دولة قريش ومسلسل معاوية

فئة :  مقالات

دولة قريش ومسلسل معاوية

دولة قريش ومسلسل معاوية

تشكل الأحداث التاريخية المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمعتقدات الدينية مادةً خصبة غير قابلة للتقادم، وتعدّ فاكهة المجالس التي لا يُملّ منها تقريبًا عند العديد من المجتمعات، لا سيما إذا كانت متصلة بالانتماءات المذهبية والطائفية، والسعي نحو إثبات صحتها من خلال أحداث التاريخ التي لها آثار لا تمحى في مسيرة الأمة، بوصفها مرحلة مفصلية تكوّنت على أثرها اتجاهات دينية ومذهبية وعقائدية لا تزال نشطة بشكل أو بآخر حتى يومنا هذا.

مسلسل "معاوية" الذي يُعرض في شهر رمضان أعاد الجدل الشديد حول الأحداث التي وقعت بعد وفاة النبي (ﷺ)، ومعظمها إن لم يكن جميعها تقريبًا له علاقة وثيقة بالهويات المذهبية والمعتقدات التاريخية على مر مئات السنين، وصولًا إلى عصرنا الراهن. كما تُعد هذه الأحداث من أخطر وقائع التاريخ العربي بعد الإسلام؛ لأنها كانت بمثابة مرحلة تحول مفصلية للعرب والمسلمين، قد لا نزال نعيش امتدادها الزمني وتداعياتها التاريخية حتى اليوم.

وتتركز معظم النقاشات حول الخلافة، وهل هي بالنص أم بالشورى؟ والصراع التاريخي بين الهاشميين والأمويين، بالإضافة إلى الفتنة الكبرى في عهد الخليفة عثمان بن عفان، التي تُعد من أكثر الأحداث خطورة. فالفتنة عادةً يكون لكل طرف فيها حق وعليه باطل، مما يجعل الناس في حيرة من أمرهم، فيلجؤون للاحتكام إلى أصولهم العقائدية تأييدًا أو مخالفةً، كوسيلة للخلاص من الصراع الداخلي والعذاب النفسي الذي تسببه تلك الحيرة، والتي قد تهدد قناعاتهم المذهبية.

وكان لفتنة مقتل الخليفة عثمان أثر عظيم على تاريخ الأمة لقرون طويلة؛ إذ انقسم المسلمون إثرها إلى قوى متباينة، وساهمت المواقف المتنافرة بعد ذلك في بلورة الاتجاهات الفقهية والعقائدية، التي أصبحت أساس المذاهب الدينية التي نشأت عبر التاريخ الطويل للعرب بعد الإسلام. والجدل المستمر حولها حتى يومنا هذا دليل دامغ على أثرها الذي لم ولن يُمحى من تاريخ ووعي العرب والمسلمين.

وبطبيعة الحال، لا أرغب في الخوض في الجدل الحامي الوطيس الذي يثار في العديد من وسائل التواصل الاجتماعي والمجالس الإلكترونية حول أحقية هذا الطرف أو ذاك، إلا أنه بالنظر إلى حقائق التاريخ، فإن الأمويين هم فرع من فروع قريش، ويلتقون مع الهاشميين في عبد مناف، فهم أبناء عمومة وينتمون جميعًا إلى قريش ومكة والحجاز. ومعاوية بن أبي سفيان لم يؤسس دولة بالمعنى الدقيق، فالدولة أسسها النبي (ﷺ) في المدينة المنورة، وامتدت لاحقًا لتشمل أنحاء الجزيرة العربية، ثم في عهد خلفائه امتدت إلى العراق وفارس والشام ومصر، ومنها إلى بلاد عديدة شرقًا وغربًا.

وإنما كان معاوية أول خلفاء العهد الأموي في دمشق، وثاني خليفة أموي فعليًّا بعد ابن عمه عثمان بن عفان، ومن خلال خلافته انحصرت الخلافة في بني أمية بعد أن كانت شورى بين قريش. وبعد وفاة معاوية، ثم يزيد، ثم معاوية بن يزيد، بايع بنو أمية مروان بن الحكم، إلا أن معظم أقاليم الدولة العربية كانت قد بايعت عبد الله بن الزبير، فعدّه أغلب الفقهاء والمؤرخين الخليفة دونه.

لذلك، فالقول إن معاوية هو مؤسس الدولة الأموية هو قول مجازي فقط؛ إذ لا دولة أموية بالمعنى المستقل، وإنما الذي تأسس في الشام هو الحكم الأموي في ظل قريش، القبيلة الحاكمة التي أسست الدولة العربية الإسلامية على يد النبي (ﷺ).

وقد أكون من الذين يميلون إلى القول إن بني هاشم، وتحديدًا الفرع العلوي، كانوا الأحق بالخلافة، وأنهم لو تولَّوها لكان في ذلك خيرٌ جزيلٌ لقريش والعرب وأمة الإسلام، ولكن هذا لم يحدث. لذلك، فليس لي أن أحاكم التاريخ بناءً على رأيي الشخصي وأعتبره معيارًا لتمييز الحق من الباطل، إذ لا ينبغي أن تُحاكم الشخصيات التي صنعت تاريخنا وفقًا لذلك، فالتاريخ لا يُقاس بالعقائد، خاصةً إذا كانت ذات صبغة مذهبية مقتصرة على مذهب دون المذاهب الأخرى.

ولقد تجاهل الكثيرون أن الدولة العربية الإسلامية، التي وقع عليها التنازع بين العلويين والأمويين والزبيريين والخوارج والعباسيين، لم تخرج قط عن قريش منذ تأسيسها وحتى سقوطها في بغداد بالغزو المغولي. فهذه الدولة، التي جمعت العرب والمسلمين في ظلها لقرون متتالية، كان أول حاكم لها النبي محمد (ﷺ)، وآخر حاكم هو ابن عمه المستعصم بالله العباسي، الذي قتله المغول مع أغلب أفراد الأسرة العباسية، وهي فرع من بني هاشم، وأبناء عم مباشرين للعلويين، وأبناء عمومة للأمويين والزبيريين. وبالتالي، كانت قريش القبيلة الحاكمة لهذه الدولة بلا منازع، من أول أمرها إلى آخره.

وتورد مصادر التاريخ بالتفصيل الحادثة التي وقعت في الكوفة في عهد الخليفة عثمان بن عفان، عندما قال سعيد بن العاص: "إن السواد بستان لقريش." فاعترض عليه جمع من أهل الكوفة قائلين: "أتزعم أن السواد الذي أفاءه الله إلينا بأسيافنا بستان لك ولقومك؟" فوصل خبرهم إلى عثمان، فغضب عليهم وأمر بإخراجهم إلى معاوية في الشام، ولما عجز عنهم، سيرهم إلى حمص، وهناك أعلنوا توبتهم عن كلامهم وأقرّوا بسيادة قريش وفضلها على سائر العرب والموالي، فأمر عثمان بردهم إلى بلدهم.

إن الجدل حول أحداث التاريخ العربي بعد الإسلام مشوب بالنزعات المذهبية، بكل ما تحمله من عقائد متضاربة بين أتباع المذاهب المختلفة، مما أدى إلى محاكمة التاريخ بناءً على المعتقدات الدينية، وهذا من أخطر ما حدث ويحدث، لا سيما وأن هذه العقائد لم تكن قد تبلورت في تلك العصور، وكانت المعايير مختلفة، مبنية على وقائع زمانية ومكانية تختلف بشكل كبير عن العقائد الفلسفية والكلامية والمنطقية التي نشأت لاحقًا في ظل ظروف وملابسات بعيدة عن سياق تلك الأحداث.

لقد أشرقت العصور الذهبية للعرب والمسلمين، التي أشاد بها الغرب، في ظل الحكم الأموي في الشرق والغرب، وتحديدًا في دمشق وقرطبة وبغداد. ولا يمكن إنكار ما قدمته الدولة الفاطمية في مصر من نهضة خلال مجدها الذهبي، حيث أسست القاهرة والجامع الأزهر، وظهر العديد من العلماء في شتى المجالات. كما لا يمكن التنكر لإنجازات العديد من الدول التي قامت شرقًا وغربًا، مثل الدولة الفاطمية الكلبية في صقلية وغيرها، إلا أن أبرز مراحل ازدهار الحضارة العربية تركزت في ظل حكم الأمويين والعباسيين في دمشق وبغداد وقرطبة. ولا تزال المجامع العلمية تشيد بما قدمه العرب للعالم من علوم ومعارف وقيم، معظمها ظهر في ظل سلطات الخلافة الأموية والعباسية، حيث كانت بغداد عاصمة الدنيا وحاضرة العلم والمدنية، وقرطبة مقصد طلاب العلم من الشرق العربي والغرب الأوروبي. وكانت اللغة العربية لغة العلم والمعرفة والآداب والإنسانية لمئات السنين، حيث كان لا بد لكل طالب علم من إتقانها حتى يتمكن من الاستفادة من كنوز المعرفة التي احتوتها المكتبات والمجامع العلمية في قرطبة ومدن الأندلس الأخرى.

ولو افترضنا جدلًا أن العلويين، وهم الفرع الأقرب للنبي (ﷺ) من بني هاشم وقريش، قد تولوا الخلافة بعده، ولو افترضنا أن علي بن أبي طالب قد تولى الخلافة ثم جاء بعده أبناؤه وأحفاده من فاطمة الزهراء، فهل كان ذلك ليغير واقع المسلمين؟ ألم يكن الإسلام سينقسم إلى مذاهب وفرق كما حدث في الأديان الأخرى؟ ألم يكن المسلمون سيختلفون ويتنازعون؟ ألم تكن الدولة التي سيحكمونها ستواجه مصير الدول الأخرى من نشوءٍ وقوةٍ ثم ضعفٍ وزوال؟ ألم يكن العرب والمسلمون سيمرون بمراحل المد والجزر التي مرت بها كل الأمم الأخرى؟

إن محاكمة التاريخ بالعقيدة وإسقاطها على أحداثه ووقائعه يؤدي، لا محالة، إلى الشقاق والانزواء، ويجعل أتباع المذاهب بعيدين عن الأصالة وعن القواسم المشتركة ذات الوشائج القومية والتاريخية، كما يؤدي إلى التحول إلى فرق متناوئة ومتنافرة، يعيش كل منها في كانتونات معزولة عن الأخرى، بسبب كثرة الخلاف والتعامل مع المخالفين بالجدل والتهويل المليئين بالتعصب والتطرف.

وفي ذلك الكثير مما لا يمكن حصره، فقد قرأتُ لأحد العلماء في أحد مؤلفاته انتقادًا متطرفًا للعهد العباسي؛ إذ يقول إنه عصر لم يُنتج سوى ألف ليلة وليلة! وأبو نواس الشاعر الفاسد! وتعلق بعض الخلفاء بالغلمان! ولم يدرِ أن ألف ليلة وليلة قد كُتبت حولها رسائل الماجستير والدكتوراه لما احتوته من إشارات عميقة إلى المجتمعات التي وقعت فيها أحداثها، وما يُستشف منها من بيان أحوال وأوضاع تلك العصور، فالأدب لا ينفك إطلاقًا عن بيئته التي يستمد منها سياقاته وخصائصه وأصوله.

إن محاكمة التاريخ بالعقيدة تنتج نظرة ضيقة ومتطرفة، لن ترى لعمر بن عبد العزيز فضلًا فقط؛ لأنه أموي، متجاهلةً عدله وزهده حتى لُقب بخامس الخلفاء الراشدين، ولن ترى من هارون الرشيد سوى أنه أمر بحبس ابن عمه موسى بن جعفر، متجاهلةً أن بغداد في عصره كانت في أوج عظمتها، وأهلها كانوا يعيشون في رخاء، ولن ترى للفاطميين في مصر وصقلية أي فضل أو إنجازات أو خدمات جليلة قدموها لأمتهم.

هل يمكن تجاهل أنه في عهد الخلافة الراشدة سقطت دولة الفرس ودخلت بلاد فارس في حكم العرب ثم تحولت للإسلام فيما بعد؟ هل يمكن تجاهل المعارك الخالدة للعرب في فارس والعراق والشام ومصر وشمال إفريقيا، حيث امتدت بلاد العرب من المحيط الأطلسي غربًا حتى بلاد الأهواز شرقًا، ومن بلاد الشام شمالًا حتى السودان والقرن الإفريقي جنوبًا؟ هل يمكن تجاهل أن أول فاتح للقدس كان الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب، وأن ثاني محرر لها كان صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين؟ وهل يمكن تجاهل كيف صدَّ المماليك الغزو المغولي، وكان لمعركة عين جالوت الأثر العظيم في صدهم وحفظ بلاد العرب والمسلمين من شرورهم؟

التاريخ لا يُقرأ بالعقيدة، ولا يُحاكم بإسقاطها عليه، وإنما يُقرأ بمنظار مصلحة الأمة والقواسم المشتركة التي تضم كافة مكوناتها؛ فمصلحة الأمة فوق أي نزاع طائفي أو مذهبي؛ لأن هذه النزاعات في النهاية مجرد شقاق وفرقة. وهذا ما أدركه عدد من العلماء، حتى علماء تلك العصور التي شهدت ضعف العرب والمسلمين مقابل أعدائهم.

ومن ذلك ما جاء في البداية والنهاية:

دخل الثملي (نصر الثملي، أمير الثغور لسيف الدولة الحمداني وكان شيعيًا) من طرسوس إلى بلاد الروم، فقتل وسبى وغنم وسلم، وأسر من بطارقتهم المشهورين خلقًا كثيرًا، ولله الحمد والمنّة.

وقع الفداء بين الروم والمسلمين على يد نصر الثملي، أمير الثغور لسيف الدولة بن حمدان، فكان عدد الأسرى نحو ألفين وخمسمائة مسلم، ولله الحمد والمنّة.

أعاد سيف الدولة بناء عين زربة، وبعث مولاه نجا، فدخل بلاد الروم، فقتل منهم خلقًا كثيرًا، وسبى جمعًا غفيرًا، وغنم وسلم، وبعث حاجبه مع جيش طرسوس فدخلوا بلاد الروم، فغنموا وسبوا ورجعوا سالمين، ولله الحمد والمنّة.

فتح المعز الفاطمي حصن طبرمين من بلاد المغرب – وكان من أحصن بلاد الفرنج – افتتحه قسرًا بعد محاصرة دامت سبعة أشهر ونصف شهر، وقصدت الفرنج جزيرة أقريطش فاستنجد أهلها بالمعز، فسير إليهم جيشًا، فانتصروا على الفرنج، ولله الحمد والمنّة.

ومن أبرز أمثلة إسقاط العقيدة على التاريخ والواقع المطلق، تكفير بعض المذاهب من قبل أتباع أخرى، في حين أن الجميع يذهبون إلى المدينة المنورة ومكة المكرمة كل عام للزيارة والعمرة والحج! وعلى مر مئات السنين، لم تمنع أي سلطة قائمة أو دولة حكمت الحرمين الشريفين أي مسلم من دخولهما، علمًا بأن غير المسلمين يُمنعون من دخول المدينتين المقدستين. وحسبنا هذا دليلًا دامغًا على أن الجدليات التي تؤدي إلى التكفير والإخراج من الملة الإسلامية ليست سوى هرج لا قيمة له، وادعاءات لا معنى لها، وهراء يخلو من الأمانة.

من جانب آخر، فإن ما يرويه التاريخ عن تعاون بعض العلماء المسلمين مع هولاكو بسبب كراهيتهم للعباسيين وولائهم للعلويين، إن صحَّ، فهو تفضيل مشين للمعتقد على مصلحة الأمة؛ إذ أدى إلى سقوط الدولة العربية الإسلامية التي أسسها النبي محمد (ﷺ)، وما العباسيون إلا حكام لها.

فلنتذكر كيف أن الملك البيزنطي عرض على معاوية أن يساعده في حربه ضد علي، قائلًا:

"علمنا بما حدث بينك وبين علي بن أبي طالب، وإنا لنرى أنك أحق منه بالخلافة، فلو أمرتني، أرسلت لك جيشًا يأتوك برأس علي."

فرد عليه معاوية قائلًا:

"أخوان تشاجرا، فما بالك تتدخل فيما بينهما؟ فإن لم تخرس، أتيتك بجيش أوله عندك وآخره عندي، يأتوني برأسك أقدمه لعلي."

ولنتذكر أن الإمام علي بن الحسين زين العابدين كان يدعو لأهل الثغور الذين كانوا يأتمرون بأمر الخليفة الأموي في دمشق؛ لأنه كان يدرك أنه كان يدعو للمسلمين ولدولتهم وجيشهم، وهي ليست ملكًا للأمويين وحدهم. أما ما كان بين بني هاشم وبني أمية، فإن الأمة أكبر منه؛ لأنها المبتدأ والمنتهى، وهي أول الأمر وآخره.