت أن غوفمان لم يبادلهم يومًا بمشاعر فكرية مماثلة، لا تجاه ميد، ولا تشارلز هورتون كولي، ولا غيرهم من «القديسين المؤسسين» لذلك التوجه الفكري.

قال بينيت م. بيرغر ذات مرة: «كونوا طيبين معه، فهو العبقري الوحيد الذي لدينا» (بيرغر 1973: 353). ومن خلال عبقرية عينه السوسيولوجية، وأسلوبه الكتابي السلس، وقوة جهازه المفاهيمي، برز إرفنغ غوفمان في خمسينيات القرن العشرين، في وقتٍ كانت فيه الدراسات السوسيولوجية تشهد انفجارًا على مقاعد الجامعات. وقد كان غوفمان جزءًا من روح أوسع من التغيير والغليان؛ إذ أصبحت السوسيولوجيا لاعبًا رئيسًا في الثورات الاجتماعية والفكرية التي وسمت عقد الستينيات. لكن ما وجده العديد من الطلاب في السوسيولوجيا لم يكن في البداية مادةً للتفكير الثوري أو التجديد الفكري، بل كان أقرب إلى التكلف والتمويه الذي ميّز «نجوم» علم الاجتماع آنذاك، مثل تالكوت بارسونز، أو التأملات الرياضية لعلماء مثل جيمس كولمان. وعندما عثر الطلاب على كتابات غوفمان، كان الأمر أشبه بهبوب ريح قوية أطاحت بالهواء الراكد، واستبدلته بجوّ جديد ومنعش جاهز لشيء مختلف. وخلال مسيرة مهنية قصيرة نسبيًا، أصبح غوفمان، إن لم يكن أكثر علماء الاجتماع استشهادًا به خلال القرن الماضي، فهو بالتأكيد من بينهم[12].

أول كتبه – وربما أكثرها تأثيرًا – عرض الذات في الحياة اليومية (1959)، ظل يُطبع باستمرار منذ ظهوره الأول عام 1956. فما الذي يفسر هذا الإرث الدائم والاهتمام المتواصل بعمله؟ جزء من السبب يعود، بلا شك، إلى نبرته الساخرة الباردة، كما وصفها مارفن ب. سكوت ذات مرة:

"إن القوة الهائلة لنظرية الدراماتورجيا تكمن في خلوها من العاطفية: فهي لا تعظ، ولا تخطب، ولا تحرض، ولا (تُبرهن) على الحقيقة بلغة غامضة لا يفهمها إلا عدد قليل من الخبراء... بل هي منظور يسمح لنا بالحديث عن أفكار عادةً ما تُقمع أو لا تُذكر. ومن خلال لغة تصف الحياة كمسرح، تضيء الدراماتورجيا الأسرار المظلمة للمجتمع – بهذا المنظور يمكننا أن نرى ونصف الحماقات، والهفوات، والخداع في كثير من جوانب الحياة البشرية".

سكوت 1981: 582

لقد كان غوفمان، قبل أي شيء آخر، زوجًا من العيون، يراقب باستمرار ما نفعله وكيف نفعله، مذكرًا إيانا بأن على السوسيولوجيين أن يتجنبوا الوقوع في «ذلك الميل الرقيق إلى ترك جزء من العالم آمنًا من علم الاجتماع» (غوفمان 1961أ: 152). لم يستثنِ شيئًا من تحليله. ورغم أن بعض أعماله، مثل تلك التي تناول فيها المصحات العقلية والوصمة، كان لها أثر كبير في تغيّر الطريقة التي نعامل بها من يقع تحت سلطة تلك المؤسسات، فإن الإصلاح لم يكن غايته الأولى. وكما هو الحال دائمًا، لم يكن غوفمان مصلحًا ولا مناضلًا، لا نبيًّا ولا مخلّصًا، بل مراقبًا حادًّا وكاتبًا بالغ التميّز في تصوير المأساة/الكوميديا التي تُشكّل شرط الإنسان.

كان عمل غوفمان يدور حول تلك الأشياء التي تبدو تافهة في الحياة الاجتماعية: الأقنعة، المظاهر، الطلاء الخارجي، الأوهام، الصور، القشور، والعروض. لم يكن، على عكس ما يحاول العديد من الأكاديميين أن يقدموا به أنفسهم، معنيًّا بـ"الجوهر"، أو "الحقائق"، أو "العمق"، أو "الحقيقة" – فهذه الأمور الأخيرة، غالبًا ما تكون مجرد آليات لخداع الآخرين ودفعهم لقبول تفوق أحدهم. الأهم من ذلك، أن عمل غوفمان يذيب التمييز بين ما هو "مجرد ظاهر" وما هو "حقيقي جوهري" في الحياة الاجتماعية (بريست وإدجلي 1990: 37).

لم يكن غوفمان مهتمًا بشكل خاص بالنظرية[13]، ومن يحاول أن يلصق به انتماءً إلى نمط نظري معين، فسينال في البداية بعض الإشباع لكنه سينتهي في نهاية المطاف إلى الخيبة. فهو لم يكن مهتمًا بما سماه بي. إم. سترونغ "تسويق النماذج النظرية بين المجرات، والذي يُقدَّم على أنه علم اجتماع جاد بحق" (سترونغ 1983: 345). كان غوفمان متجذرًا تجذرًا عميقًا في الواقع التجريبي، بقدر أي باحث ميداني آخر، لكنه امتلك أيضًا التزامًا مزعجًا ودؤوبًا بالملاحظة، والسياق، والمعنى. أعماله خالية تمامًا من الأرقام، والإحصاءات، والرسوم البيانية، والجداول. قوتها تعتمد بالكامل على الرصد والتعبير اللغوي.

وبالتالي، نظريًا، يمكن اعتبار غوفمان أشبه باختبار رورشاخ: نحن نرى في عمله ما نرغب أن نراه. ومع استثناء واحد بارز (وهو رد غوفمان في 1981 على نقد نورمان ك. دينزن وتشارلز م. كيلر لـ تحليل الإطار)، لم يرد على أحد، وظل بعيدًا عن السجالات. وفي تلك المناسبة الوحيدة، وجّه نقدًا لاذعًا وباردًا لاثنين من "كبار" المهنة، لأنهما لم يتمكنا من تصنيفه ضمن "خانة" واضحة، وكأن أعمال المرء شيء موحد! كما قال غوفمان (1981: 17). لكنه، في معظم الأوقات، تجاهل المديح والإدانة على حد سواء.

عمل غوفمان بفعالية مع بعضٍ من أفضل طلاب الدراسات العليا الذين خرجوا من الجامعات خلال الستينيات والسبعينيات. لم يكن يحب "النظرية"، ولا الحديث عنها، وكان يرى هذا النوع من الكلام شكلًا من أشكال التباهي الفكري الذي يمقته بشدة. وكان شعوره تجاه علم الاجتماع نفسه مشوبًا بالتردد، فقد قال في خطابه الرئاسي غير الملقى أمام الجمعية الأمريكية لعلم الاجتماع:

"لستُ ممن يعتقدون أن ما حققناه حتى الآن يمكن أن يُعتبر إنجازًا عظيمًا، بل لقد سمعت من يقول إنه يجدر بنا أن نرضى بمقايضة ما أنجزناه حتى الآن مقابل تمييزات مفاهيمية جيدة قليلة وكأس بيرة باردة. لكن لا يوجد شيء في هذا العالم ينبغي أن نقايضه بما نملكه فعلًا: الميل إلى أن نحافظ، في كل ما يتعلق بالحياة الاجتماعية، على روح من البحث الحر، غير المؤدلج، والحكمة في ألا نبحث عن شرعية هذا الميل خارج أنفسنا ولا خارج تخصصنا" (غوفمان 1983: 17).

ربما يكون هذا هو الإرث الأنسب لغوفمان، وهو الإرث الذي ظل حيًّا في كتاباته حتى بعد وفاته بوقت طويل.

 

المراجع:

Becker, Ernest (1971): The Birth and Death of Meaning (2nd Edition). New York: Free Press.

Berger, Bennett M. (1973): ‘A Fan Letter on Erving Goffman’. Dissent, 20:353–361.

Bourdieu, Pierre (1983): ‘Erving Goffman, Discoverer of the Infinitely Small’. Theory, Culture and Society, 2 (6):112–113

Brissett, Dennis and Charles Edgley (eds.) (1990): Life as Theater: A Dramaturgical Sourcebook (2nd Edition). New York: Aldine de Gruyter.

Burke, Kenneth (1945): A Grammar of Motives. Berkeley, CA: University of California Press.

Collins, Randall (1986): ‘The Passing of Intellectual Generations: Reflections on the Death of Erving Goffman’. Sociological Theory, 4 (1):106–113

Denzin, Norman K. and Charles M. Keller (1981): ‘Frame Analysis Reconsidered’. Contemporary Sociology, 10 (1):52–60

Duncan, Hugh Dalziel (1962): Communication and Social Order. New York: Bedminster Press.

Duncan, Hugh Dalziel (1968): Symbols in Society. New York: Oxford University Press.

Fine, Gary Alan and Philip Manning (2003): ‘Erving Goffman’. In George Ritzer (ed.): The Blackwell Companion to Major Contemporary Social Theorists. New York: Wiley, pp. 34–62.

Geertz, Clifford (1983): Local Knowledge: Further Essays in Interpretive Anthropology. New York: Basic Books.

Goffman, Erving (1959): The Presentation of Self in Everyday Life. New York: Doubleday, Anchor Books.

Goffman, Erving (1961a): Asylums: Essays on the Social Situation of Mental Patients and Other Inmates. New York: Doubleday, Anchor Books.

Goffman, Erving (1961b): Encounters: Two Studies in the Sociology of Interaction. Indianapolis: Bobbs-Merrill.

Goffman, Erving (1967): Interaction Ritual: Essays on Face-to-Face Behavior. New York: Doubleday, Anchor Books.

Goffman, Erving (1974): Frame Analysis: An Essay on the Organization of Experience. New York: Harper & Row.

Goffman, Erving (1981): ‘A Reply to Denzin and Keller’. Contemporary Sociology, 50 (1):60–68

Goffman, Erving (1983): ‘The Interaction Order’. American Sociological Review, 48 (1):1–17.

Hannerz, Ulf (1980): ‘The City as Theater: Tales of Goffman’. In Ulf Hannerz (ed.): Exploring the City. New York: Columbia University Press, pp. 202–241

Lyman, Stanford M. and Marvin B. Scott (1970): A Sociology of the Absurd. New York: Goodyear.

Mead, George Herbert (1934): Mind, Self and Society: From the Standpoint of a Social Behaviorist. Chicago: University of Chicago Press.

Plotz, John (2019): ‘Having It Both Ways with Erving Goffman’. Victorian Literature and Culture, 47 (2):439–448

Sartre, Jean-Paul (1956): Being and Nothingness. New York: Philosophical Library.

Scott, Marvin (1981): ‘Review of Barry Schlenker: Impression Management: The Self-Concept, Social Identity, and Interpersonal Relations’. Contemporary Sociology, 10 (4):582–583

Stone, Gregory P. (1957): ‘Review of Erving Goffman: The Presentation of Self in Everyday Life’. American Journal of Sociology, 63 (1):105

Stone, Gregory P. (1962): ‘Appearance and the Self ‘. In Arnold Rose (ed.): Human Behavior and Social Processes. Boston: Houghton Mifflin, pp. 86–118

Strong, P. M. (1983): ‘The Importance of Being Erving: Erving Goffman 1922–1982’. Sociology of Health and Illness, 5 (3):345–355

[1] Michael Hviid Jacobsen and Greg Smith, eds., The Routledge International Handbook of Goffman Studies (Abingdon, UK: Routledge, 2022), 15-25

[2] أستاذ مساعد في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا بجامعة أركنساس في ليتل روك. يُعرف بعمله في علم الاجتماع الدراماتورجي، ترتبط اهتماماته بدراماتولوجيا الحياة الاجتماعية.

[3] كينيث بيرك، المنظر الأدبي والفيلسوف البارز، طوّر مفهوم "البنتاد Pentad" كأداة لتحليل الدوافع والأفعال البشرية، خاصة في سياق البلاغة والتواصل. يُعد البنتاد إطارًا تحليليًا مكوّنًا من خمسة عناصر أساسية، عرضه بيرك في عمله نحو قواعد الدوافع (1945)، ويُستخدم لفهم الدوافع الكامنة وراء السلوك البشري من خلال فحص عناصر الموقف والعلاقات بينها

[4] لم يحظَ كينيث بورك سوى بنصف دزينة من الهوامش في كتاب عرض الذات في الحياة اليومية، ولم يُذكر هيو دالزييل دنكان (أبرز مفسري بورك في علم الاجتماع) على الإطلاق، رغم أن أطروحة غوفمان تعتمد إلى حد كبير على هؤلاء. وهذه مجرد واحدة من الأمثلة التي تُظهر مدى براعة غوفمان في إخفاء أثر مصادره الفكرية (كولينز 1986).

[5] من المهم الإشارة إلى أن غريغوري بي. ستون (1957) كان من أوائل علماء الاجتماع الذين كتبوا عن غوفمان، حيث نشر مراجعة متحمسة لكتاب عرض الذات في الحياة اليومية في مجلة المجلة الأمريكية لعلم الاجتماع المرموقة.

[6] السياسة مليئة بالمسرح وتشكل بيئة غنية بالأمثلة الدراماتورجية. ففي السياسة، يبدو أن المسرح يحتل الأولوية على أي اعتبار للمضمون. لقد وصلنا في السياسة إلى مرحلة لا تهم فيها الحقائق إطلاقًا. كل ما يهم هو المظهر – أو ما يسميه السياسيون والصحفيون الآن "البصريات" (optics). فالعروض العامة للمسرح السياسي تدور كلها حول "كيف تبدو الأشياء".

[7] إلى درجة أنه في التلفزيون يُثبَّت ضوء بشكل بارز على الكاميرا ليعرف الممثل متى يكون "على الهواء".

[8] إن التعقيدات ما بعد الحداثية لمفهوم النوع الاجتماعي كتركيب اجتماعي لا يُفترض أن يكون ثنائيًا أو قائمًا بيولوجيًا لم تكن حاضرة عندما نُشر كتاب عرض الذات في الحياة اليومية (1959)، لكن دروسه تنطبق بشكل أقوى على أفكار الجندر كأداء. وبالفعل، فإن كثيرًا من الالتباس الذي يُظهره النقاد من ذوي الهوية الجندرية المتطابقة (cisgender) تجاه الأشخاص المتحولين جنسيا، أو الحياديين جندريًا، أو غير الثنائيين، أو عديمي الجندر، أو "الكوير"، أو غيرهم، قد خلق ردّ فعل سياسيًا واسعًا، في الوقت الذي يحاول فيه الناس فهم واقع الجندر ما بعد الحداثي في عالم بُني على تمييزات ثنائية بسيطة.

[9] لم تُستكشف العلاقة بين سارتر وغوفمان بشكل كافٍ حتى الآن. غوفمان (1959: 75–76) يقتبس وصف سارتر الشهير للدور الذي "يمثله" النادل الفرنسي، لتوضيح مدى إتقانه للدور وكذلك مسافته النفسية منه. فبماذا يتظاهر؟ إنه يتظاهر بأنه نادل (سارتر 1956: 59).

[10] من فيلم المعرفة الجسدية (Carnal Knowledge)، من إخراج مايك نيكولز، وبطولة جاك نيكلسون، كانديس بيرغن، وآرت غارفنكل، صدر عن أفكو إمباسي بيكتشرز، 1971. المقطع مقتبس في بريست وإدجلي (1990: 113–114).

[11] كعادته في اللعب، قد تكون هذه أيضًا إحدى الحالات التي يعطي فيها غوفمان بيد ويأخذ بالأخرى. لمزيد من التفاصيل حول هذا الجانب من غوفمان، انظر بلوتز (2019).

[12] تضخمت شخصية غوفمان والأساطير المحيطة به بالتوازي مع شهرته. وربما بسبب ميوله للانعزال، ونفوره من التصوير الفوتوغرافي أو إجراء المقابلات، نمت هذه القصص خلال حياته واستمرت في التوسع بعد وفاته المفاجئة عن عمر ناهز 60 عامًا. وقد جُمع عدد مفيد من الذكريات من زملائه وطلابه، ورسائل مكتشفة، ومواد متفرقة في أرشيف إرفنغ غوفمان الذي جمعه ديمتري شالين.

[13] يشير فاين ومانينغ (2003) إلى أن غوفمان لم يُجرِ يومًا حوارًا جادًا مع منظّر آخر حول أي من الموضوعات التي شغلته.