الكرنفالات الشعبية


فئة :  مقالات

الكرنفالات الشعبية

لم تأخذ الدراسات الاجتماعية الخاصة بالكرنفالات الشعبية حقها من الاهتمام في كشف ما يدور في الميادين العامة إبان الاحتفالات المتهتكة، وما يدور فيها من صوغ للرأي العام، وما يتعالى فيها من صخب، واختلاط، وتهريج؛ ففيها يعبر عامة الناس عن أنفسهم من دون خضوع لأعراف الثقافة الرسمية، ويفيدنا كتاب "الضجيج" لمؤلّفه "ديفد هندي" في تسليط الضوء على ما كانت تمثله الكرنفالات الشعبية من أهمية في القرون الوسطى، وفي عصر النهضة، وفي أول العصر الحديث، وما كانت تحتويه من فنون التهريج والسخرية، وما تُبطنه من تبرّم بالثقافة الرسمية، وفيها تتداخل مظاهر الضحك بالجدّ، ويحلّ النشاط في أوساط الطبقات الفقيرة محلّ الرتابة في حياتها، ويكون الضجيج هو المظهر الأكثر حضورا فيها، وتتخلّل ذلك ضروب من التفكّه، والظرف، والتهريج، والمجون، فضلا عن أعمال باعثة على الخوف كقرع الطبول، والنفخ في الأبواق، والتلويح بالسيوف، وحمل المشاعل، والقيام بالحركات البهلوانية الخطرة، وكانت تُعقد الولائم الكبيرة، ويتعالى دخان المشويّات في الساحات العامة، وخلال ذلك يفرط المحتفلون في الشراب والطعام.

كانت تُختار للكرنفالات مواعيد لها صلة بالأعياد الدينية، أو الشعبية، أو الأسطورية، وغايتها خوض تجربة النشوة بالرقص والغناء، والتحلّل من ركود الحياة اليومية

وكانت تُختار للكرنفالات مواعيد لها صلة بالأعياد الدينية، أو الشعبية، أو الأسطورية، وعادة ما تسبق موسم الصيام، فيباح فيها ما لا يباح في وقت الامتناع عن الطعام والشراب، والمتع الأخرى، وغاية الكرنفالات خوض تجربة النشوة بالرقص والغناء، والتحلّل من ركود الحياة اليومية. ولم تكن الكرنفالات أفعالا مبتذلة يقوم بها المهمّشون في أماكن مشبوهة، فقد تنعقد في أفنية الكنائس، فيختلط صخب المحتفلين بأجراسها من غير الادّعاء بأنها كانت تروج لها ما خلا الدينية منها، وكانت الجموع تتحرك أرتالا بمواكب في شوارع المدن، وتمخر أزقتها، وتنعقد لها أسواق تروّج للمنتوجات المحلية من خضر، وفواكه، وألبان، وخمور، وصناعات يدوية، ويتصاعد الهيجان فيها، ويبلغ ذروته في اليوم الأخير.

يُطلق الكرنفال شعورا محبوسا بالحرية، فتُباح فيه الأفعال التي لا يتجرّأ عليها أحد في غير تلك المناسبات العامة، ويتركّز الاهتمام فيها على إشباع الحواس بمتع تروي الأبدان من جوعها للملذات، وتحرّر الأذهان من الصرامة التربوية والدينية، وذلك بإشاعة المرح. ومع أن عليّة القوم يتحاشون، في غالب الأحيان، الاشتراك في الكرنفالات خشية التعريض بهم، والإساءة إليهم، لكنهم قد يتفرّجون عليها من شرفات بيوتهم، وقد يتجاسر بعضهم للانخراط فيها متنكّرين للاستمتاع بأجوائها المرحة. ولكنّ الكرنفالات في عمومها هي مقصد الحرفيّين، والفلاحين، والصيّادين، والجزّارين، والدبّاغين، والخبّازين، والمشرّدين، ويتنافسون في القيام بعروض مثيرة للدهشة، تتخللها ألعاب رياضية مثل الرماية والمصارعة، ولا تخلو، في اليوم الأخير، من غياب للرشد، وخروج على الضوابط المرعية بين الطبقات الاجتماعية، حيث "يتبادل السادة والخدم الأدوار، ويلبس الرجال ملابس النساء، والعكس كذلك، ويغنّي الناس أغنيات تسخر من كبار الشخصيات المحلية". وعلى الرغم مما تشيعه الكرنفالات من تهريج بريء غايته إثارة البهجة، فقد يتمادى بعض المهرجين في إثارة الغضب بالمبالغة في تنشيط الحواس، ودفع الناس إلى التعبير عن سخطهم من الأحوال العامة، وضيق سبل العيش؛ ولهذا تنشط رقابة الشرطة والكنيسة في ضبط مسار الكرنفالات كيلا تنفلت، وتؤدي إلى تخريب الممتلكات، أو سرقتها.

ومع أن الكنيسة لم تنخرط في تشجيع هذا الضرب من التهريج الجماعي الخادش للوقار الديني، لكنها غضّت طرفها عنه، باعتباره "حماقات" عابرة يجوز صرف النظر عما فيها من أفعال لا توافق التربية الكنسية القويمة، فتكون قد أقرّت، ضمنا، بحاجة المجتمع إليها للتنفيس عمّا احتبس في نفسه من جرّاء العمل، والفقر. وقد وصفت كلية اللاهوت في باريس في عام 1444م هذه "الحماقات" بأنها "طبيعة ثانية في الناس" وسعت إلى إباحتها في إطار قيود خشية من خطرها "يجب أن تُطلق بحرية مرة واحدة في السنة على الأقل؛ لأن برميل النبيذ المضغوط قد ينفجر إذا لم نفتحه، ونطلقه في الهواء من وقت لآخر". هذا اعتراف بها من غير تشجيع لها إلا بوصفها متنفسا عن ضغوط الحياة الرتيبة. ومع ذلك، فلا يصحّ القول بأنّها تنعقد لغايات الترويح والتسلية، والانغماس في المتع الحسيّة، فقط، فلها غايات اقتصادية، واجتماعية، فهي مناسبات للإسراف في الطعام والشراب، وارتداء الأزياء المبهرجة "عادة ما يجلب التجّار كمّيات كبيرة من الخمور، وتباع بأثمان بخسة تشجيعا للإقبال عليها "وقد تُراق في قنوات الساحات العامة" في لحظات النشوة، وحينما يبلغ الصخب أوج مراحله، ويترنح الأفراد في متعهم قد "تخرج الأمور عن السيطرة، وتنزلق مراكز المدن، وتصبح مناطق سكر وخلاعة وعنف مستمر، وفي مثل هذه الظروف المتقلّبة تكون الفرصة سانحة لمن يرغب في تسوية حساباته القديمة في كلّ شيء: من السخرية من الأشخاص سيئي السمعة الذين كسروا التقاليد الاجتماعية إلى العصيان الكامل الشديد".

توظّف الكرنفالات، أو تعيد توظيف أعمال بعض الشخصيات التاريخية والأسطورية، وبخاصة الفرسان، والعمالقة، ولا يخلو الأمر من تصوير مبالغ فيه للشطّار والبخلاء

ما خلت الكرنفالات من مظاهر استعراضية غنائية أو حوارية أو تمثيلية، ففيها ضروب من الأفعال العجيبة، كالتنابز بالألفاظ، والمنازلات الوهمية، والألعاب، وقد ينتهز بعض الهواة هذه المناسبات فيقدمون فصولا مسرحية ساخرة، أو أنهم ينتقون أخبار بعض الشخصيات المحببة لدى الناس، وإن كانت خارجة على القانون، مثل روبن هود، وبعض مشاهير الفرسان. وخلال ذلك تمخر الفرق الموسيقية أزقة المدن بطبولها وأبواقها، وقد يسخر المحتفلون من الحراس، أو يتهكمون من الرهبان. وفي الليل تنقد حلقات الرقص، وتعقد المآدب الاحتفالية، وينخرط فيها المعربدون بمزيد من الاندفاع والهياج. وهو أمر كان شائعا في سائر أنحاء أوروبا، ولا يخلو، أحيانا، من ممارسة العنف في ظل الفوضى؛ لأن الضجيج غير المنضبط لا يقدّم المتعة والمرح فقط، بل يكشف عن السخط، وضيق الحال، ويطلق الجرأة، وحدث أن انتهى أحد الكرنفالات في مدينة "أوديني" بإيطاليا "بنهب عشرين قصرا، وقتل خمسين من الأرستقراطيين مع خدمهم".

وعلى الرغم من أن عامة الناس نظروا للكرنفالات على أنها نوع صاخب من المتع ينخرطون فيه طلبا للتغير والمرح، لكن السلطات نظرت إليها باعتبارها شكلا من أشكال التمرد، إذا ما بولغ في هياجها، فكان ذلك ذريعة لقمعها إذا هددت الأمن العام. ولم يخفت أثر الكرنفالات بصورتها التقليدية إلا في مطلع العصر الحديث، فهي مظاهر تعبير عن رغبات الناس، وانفعالاتها، ومصالحها، لكنها تتجدد حاليا بأشكال جديدة، وتختلف من مكان إلى آخر. وتوظّف الكرنفالات، أو تعيد توظيف أعمال بعض الشخصيات التاريخية والأسطورية، وبخاصة الفرسان، والعمالقة، ولا يخلو الأمر من تصوير مبالغ فيه للشطّار والبخلاء، في عروض مرتجلة يشرف عليها هواة يترقبون هذه المناسبات للإعلان عن أنفسهم، ومن المستبعد أن تخلع على الشخصيات الجدية والوقار إلا بغرض الهزء منهم في حال كونهم جبناء أو بخلاء، وبذلك اتصلت الكرنفالات مع الخيال الاجتماعي في استعادة أمجاد العظماء أو الانتقاص من السفهاء.

وبمرور القرون، وتنوّع الكرنفالات، وتجدد مظاهر الحياة الاجتماعية، أصبحت الكرنفالات محفلا للمساخر، والتهريج، وأسواقا للبضائع، وتبادل المنافع، والمباهج، وطوّرت تقاليد هادفة لإشاعة المتع في مواكبها التي تجوب المدن، أو تخيّم في الساحات العامة، ويرتادها الناس من كل حدب وصوب ساعين للاستمتاع الدوري الذي يهلّ عليهم مع كل كرنفال جديد.