ندوة حوارية : سوريا الحاضر والمستقبل: بين الآلام والآمال
فئة : حوارات
ندوة حوارية بعنوان:
سوريا الحاضر والمستقبل: بين الآلام والآمال
المشاركون في الندوة:
د. أحمد برقاوي د. رضوان السيد
د. رضوان السيد د. عبد الله السيد ولد أباه
د. عفراء جلبي د. محمد حبش
أ. محمد العاني د. ميادة كيالي
د. نجيب عوض
"إن بناء سوريا المستقبل لا يبدأ، فقط، بإعادة إعمار المباني والبنية التحتية، بل يبدأ، أيضًا، بإعادة بناء الوعي وتأسيس قيم جديدة للعدالة والمساواة واحترام الحقوق".
إدارة الحوار: د. حسام الدين درويش
الإشراف على التنظيم: د. ميادة كيالي
د. حسام الدين درويش:
مساء الخير للجميع، نلتقي اليوم في ندوة استثنائية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. لقد تم التفكير فيها وتنظيمها والتواصل مع المساهمين فيها في وقت وجيز، نظرًا إلى فرادة الحدث واستثنائيته. وكما هو معلوم، فإن الندوات عادة لا تضم أكثر من ثلاثة أو أربعة متداخلين، غير أن هذه الندوة غنية بحضورٍ أكثر عددًا وقيمةً. فلهُم منا جزيل الشكر والامتنان. كما نتقدّم بالشكر الخاص إلى الدكتورة ميادة التي كانت صاحبة الفكرة منذ البداية. والآن، أمنح الكلمة للدكتورة ميادة، وهي باحثة وكاتبة سورية حاصلة على شهادة الدكتوراه في الحضارات القديمة، وتشغل حاليًا منصب مديرة مؤسسة سراج، والمديرة العامة لمؤسسة "مؤمنون بلا حدود".
د. ميادة كيالي:
السيدات والسادة الحضور؛ أودّ أن أرحّب بكم جميعًا في هذه الندوة التي تُعقد في مرحلة مفصلية من تاريخ سوريا، حيث نشهد انتهاء حقبة مظلمة من حكم الطغاة. نحن اليوم، نعيش حاضرًا مثقلاً بالأوجاع، لكننا نتطلع إلى مستقبل طالما يئسنا من إمكانية الوصول إليه. ومع ذلك، يبقى الأمل قائمًا بأننا قادرون على بناء سوريا التي نحلم بها جميعاً.
في البداية، لابد أن أتوجه بجزيل الشكر إلى كل من لبّى دعوتنا اليوم، وبالأخص الأساتذة المشاركين معنا، وإلى السيدة عفراء الجلبي، تقديرًا لوقتهم وجهودهم في هذه اللحظة الفارقة من تاريخ سوريا. كما أشكر رفيق الدرب السيد محمد العاني، مدير منصة مؤمنون بلا حدود، والصديق الدكتور حسام الدين درويش مدير الحوارات في المؤسسة نفسها، على مساهمتهما الكبيرة في الدعوة إلى هذه الندوة التي نأمل أن تسهم في تسليط الضوء على قضايا جوهرية تتعلق بمستقبل سوريا.
نحن في مؤسسة مؤمنون بلا حدود، لا نقدم أنفسنا كدار نشرٍ ومنصة فكرية تديرها كفاءات عالية فحسب، بل نمثل رؤية نؤمن بها ونحملها في كل ما نقوم به؛ إذ تقوم رؤيتنا على الإيمان بقوة الفكر والمعرفة في بناء المجتمعات، وتحرير العقول، ومواجهة الاستبداد، أيًّا كان شكله أو مصدره. نحن نؤمن بأن دورنا اليوم يتجاوز نشر الأبحاث والدراسات، إلى لعب دورٍ حقيقي في دعم الحوارات والنقاشات الجادة التي تفتح آفاقًا جديدة للأمل في سوريا والمنطقة العربية.
وتقف سوريا اليوم أمام لحظة فارقة تجمع بين (الألم) الناتج عن سنوات طويلة من الاستبداد والقهر، وبين "الأمل" الذي تولده الطموحات في بناء مستقبل جديد. وأمام هذا المشهد، نعتقد أن المسؤولية الفكرية هي أولى خطوات التغيير؛ لأن بناء سوريا المستقبل لا يبدأ بإعادة إعمار المباني والبنية التحتية فحسب، بل يبدأ أيضًا بإعادة بناء الوعي وتأسيس قيمٍ جديدةٍ للعدالة، والمساواة، واحترام الحقوق. واسمحوا لي اليوم، أن أحدثكم كسورية تلقت في حياتها صفعتين في سن الثالثة عشر؛ صفعة من سيدة تمثل سلطة عسكرية، وأخرى من سيدة تمثل سلطة دينية. وقد جسدت لي هاتان الصفعتان، منذ الصغر، ما يمكن أن تفعله السلطة، عندما تصبح أداة للقهر بدلاً من خدمة الناس. ونحن اليوم في وقت حرج من تاريخ سوريا، أرى أن أمامنا فرصة لبناء سلطة جديدة - سلطة القانون والحقوق؛ سلطة تتيح لكل فرد أن يستعيد حقّه دون خوف، سواء كان المعتدي من يدعي تمثيل الدين أو من يحمل السلاح باسم الدولة. وهذا هو التحدي الحقيقي الذي يجب أن نتأمله ونناقشه من هذا المنبر.
الصفعة الأولى: كانت من مدرستي في دمشق، في ثانوية "زكي الأرسوزي"، وكنت حينها في الصف الثامن الإعدادي، حيث خُصِّصت شعبة للمتفوقات من مدارس أخرى، جُمعن فيها لتكون المدرسة في أولى لوائح المدارس المتميزة. كنا نعيش في ذاك الوقت حالة الحماس القومي والعربي الكبير، ونرى أنّ التزامنا ونجاحنا جزءٌ من قيم النضال. كما كنا نتدرب على حمل السلاح في مادة التربية العسكرية التي كانت مادة مقررة بمرتبة اللغة العربية. كانت مدربتنا في التربية العسكرية، حينذاك، سيدة دمشقية تؤمن بالكفاح من أجل أهداف سامية، مثلها مثل كلّ السوريين الشرفاء. وحدث أن غابت مدربتنا الأساسية، فحلت محلها مدربة بديلة. وفي أول يوم لها، ارتكبت الطالبة التي قدمت التحية العسكرية لها خطأً تسبّب في ضحكنا جميعًا. عندها صرخت فينا المدربة: انتبهي، ثم انهالت على وجهي بصفعة بيدها المكتنزة؛ لأنني كنت أقرب طالبة إلى يدها. كانت تلك الصفعة الأولى التي شعرت فيها بقهر السلطة، عندما تتحول إلى وسيلة للعقاب التعسفي، غير أن مديرة المدرسة، وكانت سيدة حزبية من المناضلات، لم تقبل بما حصل، فطردت المدربة على الفور. الصفعة الثانية: كانت في العام نفسه، حين زرت مع صديقاتي مسجد "الكويتي" في حيّنا، وهو تحفة معمارية جميلة، تبرّع به أحد المحسنين الكويتيين عبد الله عثمان، ليكون مسجدًا ومجمعاً طبّيًّا. أبهرنا الجامع، وبعد الصلاة، أخذنا نتأمل في جمال السجاد والزخارف، وسادت بيننا فرحة بريئة، ونحن وحدنا في قسم النساء. لكن فجأة، اقتربت منّا السيدة المسؤولة عن هذا القسم، واختارتني لتصفعني بقسوة، متهمة جلستنا وسعادتنا بقلة الاحترام. تلك الصفعة الثانية، جعلتني أبتعد عن زيارة أيّ مسجد، لسنوات طويلة، بسبب الشعور بالقهر الذي حملته معي. ولم يحاسبها أحد؛ لأنها تمثل سلطة الله على الأرض.
هاتان الصفعتان شكّلتا وعيي المبكر بفكرة السلطة القمعية. وكانتا رمزيتين لمعنى السلطة، حين تُمارس بعيدًا عن القيم الإنسانية والقانون؛ إحداهما باسم الدولة والقوة، والأخرى باسم الدين والقيم. ولأنني باحثة في التاريخ، اسمحوا لي أن أستعين بذاكرة أقدم من ذاكرتي الشخصية؛ ذاكرة أساطير سوريا القديمة، لأربط بين هذه التجارب الشخصية وتاريخ بلادنا الذي يحمل عبرًا عميقة:
1- أسطورة بعل وإله البحر يام: في الأساطير الكنعانية، قاتل بعل، إله العاصفة، إله البحر يام، الذي يمثل الفوضى والخراب، ليعيد الاستقرار والنظام إلى الأرض. سوريا اليوم تخوض معركة مشابهة ضد قوى الفوضى والدمار التي أنهكتها لعقود. "كما قال النص القديم: "إن بعل سيهزم يام ويثبت الأرض، ويعيد الحق إلى مساره." هذه هي رسالتنا اليوم؛ أن نثبت سوريا على أسس الحق والقانون، بعيدًا عن الاستبداد والفوضى والقهر."
2- نزول عشتار إلى العالم السفلي: عشتار، إلهة الحب والخصوبة، نزلت إلى العالم السفلي وواجهت الموت، لكنها عادت لتجلب الحياة من جديد. وتمثل هذه الرحلة سوريا اليوم، التي تغوص في أعماق الألم، لكنها تحمل في داخلها بذور النهوض. "كما في النص الأسطوري: 'عشتار تعود محملة بخصب الأرض والسماء.' أؤمن بأن سوريا ستعود يومًا، محملة بالعدالة والكرامة."
3- تموز والتضحية من أجل الحياة: تموز الذي قُتل ليضمن استمرار الحياة، هو رمز التضحيات التي قدمها السوريون خلال سنوات الثورة. "إن دماء تموز في أساطيرنا القديمة ليست مجرد حكاية، بل دعوة إلى فهم معنى التضحية والعمل على ترجمة هذه التضحيات إلى مستقبل أفضل."
السيدات والسادة؛ نحن اليوم أمام مسؤولية تاريخية: كيف نضمن ألّا تُمارَس السلطة في سوريا المستقبل كأداة للقمع، سواء باسم الدولة أو باسم الدين؟ وكيف نؤسّس لسلطة الحقوق والقانون التي تصون كرامة الإنسان السوري؟ إنني، كسورية، أحمل حلمًا كبيرًا بدولة مدنية تعترف بالتنوّع والتعدّدية بوصفهما مصدر قوّة لبنائها، دولة تحمي مواطنيها بقوانين عادلة وقضاء نزيه ومستقل، دولة تضع كرامة الإنسان فوق كل اعتبار. وأؤمن بأن المرأة، التي تحملت خلال سنوات الصراع والاستبداد أعباءً لا تقل عن أعباء الرجل، يجب أن تكون حاضرة بقوّة في كل مراحل بناء المستقبل. فالمرأة السورية التي عانت القهر والظلم، ودفنت أبناءها وأزواجها وإخوتها، وأكملت الطريق مع أطفالها، وحملت على جسدها آثار الاستبداد، وتعرّضت للاغتصاب، وواجهت البحار والمخاطر لتصل إلى دول اللجوء، ونجت رغم كل ذلك، تمثّل أعظم شهادة على قوّة الإرادة. إنني أرفض بشدّة كل محاولات التنظير التي تُقلّل من إمكانيات المرأة ودورها، وأؤكّد بثقة أنّ هذه المرأة، التي نهضت من بين الرماد مرارًا وتكرارًا، هي اليوم، ومعها كل السوريين الذين نعوّل عليهم، قادرة على المساهمة في صناعة مستقبل سوريا الواعد. شكرًا لكم.
د. حسام الدين درويش:
جزيل الشكر على هذه الكلمة المؤثرة، وأعطي الكلمة للدكتور أحمد برقاوي، الفيلسوف الفلسطيني - السوري أو السوري- الفلسطيني، وهو الآن عميد "بيت الفلسفة" في الفجيرة بالإمارات العربية المتحدة.
د. أحمد برقاوي:
ما نشهده اليوم هو زوال الأسدية، وهي ظاهرة تكاد تكون استثنائية في تاريخ بلاد الشام. فالأسدية تجسّدت في قيام سلطة تمتلك دولة. لقد كنّا أمام ظاهرة "دولة السلطة"، ولم نكن نعيش "سلطة الدولة". إن دولة السلطة هي شكل من أشكال التدمير الكلّي لفكرة الدولة عبر تدمير مؤسساتها؛ بينما الدولة، بطبيعتها، تنطوي على مؤسسات تُعنى بتسيير شؤون المواطنين في مختلف مجالات حياتهم، وهذه هي سلطة الدولة. أما دولة السلطة، فهي على العكس تمامًا، تقوم على تدمير فكرة المؤسسة ذاتها، وتدمير المؤسسة يعني تدمير الحق، وتدمير فكرة المواطن.
وإذا نظرنا إلى دولة السلطة هذه من زاوية قانون الطوارئ، ومن زاوية الموافقات الأمنية الضرورية التي قد تصل إلى خمسمئة موافقة أو أكثر، أدركنا أن الحياة غدت مستحيلة. فبهذا التدمير، تحولت الحياة إلى حالة غريبة وطويلة من الكبت الشعوري. وإذا كان فرويد قد تحدث عن "المكبوت اللاشعوري" لفهم الشخصية، فإن السوري عاش مرحلة طويلة من "الكبت الشعوري" الناتج عن الخوف، والذي ولّد حقلاً عميقًا من الأحقاد، ومن ما يمكن أن نسميه "الكذب"؛ ذلك أن الكبت الشعوري، بما هو خوف، ولّد أيضًا "الظاهر الزائف للكائن"؛ إذ إن الخوف لا يسمح بإخراج هذا المكبوت، فنشأ داخل الذات نوع من التراكم القهري.
وفي الوقت نفسه، قضت دولة السلطة على كل الممكنات القابلة للتحقق من أجل التحرر من هذه الحال، فعشنا أيضًا "موت الممكنات". وهكذا صار المجتمع حقلاً لجثث الممكنات؛ أي المستنقع السوري الكبير. وقد اعتقدت دولة السلطة أن هذا "الاستنقاع" هو الاستقرار، ورأت فيه استقرارًا، دون أن تدرك أن هذا الاستنقاع يخفي في داخله قوة تدميرية، إذا ما انفجرت أخرجت كل ما يختزنه المجتمع.
الخوف المتبادل هنا كان خوفًا حقيقيًّا؛ فلكي تتجاوز دولة السلطة خوفها، قررت أن تخيف المجتمع. فصارت لدينا سلطة خائفة من المجتمع، ومجتمع خائف من السلطة. هذه العلاقة المعقدة بين خوفين أنتجت أمرين: "السيّد العبد"، و"العبد الواعي لعبوديته بوصفه سيّدًا". فمن هو السيّد العبد؟ إنه أداة السلطة المحدودة: سيدٌ على الآخر الذي تريد السلطة إخافته، لكنه في الوقت نفسه عبدٌ لها، بحكم كونه أداة بيدها. ومع ذلك، وبوصفها سلطة قهرية، مارس "العبد" سلطةً قهرية بدوره، فغابت الذات دائمًا، وغاب "الأنا" في هذا العالم. هذا الغياب ولّد حالة صعبة: تدمير القيم، ومن ثم نشوء ذهنية قائمة على تدمير القيم. إنها ذهنية تتعامل مع العالم بوصفه بلا قيم على الإطلاق. صحيح أن بقايا القيم المجتمعية بقيت بسيطة بين الناس، لكنها سرعان ما تحطمت، وصار كلّ لا معقول قابلًا للممارسة في عالم انهار فيه المعقول العقلي، والمعقول الواقعي معًا. لقد فجّرت هذه الحالة الغريبة المكبوت الشعوري عام 2011، لكن السلطة واجهتها بعنف خارق: خارق في القسوة، خارق في التدمير، خارق في القتل. ولا حاجة للتفصيل، فأنتم تعرفون السجون، وتدركون تاريخ هذا القمع الذي يعجز العقل عن تخيله.
والآن، ما الذي حصل؟ لقد أصبح لدينا "انتصار زائف". وما هو الانتصار الزائف؟ هو ذلك الانتصار الذي أدى إلى تدمير الوطن، وتدمير الرابطة الوطنية، وتدمير الإرادة الداخلية، بالإضافة إلى وجود إرادات أخرى قضت حتى على دولة السلطة، وقدرتها على إدارة ما تبقّى من هذا المجتمع. وبالتالي، لا يمكن إطلاقًا اعتبار هزيمة الحراك السلمي، الذي تحوّل في النهاية إلى حراك مسلّح، على أنها شكل من أشكال الانتصار على هذا الحراك. ومن هنا، صار لدينا نوعان من الهزيمة: هزيمة دولة السلطة، التي لم تعد قادرة على ممارسة سلطتها، وهزيمة الحراك الذي يسعى دائمًا إلى إمكانية الانتصار على هذه الهزيمة. الآن، تحقق هذا الانتصار على دولة السلطة، والتي زالت بطريقة كوميدية؛ لأن العقل لم يكن يتصوّر أن يحدث الانتصار بهذه السرعة، وبشكل يبدو غير معقول.
وهكذا وجدنا أنفسنا أمام مشكلة بالغة الأهمية: كيف يمكن الانتقال من دولة السلطة إلى سلطة الدولة؟ وللانتقال إلى سلطة الدولة، يجب أن تكون هناك دولة فعلًا؛ فالتاريخ المعاصر يوضح أن أيّ دولة إيديولوجية تكون محدودة الفاعلية واستبدادية بالضرورة، بل أقول لكم إن الدولة الإيديولوجية ليست دولة فعلًا؛ لأنها لا تنتج إلا وعيًا يجعل الآخرين جميعًا متشابهين. وبالتالي، الدولة الإيديولوجية هي دولة القضاء على الاختلاف، والاختلاف هو الواقع الحقيقي، لا سيما إذا كان التنوع طائفيًّا، دينيًّا، قوميًّا، سياسيًّا، وما إلى ذلك. وعليه، الدولة الإيديولوجية تقضي على السياسة، وعلى المجتمع السياسي، وعلى المجتمع المدني.
على أيّ حال، الأسدية، الآن، زالت، وروح الأسدية يجب أن تزول من وجهة نظري؛ لأنها تمثل دولة السلطة. والسؤال الذي نطرحه هو: كيف ننتقل إلى سلطة الدولة؟ لكي ننتقل إلى سلطة الدولة، يجب أن نؤسس الدولة؛ لأننا عشنا في عالم بلا دولة.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلاً دكتور، ببساطة، الخوف أو التخويف أو حتى الرعب هو الذي كان سائدًا. ومع ذلك، تظلّ إمكانيات المستقبل مفتوحة، والسؤال هو: كيف يمكننا الانتقال من هذه الحالة؟
د. أحمد برقاوي:
أقترح أن يكون هذا سؤالًا مهمًّا، لا سيما عندما تتنوع الإرادات وتختلف، وقد تصبح الممكنات نفسها ضحية لصراع الإرادات.
د. حسام الدين درويش:
سنناقش ذلك السؤال لاحقًا. والكلمة الآن للدكتور رضوان السيد، المفكر والأكاديمي اللبناني-السعودي المعروف، المتخصص في الدراسات الإسلامية والفكر السياسي، ويشغل حاليًّا منصب عميد الدراسات العليا في جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية بأبوظبي.
د. رضوان السيد:
قال لي رجل عاقل من الإمارات: الوضع في سوريا يختلف عن أيّ وضعٍ في أيّ مكان آخر من العالم، وقد كان كذلك وما يزال حتى زوال الأسد. عادةً، تبدأ الثورات عندما تفقد فئة من الشعب، أو معظم الشعب، ثقته بالسلطة أو الحاكم فيثورون. أما في سوريا، فالأمر مختلف: فالحاكم هو الذي فقد ثقته في شعبه. ولذلك، ليس لديه أيّ مشكلة في تهجير 10 أو 12 مليون شخص، وقتل نصف مليون، وبناء سجون لمئات الآلاف من السوريين؛ لأن الحاكم فقد ثقته في شعبه تمامًا. وفي الأسبوعين الأخيرين، تحققت ثلاثة أمور بطريقة عجائبية في سوريا.
الأمر الأول، سقوط حكم الأسد، وتبين أنه كان نظامًا ميتًا، مثل سليمان في القرآن، الذي كان جالسًا على كرسيه ومتكئًا على عصاه حتى أكلته الأرضة، وهو ميت ثلاثة أشهر، وهو ما يسميه القرآن "المنسأة". لقد تبين أن هذا الحكم كان حكمًا ميتًا بدليل سقوطه من دون مقاومة. إذن، الأمر الأول هو إسقاط حكم الأسد بعد 13-14 سنة من الدم، وسقوطه من دون دماء.
الأمر الثاني، أن 10-12 مليون سوري لديهم رغبة في العودة، فمن يستطيع أن يعود؟
الأمر الثالث، انكشف هذا العذاب الهائل وهذه السجون أمام الشعب السوري، واتضح أن هذا نظام فظيع لا يكاد العقل يتصوره. لم يستطع الليبيون أن يذكروا حاكمهم المجنون معمر القذافي إلا بقصة سجن "أبو سليم"، حيث مات حوالي 2000-3000 شخص، وهناك من يقول 600 فقط. لكن لا أحد يستطيع إحصاء ضحايا حافظ الأسد وبشار الأسد.
الأمر المحزن، أو الأسى الشفيق كما يقول بدر شاكر السياب، هو أنه قبل وفاة صديقي ميشيل كيلو بأسبوع واحد، وقد كان مريضًا جدًّا، وتأكد أنه سيموت، ترك لي كتابًا لأضع له مقدمة، وقمنا بطباعته له. قال لي: "كان عندي أمل وحيد أن أستطيع العودة لزيارة دوما. زرتها في 2011، وكانوا يقولون لي: أهل دوما كلهم سلفيون وإخوان ومتشددون، كيفما كانوا. لكني كنت أعرف أنني خرجت كي أحيّيهم على تظاهراتهم، فوجدتهم واثقين بانتصارهم. أنا أموت وأنا واثق أن الشعب السوري سينتصر، ولكن يبدو أننا بحاجة بعد إلى دماء كثيرة لهذا الانتصار." رحمه الله.
أظن أنه مثله مثل مئات الآلاف الذين ماتوا دون أن تُسجل أسماؤهم. على كلّ حال، نحن نعرف اسمًا واحدًا؛ فالذي حدث أمر مدهش ومفرح جدًّا. حزني الذي أتحدث عنه ليس موت ميشيل كيلو فقط، بل أيضًا موت مئات الآلاف من السوريين. إن هؤلاء السلميين الذين ماتوا ليسوا هم من أسقطوا الأسد، فتخيلوا، يبدو أن نظامًا كهذا لا يسقطه إلا أناس كهؤلاء.
تذكرت أن الأمريكيين، عندما أرادوا محاربة داعش في سوريا، لم يجدوا إلا تنظيمًا إرهابيًّا يمتلك قوة عسكرية، وهو حزب العمال الكردستاني، الذي استعانوا به. فالذين دبّروا إسقاط حكم الأسد، وجدوا أن الأكفأ لإسقاط هذا النوع من السلطة هم هؤلاء؛ أي هيئة تحرير الشام. وهذا أمر يحزن بشدة، لأننا نتحدث عن حقوق الشعب السوري العربي، هذا الشعب الذي لم تبقَ فئة منه إلا وقدمت مئات الآلاف من الضحايا؛ فمن يقول نصف مليون، ومن يقول أكثر. هؤلاء الذين يطالبون بحقوقهم الطبيعية ستظل الحسرة ترافقهم؛ هؤلاء أبناؤهم، لكنهم ينتمون إلى فئات أخرى، فئات تثير الكثير من القلق والاضطراب.
مع ذلك، أنا متفائل بالأمور الثلاثة التي تحققت، وهي أمور عظيمة وغير دموية: ذهاب السجون والعذاب، وعودة المهجّرين الراغبين في العودة، واختفاء الأسد وسلالته. لذلك، بطريقة عجائبية أو نضالية، ما لم يتحقق منذ عام 2011- وهي الثورة المدنية والدولة المدنية- إن شاء الله سيتحقق الآن بهمة الشعب السوري. أنتم دمشق وحلب إلى جانب الموصل؛ أقدم ثلاث مدن في العالم ما تزال مأهولة بالسكان، ولم تخرب كما خُرّبت باقي مدن بلاد الشام والعراق. وأنا معتمد على هذا المجتمع المدني، الذي يُعرف بالمجتمع السامي، وحتى على عكس أدونيس، حتى أولئك الذين خرجوا إلى المساجد أو دخلوا منها ومن دون سلاح. هذه الرمزيّات الآن لا ينبغي أن نستغربها في سوريا، أنا لست خائفًا من الرمزيّات، وأنا واثق تمام الثقة بالمجتمع السوري وبالمجتمع الشامي العظيم، على أنه سيعمل على إقامة دولة مدنية تكون نموذجًا لنا أيضًا في لبنان. شكرًا.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلاً، د. رضوان. أنت تعلم الآن أن قلوب السوريين هشة، وهي بحاجة إلى سماع أشياء إيجابية تصدقها، خاصة إذا صدرت منك، فهذا يمنح الأمل. فقط إشارة سريعة: ربما لا يدرك كثيرون مدى استثنائية الوضع الذي كان في سوريا، والذي كان استثنائيًّا إلى درجة أن كثيرين كادوا أو فقدوا بالفعل الأمل؛ فمنهم من مات وهو فاقد للأمل، ومنهم من شهد هذه اللحظة.
المسألة الأخرى هي مسألة السلمية والتسلح. صحيح أن هذا النظام سقط في النهاية، ولم يكن بالإمكان أن يسقط إلا عن طريق السلاح، لكن هذا لم يحدث إلا بعد نضال سلمي طويل، ولم يكن بالإمكان أن يحدث العمل المسلح أصلاً لولا هذا النضال السلمي. في عام 2011، كان النظام أقوى بكثير مما أصبح عليه في 2023-2024، وسنعود إلى هذه المسألة لاحقًا.
أعطي الآن الكلمة للدكتور نجيب جورج عوض، وهو أكاديمي سوري أمريكي بارز يحمل درجتيْ دكتوراه في الفلسفة واللاهوت، ويعمل حاليًّا أستاذًا وباحثًا مشاركًا في المركز الدولي للاهوت المقارن والقضايا الاجتماعية بجامعة بون في ألمانيا. دكتور نجيب، تفضل.
د. نجيب جورج عوض:
شكرًا د. حسام، حتى لا أطيل، سأركز مباشرة على مداخلتي. أنا أراقب، مثلكم، ما يجري في سوريا، وبصفتي شخصًا وقف مع الثورة منذ اللحظة الأولى. بلا شك، رحيل نظام الأسد هو لحظة تاريخية مهمة جدًّا، ستظل محفورة في ذاكرتنا ووجداننا وعقولنا إلى الأبد. وأقول رحيلًا، وليس سقوطًا؛ لأن هذا النظام، حسب اعتقادي، من أتى بحافظ الأسد، هو من أمر بخروج بشار الأسد من سوريا. ومراقبتي للأحداث في سوريا حاليًّا تعنيني من زاوية الثورة، وأين هي الثورة في سوريا اليوم؟ أعتقد أن الثورة لم تنتصر بعد، وأنا خائف جدًّا من احتمال هزيمتها؛ فهي لم تنهزم بعد، لكنها أيضًا لم تنتصر. وأرى أن هناك معطيين أساسيين على الأرض في هذا السياق:
-المعطى الأول: غياب السياسة في المشهد السوري؛ إذ لا توجد سياسة فعلية حاليًّا، وهذا أمر تاريخي؛ لأن الأسد الأب والابن على مدى خمسين سنة قتلا السياسة في سوريا: قتلاها فكريًّا ومفهوميًّا وممارسةً. لذلك، لدينا أربعة أجيال من السوريين نشأوا في عهد الأسد، وأنا واحد منهم، ولم نتمكّن من فهم السياسة، ولم تتح لنا ممارسة السياسة، ولم نطور فكرنا السياسي. لهذا، لا أستغرب أن السوريين، اليوم، إما غارقون في نوع من النشوة المفرطة، أو يسمعون صوتًا واحدًا فقط، هو صوت فوق سياسي، إذا لم نقل تحت سياسي. للأسف، لا توجد سياسة في المشهد السوري حسب رأيي المتواضع.
-المعطى الثاني: غياب الحرية الحقيقية في سوريا. سوريا تحررت بمعنى "libération"، لكنها لم تعش الحرية بمعنى "Freedom". هناك فرق كبير بين التحرر والحرية: فقد تحررت سوريا من نظام أسود وعهد مجرم وبربري، لكن السوريين لم يعرفوا بعد معنى الحرية. وهم بحاجة إلى وقت لتعلم مفهوم الحرية، وأحد وجوهها، كما تعلمون، هو التعدد والتنوع والاختلاف. للأسف، نحن في سوريا قضينا خمسين سنة تحت صوت واحد، طرح واحد، رؤية واحدة، وإيديولوجيا واحدة. واليوم، يجب أن يكون هناك في سوريا تعدد، تنوع، واختلاف. ويجب أن تكون هناك أصوات متعددة في الساحة، وإلا سنعيد إنتاج نظام أحادي. وهذه المرة، هذا النظام الأحادي هو صوت دوغمائي إيديولوجي، فوق الدولة وفوق المدني. ولهذا، تواجهنا اليوم مشكلة حقيقية: كيف نتيح للشعب السوري، وللأجيال القادمة، أن تطور فهمها للحرية، وأن تدرك معنى ممارسة الحرية في عمق الاختلاف؟
على ضوء هذين العاملين، أعتقد أن الثورة السورية لم تنتصر بعد، وإذا لم يتحقق هذان العاملان، فستُهزم الثورة هزيمة نكراء. نحن السوريون، ومن يتابع المشهد السوري ويحلله علميًّا، يعلم تمامًا، كما أعلم بتواضع، وأعرف سوريين آخرين قاموا بذلك- أن جبهة النصرة لم تكن الثورة نفسها، بل كانت ضد الثورة السورية؛ فكريًّا وأيديولوجيًّا وممارسة، فوقفت ضد المدنيين الذين دعوا إلى دولة ديمقراطية حرة، قائمة على حقوق الإنسان، والعدالة، وسيادة القانون.
نعلم، أيضًا، أن هناك مراحل شهدت حروبًا بين جبهة النصرة وكتائب أخرى، بما فيها كتائب الجيش الحر، وأن جبهة النصرة أيديولوجيًّا ترى بعض أطياف "إسلام الشام" التقليدي كفارًا. كل هذا معروف. ولذلك لا تمثِّل جبهة النصرة انتصارًا للثورة على النظام. الثورة أمامها طريق طويل وشاق، فالأطراف التي جلبت جبهة النصرة إلى الحكم في سوريا هي دولية؛ الإسرائيليون، والأمريكيون، والأوروبيون يريدون هذا النموذج؛ لأنه يتوافق مع الاستشراق السياسي. أعرف هذا من تجربتي في الغرب، حيث كنت حاضرًا على مدى السنوات الماضية، ألقي محاضرات وألتقي صناع القرار الغربيين الذين كانوا يبحثون في الملف السوري.
علينا أن ندرك أن جبهة النصرة موجودة في سوريا تحت إدارة مباشرة من مندوب تركي جديد، لكن القرار الدولي هو الذي يحدد مصيرها؛ فمن جاء بها هو من يستطيع إخراجها أو إعادتها إلى الخارج. ولتتمكن المعارضة من أن يكون لها صوت آخر في المجتمع السوري، صوت ثانٍ، لا بد من إيجاد طريقة للتواصل مع صاحب القرار الدولي الذي أتى بجبهة النصرة، لكي تدخل وتأخذ الحكم بسلاسة، في مسرحية هزلية مضحكة، تدغدغ فقط نشوة وعواطف الشعب الذي كان مخنوقًا فتنفّس. شكرًا.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلًا د. نجيب، دعني أقول وجهة نظري، التي أرى أنه من الضروري مناقشتها. ببساطة، هذه الرؤية تصوّر السوريين والسوريات كدمى تتحرك بأيدٍ خارجية، دون أي فاعلية للشعب أو للحراك أو حتى لنصرة القضية أو غيرها. أنتقل إلى الدكتورة عفراء الجلبي، شكرًا لحضورك دكتورة. هي كاتبة وأكاديمية كندية- سورية أو سورية - كندية، وأستاذة مساعدة في قسم الثقافات والأديان بجامعة كونكورديا في مونتريال.
د. عفراء الجلبي:
السلام عليكم وعليكن جميعًا، سلام الكرامة والاستقلال والتفاؤل.
أريد، أوّلًا، أن أبارك لأنفسنا كسوريين وسوريات، وأيضًا كعرب، بانتهاء عهد شمولي مرعب، والخروج من سجن صيدنايا الكبير الذي أصبح الآن رمزًا لحقبة كئيبة. وكم هو مشهد مؤثر أن نرى شباب وشابات غزّة، وهم يغنون ويحتفلون بسقوط الأسد، وهم الذين يعرفون تمامًا معنى القصف، والإبادة الجماعية. ما حدث في الثامن من كانون الثاني، أقرب إلى المعجزة، أن يعود الأطفال الصغار الذين هُجّروا، بعد قتل ذويهم، ووضعوا في الحافلات الخضر إلى محافظة إدلب، أن يعودوا بعد أن أصبحوا شبابًا كبارًا، ليحرّروا البلد لنا كلّها. إنه مشهد عجيب، ولا أظن أني أبالغ، إن قلت إنه مشهد أسطوري، وسيصبح جزءًا من ذاكرة السوريين المستقبلية. أشعر أني أعبّر عن الكثير من السوريين والسوريات، حين أقول ما زلنا في حالة دهشة، وحالة إعجاب واحترام تجاه ضبط النفس الهائل، وحقن الدماء والدمار الذي رأيناه في حملة ردع العدوان، والحرص على السلم الأهلي، وأيضًا ما زلنا في حالة بكاء، بل نحيب تجاه قضية المعتقلين وقوائم المفقودين الذين ما يزال أهاليهم يبحثون عنهم، وخروج المعلومات الجديدة عن القبور الجماعية. على الرغم من التحديات التي تواجهنا، والتي تطرق بعضكم إليها اليوم، أرغب في القول إننا نقف أمام مستحقات أخلاقية هائلة؛ أولا ندين بامتنان هائلٍ لهؤلاء الشباب الصغار الذين استعادوا بأدنى درجات الأذى والمواجهة، بعد قصفهم بالبراميل، ورشّهم بالكيماوي، وقتل ذويهم وتهجيرهم، ورغم ذلك دخلوا إلى بقية الأراضي السورية، وهم يقولون: عدالة، لا انتقام، ويطلقون سراح عناصر الجيش، وهم يقولون لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء، وحتى لو كانت هناك اختلافات فكرية معهم، فإن مستقبلًا حافلًا ينتظرنا في حواراتنا كسوريين. ولكن علينا أن نتحلّى بشيء من الهدوء حاليًّا، والحياء أيضا تجاه ظاهرة حدثت أمام أعيننا.
المهم ألا ننسى أن هؤلاء الشباب الصغار، مهما اختلفنا معهم، قد أخرجونا من حقبة رهيبة. ما تزال كلمات السوريات والسوريين غير قادرة على وصف وتوصيف ما مررنا به. علينا أن نتذكر أنهم قاموا بهذا، بطريقة أعادت كرامة السوريين. لم يكن الجيش الأمريكي الغازي الذي انتشل الطاغية من جحر، أو الجيش التركي الذي دخل زاحفًا، بل إن أولادنا وأحفادنا هم الذين عادوا وفتحوا السجن الكبير، وكل السجون في أرجاء سوريا، بعد أن كان العالم قد نسيهم، في محافظة إدلب.
ثانيًا، ما علينا التوقف عنده كثيرًا، هو المسؤولية الكبيرة التي نحملها الآن جميعًا، كما قالت د. ميادة، قبل قليل، نحملها على عاتقنا مع خروج الحقائق، والتي ما تزال مستمرة في انهيالها علينا ولم تنته. كثيرة هي القصص التي ستخرج عن السجون السورية، وعن معسكرات الاعتقال والتعذيب، والأساليب التي استخدمها النظام البائد في حق الشباب والشابات السوريات، وتصفية الكثير منهم بأبشع الطرائق، وبشكل يفاجئنا جميعًا. على فكرة رغيد ططري، ربما سمعتم عنه، يسمونه بعميد المعتقلين، هو ابن خالة أمي؛ أي ابن خالة جودت سعيد، خرج بعد 43 سنة من الاعتقال من دون محاكمة. كان عمر ابنه وائل سنة واحدة، أنا كنت في الصف الثالث الابتدائي، عندما اختفى. الآن، وائل عمره 42 سنة، وهاجر إلى كندا. كانت لحظات عصيبة جدًّا، ونحن ننتظر إمكانية خروجه. في كل عائلة سورية قصة، بل قصص، نحن ندين لكل معتقلي الرأي في سوريا، ولكل المفقودين، ولكل الذين صفيت أجسادهم؛ من خرج منهم حاليًّا، ومن رحل إلى السماء؛ هؤلاء الذين أعطوا حياتهم في سبيل الحق والعدالة، أن نتابع رحلتهم وتطلعاتهم، ونخرج من حقبة أوقف فيها الزمن، وأن نعود إلى التاريخ، أن نسترجع مكانتنا في التاريخ، بعد أن احتجز النظام السوريين والسوريات، ليس فقط في سجونها وسرقة مواردهم وبيوتهم فيزيائيًّا، وإنما أيضًا سجنهم في الأبدية الأسدية زمانيًّا، لقد تمّ السطو على المكان والزمان في سوريا الأسد.
ثالثًا، وهذه نقطة مهمة كثيرًا بالنسبة إليّ شخصيًّا أيضا. ندين لدماء الأبرياء في غزة، والذين غيروا مجرى الأحداث في المنطقة، حيث كانت دماؤهم سببًا في تحرير أعناق السوريين والسوريات من براثن ميلشيات الأسد وحزب الله وإيران. إن الدماء السورية والفلسطينية قد اجتمعت، وبشكل غير مباشر، استطاعت أن تقهر محور المقاومة والممانعة الذي أغرق المنطقة في صراع طائفي أكثر من 40 عامًا، وساهم أيضا في التوجه العنيف الإقصائي الشديد في المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين المتطرف، وساهم أيضا في دخول شبابنا في المنطقة في تطرف ديني، وكانت هذه كلها من دون أيّ مكاسب حقيقية للقضية الفلسطينية، بل استعملت القضية الفلسطينية تجارة لتهشيم روح الإباء في سكان المنطقة وشعوبها. ولهذا، ندين لكلّ هؤلاء المدنيين من سكان المنطقة بأن نبدأ بتحقيق سياسات تحقن الدماء، وأن نخرج من منظومة المقاومة والعنف لتحقيق مكاسبنا السياسية.
نحن الآن أمام مفترق الطرق، وعندنا فرصة تاريخية أخرى للدخول في واحة السياسة، حسب تشديد بعضكم، ولأن واحة السياسة حسب تعريف المفكرة الأمريكية الألمانية حنة أرندت مختلفة، فهي عرّفت السياسة بأنها تحييد السلاح، وأن السياسة هي ما يحدث عندما نخرج من صحراء العنف وعبثيتها، وندخل إلى واحة الحياة وحوار اللغة. طبعًا هي كانت متجاوزة بتعريفها الجديد، تعريفات السياسة الكلاسيكية القديمة؛ فهي أصرت أنه في هذا العصر النووي، علينا إعادة التفكير جذريًّا في مفهوم السياسة، وأن نقوم بابتكار تعريفاتنا الجديدة بعد أن أصبح العنف حاليًّا والسلاح يعني فناء الجنس البشري، وليس انتصار طرف على طرف آخر. نحن أحوج ما يكون في هذه اللحظات، كسوريين وسوريات، أن نعي كم أنهكتنا منظومة العنف والمقاومة والسلاح، ولم نستثمر في الإنسان والعلم والاقتصاد في منطقتنا كلّها، رغم وفرة الموارد البترولية والمعنوية والبشرية في عصر لم يعد يتقاتل فيه الكبار، ويستعملون الصغار لحسم نزاعاتهم ومصالحهم؛ فكما خرجنا من الاستبداد الآن، لدينا فرصة تاريخية للخروج من منظومة العنف، والتحرر من الإكراه والكراهية. لهذا، حسب تعريف أرندت، كنّا في جحيم الصحراء، ولم نعرف السياسة، أو كما جاء في تعبير أحد سجناء صيدنايا السابقين، حين قال: كنا في أصحاب السعير، نحن الآن ندخل في مساحة جديدة وفي مشكلات حقيقية، نحن الآن خرجنا من الجحيم، ونعود إلى الواحة السياسية حتى نبني عناصر ومقومات الحياة من جديد، ونستعيد الحياة الطبيعية. حين نعترف بقدرة البشر على تحريك اللغة كأداة لحلّ مشكلاتهم، وتحييد السلاح حتى نستعيد فعالية الحوار لحماية بعضنا البعض، وتوزيع مواردنا بطريقة تؤمّن العيش الكريم. إننا الآن، ندخل فعلًا في بداية إمكانية الحياة في الواحة السياسية. لقد قام الشباب بتحرير الأجساد، ونحتاج جميعًا أن نتعاون لتحرير مساحاتنا اللغوية التعددية، حتى نعيد تعبئة رصيد الكرامة الذي هدر، وإن أيّ فعل نقوم به حاليًّا لتبادل هذه التعددية في أجزاء احترام وودّ، ستبدأ بإعادة ملء رصيد جديد في خزانة الكرامة السورية. حتى العملة بدأت في الارتفاع كما تلاحظون.
كانت أرندت تقول إن الاستبداد يدمر مساحات ذات البين "the space in between"، حتى أكثر مما يدمر البنى والمباني والمدن والشوارع. لهذا، كانت تحذّر كثيرًا من تآكل المساحات ذات البين التي تصير عصية على التعافي، بعد أن تهشم. ولذلك، أحث أنفسنا، كسوريين وكسوريات وكعرب وكجيران من كل الخلفيات الأخرى، أن نعيد الإعمار ليس في شوارعنا وبيوتنا وأحيائنا فقط، وإنما أن نستثمر في هذه اللحظات، لحظات الولادة في تعافي مساحات الودّ والثقة بيننا، والتي ستكون من علامات انتصارنا أن نخرج فعلًا، أن نمسك أيادي بعضنا البعض من ثقافة الأذى اللفظي، المسخرة، وثقافة الأذى الجسدي، وثقافة الوشاية والتقارير الاستخباراتية، وأن ندخل إلى ثقافة التراحم والعدل، وأن نستعيد قدرتنا على الحوار الذي نحترمه بين بعضنا البعض، وأن نصير حريصين على حفظ كرامة بعضنا البعض، حتى لو اختلفنا في الآراء والوجهات. لن يكون الأمر سهلاً، أعرف، وخاصة في البداية، حيث يكاد شعاع الحرية الساطع أن يصيبنا بالعمى، وما تزال حدقات عيوننا الفكرية تتأقلم مع حجم النور الذي أصاب سوريا، ونحتاج إلى فتح عقولنا وقلوبنا، حتى نكون قادرين على تلقي هذه النعمة الكبيرة حاليًّا؛ المعجزة التي تلقت البحر أمامنا حتى وجدنا أنفسنا على الجهة الأخرى، على شاطئ الحرية والانعتاق. الحمد لله حمدًا كثيرًا، وحمدًا كبيرًا، وشكرًا.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلاً لك على هذه المداخلة الفلسفية والأخلاقية المميزة. الحرب، إذن، ليست امتدادًا للسياسة، والسياسة ليست امتدادًا للحرب، وإنما السياسة خروج من حالة الحرب.
د. عفراء الجلبي:
تمامًا، هكذا أعادت أرندت، وقالت هي ضرورة كبيرة في إعادة تعريف الفعل السياسي خارج مجازات وآليات الحرب والعنف سابقًا.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلاً. مساء الخير د. محمد حبش، وشكرًا لحضورك. د. محمد مفكر وباحث إسلامي سوري متخصص في الدراسات القرآنية وتجديد الخطاب الديني. حاليًّا هو أستاذ الفقه الإسلامي في جامعة أبو ظبي في الإمارات العربية المتحدة. دكتور محمد، تفضل.
د. محمد حبش:
السلام عليكم، في البداية أشكركم على هذه المبادرة الكريمة، وأعتقد أننا نعيش هذه الأيام، فعلًا أيام فرح يشارك فيها الجميع، بعد أن استيأسنا، وطال الأمد، وبدا أن هذه الثورة هي فقط ناجحة في المعيار الأخلاقي والقيمي، ولكن يبدو أنه لا رصيد لها في الواقع، ربما كنا ننتظر هذه المعجزة، كنا نبحث عن مكان يأوي أجداثنا في آخر العمر، لم نكن نحلم في الأيام الأخيرة أننا سنعود إلى بلادنا، وربما يكون ترابنا هناك؛ كنا نتمثل بكلمات الصمة القشيري:
وَأَذكُرُ أَيّــامَ الحِمــى ثُمَّ أَنثَنـــــي عَلى كَبدي مِن خَشيَةٍ أَن تَصَدَّعا
فَلَيسَت عَشيّاتِ الحِمـى بِرَواجِـعٍ عَلَيـكَ وَلَكِن خَـلِّ عَينَـيـكَ تَدمَــعا
بكت عيني اليمنى، فلما زجرتها عن الجهل بعد الحلـم أسبلتا معا
كـأنـا خلـقـنــا للنــوى وكـأنـمــا حـــرام على الأيــام أن تـتجمعــا
هكذا كنا نعيش فعلًا. قبل أسابيع قليلة، عندما انطلق الثوار قبل أسبوعين، ليخترقوا الحدود التقليدية ومنطقة خط التصعيد، وبدأوا بالدخول إلى حلب التاريخية، وبالتالي تبين تماماً أنه قرارٌ دولي. ونجح الثوار في تحقيق هذه الفتوحات المتتالية من دون إراقة الدماء. بالتأكيد، لو كانت الدماء تراق، ربما كان لنا موقف آخر من هذا الاشتباك. ولكن شاءت حكمة الله والتخطيط الصحيح أيضًا، أن تكون هذه المعركة بهذه الطريقة الجميلة التي فرح بها الجميع. أريد أن أقول إن النظام مارس الشيطنة، شيطنة هذه الثورة بشكل مرعب، وحدثنا دائمًا عن وجود مقرّ لتفريخ الإرهاب، وأنه يكفي لنشر الإرهاب في العالم. وكانت الصورة التقليدية التي يحملها الناس عن هؤلاء الإخوة في إدلب، هي ما زرعه النظام تمامًا، عندما كان يقول إنها مكبّ نفايات الإرهاب، كان يأخذهم بالحافلات الخضراء، ويقول إنها مكبّ نفايات الإرهاب، ماذا تتصور من أطفال أُخذوا صغارًا إلى هذه الأجواء، أخذوا صغارًا كأبناء إرهابيين، وتُركوا في هذه البلدة الصامدة. وفي النهاية، كتب الله لهم هذا الانتصار الكبير.
كان النظام يحدّث العالم ويحذّره بأن هؤلاء الوحوش قادمون؛ الإيغور، الشيشان، الخراسانيون، كل الألقاب القاعدة، النصرة، وأنهم قادمون لقطع الرؤوس وتعليقها على أبواب المدن، وارتكاب مجازر. وللأسف، كانت هذه الثورة توصف بأنها الإرهاب، وتصنف في الأمم المتحدة بأنها الإرهاب، فيما لم يصنف نظام الأسد بأنه نظام إرهابي، لم يصنف حزب الله بأنه حزب إرهابي، لم يصنف زينبيون وفاطميون الذين ارتكبوا أفظع المجازر انهم إرهابيون. الآن، بعد أسبوعين، دخلنا في الأسبوع الثاني من هذا الانتصار الكبير. في دمشق الآن، يوجد نائبان لرئيس الجمهورية، نائبان لبشار الأسد موجودان في بيتيهما، 28 وزيرًا موجودون في بيوتهم، رئيس الوزراء نفسه، موجود حتى في مجلس الوزراء، وهو يساعد في انتقال السلطة، 240 نائبًا من نواب مجلس الشعب موجودون، 14 محافظًا موجودون أيضًا، 14 أمين فرع كلهم موجودون في بيوتهم. هناك أسماء محددة تورطت في التعذيب، وتورطت في الدماء، وهي التي يبحثون عنها. من الوزراء، الذين اختاروا أن يهربوا من المشهد، هم وزير الدفاع، ووزير الداخلية. لكن أن يكون وزير الأوقاف أول الهاربين؛ فهذه أيضا مفارقة. أنا شخصيًّا أحب أن أضيء نقطة مهمة، وهي الخوف من الإسلاميين، ربما كان هذا الخوف مبررًا، ولكن في السياق التاريخي يجب أن نقرأ التاريخ بشكل صحيح.
لدينا سبع وخمسون دولة إسلامية، ينص الدستور في أربع وخمسين منها على مادة دين الدولة الإسلام، أو دين رئيس الدولة الإسلام، ولكن هذه المجتمعات كلّها، لم تخلق مجتمعات مغلقة، مجتمعات طالبانية، مجتمعات قاعدة؛ هناك فقط من السبع وخمسين دولة، دولتان؛ دولة ملالي، واحدة في إيران، وأخرى في أفغانستان. خمس وخمسون دولة موجودة تحت عنوان الشريعة، والشريعة مصدر رئيس للتشريع، ولكنها تعيش حياة عادية طبيعية، لا مشكلة في القوانين فيها. هنا في الإمارات، في قطر، في الكويت، في السعودية؛ العالم تغيّر، ربما لو قدمت هذه الإحصائية قبل عشرين عامًا، ربما كان من الأمانة أن أقول إن هناك سبعًا وخمسين دولة، ربما فيها ثلاثون دولة مدنية. اليوم تغير الواقع، الجميع يتحول إلى الدولة المدنية الحقيقية من دون تخلٍّ عن الشعار الإسلامي الذي يبدو دثارًا وشعارًا، وقراءة واقعية وحقيقية لشكل المجتمع. إنني أتمنى من أصدقائي ألّا يشعلوا في هذه اللحظات تلك المعارك الفارغة، وجود اسم لدين الدولة هذا موجود في 106 من دول العالم، 106 دول تنص على دين الدولة من أصل 194 دولة في الأمم المتحدة، أو تنص على معنى تفضيلي لدين على آخر. فأمام هذه الوقائع، لا أرى أن علينا أن نفتح الآن جبهات لهذا اللون من المعارك. إن اعتماد وجه ديني أو وجه إسلامي أو تحول إسلامي نحو القيم الإسلامية الصحيحة التي تحظى بالاعتدال، لا يعني على الإطلاق التحول إلى دولة ملالي. لقد حصل هذا الشيء فقط في دولتين من أصل 57 دولة في العالم الإسلامي.
أعتقد أن المرحلة ستكون امتدادًا للمسلم الغاضب الذي رأى أنه انتهكت حقوقه خلال 54 سنة من دون انقطاع، خلال 14 عامًا من التوحش. أعتقد أنه يحتاج إلى هذه الفرصة ليلتقط الأنفاس، إذا رأيتموهم يملؤون ساحات الجامعات بالصلاة، فيجب أن تعلموا أنه قبل شهرين كان المصلي في الجامعة تكتب فيه التقارير، ويحال إلى التحقيق، وكان الذي يصلّي جماعة يكمل صلاته في صيدنايا، كان هذا يحصل في سوريا. لذلك، من الطبيعي أن ننتظر مسار التاريخ، حتى يكتمل. أعتقد أن الفكرة تحتاج إلى مزيد من الإضاءة، وأتمنى أن تصل للأصدقاء، والسلام عليكم.
د. حسام الدين درويش:
جزيل الشكر. هذا الاستقطاب الذي بدا أحياناً يظهر بين العلماني والإسلامي، إلى أيّ حدّ هناك مشروعية لهذه المخاوف؟ وهل ينبغي لنا أن ننتظر أم نفعل شيئًا لتبديدها أو عدم تجنب تحقيقها؟ أعطي الكلمة للأستاذ محمد العاني، وهو باحث سوري متخصص في الدراسات الإسلامية، ويشغل حاليًّا منصب مدير منصة مؤمنون بلا حدود.
أ. محمد العاني:
شكرًا لجميع المتداخلين، وشكرًا لمداخلة الدكتور محمد حبش، حيث قرّبنا قليلاً من الواقع الذي يحدث الآن بالأرقام، ببعض المعلومات حول ما يحدث. سأبني مداخلتي على بعض المعلومات، وأيضًا على بعض التحليلات الصغيرة؛ لأنه إذا عرفنا ما حصل، وكيف حصلت هذه المفاجأة، يمكن أن نستوعب الوضع بشكل أكبر، والأيام القادمة، سوف تكشف الكثير من الأمور.
أتفق مع د. نجيب أنه كان ثمة قرار دولي في هذا الموضوع. واستسلام الأسد أو هروب الأسد، لم يحدث بشكل مفاجئ، يعني في 24 ساعة؛ لأنه في يوم 30 نوفمبر، زار الأسد موسكو، بحجة دكتوراه ابنه، وفي يوم 29 كان الثوار على مشارف حلب. أعتقد أنه في ذلك الوقت، أبلغته موسكو أنها لن تتدخل في المعركة، فتم رفع الغطاء عن بشار الأسد.
من جهة أخرى، هو يعلم أن الإيرانيين لن يستطيعوا التدخل من خلال حزب الله؛ لأن حزب الله تم إضعافه بشكل كبير، وغير قادر على الدخول في أي معركة. وأيضا من الجانب العراقي، العراق لا تستطيع دون إذن أمريكي أن ترسل أيّ قوات من حدودها، سواء ميلشيات إيرانية أو حتى ميلشيات عراقية شيعية. كان الخلاص الوحيد بالنسبة إلى الأسد هو روسيا. لكن يبدو أن هناك سيناريوهين، إما أن روسيا قبضت الثمن، مقابل الملف الأوكراني، أو كما يقال ويشاع بأن بايدن أراد أن يسحب ورقة الضغط والمساومة من يد ترامب، ولا يجعل كل الانتصارات له وللحزب الجمهوري. كان هناك تنسيق من خلال تركيا مع الروس برفع الغطاء عن بشار الأسد وترتيب خروجه، ولكن كانوا يعتقدون أن الأمر سيطول أسبوعين أو ثلاثة، بينما تم الأمر بسرعة كبيرة. الآن، لا يمكن للروس أن يتركوا سوريا بلا ثمن، ويتركوا بشار الأسد بلا ثمن، لا بد أنهم قبضوا الثمن. إذن، لقد تضافرت عوامل خارجية وداخلية عدة، أدت إلى انهيار النظام في سوريا.
فيما يخص هذا التخوف من البعبع الإسلامي، أو من المتشددين أو جبهة النصرة سابقاً (هيئة تحرير الشام)، أو الثوار، وهي غرفة عمليات تضم الكثير من الفصائل المسلحة. لقد ظن النظام، في بداية الأحداث، أنه انتصر في 2018 و2019، وجمع كل الفصائل المقاتلة في إدلب، على أمل أن هذه الفصائل ستتقاتل فيما بينها، بمن فيهم داعش، والقاعدة، وإخوان، وسلفيون، وفصائل من تركمانستان وباكستان، من جميع التيارات. ما حصل أن هيئة تحرير الشام التي كان اسمها جبهة فتح الشام، وقبلها جبهة النصرة، وفكت طبعاً الارتباط، وغيرت اسمها إلى جبهة فتح الشام، ثم بدلت كلمة فتح التي لها معنى إيديولوجي وخلفية إيديولوجية، وسمت نفسها جبهة تحرير الشام، وليس جبهة فتح الشام. ما قامت به هذه الجماعة أنها أضعفت جميع القوى المسلحة التي كانت معها، وسحبت منهم الأسلحة الثقيلة في إدلب، وأبقت على الأسلحة الخفيفة، وشكلت غرفة عمليات تضمّ هذه الفصائل، واستلمت الجانب الأمني والعسكري من هذه الفصائل. والفكر التنظيمي للهيئة في إدلب لا يشبه لا تنظيم القاعدة، ولا تنظيم داعش، ولا يشبه حتى تنظيم الإخوان المسلمين. وعلى فكرة، هيئة تحرير الشام، منعت الإخوان المسلمين من العمل في إدلب.
النقطة الثانية أن الهيئة قاتلت الفصائل المتطرفة، فصائل مثل حراس الدين، وجند الأقصى، والذين كانوا مرتبطين بشكل رئيس بالقاعدة؛ فهم جزء من القاعدة؛ حاربتهم هيئة تحرير الشام، وسجنت قياداتهم. وعلى الجانب الآخر من الفصائل المرتبطة مع هيئة تحرير الشام، يوجد فيلق الشام، وأحرار الشام، وهم أقرب إلى الاعتدال، ولا علاقة لهم بالقاعدة نهائيًّا.
والذي حصل في إدلب أن هناك عملية مأسسة؛ يعني أن هيئة تحرير الشام، استلمت خطين؛ الأمني والعسكري، مع الفصائل الأخرى الموجودة المقاتلة بعد أن سحبت منها الأسلحة الثقيلة، وأبقتها في يدها. ودعت الهيئة إلى انتخاب حكومة شبه مدنية، وإن كانت كلّها من المحافظين الإسلاميين، ولكن لم تكن لها علاقة بهيئة تحرير الشام، فأسسوا لوزارات وكلّيات، وكلّية عسكرية، تخرّج منها العام الماضي وما قبله 400 ضابط، يعني أن هؤلاء الذين أزالوا النظام السابق في سوريا، الثوار وهيئة تحرير الشام، ليسوا مجرد مقاتلين أو مسلحين أو مجاهدين كما هو معروف في التنظيمات المسلحة، وإنما يوجد تقريبًا جيش حقيقي؛ ﻓ 400 ضابط تخرّجوا العام الماضي والذي قبله، من الكلية العسكرية الموجودة في إدلب.
أريد أن أقول لو كان هؤلاء هم القاعدة أو تنظيم داعش، لأريقت الدماء في شوارع دمشق في الأسبوع الأول. لذلك، ينبغي أن نعطيهم الفرصة أوّلاً، لا يمكن الحكم عليهم الآن من خلال أسبوع. المطالبة بحكومة مدنية مشروع، وانتخابات نزيهة يجب أن تتم، ولكن خلال أسبوع وقبل عودة المهجّرين قسرًا، والكشف عن عشرات الآلاف من المفقودين، تكون هذه المطالبات غير منطقية وواقعية. لنلملم جراح الأمهات الثكالى، وليستتب الأمن، ويحصل المهجرون على وثائق تمكّنهم من العودة.
عندما يخرج الائتلاف ببيان يطالب بتنفيذ القرار 2254، بعد ثلاثة أيام من هروب رأس النظام، فلا يسعني أن أنظر إلى هذه الدعوى بعين مطمئنة. قرار يتعلق بالنظام السابق، فما علاقة الثوار به بعد زوال علة القرار؟ مظاهرة تدعو لحكومة مدنية علمانية بعد أسبوع، وقبل أن يستكمل فتح السجون، ودفن الموتى والبحث عن المفقودين؟ وهم من خرسوا عشرات السنين عن جرائم مروعة! هل هذا منطقي!؟
يكفي أنهم لم يفرضوا أحكامًا عرفية، ولم ترق الدماء في الشوارع، ولم يقوموا بعمليات تطهير، ويكفي أن الأمن استتب في دمشق خلال أسبوع واحد؛ فهذا إنجاز كبير جدًّا. فلنعطهم فرصة، ونعطي لأنفسنا فرصة، ونعطي للآخرين فرصة، حتى القوى الدولية المتنازعة تعطي الفرصة، حتى نرى إلى ما ستؤول إليه الأمور، وأن يكون هناك تدخل لطيف وليس عنيفًا، أو فرض أشياء بالقوة من الخارج؛ لأن هذا سيحيل المشهد السوري، إذا تم هذا التدخل، إلى استقطاب جميع الجهاديين في العالم.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلاً، أظنّ أن حتى الإسلاميين يتفقون على مشروعية المخاوف. السؤال كيف نبدّدها؟ هل ننتظر ونرى ماذا سيفعلون، أم نشارك نحن في صنع هذا الفعل؟ أنت تعلم أنهم تصرفوا تصرفات، ثم عادوا عنها نتيجة الاحتجاجات، ووضع العلم، التصريحات حول المرأة إلى آخره.
أ. محمد العاني:
هذا جيّد أنهم عادوا عنها؛ ما أعنيه، هو أننا ننتظر، وهم كذلك ينتظرون، ويجب أن يكون التدخل والمطالبات معقولين وليّنين، خلافًا لما حصل، تعالوا نفرض القرار 2254، وهذا له علاقة بالنظام. فهناك إشكالات كثيرة جدًّا في الخارج والمحيط. ومن النظام السابق، من يحاول أن يقتنص أيّ فرصة من أجل تخريب الوضع. هناك أولويات، وهناك عملية طويلة وشاقة لإعادة بناء الدولة يشارك فيها الجميع وتحمي الجميع.
د. حسام الدين درويش:
الختام مسك إلى أقصى المغرب، إلى موريتانيا، الدكتور عبد الله السيد ولد أباه، فيلسوف وباحث أكاديمي موريتاني، يشغل حاليًّا منصب أستاذ في قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية بجامعة نواكشوط في موريتانيا، بالإضافة إلى عمله كأستاذ زائر في جامعات أخرى خارج البلاد. له شكر خاص، فرغم مشاركته في مؤتمر خارج البلاد، حرص على أن يكون معنا.
د. عبد الله السيد ولد أباه:
شكرًا د. حسام، في الحقيقة سأكتفي بهذه المداخلة الوحيدة؛ لأنني مضطر للمشاركة في اجتماع بعد وقت قصير. سأقدم سردية مغايرة عما سمعته من الإخوان، رغم تثميني للكلام الممتاز الذي سمعته خلال هذه الأمسية. تحدث بعض الإخوة، وأظنها الدكتورة عفراء جلبي عن حنة أرندت. وكنت أرغب في أن أتطرق إلى الموضوع السوري أيضا من منظور حنة أرندت.
في اعتقادي، ما سماه الأخ أحمد برقاوي "الأسدية"، التي حكمت سوريا لعقود، يدخل ضمن مصطلح "تفاهة الشعب" عند حنة أرندت. بمعنى أننا عرفنا أنظمة قمعية، ونعرف أن ليبيا كانت تحكمها نظام قمعي، وكنا نعرف أن تونس كانت تحكمها سلطة تسلطية أيضًا، ولكن ميزة النظام السوري أنه حوّل القمع إلى ظاهرة عادية تمامًا؛ أي أصبح جزءًا من تركيبة السلطة نفسها، وجزءًا من علاقة الدولة بالمجتمع، إلى أن اكتشف العالم كل هذه المصائب والكوارث في السجون، وما تعرض له السوريون من محن خلال السنوات الماضية. إن تحويل الشر إلى أداة يومية من أدوات الحكم، وأداة يومية من أدوات السلطة، أعتقد أنه كان ظاهرة خاصة بالنظام السوري الذي اندثر مؤخرًا.
ومن هنا، أدخل إلى ملاحظة أخرى: أقدم السردية التالية، وأختلف تمامًا مع الإخوة الذين اعتبروا أن التنظيمات المسلحة التي افتكت السلطة هي التي أنجحت الثورة السورية. في اعتقادي، هذه التنظيمات حصدت نتاج سنوات طويلة من المقاومة الشعبية؛ المقاومة التي أخذت أشكالًا متعددة، منها المقاومة السلمية، ومنها المقاومة الرمزية.
كنت أزور سوريا في الفترات الماضية، وكنت أعرف كيف طور الشعب آليات مقاومة بقدر ما طور النظام آليات لتفشي الشر وتحويله إلى أداة من أدوات السلطة. فالمجتمع المدني أيضًا كان دائمًا حيًّا ونشطًا، وطور آليات فعالة للمقاومة الشعبية، هذا حتى قبل اندلاع ثورة 2011. وعندما وقعت الثورة، كما قال الإخوة، كانت انتفاضة أهلية مدنية سلمية على غرار ما حدث في بلدان عربية أخرى.
طبعًا، تحوّلت الثورة إلى عسكرة نتيجة عوامل أساسية يرجع معظمها إلى النظام، ودخلت حركات متطرفة راديكالية على الخط. ولكن، عندما نتساءل: لماذا انهار هذا النظام في أحد عشر يومًا فقط؟ أعتقد أن انهيار النظام لم يكن نتيجة عبقرية خاصة أو استثنائية للمجموعة التي مسكت السلطة لاحقًا في سوريا، وإنما لأن المقاومة الشعبية وصلت أيضًا إلى الجيش السوري نفسه، أو إلى بقاياه. نعلم أن عشرات، بل مئات، بل آلاف الجنود السوريين خرجوا من الميدان والتحقوا بالثورة سنة 2011، وحتى بقية الجيش الذي بقي في الخدمة، رفض الدفاع عن النظام، وهذه مسألة يجب أن نعترف بها. كما أن البيروقراطية الإدارية السورية وقفت ضد النظام، وكذلك النخبة الأهلية. لذلك، أرى أن ما جرى لم يكن مجرد عملية عسكرية قضت على السلطة من الخارج، وإنما كان هناك ديناميكية داخلية فاعلة ومؤثرة في صنع الحدث السوري.
ولأنني سأتحدث لمرة واحدة، سأقتصر على نقطتين فقط تتعلقان بالمستقبل، وأعرف أن الندوة لم تدخل بعد في تساؤلات المستقبل.
في اعتقادي، هناك مبررات للأمل بلا شك. هناك مجتمع مدني سوري حيّ، يختلف عن كثير من البلدان، وهناك تعددية مجتمعية يمكن أن تكون عنصرًا إيجابيًّا للتفاؤل. وفي المقابل، هناك مخاطر حقيقية يجب ألا ننكرها ويجب أن نعترف بها؛ إذ توجد جماعات متطرفة راديكالية قريبة من أبواب السلطة، وبعضها موجود داخل تركيبة السلطة نفسها. هذه حقائق لا بد من إدراكها، وهناك دواعٍ للقلق أيضًا من احتمال تشكل حالة متطرفة أصولية راديكالية في سوريا.
ولكن في رأيي، المطلوب هو أن يتحمل هذا المجتمع المدني الحي وهذه القوة السياسية المؤثرة والفاعلة، التي قامت بعملية التغيير في 2011، مسؤولية كبرى. لقد حققت نصف الهدف، وما زال الهدف الآخر قائمًا، وهو بناء نموذج سوري مدني ديمقراطي ضمن قواعد التعددية. هذا النظام، حسب رأيي، لا يمكن أن يؤسس إلا على أفكار جديدة تتعلق بإعادة بناء الدولة، لتكون دولة مدنية، تعددية، وديمقراطية، قادرة أيضًا على أن تكون جزءًا من المنطقة، كما كانت سوريا دائمًا جزءًا أساسيًّا من مكونات العروبة والوطن العربي والنظام الإقليمي العربي.
هذا هو المطلوب، وهو الآن دور المجتمع المدني والقوة السياسية التي قامت بعملية التغيير. وعندما نحصي ما جرى في سوريا وجبهة النصرة، وكيف أسقطت النظام عسكريًّا، أعتقد أننا نقلل كثيرًا من الحقائق ونحدّ من كثير من الآمال. الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن هذا المجتمع واجه شراسة النظام وتفاهته وقوته وبطشه، وأن ما حدث مؤخرًا ليس سوى حصاد لهذه المقاومة الطويلة. ومن الطبيعي أن تكون القوة المنظمة المحاربة هي التي تحصد هذه النتيجة، ولكن، مثل الأخ رضوان، لدي أمل كبير في هذا المجتمع المدني السوري وفي هذه القوة السياسية السورية، أن يحوّلوا هذا المشروع إلى نموذج مدني ديمقراطي في المنطقة، ونموذج مدني ديمقراطي أيضًا ضمن منظومة الأمن الإقليمي العربي. شكرًا.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلًا د. عبد الله على هذه المداخلة المهمة والقيمة فعلًا. إذن، فلنقل الوسطية المعتدلة، نصف انتصار، لكن يبدو أن الانتصار الكامل أقرب إلى مفهوم "الإنسان الكامل"؛ أي شيء مستحيل التحقيق، لذلك فالأقرب هو نصف انتصار.
من ناحية أولى، مجرّد معرفة ما قام به النظام أو ما حصل فعلًا، يُعَدّ في حدّ ذاته إسقاطًا له، وهذا أكثر من انتصار: إنه انتصار ونصف مسبقًا. فحتى لو لم يتحقق شيءٌ آخر، فإن مجرّد إسقاطه أو الإفراج عن المعتقلين السياسيين يُعَدّ في حد ذاته مكسبًا. فلنكن إذن أكثر تفاؤلًا.
شكرًا على المداخلات القيمة. قبل أن أفتح باب الأسئلة للمتابعين، أودّ أن أطرح سؤالًا ثلاثي الأبعاد، ويمكن لأيٍّ منكم، ممّن قدّم مداخلته، أن يجيب عن الجانب أو البعد الذي يراه مناسبًا.
كما رأينا، يمكن تصنيف التحليلات في اتجاهين:
الاتجاه الأول هو التحليلات الجيو-استراتيجية، التي تتناول العلاقات الدولية: روسيا، تركيا، أمريكا، إسرائيل. وهنا ننطلق من ثنائية البنية وفاعلية الذات؛ إذ يبدو أنّ البنية أو النظام هو المحدِّد الأساس، بينما الأفراد غائبون أو مغيَّبون، أو مجرّد نتائج وضحايا.
أمّا الاتجاه الثاني، فيرى أنّ الذات البشرية كانت عاملًا حاسمًا؛ لا يُنكر وجود البنية، لكنه يرى أنّ الذات عنصرٌ حاسم، وأنّ البنية لم تكن لتنتج نتائجها لولا فاعلية هذه الذات. فحتى لو وُجد اتفاق دولي، هل يمكن أن يحدث ما حدث لو أنّ الشعب في المدن والقرى كان رافضًا للداخلين أو متمسكًا بالسلطة القائمة؟
انطلاقًا من هذا، يأتي السؤال الأول وهو سؤال الفهم والتفسير: هل ما حصل هو نتيجة لفاعلية ذوات السوريين، أم إنّه مجرّد نتاج لمؤسسات أو تنظيمات كجبهة تحرير وغيرها، أم إنّه بالأساس نتاج لاتفاق دولي لا دور للسوريين فيه؟ وهل ما جرى هو فقط نتيجة لعملية عسكرية أخيرة، أم إنّه ثمرة مسار طويل، كما ذكر د. عبد الله، وحصيلة ثورة سلمية ممتدة؟
يتعلق السؤال أو البعد الثاني بالتوقع والاستشراف. إذا كان ما حصل هو نتيجةَ اتفاق دولي، فما معنى الحديث عن دور السوريين في بناء مستقبلهم؟ وإذا كان الأمر، في أسوأ الأحوال، لا يعدو كونه مؤامرات أو اتفاقيات دولية، وإذا اعتُبر هذا العامل هو الحاسم والوحيد، فما جدوى القول بوجود دورٍ للأفراد يمكن أن يضطلعوا به، بدل الاكتفاء بالانتظار؟ يمكن المحاججة، في هذا السياق، بأن المسألة لا تنحصر في الانتظار، وأن المستقبل ليس مصنوعًا مسبقًا، ولا هو أمرٌ حتميٌّ، بل هو قابل لأن يُصنع. فإلى أي حدٍّ، وبأيّ طريقة، يمكن أن يسهم السوريون والسوريات في صناعة هذا المستقبل؟
أمّا السؤال أو البعد الثالث، فيتعلق بالأولويات: كلمة "دولة" لا تنطبق اليوم على سوريا؛ إذ يفتقد المكان إلى كلّ شيء تقريبًا، باستثناء الفرح بهذا التحرر. فهو يفتقر إلى أبسط مقومات الحياة، لا أقول الحياة الكريمة فقط، بل الحياة في حدها الأدنى: ماء، كهرباء، مواصلات، خدمات... إلخ. يفتقر أيضًا إلى الأمان، في ظل غياب سلطات ومؤسسات؛ أي إلى الدولة والتنظيمات المؤسسية. فما الأولويات إذن؟ هل يمكن الآن الحديث عن حقوق المرأة، وعن الدستور، وعن شكل الدولة: مدنية أم علمانية، أم إن الأولوية لغير ذلك؟ هل نحن أمام تدرج في ترتيب الأولويات، أم إن طرح هذه القضايا جميعًا معًا ممكن ومطلوب؟
هذه إذن ثلاثة أسئلة أو أبعاد متشابكة، وفي جوهرها سؤال عن استشراف الممكنات: ما الممكنات الواقعية التي يمكن أن تتحقق؟ وكيف يمكن للسوريات والسوريين أن يتدخلوا، حيث يسهموا في ترجيح ممكنةٍ على أخرى، واستبعاد غيرها؟ وقد أشار د. أحمد في البداية إلى أهمية هذا السؤال، سؤال الممكنات. تفضل د. أحمد.
د. أحمد برقاوي:
الذي حصل هو أن البنية كانت محتضرة؛ بنية النظام كانت تعيش حالة احتضار، ولم تعد السلطة قادرة على إنتاج أسباب بقائها. فقد تعددت الإرادات داخلها، وتدخلت الإرادات الخارجية: روسيا، إيران، تركيا، أمريكا. أضف إلى ذلك، أنّ الوظيفة التي كانت تقوم بها هذه السلطة لم تعد ممكنة؛ فهي سلطة وظيفية لم تعد قادرة على أداء وظيفتها للآخرين. وبالمعنى الدقيق للكلمة، هي دولة وظيفية، لكنها لم تعد قادرة لا على توفير لقمة العيش للناس، ولا على تأمين الأمان لهم، وبالتالي أصبح القضاء عليها سهلًا. من هذه الزاوية يمكن فهم سهولة سقوطها.
ثانيًا، تحولت إلى عبءٍ حتى على تلك القوى الخارجية، فكان منطق الأشياء يفرض زوالها. لا أدري إن كان هناك ما تبقى منها، لكن هكذا كان السياق. غير أن الأداة التي أزاحت الأسدية كانت في النهاية أداة ميليشياوية، شاء الناس أم أبوا. وهذه الميليشيا ذات طابع إسلاموي تاريخيًّا، بلا شك، بغضّ النظر عن تطورات نزعتها. حكمت إدلب، ثم جاءت لتحكم كلّ سوريا، وتشكّلت الوزارات على هذا النحو. لكن حجم الإرادات الفاعلة في مستقبل سوريا كان ضخمًا، ولم تكن هناك إرادة واحدة حاسمة: لا الإرادات الداخلية المتعددة قادرة على فرض ما تريد، ولا الإرادات الخارجية تملك النموذج النهائي.
وهنا تبرز مسألة قيام الدولة: يجب التفكير أوّلاً في الدولة قبل التفكير في السلطة. الدولة هي التي تضع دستورًا ينتج السلطة، ومن دون ذلك يستحيل الانتقال من روح الأسدية إلى نقيضها. هذه هي المسألة الجوهرية. فقيام الدولة يحتاج إلى دستور يؤسس لفكرة الحق والحرية، ويكفل جميع حقوق الشعب السوري، بما يتيح إعادة إنتاج المجتمع السياسي.
لقد تحدّث صديقنا الدكتور نجيب عن أنّ النظام دمّر السياسة، وبتدميره السياسة حرم المجتمع السوري من الوعي السياسي، ومن النخبة السياسية. لذلك، ينبغي التفكير في كيفية قيام دولة تنطلق من دستور يعيد السياسة إلى المجتمع، ويعيد معه المجتمع المدني الذي لم يكن سوى أداة بيد السلطة. هذا هو الأهمّ. أما الاستئثار الآن بالسلطة على أساس أيديولوجي، يفرض رؤية بعينها لسوريا، فذلك أمر غير ممكن. ومن هنا تبرز أهمية العقد الوطني، كالمؤتمر الوطني أو ما يشبهه.
لكن يظلّ الاحتمال الأخطر هو الصراع على السلطة بين القوى المسلحة. لهذا، فإن قيام مجتمع سياسي حرّ أمرٌ حاسم: حرية تكوين الأحزاب، حرية تشكيل الجماعات، وحرية بناء المجتمع المدني. النموذج التركي، مثلاً، إسلامي أليس كذلك؟ لكنه متكئ على دستور دائم قادر على إعادة إنتاج السلطة بشكل مختلف. أرى أن التجربة الأقرب إلى الإمكان في سوريا هي التجربة التركية؛ فهي سمحت للإسلاميين بالحكم، لكن في إطار دستور لم يستطيعوا تغييره وفق أيديولوجيتهم.
إن فكرة "الحاكم المؤدلَج" خطيرة للغاية، وهذه هي القضية الأساسية. قيام الدولة وحده هو ما يمكن أن يتجاوز جميع مشكلات سوريا، سواء الاقتصادية أو القيمية. وهنا مسألة مهمة: الخطاب الأخلاقي لم يعد ذا قيمة تُذكر؛ فالكلام عن التسامح وما شابهه لا يجدي. فالأحقاد لها تاريخ طويل لا يُمحى إلا بقيام الدولة.
د. حسام الدين درويش:
عندما تتحدث عن دولة، فالمقصود ليس دولة السلطة، وإنما دولة بمواصفات خاصة؟
د. أحمد برقاوي:
بالتأكيد. والتسامح ليس مجرد أخلاق، بل إن قيام دولة التسامح يعني قيام دولة التعدد والاعتراف بالاختلاف. وأهم ما في الأمر هو الاعتراف بالاختلاف، وحق الاختلاف في التعبير عن ذاته داخل الحزب السياسي، في المجتمع المدني، في الخطاب، في العلم، وفي المعرفة وغيرها. أما الانشغال بقضايا سطحية من قبيل الحديث عن المرأة: محجّبة، تذهب أو لا تذهب…إلخ فهذه مسائل من المعيب أن تُطرح اليوم. أن نتحدث بعد كلّ هذا التاريخ عن "حق المرأة في..." هو أمر متخلف إلى أبعد الحدود، وخطاب تجاوزه الزمن.
إن الانشغال بالقضايا الصغيرة والهامشية لا قيمة له حين نطمح إلى إقامة دولة الحق؛ فدولة الحق هي بالضرورة دولة الحرية، ودولة الحرية هي بالضرورة دولة الاعتراف. وأنت كتبت كتابًا عن الاعتراف، وأنا كنتُ قد وضعت له مقدمة. إنني أؤكد: خارج دولة الاعتراف، لا وجود لدولة يا صديقي، وهذا ما أدعو إليه.
د. حسام الدين درويش:
هناك مطالبات بمحاكمة من كان مع النظام أو شارك بطريقة أو بأخرى؟
د. أحمد برقاوي:
هذه قضية محسومة يا صديقي، كلّ من مارس الإجرام في سوريا، يجب أن يخضع لمحاكمة علنية، محاكمات في محاكم معترف بها.
د. حسام الدين درويش:
لست أدري إن تابعت ما حصل البارحة، مظاهرة شارك فيها بعض الأشخاص الذين كانوا يؤيّدون قتل الآخرين بالبراميل والكيماوي، والآن يطالبون بدولة علمانية أو دولة مدنية؟
د. أحمد برقاوي:
هؤلاء المتظاهرون إذا لم يكونوا قد مارسوا القتل، فإنهم قدموا خطابًا؛ والإنسان في الغالب لا يعاقب على خطابه، إلا إذا نصّ قانون الدولة على تجريم خطابات الكراهية أو العنصرية، وهذا أمر لاحق لقيام الدولة. وبالمناسبة، فإن هزيمة إيران تعدُّ إنجازًا عظيمًا؛ إذ إن هذه الدولة قمامة لا تعيش إلا على جثث الآخرين.
د. حسام الدين درويش:
التدخل الإيراني على عكس الروسي مثلا، ليس على مستوى الدولة؟
د. أحمد برقاوي:
دولة متخلفة، قمامة، دولة ثأرية، دولة طائفية، وهذا ما أسميه أنا بالوسخ التاريخي الذي جاء إلى سوريا.
د. حسام الدين درويش:
د. نجيب، أنت أخذت الطرف الآخر في التحليل الأقرب إلى البنية، وتأكيد العامل الخارجي، أكثر منه إلى فاعلية الذات والعامل الداخلي. لكن، في كل الأحوال، إذا كان هذا هو التفسير، فكيف يمكن أن نستشرف المستقبل؟ وما الذي يمكننا فعله حياله؟
د. نجيب جورج عوض:
د. حسام، مداخلتي الأولى كانت عن العامل الداخلي، وأنهيتها بوضع الإطار الأوسع، الجيو استراتيجي. ثمة أستاذ سأل: لماذا استخدمت عبارة "مسرحية هزلية"؟ أحبّ التوضيح أنّي استخدمت هذه العبارة على المستوى الجيو-استراتيجي، وليس على المستوى الشعبي؛ أي إنني أقصد "مسرحية هزلية" ضمن المخطط الدولي لصنّاع القرار.
أنا تكلمت في أول نقطتين ذكرت فيهما عاملًا داخليًّا في صلب العامل الداخلي. وأنا قلت هاتين النقطتين؛ لأن هذه هي مهمتي، فأنا أكاديمي، ورجل فكر، هكذا أنا متدرّب، لديّ درجتا دكتوراه، وتدربت كيف أفكر، وكيف أطرح أفكارًا وأبنيها، وهذه هي مهمتي. وإذا كان ما سأقدمه لبلدي، فهذا ما سأقدمه: الأفكار.
وأعتقد أن الأفكار لا تأتي بعد تأسيس الدولة، بل تأتي أصلًا مع تأسيس الدولة. ففكرة ننتظر، ونتريث، هذا كلام رعوي pastoral، والأذكياء هم الوعاظ والكهنة والإكليروس عندنا في المسيحية، ثم الشيوخ والأئمة المحترمون. هذا وعظ جميل ومهم، والناس في حاجة إليه على المستوى الإنساني، لكن على مستوى تأسيس دول على مستوى خلق فكرٍ سياسي في سوريا، على مستوى مساعدة السوريين، ليخلقوا فكرًا سياسيًّا، ويبدؤون في ممارسة السياسة، لا بد من الحديث من دون "كفوف". والمفكر الأكاديمي يتدرب أصلًا ليتحدث من دون "كفوف"؛ يتحدث ويوصّف الوقائع كما تجري، ويكون فكره تحليليًّا نقديًّا. وهذا مطلوب من دون تأسيس دولة أصلًا.
مثل بسيط، لماذا قلت في مداخلتي، لا يوجد فكر سياسي في الشارع السوري، وأن الأجيال الحالية لم تتعلم، لم تعطَ لها فرصة كي تتعلم، وتخلق فكرًا سياسيًّا وتمارسه. منذ أن سقط نظام بشار الأسد، وأنا أكتب مقالات، وتعليقات على الفيس بوك، فأنا أقوم بمهمتي التي أعتبرها وطنية، وهي المهمة الوحيدة التي أعرفها. الآن، مثلًا، حين قدمت هذه المداخلة، واطلعت على هاتفي النقال، وجدت ردود أفعال الناس وتعليقاتهم، لم أتلقّ منهم سوى التهديد والشتائم واتهامات أني أهين شخصية وفكر القائد. معروف ماذا يقصدون بالقائد اليوم. فأنا أكاديمي أحلل، ولا أغضب، هذه حرية، وهذا حقهم الطبيعي، هذه الحرية التي نحتاجها في سوريا؛ أي أن يتكلم الناس بحرية. لكن بالنسبة لي كمراقب أكاديمي يجعلني أقول، كيف يتلقى هؤلاء الناس الكلام المختلف، والصوت المختلف؟ يتلقونه بعقل غير سياسي، العقل المنتشي بانتصار ما، ويحاول أخذ فرحه إلى مداه الأقصى، لكن هذا ليس بسياسة، وأنت تعرف عمّا أتحدث دكتور حسام، هذا ليس بسياسية، والجميع من الموجودين يعرفون عمّا أتحدث.
وما قاله د. برقاوي، أتفق معه فيه مئة بالمئة الحقيقة، وأشكره عليه. الآن، كلّ الفكر الموجود على الساحة في سوريا هو ما تحت سياسي، والكلام السيكولوجي "طولوا بالكم" كلام ممتاز رعائيًّا روحيًّا نفسيًّا سيكولوجيًّا، لكن هذا تحت سياسي. أنا لا أتهم، ولا أقلل من قيمة الفكر الرعوي، والخطاب الرعوي، ولكن أنا أقول إن هذا لا يؤسس الدولة، وأنا مع د. برقاوي حتمًا مئة بالمئة، فما أسمّيه رعائي، هو سماه أخلاقي بطريقة ما، وهذا يأتي بعد تأسيس الدولة. اليوم نحن في حاجة حتمًا لمساعدة شباب سوريا، للبدء في التفكير بشكل سياسي، ولا يمكن أن نتكلم بالخطاب الذي يرضيهم، والذي يجعلهم يحبوننا، بل نتحدث بالخطاب الذي تحتاج إليه سوريا. سوريا تحتاج إلى خطابٍ فكري، وإلا لن يتعلم الشباب كيف يخلقون فكرًا سياسيًّا.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلاً، لكن دعني أضيف إلى هذه النقطة، أنه سواء من منظور تحليل ما هو قائم وفهمه، أو عند الحديث عما ينبغي أن يكون. فنحن في الحالتين أمام تعددية لا مفرّ منها، لا يوجد طرف يمكنه أو ينبغي له، أن يقدم رأيه بوصفه الحقيقة، التي يجب على الآخرين الاستماع إليها.
د. نجيب جورج عوض:
أنا قلت، إن النقطة الثانية المفقودة حاليًّا في سوريا هي الحرية، وتكلمت عن جانب الحرية من نقطة معينة، إذا لاحظت، وهي نقطة التعدد والتنوع واختلاف الأصوات، لكن ثمة فرق بين أن نشارك بعضنا أصواتنا، ونتحاور حول الأفكار، وبين أن نقاتل بعضنا البعض، وهذا فرق يجب الانتباه إليه.
د. حسام الدين درويش:
د. عفراء، في حديثك كانت هناك دعاوى أخلاقية ووعظية إلى التسامح. عندما نقول هذا هو الوعظ، ونتحدث عما يجب أن يكون من المنظور الأخلاقي، فهذا يمكن أن يسمّى وعظًا. وعندما نقول ما يجب أن نفعله من منظور أخلاقي، فهذا يسمى دعاوى أخلاقية. وأنا في رأيي، مكان هذه الدعاوى والوعظ هو الآن، إذا كان هناك مكان لها فهو الآن؛ لأن هناك إمكانية للفعل في الوقت الحالي؛ يعني عندما كنّا تحت نظام الأسد، لم يكن للحديث الأخلاقي معنى؛ لأنه لم تكن هناك خيارات كثيرة. أما الآن، بما أن هناك خيارات كثيرة ومتنوعة، وإمكانية للتسامح أو عدم التسامح، وللعفو أو لعدم العفو، وإمكانية لاتخاذ هذا الاتجاه أو ذاك، فالحديث عما يجب أن يكون من منظور أخلاقي، يجب أن يكون له دوره. وهذا على عكس ما قد يظنه آخرون بأنه لا مكان له أبدًا، وأننا يجب أن نكتفي بالتحليل العلمي والمعرفي، ومن ثم البناء عليه.
د. عفراء الجلبي:
أكيد أننا كلّنا ننطلق من مواقف أخلاقية معينة، وأنا أنطلق من موقف لا عنفي، وعندي رغبة في تحييد السلاح، لكن أنا عرضت هذه الفكرة أيضاً بطرح واقعية سياسية ضخمة تحدث عالميًّا. ولهذا، ركزت على فكرة حنة أرندت التي قالت في العصر النووي انتهت الحرب، ويمارسها الصغار الذين يتم التلاعب بهم، وربما بعضكم يعرف جملة خالي جودت السعيد الشهيرة عندما قال: ماتت الحرب، ولم يعد يمارسها إلا المغفلون أو الخبثاء الذين يستغلّون جهل المغفلين. فعلينا الآن، أن نقوم بواقعية سياسية؛ لأن سوريا غير قادرة على الدخول في حروب، حتى القيادات الجديدة تقول هذا صراحة، مع أنها جاءت من خلفية جهادية، فهذه نقلات سياسية وفكرية مهمة جدًّا؛ لأنهم يدخلون في واقعة سياسية. وفي رأيي، أن هذه الواقعة السياسية أيضاً، تدخلنا في منظومة أخلاقية جديدة.
ما أرغب فيه، رغم أن مرجعيتي الفكرية والروحية والفلسفية هي لا عنفية، هو من صناديقنا الضيقة، وأن نعترف أيضا عندما قام الشباب بشجاعة بالغة في استباق اللحظة. نحن نعرف أن تركيا لم تكن تريد هذا التحرك السريع، وأشكر أخانا من موريتانيا الغالية، التي كانت على فكرة، أرض الحركة المريدية التي لم تقبل استعمال العنف أثناء الغزو الفرنسي، والشيخ أحمدو بمبا من أوائل المنظرين في العالم الإسلامي للفكر اللاعنفي، كما فعل صديقه الآخر في القارة الهندية، عبد الغفار خان. أنا ممتنة لما قاله، إن هناك فعلًا، تراكماً فكريًّا روحيًّا جماهيريًّا، واهتراءً للمنظومة القديمة، وقدرة الشباب أيضًا على أخذ المبادرة وتناسق الظروف الإقليمية والعالمية؛ يعني مثل القدر استدار نحو السوريين، والذين كانت عندهم جاهزية لاستعادة سيادتهم الذاتية. فنحن علينا مسؤولية كبيرة، نحن المثقفين الآن، كما قال أخي وصديقي جورج عوض. إننا نحن الأكاديميين، يجب أن نقدم هذه الرؤى، ونعيد بناء الشروط التي كما قال الكثير منكم، مسحها الأسد من السياق السياسي، حتى انعدمت السياسة، وأن نعيد العناصر التي ستخرج التعددية السياسية. كانت ﻟهايدغر فكرة جميلة عن الصداقة؛ فالصداقة لسيت هي كينونة في حد ذاتها، بقدر ما هي تراكم عناصر معينة، فتصبح إمكانية تصاعد الصداقة في سياق ما ممكنة، بل وحتمية. وأنا أستعمل هذا المجاز في إمكانية تصاعد الديمقراطية، يعني مثل الهيدروجين والأوكسيجين يصنعان ماءً، فنحتاج نحن إلى العناصر التي ستسهم في تصاعد إمكانية الديمقراطية، وجعلها حتمية بمشاركة من دون أن يكون فيها استعلاء.
على فكرة، إضافة إلى عملي في موضوع الإمامة في الخطاب الديني، كان من أهم وظائفي في كونكورديا، أن أزيل هذه الهيبة عن الفلاسفة، وكلما درسنا فيلسوفًا في الجامعة، أضع لطلابي صورًا مضحكة عنه، كأن أضع صورة بول ريكور بنظاراته على رأسه، قصد إضحاكهم، وأقول لهم هذا بشر، وأن الفلسفة هي نوع من الاستجابة للظروف، حتى نزيل هذه الهيبة؛ فمن المهم جدًّا أن نزيل الهيبة من الفكر السياسي، والفكر الأكاديمي، أن ندخل جميعًا في حوار حقيقي، ونزيل هذه الهرميات، وأن نتحلّى بروح الفكاهة. بصراحة، الأشياء التي أراها على مواقع التواصل الاجتماعي، وحتى بعض الشباب الذين ردّوا على عبيدة أرناؤوط، لما قالوا بالظاهر، أنت لا ترى مدربة الفتوة، فلانة وفلانة، حتى أنا السنة الوحيدة التي قضيتها في سوريا، كانت عندنا مدربة فتوة، جعلتنا نزحف على بطوننا في الباحة، وكنّا نخاف من الممر الذي تمر منه؛ فلا خوف على نساء سوريا، ولا خوف على التعددية، ونحن مخلوقٌ حضاريٌّ هائلٌ ومتنوعٌ.
د. حسام الدين درويش:
كما تعلمين، سيكون لدينا ندوتان، في مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عن موضوع أوضاع المرأة (في سوريا). فقط أردت الإشارة إلى أن الدعوة إلى اللاعنف تعني أن المجتمع السوري ليس بحاجة إلى وساطة؛ لأنه مذهل بقدرته على تجنب العنف. في ظل هذه التوترات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية والطائفية، وفي الوضع الذي عشناه، لم تحدث هجمات مجتمعية بين الطوائف. مثلما حصل البارحة، عندما تم الاعتداء على كنيسة من قبل مجهولين، فاندلعت الفوضى والاحتجاجات، ورغم ذلك لم تتطور الأمور إلى مواجهات واسعة. هذا مذهل؛ لأنه رغم كل ما حدث، ورغم خمسين سنة من التجييش ودفع الطوائف والأطراف لتكون ضد بعضها، كان هناك الحد الأدنى من الانضباط الاجتماعي الممكن. بهذا المعنى، يكون المجتمع قد سبق التنظير اللاعنفي؛ أي تجنّب العنف الجماعاتي بكل أشكاله، سواء كان إثنيًّا، طائفيًا، دينيًّا، أو مناطقيًّا.
د. عفراء الجلبي:
دكتور حسام، أريد أن أشير إلى نقطة، ليس فقط عندنا حصانة هائلة تجاه موضوع الطائفية، كنت أقول لزوجي، لو تشاهد القلوب على أشجار الكريسمس، وفي الوقت نفسه عدد القلوب من أصدقائي المسيحيين والعلمانيين على الصلوات الجماعية، تدرك أن سوريا بخير. الأمر الآخر أن السوريين لديهم نفورٌ شديدٌ من المحاصصة في تقسيم البلاد، مهتمون بوحدة البلاد، وبصنع مجتمع سوري حقيقي، يحقق وطنيته، لا تنسوا في الفترة ما بعد الاستعمارية، لم نحقق وطنيتنا حتى نحقق القومية أو حتى مفهوم الأمة بمفهومها الأوسع. وأنا هنا لا أتحدث من إطار ديني فقط؛ لأن حتى الأفغاني وغيره، عندما تحدثوا بمفهوم الأمة كان من أجل المصالح المادية والموارد البشرية في المنطقة، وأن نحافظ على مواردنا، وليس حرامًا أن تصبح إيران عدوة المنطقة. في عهد الشاه، رغم كل أخطائه، قام بأوبيك مع دول الخليج؛ فنحن الآن علينا أن نستعيد هوياتنا الوطنية المحلية، حتى نبدأ فعلاً باستعادة تعافي للمنطقة كلّها، والخروج من هذه التأزمات.
د. حسام الدين درويش:
لدي سؤال موجه للمحمدين: د. محمد حبش، والأستاذ محمد العاني. ببساطة، نحن نتحدث عن إسلاميين أو إسلامويين محددين، مثل جبهة النصرة أحيانًا. يكفي أن نقول: "هؤلاء قاعدة، هؤلاء أبناء القاعدة"، ويُستنتج أنه لا داعي للنقاش بعد ذلك. السؤال هو: كيف يمكن لنا أن نطمئن، أو على الأقل أن يكون لدينا بعض الأمل؟ أمل مسوَّغ، أمل محق، وليس آمالًا واهية أو غير مسنودة. كيف يكون لنا هذا الأمل؟
إذا انطلقنا من مبادئ الإيديولوجيا التي يتبنونها، فإنهم إقصائيون بامتياز. وإذا نظرنا إلى ممارساتهم التاريخية، فلا تزال سجون الجولاني ممتلئة في إدلب نفسها. أما إذا قلنا إن ما يفعلونه ليس نتيجة مبدأ أو عقيدة أو رؤية، وإنما نتيجة رؤية مصلحية براغماتية، فما الذي يضمن لنا أنهم، عند وصولهم إلى موقع القوة، لن ينقلبوا على مواقفهم الحالية؟
المخاوف هنا أكثر من مشروعة. ومع ذلك، يبدو أنكما، د. محمد حبش والأستاذ محمد العاني، تقللان من أهميتها، أو تبالغان في التقليل من حجمها.
د. محمد حبش:
أنا شخصيًّا، أعتقد أنه علينا أن نتابع ما جرى ليس فقط خلال الأسابيع الماضية، ربما خلال السنوات الأخيرة الماضية، كانت التحولات واضحة. علينا أن نتذكر أن الثوار الآن هم الإسلام الغاضب، هذا الإسلام الغاضب بكل تأكيد، سيختار أشدّ ما في الفقه الإسلامي تشدّدًا وصلابة، هو في الأصل قاد جهاده، وتمكن من القوات والعتاد بإيديولوجيا واضحة قائمة على مبدأ الإسلام الجهادي، هذه الروح الموجودة التي تمكنت من اقتلاع نظام متجذر بالديكتاتورية والظلم، والدولة العميقة، ووسائل المخابرات التي لا قيم فيها. هذا بالتأكيد، لا يستطيع السلميون واللاعنفيون أن يقتلعوا هذا الواقع. نحن بالطبع، وأنا أيضًا أميل إلى الخيارات اللاعنفية، وربما لو كانت هذه الثورة تمت باشتباكات مع الجيش وسالت الدماء بالآلاف، ربما لا أستطيع أن أقف حتى مع هذه الثورة على نبالة قصدها وغاياتها النبيلة، لكن لأمر شاءه الله، وربما هي حاجة رغائبية أن الله كتب لهذه الثورة أن تنتصر بأقل قدر من الدماء، لكن الثوار يعيشون واقع الإسلام الغاضب، وعندما يتحركون في المجتمع المتسع، سيدركون أنهم كانوا يتصلبون في مواقف يوجد في الفقه الإسلامي ما هو أكثر انفتاحًا منها.
أعتقد أن المرحلة تتطلب الآن حزبًا إسلاميًّا ديمقراطيًّا، حزبًا ديمقراطيًّا يتبنى المرجعية الإسلامية، ويؤمن بالقيم الديمقراطية، أدوات ووسائل؛ لأن هذا، في الحقيقة، هو الضرورة الحتمية للحكام الجدد في سوريا. كلّ الإجابات، ستكون عندهم من المذهب الحنبلي، من الاتجاه السلفي المتشدد الذي لم تطبقه أيّ دولة في العالم قبل الحركة الوهابية قبل 200عام. يعني الدول طبقت المذهب الحنفي، الدولة العباسية، الدولة العثمانية طبقت المذهب الحنفي، دول الأندلس وشمال إفريقيا طبقت المذهب المالكي. هذا التطبيق في الحقيقة، منح هذه المذاهب مرونة، وباتت تستطيع الإجابة عن مشكلات؛ لأنها واجهت مشكلات، وعليها أن تحلّها. الحكام الجدد الآن، كلهم جاءوا من قاعدة سلفية، ولكن لن يقنعهم الخطاب العلماني، لن يقنعهم الخطاب الذي يجرد الأمور من دوافعها العقدية، ولكن أعتقد أنه يقنعهم الخطاب الذي يستند إلى المرجعية الإسلامية، ولكن بقراءة واقعية. كما قلت لك، 57 دولة إسلامية موجودة، دولتان فقط، هما دولتا الملالي، يحكمهما الفقهاء، بينما تحولت الدول الأخرى كلّها إلى دول مدنية حقيقية.
د. حسام الدين درويش:
أنت تعيد هذه الحجة د. محمد، ولكن إسلامية أي دولة في التطبيق العملي، تعني تحيزًا وعدم مساواة ضد أشخاص آخرين، وليس هناك دولة إسلامية واحدة الآن أو عبر التاريخ، إلا وكانت على حساب المساواة المواطنية؛ أي المساواة بين المواطنين، دائماً المسلمون لهم أفضلية ما؛ فإسلامية الدولة تعني عدم المواطنة، وبالتالي تحدّ من الديمقراطية.
د. محمد حبش:
لا، لا أتفق. الآن، يمكنني أن أطالبكم بقراءة كلّ دساتير العالم الإسلامي، ما عدا دولتيْ الملالي؛ كلّ دساتير العالم الإسلامي هي دساتير تنطبق على حقوق الإنسان، على الأقل في الشعار والإعلان. لا يوجد دستور في العالم الإسلامي يتحدث عن التمييز على أساس الجزية، أو على أساس الفوارق بين الإنسان والإنسان؛ كل الدساتير تقول: لا إكراه في الدين، كل الدساتير تقول: المواطنون متساوون في الحقوق والدرجات، إلا دولتيْ الملالي، وكانت الدولة السعودية إلى عهد قريب. إذن، يجب أن ندفع هذا الإسلام الغاضب الآن، أن يذوب في المحيط الإسلامي الذي تعقل خلال السنوات، هو في حالة تعقل مستمرّ، ولا أعتقد أن الدساتير في العالم الإسلامي تتطلب أيّ تعديل، ربما هناك سلسلة من القوانين تحتاج دائمًا إلى تطوير وتعديل، لكن لست متشائمًا أبدًا، وأنا أعتقد أن الإسلام الغاضب الآن الذي يحكم في سوريا، قادرٌ أن يتمدّن، وعلينا أن نضخ فيه روح التمدّن والعلمانية والديمقراطية، حتى يصبح إسلامًا حديثًا وحضاريًّا.
د. حسام الدين درويش:
عظيمٌ هذا الانتقال من انعدام الأمل أو اليأس منذ شهر تقريبًا، إلى هذه الآمال الكبيرة.
د. محمد حبش:
دعني أضيف شيئًاً حتى تكون الفكرة واضحة، أنا شخصيًّا كتبت أكثر من 500 مقال ضد الإسلام المتطرف، وأعتقد أن هذه رسالة نبيلة، وأنها ستؤدي في النهاية إلى عقلنة الإسلام الغاضب.
د. حسام الدين درويش:
إمكانية كبيرة ومعقولة في هذا الاتجاه. الأستاذ محمد العاني، ببساطة هل ننتظر؟
أ. محمد العاني:
اشتغلنا في مؤسسة «مؤمنون بلا حدود» على موضوع التطرف، وكنت مشرفًا عليه لسنوات، وأنا ضد التطرف. الآن لدينا مؤسسة أخرى، هي «مركز دراسات التطرف»، ويضم بنكًا من المعلومات حول التطرف والجماعات الجهادية في جميع أنحاء العالم، خصوصًا الجماعات الجهادية والإسلامية، من مالي إلى السنغال. أنا أتفق مع د. محمد حبش في كثير مما يقول؛ لأنه واقعي. إذا أردت الآن الإشارة إلى بعض الحقائق، فهؤلاء الموجودون هم جبهة النصرة، ومع ذلك تنتشر أشجار أعياد الميلاد في دمشق، وما زالت الحانات مفتوحة في باب شرقي. نحن نعرف من هي القاعدة وكيف تفكر.
د. حسام الدين درويش:
بعد اتفاقك مع د. محمد حبش، هل هناك "لكن" أم لا يوجد؟
أ. محمد العاني:
دائمًا هناك قلق، لكن أقول إنه يجب أن نأخذ بأيديهم بروية، وليس أن نحشرهم في الزاوية أو نستفز الغضب الكامن فيهم، حتى لا يعودوا إلى التطرف. لا يمكن أن أقول إن هؤلاء، بما يتحدثون به وبما يقومون به من تصرفات، قد تمكنوا من الحفاظ على الأمن الأهلي خلال أسبوع واحد فقط؛ وذلك أمر نادر في تاريخ الثورات، خصوصًا مع وجود نظام مجرم بهذا القدر من الإجرام. لم تتجاوز مدة حظر التجول 48 ساعة، ثم تحقق الأمن، وهذا ليس بالأمر السهل. بعد 55 عامًا من الإجرام، ومع وجود ثأر وغضب في نفوس الناس وفي الشارع، ومع ذلك، استطاعوا ضبط الأمن وامتصاص الغضب. رفعوا العلم وأخطأوا، وقالوا: "لقد أخطأنا".
د. حسام الدين درويش:
عدنا إلى الثنائية التي تحدث عنها د. أحمد برقاوي؛ بين من يخاف أن يُحشر في الزاوية، وبين من يخاف أن تحشره هذه الأطراف في الزاوية.
محمد العاني:
نحن الآن في عشرة أيام من عمر هذه الثورة، ماذا يمكن أن ندعو إليه؟ لا يمكن أن نقيّم شيئًا، مازال الأمر في بدايته، هذا ما زال طفلاً صغيرًا. دعني أختم بشيء، الآن إذا حشرت هؤلاء الناس، طبعًا القلق موجود عند الناس، ماذا تتوقع؟ مثلا، بعد 72 ساعة، يقوم الائتلاف بالمطالبة باجتماع دولي، والمطالبة بتنفيذ القرار 2254 الذي ينطبق على النظام السوري الذي يقود إلى مرحلة انتقالية، ويشرك المعارضة، يعني المطالبة بمثل هذا النوع، أنا أسمّيها لا إحساس بالوطنية. في 72 ساعة، وأنت تطالب، هل تريد إعادة النظام، أو إنك ترى أن هؤلاء هم النظام، وأنت معارضة، أمر لا يمكن؛ فنحن علينا أن نأخذ بأيديهم بروية، كما قال د. محمد حبش، ويظهر أن ثمة أمورًا إيجابية تستدعي التشجيع والتحفيز، بدلاً من التجريح.
د. أحمد برقاوي:
الإسلام الشعبي الشامي هو الذي عبّر عن ذاته في السلم. أما العنف الذي مارسه النظام، فقد انتهت وسائله. فالإسلام الشعبي الشامي إسلام قائم على فكرة الاعتراف والتعاون، وما إلى ذلك. الإسلام السياسي دائمًا مختلف عن الإسلام الشعبي؛ فالإسلام السياسي يسعى إلى سلطة موحدة، مثل أي حزب سياسي. لكن إذا استوعب الإسلام السياسي أخلاق الإسلام الشعبي، دون أن يكون هدفه تحقيق ما لا يمكن تحقيقه في الحاضر انطلاقًا من وعيه بالماضي، فهنا تكمن الكارثة. لا يمكن إنتاج واقع حاضر انطلاقًا من وعيك بالماضي؛ فالماضي انتهى والحياة تتجدد، والعقل الذي لا يتجدد يشبه الأشياء الحجرية، الأشياء التي لا تفكر. من هذه الزاوية، يجب أن تكون فكرة حرية التعبير في المجتمع السياسي جزءًا لا يتجزأ من وعي الأداة التي قضت على البنية المحتضرة. فالبنية المحتضرة لم تقضِ عليها النصرة، بل هي نتاج سنوات من الكفاح الوطني السوري، والتضحيات هي التي راكمت هذا الشيء الكمّي حتى انتقل إلى الكيف.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلاً، د. نجيب هل لديك اي تعليق أخير، قبل البدء بالأسئلة.
د. نجيب جورج عوض:
كنت أريد أن أستفيد قليلًا من خبرة د. محمد، بخصوص الفكرة التي طرحها، لكن أريد أن أعلّق في البداية. إن سمحت لي د. حسام، المطلوب أننا كلنا نتعلم، ونمارس الحرية كفعلٍ مدني، ولا نعتاد على وجود عدة أصوات، لكن نتعلم كيف نتحاور مع هذه الأصوات، نحتضنها ونتقبلها، ونجعلها تشعر أننا جزءٌ من بوتقة واحدة، وهذا أساسي، لكن نقول بالإنجليزي: "It takes two to tango"؛ أي إن رقصة التانجو تحتاج إلى اثنين، فلا يمكن لطرف واحد أن يستوعب ويستحمل ويقبل ويحتضن، ويكون متعاليًا عن ميوله الشخصية، بينما يقول لك الطرف الآخر أنا أتحملك، وأتركك، وأريد أن يكون الكلّ معي. فهذا وحده لا يكفي. فبناء الصداقة التي تحدث عنها هايدغر يتطلب العمل والتقارب بين الطرفين، وأنا أوافق دكتورة عفراء في ذلك، فعلى الطرفين التقارب من بعضهما بالرغبة والقناعة نفسيهما؛ فالآخر أيضا عليه أن يحتضن، وأنا هنا أتحدث عن الآخر السوري.
على فكرة، أنا لا تعجبني الأمثلة التي تقال حول كيفية معاملة المسيحيين. أنا أوّلاً، لا أؤمن بفكرة أن الدين هوية. الدين ليس هوية، بل أؤمن بالمواطنة. نحن جميعًا سوريون، وبالتالي من يدير سوريا اليوم يجب أن يحتضن الجميع، ويعرف فعلا كيف يحتضنني؛ لأنه حتى حد الآن، أنا لم أرّ من جمهوره أيّ احتضان. لقد رأيت منه احتضان؛ لأنه شخص لديه خبرة، لكن جمهوره أيضا بحاجة إلى أن يتعلم كيف يستوعب الآخر ويحتضنه.
كنت أريد أن أسأل د. محمد من خلال خبرته على الأرض، حتى أستفيد منه، وأدعوه أن يوضح أكثر فكرته الجميلة جدًّا، والتي أؤيده عليها، وهي فكرة احتضان الإسلام الغاضب، وهو تعبير جميلٌ وعميقٌ جدًّا وفيه تبصر. من خبرتك د. محمد هل لمست اليوم على الأرض من الطرف الآخر، من هذا الإسلام الغاضب، رغبة حقيقية وعملية ملموسة لاحتضان الآخرين واستيعاب خوفهم؟
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلا د. نجيب. د. ميادة تفضلي.
د. ميادة كيالي:
لديّ ملاحظة مهمة أودّ الوقوف عندها، وأشكر الأخ الذي ذكرها، وهي موضوع التمثيل النسائي في هذه الندوة، أذكّر أن هذه الندوة تمّت في سياق تسارع الأحداث خلال هذه الأيام التي مرت، وهو ما فرض علينا سرعة في الترتيبات؛ ففي العادة غالبًا ما نأخذ وقتاً لتنظيم كلّ ندوة. لكن هذه الندوة جاءت وليدة الأحداث، وفي الوقت نفسه، نحن نرتّب بالتوازي لندوتين خاصتين بالمرأة فقط، وسيكون المحاور هو الوحيد مع الحاضرات. نحن بكل تأكيد نؤمن بالمرأة وبصوتها، سواء في مؤسسة مؤمنون بلا حدود، أو الوضع الحالي في سوريا. فعلاً، نحن في حاجة إلى الأصوات القوية؛ لأن المرأة فعلاً أثبتت جدارتها في تحمل مسؤوليتها في المرحلة الراهنة.
د. حسام الدين درويش:
تعقيبًا على هذه النقطة، تواصل معي صديقي باسم منذ مدة، ودعا إلى زيادة التنوع، وعندما رشح لي أسماءً، كانت كلها أسماء رجال، فطلبت منه أن يرشح أسماء بعض النساء؛ نحن لدينا رجال، لكن النساء أقل. والأمر في غاية الصعوبة في هذه المسألة، وهو نفسه شخصيًّا رشح رجالاً، وأنا طلبت منه أن يرشح أسماءً نسائية. فهو يعرف أن هذه المسألة حاضرة في الذهن قدر المستطاع من دون أن تكون هذه القسمة بين الرجال والنساء حسابية ضرورية.
د. ميادة كيالي:
نحن نقوم بهذه اللقاءات، ويشارك فيها أشخاص موزعون في مختلف أنحاء العالم، ما يجعل الفارق في التوقيت والظروف واضحًا. لذلك، حددنا يوم الجمعة وفق توقيت محدد، حتى نتمكن من تنظيم الوضع. فقد مرّ أكثر من أسبوع، ونحن نحضّر لهذا اللقاء، وفي الوقت نفسه، ولهذا السبب حاولنا البدء بإعداد للقاءات القادمة، والتي ستعقد في 10- و17 يناير 2025، وستشارك مجموعة من السيدات المتميزات عربيات وسوريات. وأحبّ أن أضيف أن الشيء الإيجابي المشترك الذي استفدنا منه في هذه الندوة، هو أننا جميعًا نقف على أرضية الأمل، وهذا هو الشيء الجميل الذي يحمل طموحًا؛ إذ تمكنا من الخروج من عنق الزجاجة، وبالتالي نستطيع أن نفرح بالإنجاز الكبير الذي حققناه على مستوى المعتقلين، وعلى مستوى الحرية، وعلى مستوى التحرر من هذا النظام المجرم. هذا إنجاز يستحقّ كل الاحتفال والفرح، وفي الوقت ذاته، تستحق سوريا القادمة منا كل العمل وكل الأمل.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلا د. ميادة، يبدو أن المحمدين لاقوا الأسئلة الانتقادية الأكثر، فلأبدأ بالأستاذ محمد العاني؛ يعني ما هذا الانتظار؟
محمد العاني:
لولا ما حصل، لما قامت هذه الندوة أصلًا، لا أنا ولا ميادة، ولا أيّ سوري كان يجرؤ على الحديث عن النظام أو انتقاده. فإذا لم أعتقل أنا، فقد يعتقل أحد إخواني في سوريا. لذلك، ما حصل يُعدّ إنجازًا بحد ذاته؛ لأن هذه الطغمة، وهذا الاستعباد الذي استمر 55 عامًا، بدأ يزول. حالة الأمان التي نتمنى أن تستمر، والموجودة الآن في الشارع السوري، سببها ليس فقط أن هؤلاء الذين جاءوا هم من فرض الأمان، بل توجد أيضًا حالة من الوعي الاجتماعي، ورغبة من الشعب السوري، الذي تعب من القتال والحروب والقهر والذلّ، في أن يعيش بسلام. لذلك، رغم كل المآسي والآلام التي كانت موجودة، لم نجد حالات انتقام أو تطهير، أو ثأر عنيف؛ ما يدل على أن هذا الشارع، في حد أدنى، يمتلك وعيًا عاليًا جدًّا، على أساس أنه في هذه المرحلة يتحقق نوع من الأمن لاستكمال الثورة.
أما موضوع إزالة هذا أو ذاك، فهو ما زال في بداية الثورة أو بداية العمل، وما زال أمامه الكثير من الإنجاز. هؤلاء الإسلاميون محافظون، ولكنهم ليسوا قاعدة حتمًا؛ الموجودون الآن ربما كانوا يمثلون القاعدة، والآن لم يعودوا كذلك. هم إسلاميون محافظون، وأعدادهم كبيرة من أبناء الشعب السوري. ماذا نفعل معهم أيضًا؟ كما قال د. حبش، علينا احتواء هذا الغضب الموجود، ومحاولة دمجهم معنا، وعدم دفعهم بأساليب عنيفة - سواء بالكتابة أو بالتعبير أو عبر الملتقيات الدولية- إلى التطرف، حيث يدافعون عن أنفسهم، وهم يرون أنفسهم خارج الإطار، بعدما حاولوا بكل جهدٍ أن يكونوا جزءًا من العملية، ليجدوا أنفسهم خارج اللعبة أو العملية الديمقراطية.
د. حسام الدين درويش:
د. عفراء، أنت بين البينين، هل من مساعدة؟
د. عفراء الجلبي:
سأحاول الجمع بين الأشياء التي قلناها. سأقول البدء بالعمل والمثابرة. لديّ كتاب بعنوان: تعلم التركية في خمسة أيام، وأنا أحاول تعلم اللغة التركية، بهدوء منذ ثلاث سنوات. فما أريد قوله، إننا خرجنا من أصحاب السعير، وبدأنا ندخل في الواحة، ونحمل في جيوبنا الكثير من رمال الصحراء وآلامها، وبدأنا كذلك نتعلم لغة مفاهيمية جديدة؛ لأن حتى العربية حوصرت، كما تقول أرندت عن اللغة الألمانية، وكانت تحت شعارات فجة من القيادة القُطرية وتثبيت الزمن. اللغة العربية ستتحرر وستتحرك، وحصار الأجساد كان لحصار العوالم التأويلية والفكرية، هي تتحرر الآن.
وحسب رأيي، فإننا سنستعيد عضلاتنا ورصيدنا الفكري، وتتحرك اللغة، وعلينا المثابرة، والبدء بهذه العملية، والخروج من حالات الإقصاء والثنائيات الحادة. فالنظام خلق إما أنت خائن للوطن، أو أنت موالٍ شديد؛ فنحن سنبدأ بتعلم لغة مفاهيمية جديدة، ولدينا الأمل بكل تأكيد أننا سنتعلمها في خمسة أيام، لكن ستأخذ منا وقتًا. كما أن هذا الشعب العظيم بنسائه ورجاله وشبابه وأطفاله، صبروا 13 سنة، وليس صدفة، وهذا في رأيي يشبه صبر محمد صلى الله عليه وسلم، وأصحابه في مكة، ونحن نرى شيئًا أقرب إلى فتح مكة. الصحابية الصغيرة في داخلي لا تريد أن تخرج بكذا لحظات؛ فتحطيم الأصنام والهدوء وضبط النفس لدخول سوريا حرك فعلاً هذا الجانب الجمالي الإسلامي عندنا. وفي رأيي، علينا المثابرة لخلق مساحات الواحة، خلق مساحة المدينة التي نتعاهد فيها، وأن نقوم بعهد المدينة، وأن نحفظ حقوق بعضنا، بغض النظر عن خلفياتنا، وأن نخلق باللغة العصرية الحديثة، لغة المواطنة حتى نحقق فعلاً هويتنا الأصيلة في المنطقة، نحن أبناء الأديان الإبراهيمية. إبراهيم الذي قال له الله: لا أحتاج ابنك للتضحية، أن نتوقف عن التضحيات. في البدء كانت الكلمة، وكانت الكلمة مع الله، فصارت الكلمة إنسانًا يمشي بيننا؛ نحن الآن الإنسان السوري كلمة جديدة تمشي بيننا، شكرًا لكم.
د. حسام الين درويش:
شكرًا جزيلاً، عندي تعليق لطيف، يقول: نرجو ألا نضطر كلنا لتعلم اللغة التركية؛ لأن هناك هيمنة تركية على الهيئة، وبالتالي سنكون تابعين لتركيا.
د. عفراء الجلبي:
وأنا كذلك لديّ ردّ لطيف، لما كان أردوغان في الجزائر، وسأله صحفي جزائري بالفرنسية، ألم تتحدث عن الاستعمار العثماني، فأجابه: لم يكن هذا استعمار عثماني؛ لأن الأمر لو كان كذلك، لما سألت سؤالك بالفرنسية، بل سألته بالتركية.
د. حسام الدين درويش:
جميل. د. أحمد، لك كلمة الختام.
د. أحمد برقاوي:
ثمة شيء يُسمّى المعقولية الواقعية، والتي لا علاقة لها لا بالرغبوية ولا بالإرادة. فالخطاب الرغبوي والإرادي، حتى لو انتصر في لحظة ما، فهو منهزم بالضرورة. ومن وجهة نظري، هذا الخطاب الإرادوي والرغبوي، مثل التيار الإسلامي السياسي الإرادوي، يشبه التيار الشيوعي والتيار القومي؛ أي لا فرق بين سيد قطب وميشيل عفلق وخالد بكداش إطلاقًا. كل واحد منهم أنتج مشاريع إرادية، وسعوا جميعًا إلى تكسير رأس التاريخ، فالتاريخ ليس بغلاً حروناً، نكسر رأسه.
ومن ثم، الإسلام السياسي ليس حركة واقعية، ولا حركة معقولة، بل يقضي على حالة من حالة الأسدية التي تتجاوز اللامعقول؛ فالأسدية حالة من وراء اللامعقول. ومن حسن الحظ أننا تخلصنا من هذا الكابوس الرهيب الذي نام على صدورنا، وكنا جميعًا نعيشه.
لذلك، تحليل حنة أرندت لا قيمة له في تحليلنا للواقع العربي، لماذا؟ لأنها تفكر في إطار الذهنية الأوروبية. وهذه الذهنية مختلفة عن الذهنية التي تشكلت في بلادنا؛ فالذهنيات بطيئة التغير يا صديقي، ومن الصعب أن تغير ذهنية أصولية إلى ذهنية غير أصولية بهذه السهولة. تستطيع أن تبني بيتًا خلال يومين، لكنك تحتاج إلى قرن حتى تتمكن من تغيير ذهنيات البشر. المسألة إذن في غاية التعقيد، خصوصًا بالنسبة إلى بلد مثل سوريا، وعلاقته الآن بالحركة السياسية الإسلامية الأصولية، لا سيما وأن المجتمع السوري غير سياسي، ألم يقض الديكتاتور على السياسية؟ لقد أسس دولة السلطان، وعبر الطائفية والعنف قضى على السياسية، والقضاء على السياسة هو الذي أنتج الإسلام السياسي، وهذا هو وجه الخطورة. أتمنّى أن تكون هناك إرادات قوية تعمل سوية من أجل إنتاج سوريا الجديدة، لكنني لا أدري كيف يمكن أن يتحقق هذا الأمر.
د. حسام الدين درويش:
دفعاً في هذا الاتجاه، أنت تقول إنها لن تكون؛ لأنها غير معقولة، وليست لها قابلية للحياة. ومع ذلك، فقد بدت الأسدية غير معقولة ومستحيلة، واستمرت أكثر من نصف قرن؟
د. أحمد برقاوي:
استمرت بوصفها حالة لا معقولة يا صديقي، يمكن أن ينتصر اللامعقول على الواقع، لكن ما الذي ولّد هذا اللامعقول؟ لقد دمر البلد، وقضى على اللحمة الوطنية، وحطم القيم الإنسانية والأخلاقية. وبالمناسبة، هو أراد أن يؤسس لأقليات، ويحوّل المجتمع إلى أقليات، كي تحكم أقلية أقليات؛ فقضى بذلك على اللحمة الوطنية، وأصبح بالتالي خطيرًا. ولأنه لا معقول، تخيل هذه النتيجة التي وصل إليها. ومع ذلك، يمكن للّامعقول أن ينتصر ويتحقق.
د. حسام الدين درويش:
الخوف ليس في أن يكون معقولاً أو غير معقول، الخوف هو أن يكون موجودًا بهذه الطريقة السيئة؛ فكلمة غير معقول غير مطمئنة؟
د. أحمد برقاوي:
يا صديقي، البغاء موجود، والشر موجود؛ لكن كلمة موجود لا تعني أنه موجود بوصفه عالمًا معقولًا. إن سلطة الحزب الإيديولوجي مهما كانت طبيعته، تعني القضاء على الدولة.
د. حسام الدين درويش:
الأسوأ ليس الحزب الإيديولوجي، بل الدولة الإيديولوجية؟
د. أحمد برقاوي:
هو هذا، الحزب الإيديولوجي إذا حكم. فماذا تعني الإيديولوجيا؟ إنها تقوم على فكرة الحقيقة المطلقة، وأن الآخر يمثل الخطأ المطلق. أليس كذلك؟ فهو يمتلك "نصًّا مقدسًا"؛ إذ يتحول الديكتاتور، سواء كان دنيويًّا أو دينيًّا، إلى كائن مُقدَّس، يُصان قوله كأنه نصٌّ مقدس، رغم تفاهته غالبًا. والنص التافه للديكتاتور، مهما كان مصدره، يتحوّل إلى سلطة تقضي على فكرة اللغة نفسها، حتى اللغة تنهزم أمامه. والسؤال هنا: هل هناك من يعتدي على الفلسفة؟
د. حسام الدين درويش:
تأكيدًا على نقطة، أنت تعلم أن هناك من رأى أن الخيارات المتاحة أمام العرب المسلمين في هذا العالم هي بين استبداد ديني واستبداد غير ديني، هل ترى أننا محصورون بين هذين "الخيارين" فعلًا؟
د. أحمد برقاوي:
لا هذا ولا ذاك، وأنا كتبت في كل مقالاتي ما يفيد؛ ليس دكتاتورية أصولية بديلاً عن الدكتاتورية الأسدية، هذه الطائفية، لا يمكن. وبالتالي عندما تضعنا أمام خيارين، تضعنا عمليًّا أمام خيار واحد.
د. محمد حبش:
د. حسام، اسمح لي بالتدخل، أنا لديّ تعقيب بسيط على كلام د. برقاوي، هو تحدث عن الديكتاتورية الأسدية والديكتاتورية الدينية. الديكتاتورية الأسدية نشأت من ممارسات ديكتاتورية؛ يعني هو في البداية كان يتحدث عن كيان سياسي أو منهج سياسي أو مدرسة سياسية، لكن ألقى عليها صفة الديكتاتورية؛ لأنها مارست الديكتاتورية. لكن حين يتحدث عن الديكتاتورية الدينية، قبل أيّ ممارسة هو يراها ديكتاتورية، لمجرد أنها ذات مرجعية شرعية، أنا لا أوافق على هذا الرأي، وأعتقد أن المؤسسة الدينية كالمؤسسة الأسدية؛ كلتاهما يمكن أن تنتجا ممارسة ديمقراطية أو ممارسة استبدادية. أنا عندي كتاب عنوانه "النبي ديمقراطي" طبع ست طبعات حتى الآن، وشارك في نقده أكثر من ثلاثين أستاذًا، وجمعتهم كلهم في كتاب واحد، ولديّ قناعة تامة، أنا وعدد كبير من الذين كتبوا في الردود، طبعًا بعضهم كتب سلبيًّا. القناعة هي أن الدين يمكن أن يتبيّأ ديمقراطيًّا في التشريع والممارسة، حتى في التشريع فكرة الناسخ والمنسوخ، فكرة الخضوع لرأي الجمهور هي نوع من الديمقراطية في التشريع، وهي مستمرة. طبعًا، أعتقد أن الحديث عنها يأخذ وقتًا طويلاً. في الوقت ذاته أريد معرفة الأسئلة التي وجهت إليّ.
د. حسام الدين درويش:
دعني أنقل إليك السؤال الذي طرحه د. نجيب، ببساطة أنت تطلب استيعاب هذا الإسلام الغاضب، هو قال رقصة التانجو تحتاج إلى طرفين؛ لا يمكن لطرف واحد أن يرقص هذه الرقصة، وهذا السؤال حول استيعاب الإسلام الغاضب، تكرر بأكثر من صيغة. هل لدى هذا الإسلام الغاضب إمكانية أو رغبة أو أي دلائل على أنه هو مستعد أصلاً لاستيعاب الآخر أيضاً؛ فالاستيعاب من طرف واحد يبدو خضوعًا لهيمنة. فالرؤية التي طرحتها أو الأطروحة التي تبنيتها بأن هذا الإسلام ينبغي أن يستوعب، ويمكن أن تتم تبيئته ودمقرطته، تبدو منتقدَة بشدة انطلاقًا من تاريخه ومبادئه إلى آخره.
د. محمد حبش:
طبعًا، هو عمل متناوب، هي علاقة تكامل، لكن علينا أن نلتقط الإشارات التي يعبر فيها هذا الإسلام الغاضب عن وعيه بالمجتمعات المحيطة. من دون أي مبالغة، أنا ليست لي أي علاقة ولا أي صلة بأبي محمد الجولاني، أحمد الشرع، لكن كل التصريحات التي صدرت، سواء على قناة "سي إن إن" أو على قناة "البي بي سي" اليوم، كلام عن علاقة جوار جيدة مع الآخرين، عدم تصدير الثورة، الكلام اليوم عن الإعجاب بالنهضة التنموية السعودية تحديدًا، والخليجية أيضًا؛ فهذه كلها إشارات واضحة. هذا كلام لا يزال مرفوضًا في القاعدة الصلبة لتنظيم القاعدة، ولجبهة النصرة الذين يرون أن الإسلام حالة جهادية يجب أن تعم العالم: الصين لنا، والهند لنا، والعرب لنا، والكلّ لنا. أضحى الإسلام لنا دينًا وجميع الكون لنا وطنًا.
كل هذه التصريحات تتناقض مع الوعي الصلب للحركات الجهادية. إذن، هذه إشارات يجب أن يحتضنها الطيف العلماني بواقعية؛ يعني يجب ألّا يطالب الطيف العلماني بأننا سندخل صراعًا حتميًّا، وأن هذا الصراع هو صراع وجود. سندخل صراعًا، ولكنه صراع ديمقراطي. فكّر معي، هذا الرجل جاء الآن من أصل سلفية جهادية صلبة، وهو الآن يتحدث بأسلوب مختلف تمامًا، هناك خطر أن ينقلب عليه الذين قاتلوا معه إيديولوجيًّا؛ هناك أيضا فصائل أخرى لا تتبع له، وهي أشد تطرفًا؛ فهي عملية توازنات. لكن أنا فعلاً معجب بالإشارات المتتالية التي حصلت؛ كل الناس يتحدثون عن قدرة كبيرة في الانضباط، وعدم الانسياق وراء الانتقام، وتطبيق قاعدة؛ اذهبوا فأنتم الطلقاء، مع أنه ببساطة يمكن هذه القاعدة أن تهدم، إذا قدمنا لهم أن هذا الحديث ليس صحيحًا من جهة الإسناد، ويمكن أن تهدم كل هذه الفكرة، ونعود إلى فكرة اقتلوهم حيث ثقفتموهم. فالمسألة هي مسألة تناصح وتبادل وتكامل. العلمانيون لا يجب أن يهيمنوا على الخطاب الإسلامي، ولا الخطاب الإسلامي يهيمن على العلمانيين؛ فتاريخ هذه النقمة هو تدخل المخابرات، ومنعهم للحريات الدينية، كل هذا الأمر أدّى إلى نقمة لدى هذا التيار، وعلينا أن نساعده على التعقلن.
د. حسام الدين درويش:
أرجو أن تختم بهذه النقطة بالنسبة إلى مداخلتك؛ من الأشياء التي ذُكرت، أن ثمة انتقادات أو ملاحظات بأن تحويل المسألة، وهذا يمكن عدّه انطباعًا من خلال كلامك أيضًا، إلى صراع أو مقابلة أو مواجهة، بين علماني وديني، أو علماني وإسلامي. وهذا يبدو أنه ليس في صالح أحد. وهذه كانت ملاحظات سواء التي قدمتها أو ذكرها بعض الأصدقاء، منهم د. صابر السويسي، تونسيون ومغاربة، قدموا أنه ينبغي ألا يتحول الصراع أو الخلاف أو الاختلاف إلى نوع من المواجهة بين الديني واللاديني، أو الديني والعلماني. ويبدو أنك من خلال حديثك عن علمانيين وإسلاميين، تصف على الأقل الصراع بهذه المفردات؛ فما رأيك في هذا الموضوع؟
د. محمد حبش:
هذا الصراع سيستمر، ولكن هو صراع ديمقراطي، وليس صراع وجود ولا وجود. لدينا عدد من التجارب الديمقراطية الناجحة في الإسلام السياسي. يعني هذا الحال في تركيا، 25 سنة من حكم العدالة والتنمية، لم يحصل هذا الصراع الموهوم بين المجتمع والوجود واللاوجود، حتى صور أتاتورك لا تزال تملأ كلّ مكان، والعلمانية في ازدهارها في تركيا. المشهد في المغرب، جاء الإسلاميون، وحكموا، سعد الدين العثماني، فترتين، وكانوا يعملون في إطار القانون وفي إطار الدولة. وعندما رشحوا وخسروا الانتخابات، انسحبوا وراحوا ينظمون صفوفهم، وسيدخلون مرة أخرى. لذا، لا يجب أن نشيطن الإسلام السياسي، لا يجب أن نشيطن هؤلاء الذين ينطلقون من مرجعية دينية. يمكن ببعض الجهد وبالتعاون وبالثقة المتبادلة، أن ننقلهم إلى سياق القبول بنتائج الصندوق، وأن يكونوا جزءًا من الحركة الديمقراطية، وأن نحترم وصولهم إلى السلطة. "مي سكاف" كانت تقول لم لا يحكموننا، اضطهدنا خمسين سنة، لو حكمني الإسلامي، فأنا مستعدة. أعتقد أن الواقعية هي المطلوبة في هذه المرحلة، والخلاف الإسلامي العلماني سيبقى موجودًا، لكن يجب أن يبقى في إطار تكاملي وتنافسي، وليس في إطار وجود أو لا وجود.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلاً، دكتورة عفراء كان لديك تعقيب عن مسألة حنة أرندت، ما هو المأخذ؟
د. عفراء الجلبي:
المأخذ لما قال إنها خرجت من سياق عقلاني. أنا أصرّ وأقول إن كتابات حنة أرندت وتحليلها للأنظمة الشمولية وللاستبداد مهمة جدًّا لنا؛ لأنها خرجت من سياق اللامعقولية التي ارتكبتها العقلانية الغربية في الحداثة، معسكرات الاعتقال والقتل والدم، وتصفية الناس في غرف الغاز. لهذا هي رأت أشياء فظيعة، وأيضا عادت ورأت باسترجاع ثقافتها الألمانية لذاتها ولسيادتها وللخروج من المنظومة النازية التي كانت قد اختطفتها. لهذا، جاءت بفكرة المعجزة، أن نفهم المعجزة، هي حدوث أشياء أمام كم هائل من اللانهائيات اللامعقولة، فهي قالت إن المعجزة تحدث، عندما يستطيع مجموعة من البشر أن يصنعوا لحظة تغاير الاتجاه، أو الزخم الذي يمشي باتجاه هذه العبثية، هي العنف، ورأت أن القدرة في الدخول إلى سياق سياسي نوع من المعجزة. لهذا، أنا أقول إن السوريين قادرون على أن يصنعوا معجزة؛ لأنهم صنعوا معجزة. فالمرحلة القادمة الآن هي المعجزة السياسية؛ لأن الأجساد حُرّرت، والآن نريد تحرير مساحات الود والصداقة والحوار بيننا، حتى لا نعود إلى سجون صيدنايا وعدرا، وكل ما رأيناه من معسكرات الدم والتصفية. لقد كانت حنة أرندت تركز كثيرًا على مساحات الصداقة، وهي تقول إن المستبد يقول عن نفسه الأب القائد أو الأخ الكبير بالمعنى الأورويلي، نسبة إلى جورج أورويل. فأنا كنت سعيدة جدًّا، كلما كنت أرى منطقة يأخذونها، لم يكونوا يقولون مثلا، الأبناء عادوا، أو الإخوة عادوا، وكانوا يقولون هذه المنطقة صديق صديق. إذن الآن سوريا هي مساحة صداقة، والصداقة لا تعني علاقات مثل العائلة فيها قهر وسيطرة وتحكم، وإنما هي مساحة حوار ومساحة أفقية، كلنا علينا مسؤولية أخلاقية كبيرة بعد كل هذه التضحيات والآلام، ويحكمنا الآن الأمل.
د. حسام الدين درويش:
شكرًا جزيلاً، كان هناك مأخذ على تحويل القائد السياسي أو الزعيم السياسي إلى أب، وتحويل المجتمع إلى أسرة وصداقة.
د. عفراء الجلبي:
الآن كله صديق؛ حتى في مجتمعنا الإسلامي، صحابة، ولم يكن الرسول هو الأب الروحي، كانوا صحابة، حتى إلى الآن المفهوم عند الصوفية خاصة في الثقافة التركية، السهرات الصوفية، تسمى صحبة.
د. حسام الدين درويش:
لكننا نعرف ماذا فعل الصحابة ببعضهم البعض بعد وفاة الرسول: أشد أنواع الحروب الأهلية.
د. عفراء الجلبي:
لأنهم عادوا إلى مفهوم الهرقلية.
د. حسام الدين درويش:
لن يكون هذا ختامًا سلبيًّا، لكن أثناء حديثك جاء ابني ريمي، وقال لي: "هناك خبر مهمّ". فسألته: "ما هو؟" فأجاب: "في ماغديبورغ، أظن أن هناك من قام بهجمة إرهابية؛ سيارة دخلت سوقًا فقتل أو جرح ما بين 60 و80 شخصًا". أنت تعلمين أن معظم الناس في ألمانيا، عندما يحدث شيء من هذا القبيل، تكون ردة فعلهم أولًا لا إنسانية؛ بمعنى أن همهم الأساسي هو التأكد من أن الفاعل ليس لاجئًا أو مهاجرًا أو مسلمًا، لما لذلك من تبعات كبيرة عليهم. حتى التعاطف الأولي مع الضحايا يأتي في المرتبة الثانية. أما الخوف الأكبر، فهو أن يكون الجاني مسلمًا، وأن يكون الفعل ما يُسمّى جهاديًّا سياسيًّا انتحاريًّا، وأصبحت عبارة "الله أكبر" مرتبطة مباشرة بالجهادية أو الانتحارية، رغم أنها تُستعمل في سياقات أخرى. الله يسترنا من المجاهد، وكم من شهيد مات في سبيل الله.
د. عفراء الجلبي:
حتى أصدقائي في كندا، فقط إذا حصل حدث ما، يقولون: نتمنى ألّا يكون مسلمًا، فهذا هو هاجسهم الأول.
د. حسام الدين درويش:
صحيح، وأنا أتفق مع د. محمد حبش. ومن قال إننا لا ينبغي أن نُشيطِن الإسلام السياسي؛ أي الرؤية السياسية التي تستند إلى الدين؟ لكن، من ناحية أخرى، هناك مخاوف أكثر من مشروعة في هذا الإطار، تاريخيًّا وعقائديًّا. لذا ينبغي أن نعمل معًا؛ إذ إن أيّ طرفٍ، إسلاميًّا كان أم غير إسلامي، إذا تُرك لوحده يمكن أن يستوحش ويتوحش. وفي رأيي، لا ينبغي أن تكون المواجهة أو المقاربة السياسية بمنظور ديني أو إسلامي أو علماني أو غير علماني، أو بمنظور ديمقراطي أم غير ديمقراطي، أو مع المواطنة أم ضدها، أو مع التعددية أم ضدها. لا يهم إن كان الأساس دينيًّا أم غير ديني، فالمهم هو الديمقراطية وقيمها، والمواطنة، والتعددية، والعدالة، وما إلى ذلك. وليست القضية أن نُحوِّلها إلى مسألة هوية؛ أي أن نجعل العلمانية أو الدينية هوية بحد ذاتها، فنكون مع الديني بغضّ النظر عن كونه ديمقراطيًّا أم لا، أو مع العلماني أو ضدّه بغضّ النظر عن موقفه من الديمقراطية.
د. عفراء الجلبي:
د. حسام، أنا أتفق مع فكرتك، أشجع كل الحاضرين هنا على قراءة مقال لعبد الرحمن صادق، التي نشرت في الجمهورية، عنوانها: "ما الذي يمكن أن يدافع عنه السوريون اليوم؟"، والتي تركز على أهمية الخروج من هذه الثنائيات الحادة والالتزام بتحييد السلاح.
د. حسام الدين درويش:
لقد قضينا أكثر من ثلاث ساعات، وكانت بالتأكيد مفيدة وضرورية؛ وكأننا عقدنا ندوتين اليوم. شكرًا جزيلًا لكل الحاضرات والحاضرين، ونعتذر إن لم نتمكّن من الاستماع إلى المزيد. أظن أننا استوعبنا أكبر عدد ممكن من المداخلات. والآن الكلمة للدكتورة ميادة.
د. ميادة كيالي:
أوّلًا، شكرًا لكل من لبّى هذه الدعوة، فقد كانت هذه الندوة من الندوات المهمة جدًّا، نظرًا إلى أهمية موضوعها وحساسيته، ولإخلاص الجميع في الحرص على بناء الوعي، والمساهمة في إنجاح هذه المرحلة، حتى فعلا نبني سوريا حقيقية. كما أتوجه بالشكر أيضًا إلى المحاور الرائع د. حسام، متمنية أن يصل كتابك إلى الجائزة المنتظرة، وأن يتحقق ذلك بإذن.
إن سوريا اليوم تقف أمام لحظة فارقة تجمع بين الألم الناتج عن سنوات طويلة من الاستبداد والقهر، وبين الأمل الذي تبعثه الطموحات في مستقبل جديد. وأمام هذا المشهد، نرى أن المسؤولية الفكرية هي أولى خطوات التغيير؛ لأن بناء سوريا المستقبل لا يبدأ، فقط، بإعادة إعمار المباني والبنية التحتية، بل يبدأ قبل ذلك بإعادة بناء الوعي وتأسيس قيم جديدة تقوم على العدالة والمساواة واحترام الحقوق.
شكرًا لكم جميعًا، فقد أسعدتمونا بهذا اللقاء، وسيكون لنا لقاءان مع السيدات السوريات والعربيات؛ الأول سيعقد في 10 يناير، والثاني في 17 يناير 2025، فكونوا على الموعد.