مفهوم الشرف المراوغ


فئة :  مقالات

مفهوم الشرف المراوغ

أنتمي إلى عائلة شاع عنها صون الشرف، ومنذ كنت طفلة لحظت تلازم ذكر عائلتي والشرف، ولم أكن أعي ما المقصود بذلك، غير أنني ألفت سماع عبارات من قبيل: "هذه ابنة فلان، ما في أشرف منها، وهذه أخت فلان الشريفة، وهؤلاء بنات فلان، وهنّ أشرف من الشرف". ومع تقدمي في السن، وبدء تلقي للأوامر والنواهي من قبل العائلة، بدأت أعي أن الشرف أمر مرتبط بنساء العائلة، وبحفاظهن على أنفسهن، وعدم السماح للرجال بمسّهن، ويتوجب علي فعل الشيء نفسه؛ لأحافظ على شرفي وشرف العائلة، ولذا كانت نساؤنا، وأنا واحدة منهن، يتصفن بالجفاء، وعدم التعامل مع الرجال بطريقة تجعلهن يطمعون فيهن، ويتطاولون عليهن، وكنّا نبالغ في الأمر إلى درجة تبدو لي اليوم غير مقبولة، إذ كنا نتعامل مع الرجال، وننظر إليهم على أنهم وحوش كاسرة ستنقض لافتراسنا، فيما لو كنا لطيفات في تعاملنا معهم، ونمّت القصص، التي كنّا نسمعها من الجدات والعمات والخالات والأمهات في ليالي الشتاء الباردة، ونحن نتحلق حول المدفأة عن فتيات خضعن بالقول للرجال، ففتكوا بهن، وكان مصيرهن الموت بعد أن فرّطن بشرفهن، ووصل هذا السلوك إلى درجة النظرة العدائية للرجل. ومع دخولي مرحلة البلوغ، بدأت أعي أن الشرف مرتبط بجسد المرأة، والسماح لرجل غريب بوطئه، وفقد العذرية بدون زواج شرعي، وكانت الصور في ذهني مشوشة حول هذا الغشاء الذي ينبغي الحفاظ عليه، وكيف أن الفتاة لا تساوي شيئًا بدونه. ولم أكن أسمع شيئًا من هذا القبيل يدور حول الصبيان والرجال، وعن وجود ما ينبغي محافظتهم عليه حتى يكونوا شرفاء، بل كانوا كذلك لأن نساءهم من زوجات، وأخوات، وبنات، وقريبات، هنّ الشريفات.

العودة إلى المعاجم لتتبع مفهوم الشرف تكشف لنا عن أنه لم يكن مختصًّا بالمرأة، بل دلّ على الرجل ورفعة نسبه

وسرعان ما تبيّن لي أنّ مفهوم الشرف التصق في المجتمعات عمومًا، والشرقية على وجه التحديد بالمرأة وصونها لجسدها، واختزل إلى جزء صغير في جسدها، وهو غشاء البكارة وحفاظها على العذرية؛ أي اتصل الشرف لدى المرأة بجانب مادي بحت. بينما نأى الرجل بنفسه عن هذا المفهوم المادي، واختص الشرف لديه بما هو معنوي، ولم يختصر جسده في جزء منه، وحفاظه عليه كما الشأن عند المرأة؛ إلا أن العودة إلى المعاجم لتتبع هذا المفهوم تكشف لنا عن أنه لم يكن مختصًّا بالمرأة، بل دلّ على الرجل ورفعة نسبه، فالشرف هو الحسب بالآباء والشرف والمجد لا يكونان إلا بالآباء، والرجل الشريف والماجد الذي له آباء متقدمون في الشرف. والشرف العلو، ومشارف الأرض أعاليها. وانتقلت هذه الدلالة المادية المكانية، لتدل على المكانة المعنوية، فالأشخاص ذوو المكانة المرموقة الذين لهم المجد والقدر والرفعة والعلو، كانوا يجلسون في أماكن مرتفعة يطلون منها على من وما حولهم. ومما يؤكد الدلالة المعنوية للشرف وصف المصحف بالشريف وهو كلام الله، ووصف الحديث النبوي بالشريف.

ومن الواضح أن معنى الشرف هنا، لا يحيل على المرأة، ولا يشير إلى معنى الشرف الحالي لديها من قريب أو بعيد. والحال هذه، فإن المعاجم لم تفرق في مفهوم الشرف بين المرأة والرجل، بل خصت الرجل أكثر من المرأة به، ولم يرد ذكرها في لسان العرب، وأشار قاموس المعاني إشارة سريعة وهي محدثة غالبًا بقوله: شرف المرأة عفتها وحصانتها. إن هذه الإشارة التي ربطت بين شرف المرأة وعفتها وحصانتها، تدفعنا للظن بالخلط الحاصل بين مفهوم الشرف، ومفهوم العفة، وإذا كان مفهوم الشرف مرتبطًا بالرفعة والسمو، ويختص بالرجل، ثم التصق بالمرأة، فإن مفهوم العفة يحيل على الرجل والمرأة بالقدر نفسه، والمعنى ذاته. ولعله من المفيد، أن نتتبع مفهوم العفة أيضًا لنرى كيف كان، وما آل إليه، وكيف تلاشى ليظهر مكانه مفهوم شرف المرأة.

جاء في لسان العرب عن العفة بأنها: الكف عما لا يحل ويجمل. عفّ عن المحارم والأطماع الدنية، فهو عفيف وعفّ. الاستعفاف: طلب العفاف، وهو الكف عن الحرام، والعفيفة من النساء السيدة الخيّرة. وامرأة عفيفة: عفة الفرج، ورجل عفيف؛ أي عفّ عن المسألة. وورد لفظ "العفة" في القرآن الكريم في أربع آيات كريمات، على النحو الآتي: قوله تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾، (البقرة: 273). وقوله تعالى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾، (النساء: 6). والمعنى الأول للعفة الذي قدمته الآيتان السابقتان هو: العفة بمعنى التعفف والترفع عما ليس في ملك الإنسان من أموال الغير. إنها نوع من العفة المالية التي تجعل الإنسان لا يحرص على أكل الحلال فحسب، بل ترتقي به إلى مستوى عدم إهدار كرامته في سؤال الناس أيضًا.

أما في قوله تعالى: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾، (النور: 33). وقوله أيضًا: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، (النور: 60). فإننا نجد المعنى الثاني للعفة، وهو: العفة بمعنى التسامي بالغرائز والرغبات الفطرية، فوق الزنى، وفوق كل ما لا يحل للمؤمن ولا يجمل به الوقوع فيه، سواء في ذلك الفاحشة ذاتها، أو ما يؤدي إليها من أسباب ومثيرات. وغير خاف على أحد أن القرآن الكريم لم يختص بخطابه النساء من دون الرجال، أو الرجال من دون النساء؛ فكلاهما مطالب بالعفة والتعفف إلى أن يغنيه الله من فضله.

وقد شدّد القرآن الكريم على ضرورة حفظ الفرج، وجاء الخطاب موجها للذكور أكثر مما هو موجه للإناث، فقد تكرر قوله تعالى: ﴿والذين هم لفروجهم حافظون﴾ في (المؤمنون: 5، والمعارج: 29)، وكذلك قوله: ﴿والحافظين فروجهم والحافظات﴾ في (الأحزاب: 35). وفي قوله: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾، (النور: 30). ومن الواضح أن أربع آيات تتحدث عن الحافظين فروجهم، بينما جاءت آية واحدة تخص الحافظات معطوفة على الحافظين فروجهم، فقد قدمّ الله تعالى الحافظين على الحافظات، وهذا التقديم له دلالته، وأن الرجل مطالب بالحفاظ على فرجه أكثر من المرأة، وغياب العائق المادي المتمثل في غشاء البكارة عند المرأة، لا يعني أن يفعل الرجل ما يحلو له؛ لغياب ما يفقده في حال لم يحفظ فرجه، كما ساد في الأعراف الاجتماعية التي ترى أن الرجل لا يعيبه شيء، بينما المرأة كل شيء يعيبها.

الرجل مطالب بالحفاظ على فرجه أكثر من المرأة، وغياب العائق المادي المتمثل في غشاء البكارة، لا يعني أن يفعل ما يحلو له

تقلص مفهوم العفة وحفظ الفرج إلى الحدود الدنيا التي لا نراها إلا في النصوص الدينية، ولم نعد نلمح لهما حضورًا فاعلًا في المجتمعات التقليدية أو الحديثة، وحلّ مكانهما شرف المرأة بمعنى العفة وحفظ الفرج، وحتى كلمة فرج التي دلّت على الرجل والمرأة في آن، كما لاحظنا في الآيات القرآنية التي لم تميز بين فرج الرجل وفرج المرأة، تحوّل معناها، واقتصر في الدلالة على عضو المرأة، بينما حلّ القضيب أو الذكر للدلالة على عضو الرجل، وذلك يدخل أيضًا ضمن التحيزات ضد المرأة، فصار القضيب رمزًا للفحولة، وصار الفرج مكانًا يلجه القضيب، وتابعًا لصاحب القضيب، وضرورة الحفاظ عليه والذود عنه، ونصّب الرجل نفسه حاميًا للحمى، وأن مهمة الحفاظ على شرف المرأة منوطة به، ونسي الحفاظ على شرفه هو معتقدًا أن شرفه مرتبط بالمرأة التي يملكها، فهو حينما يصون شرفها يكون شرفه في مأمن مهما فعل هو، سواء أحفظ فرجه أم لم يحفظه، وكان عفيفا أم لم يكن كذلك. فالرجل الشريف هو الذي يصون ممتلكاته من زوجة أو أم أو أخت أو ابنة، ولا يسمح لأحد أن يقترب منهن، والمرأة الشريفة هي التي تحافظ على نفسها من أجل الرجل الذي يملكها، لأنها إن فرّطت في عفتها، وأباحت فرجها، فستجلب العار لمالكها، وتعرّض شرفه للتلوث، ونفسها للعقاب. أما الرجل الذي لا يستعفف، ولا يحفظ فرجه، فلن يؤثّر على المرأة التي تحت وصايته، ولن يجلب العار لها، ولن يلوّث شرفها، كما أنه من الطبيعي أن لا يحاسب التابع المتبوع، أو المملوك المالك. وأكدت المعنى الذي ذهبنا إليه مها حسن في حديثها عن الدور المنوط بالمرأة، وحفاظها على الشرف من دون الرجل، وأن الرجل حينما يوسم بقلة الشرف، فإن هذا الأمر له علاقة بسلوك نساء العائلة، إذ يعدّ المسؤول عن سمعتهن وحسن سلوكهن؛ أي شرفهن، وبمعنى آخر، فإن شرف الرجل مرتبط بشرف التي تحمل وحدها هذا الشرف، وتقع على عاتقها مسؤولية الحفاظ عليه، وتكليفها بهذه المهمة لا يأتي بالمعنى الإيجابي للكلمة، بوصف المرأة حاملة للشرف، بل بالمعنى السلبي، حيث تحاسب على الإخلال بالشرف والإساءة إليه[1].


[1]- حسن، مها: شرف المرأة وعود الكبريت، -حزيران-2008، مقال منشور، جريدة الأوان، ص14، 18، ومجموع مع عدة مقالات ضمن كتاب (تابو البكارة) الذي جمعه فريق عمل جريدة الأوان على موقعها الرسمي.