الدكتور سعيد بنسعيد العلوي لمجلة ذوات : الحداثة ومشتقاتها كلها تتنافى مع قاموس الدولة الإسلامية


فئة :  حوارات

الدكتور سعيد بنسعيد العلوي لمجلة ذوات : الحداثة ومشتقاتها كلها تتنافى مع قاموس الدولة الإسلامية

الدكتور سعيد بنسعيد العلوي لمجلة "ذوات"([1]):

الحداثة ومشتقاتها كلها تتنافى مع قاموس الدولة الإسلامية

حاوره: نبيل علي صالح

يرى الدكتور سعيد بنسعيد العلوي، أنه لا يمكن نجاح الفصل بين الديني والسياسي في اجتماعنا، على الرغم من أن جوهر الدين الإسلامي يقتضي ذلك الفصل، خاصة أن الأصل في الديني والسياسي في الإسلام هو الانفصال والتمايز لا التداخل والاشتراط المتبادل، معتبرا أن ما زاد على ذلك يرجع إلى "السياسة" ويدخل في باب الاعتبارات الإيديولوجية.

ويوضح الدكتور سعيد بنسعيد العلوي، في حواره مع مجلة "ذوات"، أنه نظرا للخلط السائد الذي يقع في توظيف لفظ "الإسلام السياسي"، واجتناباً للوقوع في منزلق نحمل فيه على التسليم بقضايا لا يمكن قبولها إلا بالتوافر على الحجج والأدلة، يشير إلى أن الإسلام السياسي يقصد به "كل حركة سياسية تتوخى امتلاك السلطة التنفيذية بغير الطرق الشرعية المعروفة (أي تلك التي يقرها الفكر السياسي الحديث، ويقنن لها الفقه الدستوري المعاصر في نظام سياسي معلوم)، وبالتالي فإن كل الحركات التي تتوخى العنف من أجل الوصول إلى الحكم، ومن ثم تجعل في مقدمة برنامجها الإطاحة بالسلطة السياسية عن طريق العنف وتدمير المؤسسات السياسية القائمة (البرلمان، الأحزاب، المؤسسات السياسية، القوانين والتشريعات التي تم التشريع لها بواسطة السلطة التشريعية...)"، وهذا برأيه هو فيصل التفرقة بين ما يصح القول فيه إنه يدخل في دائرة "الإسلام السياسي"، وبين ما يتعذر نعته بكونه كذلك.

ويؤكد سعيد بنسعيد العلوي، الذي صدر له حديثا كتاب عن "دار مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع" تحت عنوان "دولة الإسلام السياسي (وهم الدولة الإسلامية)"، أن الدولة الإسلامية لا تكون ممكنة إلا بتدمير الدولة الحديثة واجتثاثها من أصلها، وهذا الرأي، كما يقول، "نجده بيّناً، في عبارة واضحة لا لبس فيها، عند أبي الأعلى المودودي؛ أي عند المفكر الذي يقع الإجماع على اعتباره المرجعية العليا في التنظير للدولة الإسلامية عند تيارات الإسلام السياسي بمختلف تياراته. فالحداثة ومشتقاتها كلها تتنافى مع قاموس الدولة الإسلامية جملة وتفصيلاً".

وسعيد بنسعيد العلوي، مفكرٌ مغربي، حاصل على دكتوراه الدولة في الفلسفة بجامعة محمد الخامس بالرباط، ومهتم بقضايا الفكر والثقافة الإسلامية، ويعد من أبرز المختصّين في موضوع العلاقة بين الديني والسياسيّ في المجال الإسلاميّ. له مؤلفات فكرية وأعمال نقدية عديدة، من أهمها: "قول في الحوار والتجديد"، و"المسلمون والمستقبل"، و"خطاب الشرعية السياسية في الإسلام السني"، و "أدلجة الإسلام بين أهله وخصومه"، وغيرها.

نبيل علي صالح: كيف تنظر عموماً إلى طبيعة العلاقة بين الدين والدولة؟ وما تقييمك للحركات الدينية الإسلامية (التي دخلت على خط الدولة والسياسة منذ عدة عقود إلى اليوم)، وأقامت وجودها الفعلي على قاعدة: الإسلام دين ودولة"؟

سعيد بنسعيد العلوي: يتعينُ علينا، في الإجابة عن الشّطر الأول من السؤال، أنْ نحدد المقصود من كل من الدين والدولة، من جهة النظر التي نصدر عنها، بطبيعة الأمر. فأما الدين فنسق من العقائد ومجموعة من الممارسات (هي الطقوس أو الشعائر التي يقوم بها المؤمن تعبيراً عن تسليمه بالعقائد التي يؤمن بها أو لنقل مع الفلاسفة، إن الدين، طريقة للرضا عن حقيقة مطلقة)، وهذا من جهة أولى. والدين، من جهة ثانية، تشريع للعلاقات الاجتماعية (أو للمبادئ العامة التي تحكم تلك العلاقات) وربما كان الدين في بعض الأحيان، كما هو الشأن في الدين الإسلامي مثلا، تقنينا يتوخى أقصى ما يمكن من الدقة في تنظيم تلك العلاقات. وأما الدولة، فتعبير عن درجة عالية من المعقولية في تنظيم العلاقات بين الأفراد والجماعات في مجال مكاني جغرافي معلوم بحدوده الطبيعية، حيناً قليلاً، وبحدوده المعترف بها من جيرته من الدول الأخرى في كل الأحيان. وفي لغة القانون الدولي: إنها الحدود المعترف بها عالميا والمتعين على المنتظم الدولي رعايتها وصونها من انتهاكها أو العبث بها في حال ضعف أو عجز الدولة "صاحبة السيادة" على حماية تلك الحدود. وليس يعنينا في هذا المقام أن نخوض في أمور تتصل بالقوانين الدستورية والقوانين الدولية العامة التي تنظم العلاقات بين الدول (كما هو الشأن في قانون البحار مثلاً) بقدر ما يعنينا، أنّ نوضّح أنّ الدولة (من حيث هي مجموعة من النظم والمؤسسات وتنظيم للعلاقات بين الأفراد والجماعات داخل تلك الدولة، وتقنين للعلاقة بين السلطة السياسية وبين الجماعات والأفراد، وبالتالي من حيث إنّ الدولة قوة زجر وقهر يهدفان إلى احترام تلك العلاقة...إلخ). الدولة إذن، سلطة عليا قاهرة تحتكر العنف واستعماله فوق التراب الخاضع لها. لنقل مع هوبز، إنها حيوان أسطوري لا حد لعظمته وقوته، عار من العواطف والنزعات، فهي مجموعة من الأجهزة والآليات تخضع لمنطق ذاتي صارم. الدولة، في هذا المعنى، حضور لعقل صارم كما يقول هيجل. ولعل، مثل العديدين، أجد في العبارة الشهيرة لنتشه ما يقرب هذه المعاني كلها إلى الأذهان: الدولة هي "أكثر حيوانات القطب المتجمد برودة ". فمتى اعتبرنا الدولة من هذا المنظور، فإنه لا يسعنا إلا التسليم بانعدام الرابط العلي بين الدولة والدين. لنقل، في قول جامع، إن الدولة والدين مفهومان متمايزان، كل واحد منهما يقوم في استقلال عن الآخر، فليس لوجود أحدهما أن يكون متوقفاً على وجود الآخر، ولا لنفي أحدهما أن يقصي وجود الآخر، ويلغيه، اللهم إلا أن يكون الأمر متعلقاً بما تكون الدولة ملزمة به ، بموجب العقد الاجتماعي الذي يشرع لوجود الدولة، باعتبارها ضامنا للحقوق الذاتية للأفراد والجماعات، من رعاية حقوق الناس. ومن شأن الدين وضمان حسن ممارسته، أن يدخل في عداد تلك الحقوق. هذا من جانب أول؛ ثم إن الدولة هي، منظوراً إلى المسألة من جهة احترام الواجبات والحرص الأكيد على إمضائها والحرص على تنفيذها، القوة العليا القاهرة، وهي كذلك، لأنّ الدولة تملك الحق -من أجل ما ذكرنا- في اللجوء إلى القهر واستعمال العنف. وبموجب التعاقد الاجتماعي الذي يشرع لقيام الدولة، فإن هذه الأخيرة تملك -دون غيرها- الحق في احتكار العنف-وهذا من جانب ثان- هذا عن الشطر الأول من السؤال،

وأما عن الشطر الثاني منه والمتعلق بإبداء وجهة نظري في شعار "الإسلام دين ودولة"، وهو الشعار الذي ترفعه بعض الحركات الدينية الإسلامية (تلك التي يلحق بها في المعتاد نعت "الإسلام السياسي") فإني أرى، بادئ ذي بدء، وجوب الوقوف عند المعنى الذي يفيده معنى الحركة الدينية السياسية التي تجعل من إقامة الدولة الدينية هدفاً أسمى تسعى إليه (وهذا الهدف، في عبارة دعاة "الإسلام السياسي"، إقامة دولة الخلافة)، وهذا من جانب أول. كما أجدني، من جانب ثانٍ، في حاجة إلى إبداء جملة ملاحظات بخصوص "دولة الخلافة" أو "دولة الإسلام السياسي" والمعنيان، عندي سيان.

فأمّا الدولة الدينية (أقصد معناها الأول كما يحضر في الذّهن)؛ فالقصد منها هو الدولة الثيوقراطية تحديداً؛ أي تلك التي تقوم على العقيدة الثيوقراطية كما شرعت لها الكنيسة الكاثوليكية في القرن العاشر الميلادي. لا يتسع المجال، بطبيعة الأمر، للخوض في أمر العقيدة الثيوقراطية ومتعلقاتها، بيد أننا نجمل الحديث، فنقول: إن الثيوقراطية هي دولة "الحق الإلهي" (أو الحق المقدس للملوك، كما شرعت له الكنيسة الكاثوليكية على يد البابا غريغوار الثامن). ولهذه الدولة خصائص أساسية أربع: الأولى أنّ السلطة في الدولة الثيوقراطية سلطة أبوية في المعنى الدقيق للكلمة (أي أن الأشخاص المنتسبين إلى تلك الدولة يكونون في عين الحاكم بمثابة الأبناء القاصرين)، والثانية أن السلطة السياسية لا يمكن لها أن تكون إلا مطلقة وإلا فسد معناها. والخاصية الثالثة للدولة الثيوقراطية هي القدسية التامة، وبالتالي مقدسة فهي - كما يقول كنط- ذات طبيعة ترانسندانطالية (=متعالية، مفارقة للواقع المشاهد). وأما الخاصية الرابعة، فهي أن السلطة، بموجب ما تقدم، سلطة لا يجوز الاعتراض عليها. والحق أن هذه الخاصية الأخيرة ليست سوى اقتضاء منطقي للخصائص الثلاث المتقدم ذكرها (الأبوية، والإطلاق والقدسية).

نقول إن الدولة في هذا المعنى ليس مما يقبله الإسلام وليس مما يمكن تأكيده بدليل من التاريخ العيني للإسلام. نعم، عرف الإسلام في تاريخه أنواعاً وأصنافاً من الاستبداد، تفوق الوصف في بعض الأحيان، بيدَ أنه لم يظهر في تاريخ الإسلام حاكم اجتمعت فيه خصائص الحكم الثيوقراطي. مبلغ ما انتهى إليه الاستبداد هو زعم الحاكم أنه يستمد سلطته من إرادة الناس (=البيعة، الموافقة). وإذا كان دعاة الحركات الإسلامية يحتجون - في الدعوة إلى "دولة الخلافة" بأقوال فقهاء الإسلام (وهم، في الأغلب من الأحوال ، يذكرون أبا الحسن الماوردي في طليعة أولئك الفقهاء) فإنهم يتعمدون إغفالَ الأساسي في أقوال أولئك الفقهاء، وهو أن الخلافة عقد تمضيه أطراف متعاقدة. يقول الماوردي في تعريف الإمامة العظمى "الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا وعقدها لمن يقوم بها... إلى أخر قوله"). فالأساسي في قيام السلطة السياسية في الإسلام هو العقد؛ أي التعاقد بين جهتين، والتعاقد لا يكون إلا بين إرادات حرة. وحيث كان الأمر كذلك، فإن العملية برمتها (أي التعاقد- البيعة) تستوجب وجود أطراف راشدة؛ أي أطرافاً بلغت سن الرشد واتخاذ القرار عن وعي ومسؤولية تامّين. وبالتالي، فلا معنى لعلاقة البنوة بين الأطراف المتعاقدة محض. وبموجب المنطق ذاته، فإنه لا معنى ولا مكان في الخلافة للقدسية والتقديس، فهي ثمرة تعاقد، والتعاقد فعل بشري يترجم إرادة ووعياً واستحضاراً لقائمة من الشروط. وفي هذا المعنى يقول الإمام محمد عبده، إن الخلافة منصب مدني من جميع الوجوه، وفي هذا المعنى أيضاً يقول علال الفاسي: إنما الدولة قضية مصلحية؛ أي إنها تتصل بالمصالح لا بالعقائد. في حين أن دعاة الإسلام السياسي يجعلون من الخلافة (كما يفهمونها لطبيعة الأمر) قطب الرحى في العقيدة وشرطا لتحققها.

نبيل علي صالح: هل تعتقد بإمكانية نجاح الفصل بين الديني والسياسي في اجتماعنا الديني العربي والإسلامي، حيث تهيمن تعاليم الدين وأفكاره والتزاماته ابتداء من النطاق الفردي ووصولا إلى النطاق الجماعي؟

سعيد بنسعيد العلوي: لا أرى إمكانية نجاح الفصل بين الديني والسياسي في اجتماعنا، على النحو الذي تقول، أمراً ممكنا فحسب، بل إني أزعم أن جوهر الدين الإسلامي يقتضي ذلك الفصل بناء على ما انتهينا إليه في محاولة الجواب عن السؤال السابق. وأنت إذ تتأمل قول محمد عبده على نحو، وقول علال الفاسي على نحو مغاير، فأنت تجد أنهما يلتقيان عند الفكرة التي تناقض عقيدة الإسلام السياسي جملة وتفصيلا. مثلما تجد أن هؤلاء الأخيرين (عكسَ ما يتوهمون) يجتثون نظرية الماوردي (وأضرابه من فقهاء الإسلام) من جذورها.

يجتنب الماوردي، عن وعي ودراية تامّين، الخوض في المناحي الكلامية (وبالتّالي العقائدية- مما هو من صميم علم الكلام، إنْ لم نقل إنّه علم الكلام أو علم أصول الدين) فهو يكتفي بالتساؤل، في الأسطر القليلة الأولى من الفصل المتعلق بالإمامة العظمى ما إذا كانت الإمامة تجب بالعقل أم بالشرع، ليخلص إلى الاستنتاج بأن الإمامة واجبة ولينتقل مباشرة إلى ما يعنيه فقيها مشرعا، فيلج عالم الفقه ومصطلحاته (فرض الواجب، فرض الكفاية، العقد، أطراف العقد "أهل الاختيار" أو "أهل الحل والعقد"، و"أهل الإمامة"- الشروط الواجب مراعاتها في كل من الطرفين المتعاقدين). الإمامة عند الماوردي" عقد مراضاة واختيار لا يدخله إكراه ولا إجبار"، ولعل أخص ما يجب الانتباه إليه في حديث صاحب "الأحكام السلطانية" عن الشروط الواجب مراعاتها عند الإقبال على إمضاء العقد (مع احترام الحقوق الواجبة لكلا طرفي العقد) ذلك المتعلق، عند الاختيار، بمراعاة "ما يوجبه حكم الوقت"، ثم إن الماوردي- وهذا ما يتم إخفاؤه وتغييبه عمدا- يماثل بين عقد الإمامة وعقد النكاح- لا بل إنه يقيس عقد الإمامة على عقد النكاح-وهذا من جهة أولى (وهو يفعل ذلك لأنه يعي، تمام الوعي، أنه في موقع المجتهد- فليس في القرآن ولا في السنة ما يفصل في قضية السلطة السياسية بحكم، وليس فيهما معا ما يدل على طريق واحد يلزم الأمة سلوكه، إلا أن يكون سبيل ابتغاء العدل واحترام مبادئ الدين)، كما أن صاحب "الأحكام السلطانية" يقرر، من جهة ثانية، أن "الإمامة عقد، والقرعة لا مدخل لها في العقود". ثم إنه يضيف أن الإمامة تدخل في ما "يصح فيه الاشتراك، كالأموال". لنلاحظ كيف أن قول الماوردي يقبل المطابقة مع ما سيقوله، تسعة قرون من بعده، محمد عبده: إن الخلافة في الإسلام منصب مدني من جميع الوجوه (يراجع عبده في كتابه الإسلام والنصرانية في معركة العلم والمدنية). ثم لنلاحظ كذلك، كيف أن حديث الماوردي عن الإمامة من حيث هي عقد وتعاقد سيجد صداه عند علال الفاسي، إذ يقول عن الدولة إنها "قضية مصلحية" وكل ما كان مصلحيا فهو، وهذا من البديهيات يرجع إلى الحقوق والواجبات- وبالتالي إلى العقود والاتفاقات(يرجع في ذلك إلى كتابه "النقد الذاتي").

الأصل في الديني والسياسي في الإسلام هو الانفصال والتمايز لا التداخل والاشتراط المتبادل، وأحسب أنّ ما زاد على ذلك يرجع إلى "السياسة" ويدخل في باب الاعتبارات الأيديولوجية.

نبيل علي صالح: هل يمكن للإسلاميين الحركيين بناء دولة مدنية تفصل الدين عن الدولة، وتقدم فقها مدنيا حضاريا أساسه (وعموده الفقري) فكرة "العلمنة" أو "المدنية" بما يمهد ويفضي إلى دول الحداثة والرفاه الاقتصادي؟ وهل تعتقد وجود تجارب ناجحة في هذا المجال؟

سعيد بنسعيد العلوي: الجواب عن السؤال، في شقه الأول، لا يقبل أن يكون شيئاً آخر غير السلب، ذلك أن بين الدولة "المدنية" كما تقول (وكما هو متداول في الخطاب العربي في عصر النهضة إجمالاً) أو الدولة الحديثة (=الدولة كما تمثل في الفكر السياسي الحديث) من جانب أول وبين الدولة "الإسلامية"، وما في معناها (دولة الخلافة، الخلافة الثانية، الحكومة الإلهية) من جانب ثان، إنما هي علاقة انتفاء متبادل -كما يقول المناطقة- (وجود أحد الطرفين يلغي وجود الآخر). فأنت إذ ترجع إلى النصوص الغزيرة التي تنوء المواقع "الإسلامية" بحملها في الشبكة، فأنت تجد تكراراً وتأكيداً لفكرة واحدة لا تتبدل ولا تتحول: الدولة الإسلامية لا تكون ممكنة إلا بتدمير الدولة الحديثة واجتثاثها من أصلها. وهذا الرأي نجده بيّناً، في عبارة واضحة لا لبس فيها، عند أبي الأعلى المودودي؛ أي عند المفكر الذي يقع الإجماع على اعتباره المرجعية العليا في التنظير للدولة الإسلامية عند تيارات الإسلام السياسي بمختلف تياراته. فالحداثة ومشتقاتها كلها تتنافى مع قاموس الدولة الإسلامية جملة وتفصيلاً. دعني، على سبيل الجد وليس من قبيل الدعابة، أستعيد قولة صالح سرية (قائد تنظيم عسكري "إسلامي"): "فكما أنه لا يمكن الإنسان أن يكون مسلماً ويهودياً في الوقت ذاته، لا يمكن أن يكون مسلماً وديمقراطياً". هذه هي صورة المسلم كما تمثل في وعي دعاة الإسلام السياسي. وإذا كنت تريد بسطا للموضوع، وبالتالي توضيحا للمسألة، فاقرأ ما يعن لك من مؤلفات المودودي وتلامذته في العالم العربي - وما أكثرهم- وما أكثر نصوص المودودي تداولاً في الشبكة.

وأما الشق الثاني من السؤال (هل في تجارب "الإسلاميين الحركيين" ما يمكن أن يوصف بالنجاح؟)، فالجواب عنه، يستدعي تدقيقاً أكثر، إذ إني أجد فيه لبساً كثيراً.

نبيل علي صالح: لماذا فشلت تجارب الإسلام السياسي في مرحلة ما سمي بالثورات الربيعية العربية ؟هل الفشل في تلك الثورات ذاتي أم إنه قد تم تفشيلها؟ وحتى نكون منصفين نتساءل، في عبارة أخرى: هل يعود الخلل في تجارب وسياسات الإسلاميين العملية إلى طول أزمنة الاستبداد الرسمي الذي أصاب الأمة بالعقم وإلى منع الغرب دعم أي توجه إسلامي خوفاً من الشعارات التي يرفعها هذا التوجه وكذا إلى أجندات الغرب وتوجهاته، أم إن العطل ذاتي في فكر الإسلاميين وطروحاتهم، أم يجب القول ، بالأحرى، إنه يوجد في الاثنين معا؟

سعيد بنسعيد العلوي: اجتناباً للوقوع في منزلق نحمل فيه على التسليم بقضايا لا يمكن قبولها إلا بالتوافر على الحجج والأدلة الكافية، يتعين علينا أن نلتمس الوضوح والدقة بخصوص لفظ "الإسلام السياسي" ذاته، أتساءل: هل يتعلق الأمر في هذه العبارة بتوصيف موضوعي لواقع قائم ولفكر أو نمط من التفكير تجتمع فيه جملة من المواصفات، ومن ثم القابلية للتحليل والفهم أم إن الأمر غير ذلك؟ هل لفظة الإسلام "الإسلام السياسي" لا تعدو، حقاً، مجرد النعت الذي يطلقه خصوم هذه التيارات على خصومهم تحقيراً واستصغاراً، أم إنها تلامس الوصف العلمي المحايد؟!

الحق أن هذا الاعتراض الأخير لا يخلو من وجاهة لاعتبارين اثنين واضحين؛ الاعتبار الأول هو أن تاريخ الإسلام (حركات سياسية وفكراً نظرياً معاً) يفيض بالأمثلة التي تؤيد الاعتراضات التي يلوح بها دعاة "الإسلام السياسي" في وجه خصومهم. فالمُحكِّمة (ضم الميم وتشديد الكاف مع الكسر) الذين طالبوا بالتحكيم، في معنى تحكيم القرآن، في الخلاف الذي وقع بين علي ومعاوية، كانوا في أعين خصومهم "خوارج" (=خرجوا عن الجماعة) ومؤرخو علم الكلام والفرق الكلامية قاموا بتصنيف تيارات أولئك المحكمة على هذا الأساس (خوارج عما ذهب إليه الآخرون، عن الإجماع). والمعتزلة، في أعين خصومهم من الفرق الأخرى (ومن أهل السنة خاصة) "معطلة" (=عطلوا الصفات الإلهية، مغالاة في تنزيه الله عن الصفات). والشيعة، في أعين خصومهم من الفرق الأخرى "روافض" أو "رافضة" (=رفضوا ما قرره إجماع المسلمين). والأشاعرة، في أعين المعتزلة خاصة، "مشبّهة" (=جعلوا بين الصفات الإلهية والصفات البشرية شبها، فهم قد قبلوا تشبيه هذه بتلك). وفي عبارة جامعة أقحم الدين إقحاماً خدمةً للصراع السياسي، فكان الخلاف الأيديولوجي محاولات مستمرة من أجل إخفاء صراع سياسي لا يكاد يخفى. هذا تاريخنا العقدي وأكاد أقول إن تبادل الألقاب التي تسعى إلى الحط من الغير المختلف تكاد تكون إحدى علامات ثقافتنا - لعله إرث يثوى في اللاشعور المعرفي العربي لا نزال نجتره، حتى اليوم، من عصر الجاهلية. أما الاعتبار الثاني، فهو أن قرن نعت "السياسي" بتيار يتحدث باسم الإسلام أمر ساهمت اللغة الصحافية في ترويجه، فعلا، دون احتفال بالمبررات المعرفية والمنطقية مع استسهال لإطلاق النعوت العامة الفضفاضة التي لا تكاد تعني شيئا وليس من شأنها رفع الغموض ولا اجتناب الوقوع في الخلط والفوضى اللغوية، بل إنّ اللغة الصحافية ساهمت في عمل البلبلة والفوضى المفهومية أو الفوضى في التلويح بالمفاهيم دون احتفال بما يسندها من حجة من التاريخ والمنطق معاً. الحق أن كل هذه صعوبات موضوعية تقف في وجه الباحث وتعترض سبيل الإنسان، من غير دائرة المتخصصين في الفكر السياسي (وكذا علم الاجتماع السياسي) أو المنشغلين بالدراسات الإسلامية، والحق أيضا أن نعت "الإسلام السياسي" يجعلنا، أحيانا كثيرة نسقط في شرك التعميم الكاذب الذي لا ينتج معرفة علمية، مثلما أنه يجعلنا نرتكب أخطاء شنيعة. ولقد آليت على نفسي (في كتابي "دولة الإسلام السياسي: وهم الدولة الإسلامية") ألاّ أنساق وراء هذه التسمية أو النعت (الإسلام السياسي) إلا متى كنت محتاجا في تأييد هذا النعت بما أقدر أنه أدلة قوية كافية معاً؛ ذلك ما اشترطته على نفسي في الفصل الأول من الكتاب إذ جعلت الأمر ميثاقاً ضمنياً بيني وبين القارئ، ألتزم بمراعاته. لذلك قلت، في مستهل الفصل الأول المشار إليه من كتابي، إنني ، سأجعل العبارة بين مزدوجتين (وبالتالي أعبر بوضوح عن تحفظي في مسايرة التقليد الجاري به العمل طالما لم أكن مستوفيا ما أعتبره حججا كافية وأدلة قوية في إقرار نعت "الإسلام السياسي" والأخذ به في حديثي. هذا من جهة أولى. وطالما أنني لم أحدد للاندراج تحت مسمى "الإسلام السياسي" معياراً دقيقاً أتمسك به حين الحديث عن هذا التيار أو ذاك من تيارات ما يقال عنه إنه "الإسلام السياسي". ولقد انتهيت إلى صياغة قاعدة بسيطة واضحة أرى من شأن العمل اجتنابا للوقوع في أحد الأخطاء التي أشرت إليها أعلاه. أصوغ هذه القاعدة أو المعيار على النحو التالي: أقصد بالإسلام السياسي كل حركة سياسية تتوخى امتلاك السلطة التنفيذية بغير الطرق الشرعية المعروفة (أي تلك التي يقرها الفكر السياسي الحديث، ويقنن لها الفقه الدستوري المعاصر في نظام سياسي معلوم)، وبالتالي، فإن كل الحركات التي تتوخى العنف من أجل الوصول إلى الحكم، ومن ثم تجعل في مقدمة برنامجها الإطاحة بالسلطة السياسية عن طريق العنف وتدمير المؤسسات السياسية القائمة (البرلمان، الأحزاب، المؤسسات السياسية، القوانين والتشريعات التي تم التشريع لها بواسطة السلطة التشريعية...).بالنسبة إلى ذلك هو فيصل التفرقة بين ما يصح القول فيه، إنه يدخل في دائرة "الإسلام السياسي" وبين ما يتعذر نعته بكونه كذلك.

نبيل علي صالح: كيف تفسر أنّ كثيراً من تيارات الإسلام السياسي قد قبلت الحياة المدنية والديمقراطية، وأصبحت تتحدث عن آليات الحكم الديمقراطي وعن الحريات وحقوق الإنسان، كما هي حال حزب النهضة التونسي وحزب العدالة والتنمية المغربي وقبلهما حزب العدالة والتنمية التركي؟ هل هو تكتيك مرحلي أم قناعة فكرية عميقة؟

سعيد بنسعيد العلوي: ليس من مقتضيات النزاهة الفكرية، فيما أرى، ولا من مستلزمات الرؤية السليمة أن نجمع في صعيد واحد بين حزب العدالة والتنمية التركي وسميه المغربي، ولا بين هذا الأخير، وبين حزب النهضة في تونس. وإذا كان في الإمكان عقد بعض المقارنات بين الحزبين التونسي والمغربي، فإنه لا سبيل إلى ذلك بالنسبة إلى بلاد مصطفى كمال ومهد الإمبراطورية العثمانية. تركيا، بنية اجتماعية وتنظيم سياسي، مرّ بعدد من الأطوار والتجارب منذ سقوط الخلافة العثمانية في مستهل عشرينيات القرن الماضي حتى صيغة الحكم التي انتهت إليها في العقود الثلاثة الأخيرة، مروراً بأطوار الحكم العسكري، تختلف عن أحوال الدول العربية كلها (وكذا عن حال العيد من البلاد الإسلامية). وتركيا، من حيث بنياتها التحتية القوية واقتصادها الصلب المتماسك تجعلها أقرب إلى البلدان الأوروبية منها إلى البلدان العربية مع اختلاف نظمها. وفي هذا الشأن، أجدني أقول مع الأصوليين (نسبة إلى علم أصول الفقه- رفعاً لكل التباس)، في معرض المقارنة بين تركيا وبين مجموع البلاد العربية، إنه لا قياس مع وجود الفارق. ولعل كلامي يتسم بوضوح أكبر لو أني أضفت إلى ما أقوله إن الحزب السياسي، نشأة وتكويناً وتطوراً، هو في البلدان التي استقرت فيها تقاليد ديمقراطية أكثر من غيرها، وخبرت تجارب قوية من النوع الذي خبرته الدولة التي نشأت عن "الرجل المريض" وعن "الإمبراطورية العثمانية"، وما كان لها من التقاليد العسكرية العريقة، من جانب أول، ومن ماض إمبريالي، من جانب ثان، هو حزب يختلف بالضرورة عن "نظيره" في الدول الأقل قوة وتماسكاً أو قلْ إنْ شئت: الدول الأكثر هشاشة. وحزب العدالة والتنمية التركي هو ثمرة هذا كله (من حيث البنية الاجتماعية العميقة، ومن حيث رسوخ قدم التجربة الديمقراطية). لست أدافع، قليلاً ولا كثيراً، عن الصورة السياسية في تركيا، وليس الأمر يعنيني البتة. وحتى أذهب في الصراحة أبعد من ذلك، فأقول إنني لست أستلطف نموذج الحكم التركي غير أن هذا كله لا يمنعني من القول، إن في المقارنة بين حزب العدالة والتنمية التركي وغيره من الأحزاب التي تبدي ميولاً وأطماحاً مماثلة في البلدان العربية مدعاة للوقوع في العديد من الأخطاء، بل والمزايدات الكاذبة. هذا أولاً.

أما ثانياً، فإنني بالرجوع إلى المعيار الذي قلتُ أنني آخذ به في التمييز بين منتسب إلى الإسلام السياسي وبين تيار سياسي ليس يقبل الاندراج في خانة الإسلام السياسي، فإنني أبادر إلى القول إنه لا جامع بين الحزبين المغاربيين المذكورين، وبين منظومة الإسلام السياسي؛ فهذا الأخير يرفض الدولة الحديثة، ويدعو إلى الإطاحة بها بالعنف، مثلما أنه يرفض المؤسسات السياسية وينعتها بالكفر (الحزب السياسي، منطوقاً ومحتوى وهدفاً يدخل في عداد تلك المؤسسات، وليس يكون أو يستقيم وجوده إلا بوجود تلك المؤسسات). وهذا كله على مستوى الخطاب وإعلان المواقف، ولا اعتبار في السياسة للنوايا والمقاصد المضمرة وغير المعلنة. وقولي هذا يستدعي الأخذ بالأمرين التاليين أخذاً ضرورياً؛ أولهما إن الأمر يظل كذلك طالما ظلّ الحزب ملتزماً بما تقضي به الحياة السياسية السليمة وتستوجبه قواعد اللعبة الديمقراطية. ولا يكون الحال كذلك إلا بالقدر الذي يطيق فيه الحزب أن يكون تنظيماً سياسياً فعلياً وحديثاً: وفي عبارة واضحة، أن يكون حزبا سياسيا يتوافر على رؤية سياسية وبرنامج اقتصادي، وآخر اجتماعي، وآخر غيره ثقافي- بيئي؛ وثاني الشرطين عندي أن يظل الحزب حريصاً على اجتناب الخلط بين الديني وبين السياسي الذي يستوجب المحاسبة، ويقبل الاختلاف. في ظل الشرعية والمشروعية معاً يكون من حق كل تعبير عن اجتماع مجموعة من الإرادات الحرة أن يختار من الأيديولوجيا ما يرى أن الأجدر بخدمة الصالح العام. وفي دولة الحق، فإن صندوق الانتخاب يظل هو الحكم والحكم معاً.

[1]- من مجلة ذوات العدد 41