أزياء النساء في رواية "نساء البساتين" بين النظرة الاستشراقيّة والتمرّد على السلطة الذكوريّة


فئة :  مقالات

أزياء النساء في رواية "نساء البساتين" بين النظرة الاستشراقيّة والتمرّد على السلطة الذكوريّة

مقدّمة:

لم تفقد الخطابات الاستشراقية حول التقاليد والممارسات غير الغربية زخمها حتى يومنا هذا، رغم مرور قرابة خمسين عامًا على إصدار كتاب "الاستشراق" للمفكر الفلسطيني الأمريكي: "إدوارد سعيد"، والذي انتقد فيه الخطابات الاستشراقية التي تظهر الثقافة والفرد الشرقي/ المسلم بصورة الثابت غير القابل لديناميكيات التغيير من حوله، سواء بسبب الظروف الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية، في مقابل صورة الغربي وثقافته التي هي في حال دائمة من التطور؛ ذلك الخطاب الذي ظل مهيمنًا على المخيال الغربي، وفئة من المشرقيين المتأثرين به على مدى القرنين الماضيين. كان ذلك مدعومًا بشكل أساسي بآلاف (الكتب، واللوحات، والرسومات، والأفلام السينمائية، والنصوص الأدبية، وكذلك النظريات الفلسفية) التي نشرت في الغرب عن (الشرق، والعرب، والمسلمين).

وفي هذه الخطابات استُخدم الزي التقليدي للمرأة في بلاد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كأداة رئيسة لتمثيل المجتمعات المسلمة كمجتمعات ذكورية متخلفة، بل وأيضًا لتصوير جميع النساء المسلمات على أنهن مضطهدات وخاضعات للرجل الشرقي/ المسلم، وغير قادرات على اتخاذ قرارهن أو تحديد مصيرهن، بغض النظر عن مكانهن الجغرافي، أو الطبقة الاجتماعية التي أتين منها، أو خلفياتهن التعليمية.

كان زي المرأة المسلمة حتى بدايات القرن العشرين يتكون من رداء طويل فضفاض، وغطاء للرأس، وفي بعض الأحيان غطاء للوجه كذلك)، وهو يختلف عن الزي الذي اتخذته المرأة الغربية الحديثة، والذي يتناسب مع قيم الحداثة العلمانية التي سعت إلى التأكيد على المساواة بين النساء والرجال في العمل والتعليم في المجال العام من جهة، ومن جهة أخرى سعت إلى التحرر من القيم الدينية.

وجاءت صورة المرأة المسلمة، تماشيًا مع هذا الفكر بزيها "التقليدي"؛ لتناقض صورة المرأة الغربية بزيّها الحديث، ومظهرها الذي يبرز جمال وجهها، ومفاتن جسدها، كدليل على حداثتها وتحررها. تلك الصورة التي جسدتها أعمال أدبية وروايات لسير ذاتية كثيرة لرحالة وكاتبات نسويات من الغرب عبر التقائهم بالثقافة (الشرقية/ الإسلامية) في القرنيين الماضين، والتي انتقدت من النقاد والأكاديميين فيما بعد الاستعمار على أنها كانت صورًا جاءت لتخدم أهدافًا أيديولوجية، ومصالح استعمارية وإمبريالية في المنطقة، أكثر من كونها جاءت فقط ساعيةً لتحسين وضع المرأة المسلمة في تلك المجتمعات ورفع المعاناة عنها.

غير أن تلك الصورة لم تتغير بدرجة كبيرة في كتابات عدد كبير من كاتبات ما بعد الاستعمار، والتي كان يعتقد النقاد أنها ستلعب دورًا بارزًا في تقديم صورة موضوعية للشرق وعاداته وتقاليده وتمثيل النساء فيه، وخصوصًا أن مَنْ يكتب هم كتاب من داخل الثقافة (الشرقية/ الإسلامية). فعلى الرغم من أن عددًا من تلك الأعمال حاول تسليط الضوء على البُنَى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تُشكِّل منظومة تساعد في ظلم المرأة وتهميشها مثل: (كتابات الطبيبة والنسوية المصرية/ نوال السعداوي، وعالمة الاجتماع والنسوية المغربية/ فاطمة المرنيسي) إلا أن الحجاب ظلّ رمزًا لجهل المرأة المسلمة وقهرها في كتاباتهن، وتزعمن الدعوة إلى التخلي عن هذه الممارسة، إذا أرادت المرأة التحرر من قهر الرجل وتبعيته.

تطابق تمثيل المرأة العربية/ المسلمة في كتابات الكتاب من الغرب مع العديد من كتابات النسويات العرب كان من أهم الأسباب التي رسخت لصورة المحجبة على غلاف أية رواية أو فيلم سينمائي كرمز وملخص يكفي لقصص المعاناة والمأساة التي سترويها لنا الرواية أو الفيلم، حتى قبل قراءة كلمة واحدة أو مشاهدة مشهد واحد من أي عمل سينمائي حول المرأة المسلمة/ العربية. فمثلا في رواية الأردنية/ فادية فقير "اسمي سلمَى" تروي الكاتبة قصة حياة الفتاة الأردنية/ سلمى، والتي تمثلت مأساتها في صورة إخوانها من الذكور الذين يتتبعنها، حتى يقتلنها جراء ممارستها الجنس خارج إطار الزواج. وعلى الغلاف، نرى فتاة من الخلف ترتدي ثوبًا فضفاضًا وغطاء للرأس، وكان خلاص سلمى في تبنيها من قبل عائلة مسيحية وفرارها إلى بريطانيا.

أما في فيلم "خضوع" للصومالية آيان هيرسي علي، نرى فتاة مغطاة بالكامل من رأسها، حتى أخمص قدميها بثوب أسود شفاف، وستروي لنا هذه الفتاة قصص اضطهادها وعذابها من أقاربها الذكور حولها، مستدلين بآيات قرآنية، وهو ما ستواصله في كتابها "كافر" إذ تصور النساء في الدول العربية (وخاصة الجزيرة العربية) على أنهن قبيحات المظهر خلف "خيام" من السواد.

وكانت تلك الصورة حاضرة أيضًا في رواية "قراءة لوليتا في طهران" للإيرانية/ أزهار نافيسي، والتي تروي معاناة المرأة الإيرانية وإجبارها على ارتداء الحجاب بعد "الثورة الإسلامية" في عام (1979). تلك القطعة من القماش التي تحول النساء من جميلات متحررات إلى قبيحات المظهر مقهورات.

وعلى الرغم من الاحتفاء بهذه الأعمال، بل إن بعضها قد حصل على العديد من الجوائز الأدبية في الغرب، إلا أنها أُدينت من قبل شريحة واسعة من النقاد والكتاب (المسلمين، والعرب) وبعض النقاد من الغرب كذلك الذين يرون أن مَن مثلوا الشرق وممارساته قد قاموا بتشويه صورة مجتمعاتهم وقيمهم، ولم تكن لهم القدرة على إيصال أصوات متنوعة للمرأة المسلمة إلى الغرب، بل ولكل المنتمين للقيم الليبرالية في الشرق كما كان معتقدًا.

بالإضافة إلى أنه على الرغم من أن الصورة الأدبية المذكورة أعلاه حول النساء المسلمات المضطهدات المقهورات لم تفقد زخمها في الخطاب الإمبريالي، إلا أنه تمت إضافة صورة أخرى للمرأة المسلمة المحجبة خصوصًا بعد الهجمات الإرهابية في سبتمبر عام (2001). جاءت تلك الصورة للمرأة المحجبة لتصورها امرأة جاهلة، وتدعم بالضرورة أيديولوجية دينية متطرفة كقوة مناقضة للحداثة الغربية وللديمقراطية والليبرالية.

ومع أنه لا يمكن إنكار منافاة تلك الصورة لوضع المرأة المسلمة تمامًا في كل المجتمعات المسلمة، إلا أن ذلك التمثيل وتلك الصورة الأدبية لم تأخذ في اعتبارها الظروف الاجتماعية والثقافية والسياسية وراء هذا الشكل من السلوك. بالإضافة إلى ذلك: فإن تلك الأعمال الأدبية لم تعرض صورًا أخرى لتجارب نساء مسلمات تقاومن السلطة الأبوية والهيمنة الذكورية في العديد من تلك المجتمعات، مع عدم تخليهن عما يعتقدن أنه يمثل هويتهن الإسلامية.

ففي تحدٍّ لتلك الصورة النمطية للمرأة المسلمة المقهورة أو المتشددة دينيًّا صدر عدد كبير من الأعمال الأدبية في الغرب لكاتبات مسلمات، في محاولة لتعريف القارئ الغربي على تجارب لنساء مسلمات حديثات متحررات يملن إلى إعطاء الأولوية لطقوسهن الإسلامية، حتى في المجتمعات الأكثر تحرّرًا. وكانت صورة غطاء الرأس أو الحجاب هي أهم ما ميَّز تلك الأعمال الأدبية، ولكننا هنا نرى صورة مختلفة تمامًا عن تلك الصورة النمطية التي اعتاد القارئ رؤيتها. فهنا (نساء/ فتيات) يرتدين أزياء عصرية في ألوان زاهية متنوعة، ينظرن للقارئ في ثقة وعلى وجهوهن ابتسامات.

من بين تلك الأعمال الأدبية على سبيل المثال: "الفتاة في وشاح اليوسفي" (2006) للشاعرة والكاتبة السورية الأمريكية/ مهجة كحف، و"هل تبدو رأسي كبيرة في هذا؟" للفلسطينية الأسترالية/ رندا عبد الفتاح (2005)، و"صوفيا خان ليست مجبرة" (2016) للبريطانية من أصول باكستانية/ عائشة مالك.

وعلى الرغم من أن الحجاب ظل أيضًا إشكالية بين العلمانيين والمتدينين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ومع أن تلك الصورة النمطية للمحجبة الخاضعة المطيعة لزوجها وأبيها -ولكنها ليست بالضرورة صورة سلبية- كانت مهيمنة في الثقافة (العربية/ الإسلامية)، إلا أنه بخلاف الكتابات ذات الصبغة الدينية، فنادرًا ما أتي تصوير المرأة المحجبة في أعمال كتبت بالعربية. فهناك مثلًا "عذراء جاكارتا" للطبيب والكاتب المصري/ نجيب الريحاني، والتي صورت المرأة المحجبة في إندونيسيا والصراع (الإسلامي/ الماركسي) حول السلطة السياسية في النصف الثاني من عام (1965) في أكبر بلد إسلامي (إندونيسيا).

تمثيل المرأة في رواية "نساء البساتين":

لم يتطرق عمل روائي لاختيار نساء (مسلمات/ عربيات) لزيهن ومشاعرهن والتحديات التي تتبع ذلك في مجتمع (مسلم/ عربي) محافظ مثلما جاء في رواية "نساء البساتين" للروائي التونسي/ حبيب السالمي.

ويعد الحبيب السالمي من أهم الكتاب العرب، والذي يركز في أعماله الروائية على تصوير العلاقة و/ أو الصدام بين القيم الشرقية والغربية في مجتمعات ما بعد الكولونيالية. ولد السالمي في القيروان في تونس عام (1951)، وهو محاضر جامعي في اللغة العربية مقيم في باريس منذ عام (1983).

ومن أهم أعماله: "جبل العنز" (1988) - "صورة بدوي ميت" (1990) - "متاهة الرمل" (1994) - "حفر دافئة" (1999) - "عشاق بية" (2001) - "أسرار عبدالله" (2004) - "روائح ماري كلير" (2008) - "نساء البساتين" (2010) - "عواطف وزوّارها" (2013)، "بكارة" (2016).

وقد تُرجمت العديد من رواياته إلى عدة لغات أجنبية واختيرت روايته "روائح ماري كلير" (2008)، و"نساء البساتين" (2010) لجائزة البوكر العربية في عامي (2009) و(2012) على التوالي.

في روايته "نساء البساتين"، يغوص السالمي في سوسيولوجيا الشخصية التونسية ووعيها من جهة، وتفكيك الصورة النمطية للمجتمع الشرقي والغربي من جهة أخرى. وسيلاحظ القارئ ذلك منذ الوهلة الأولى، حتى قبل أن يقرأ سطرًا واحدًا في هذا العمل الأدبي. فإلقاء نظرة على صورة الغلاف تُشعر القارئ بالارتباك، وعدم القدرة على تخمين ما قد تدور حوله أحداث هذه الرواية، أو حتى تكوين صورة عامة عن طبيعة حياة تلك النساء اللاتي رُسِمْنَ على الغلاف أو أفكارهنَّ. إذ نرى صورة تضمُّ مجموعة متنوعة من النساء، منهن التي تلبس ثوبًا أسود يغطيها من رأسها إلى أخمص قدميها، وبجوارها فتاة ترتدي فستانًا قصيرًا أحمر، وثالثة ترتدي غطاء أبيض للرأس كاشفةً وجهها، وبجانبها رابعة ترتدي حجابًا أبيض، ولكنه لا يغطي كل شعرها، وهناك العديد من الفتيات اللاتي لا ترتدين غطاء الرأس، في أزياء مختلفة ما بين ثوب قصير جذاب، وآخر طويل فضفاض. وبعضهن مبتسمات ومنشغلات بحديثهن مع بعضهن، بينما تشيح أحداهن بنظرها عن القارئ، وتنظر أخرى للقارئ/المتلقي في تحدٍ في زيها القصير الجذاب.

في هذا العمل الأدبي، يناقش السالمي تحديات اختيار ارتداء الملابس العصرية، والموقف المتناقض تجاه الحداثة والنزعة الاستهلاكية في مجتمع محافظ اجتماعيًا، وذلك من خلال تتبع ثلاث شخصيات نسائية تكافحن من أجل التفاوض حول تأكيد فرديتهن وحريتهن، حيث تدور أحداث الرواية بشكل رئيس حول اختيار ثلاث نساء: (يُسرا، وليلى، ونعيمة) لمظهرهن وأزيائهن، في مجتمع يصفه النقاد والمنظرون بأنه أكثر المجتمعات العربية انفتاحًا وتحرّرًا، وخصوصًا فيما يتعلق بحقوق المرأة والمساواة بين الجنسين.

تقع أحداث هذه الرواية في أحد أحياء الطبقة المتوسطة والمسمى "حي البساتين"، وهو حي يقع بالقرب من شارع/ الحبيب بورقيبة في العاصمة التونسية المعاصرة، وهي تُروى من منظور أستاذ التاريخ والجغرافيا المقيم في فرنسا (توفيق)، والعائد لقضاء عطلة مع أسرته في تونس بعد غياب دام خمس سنوات.

وتبدأ أحداث الرواية بوصف اللقاء العائلي لبطل الرواية مع شقيقه إبراهيم وزوجته يُسرا وطفلهما وائل. وسيبدأ الكاتب مباشرة بتصوير التغيرات التي طرأت على سلوك يُسرا بعد ارتدائها لغطاء الرأس (الحجاب).

يقول توفيق:

"يعانقني إبراهيم عناقًا طويلًا حارًّا بشدة، فهو أقرب إخوتي إلى نفسي، بحكم تقاربنا في العمر، فأنا أكبره بعام واحد فقط. أما زوجته يُسرا، فلا تقبلني خلافًا للعادة. تمدّ لي يدها، وهي تتراجع بجذعها للخلف، بل إنها بالكاد تصافحني، ولا أفهم هذا التصرف الغريب إلا عندما ينحني عليَّ إبراهيم ويقول:

ـ شوف ... يُسرا تحجبت.

يضيف كمن يتبرأ من تهمة خطيرة:

"هي التي قررت أن تتحجب، أنا لا دخل لي في الموضوع."[1]

في هذا المشهد وقبل أن أبدأ في قراءة سلوك يُسرا الجديد الذي اقترن بارتدائها الحجاب، سأبدأ بالإشارة إلى تأثير الخطاب الاستشراقي على الشخص (الشرقي/ المسلم) نفسه من خلال تعليق إبراهيم على قرار يُسرا بارتداء الحجاب، والذي يمكن تفسيره على أنه "استشراق ذاتي"؛ أي رؤية الذات من خلال الخطاب الذي استخدمه "الغرب" لتصوير الرجل الشرقي. ففي هذه الصورة ترى المرأة المسلمة المحجبة فقط من خلال زوج أو أب يجبرها على ارتداء الحجاب. ولهذا سيبادر الزوج (إبراهيم) هنا في الدفاع عن نفسه وإثبات براءته من تهمة لم يوجهها إليه أخوه الشرقي الثقافي مثله.

في هذا المشهد وبالعودة إلى سلوك يُسرا الجديد، يمكن لنا أن نقرأ تغيير سلوك يُسرا تجاه توفيق، في ضوء التأثير الذي يحدثه ارتداء ملابس معينة على سلوك الفرد، وهو ما تشرحه إيما تارلو في كتابها "مسلم مرئي: الموضة والسياسة والإيمان" (2010). ففي دراستها الأنثروبولوجية حول المعنى الذي قد يحمله ارتداء الحجاب في طياته بين مرتدياته في لندن المعاصرة، تؤكد تارلو أن غطاء الرأس المعاصر في تصميماته الحديثة يبرز دور الممارسة الدينية في تشكيل الذات، مؤكدة ذلك بقولها: "بالنسبة للعديد من النساء، فإن تبني الحجاب لا يغير من شعورهن بالذات فحسب، بل وأيضًا علاقتهن بالآخرين، والمجال العام من حولهن"[2]. وهنا طبقًا لتارلو، فإن التأثير الحقيقي والمتخيل لغطاء الرأس (الحجاب) يطابق ما يصفه ألفريد جيل بأنه "قوة ثانوية للأشياء"[3] التي يكون لها القدرة على لعب دور ووساطة في حياة البشر.

وعلى الرغم من أن تلك الصورة قد تعيد للأذهان الصورة النمطية للمرأة المسلمة الروحانية المحتشمة والمقاومة لهيمنة الثقافة الغربية الاستهلاكية، إلا أن الكاتب ما يلبث أن ينقلنا إلى صورة مناقضة لذلك، إذ يصف البطل افتتان يُسرا التي تضع مساحيق التجميل، وتهتم بمظهرها الخارجي كما كانت قبل ارتداء الحجاب، بل وافتتانها بالأزياء الفرنسية، على الرغم من ارتدائها للحجاب. وسيظهر هذا بوضوح عندما يهديها (بلوزة) من الحرير بأكمام قصيرة، كان اشتراها لها من فرنسا قبل أن يعلم أنها ارتدت حجابًا.

يقول توفيق:

"أتنفس الصعداء ويغمرني ابتهاج عميق حين تعجب إعجابا شديدًا بهديتها (وهي بلوزة من الحرير). لما طلبتُ من كاثرين أن تشتري لها ملابس من نوعية ممتازة، ولم أكن أعرف أنها تحجبت. كانت (بلوزة) قصيرة الأكمام وشفافة عند الصدر"[4].

يوضح لنا المشهد السابق إعجاب يُسرا بـ (البلوزة) بينما يتفاجأ زوجها إبراهيم من موقفها هذا تجاهها؛ حيث إنها ترتدى الحجاب الذي يقتضي التزام المرأة بارتداء لباس فضفاض ساتر لكل جسمها كما نقرأ في السطور التالية:

"يسألها إبراهيم باستغراب:

ـ تتحجبين ... وتلبسين هذه البلوزة!

ترد وهي تضحك:

ـ وما المشكلة؟

سألبسها في البيت لما نكون لوحدنا ... ولما أخرج ألبس سفساري فوقها.

يكمل إبراهيم تعليقه على تيار ارتداء الحجاب في شكله الجديد في تونس قائلاً:

"الآن في تونس ... تجد كل شيء مع الحجاب"

أجاب إبراهيم:

"أقصد أن التونسية تتحجب، لكنها لا تتخلى عن الجينز الضيق".

يضيف إبراهيم متهكمًا:

الحكاية لا تتوقف عند هذا الحد ... سمعت أن بعض المحجبات يلبسن الاسترينج.

تنفجر يُسرا بصوت عالٍ وانضم إليها إبراهيم قائلة:

تخيل ... حجاب من فوق واسترينج من تحت![5]

وفي مشهد آخر قرب نهاية الرواية، ترتدي يُسرا (البلوزة) الفرنسية تحت لباسها الفضفاض، وهي تضع الماكياج. مما يدعو زوجها للتعجب، فكيف لها أن تضع هذا الماكياج الباذخ، بينما تصلي وترتدي الحجاب؟! ومع ذلك يبدو لنا من الواضح أن يُسرا لا ترى أي تناقض في ذلك فحسب، بل إنها لا تعتبره ضد التزامها بالدين الاسلامي الذي يدعوها للاحتشام، ويصف لنا توفيق هذا المشهد في السطور التالية:

"ألاحظ أن يُسرا كحلت عينيها وطلت أحمر شفاه خفيف وزججت حاجبيها ...للمرة الأولي منذ تحجبت أراها متبرجة بهذا الشكل تبرجها بهذه الطريقة يعني أنها لم تتغير رغم تحجبها، وأنها لا زالت تعتني بمظهرها الخارجي"

يسألها إبراهيم مستغربًا:

"تصلين ... وتلبسين الحجاب ... وتتمكّجين بهذا الشكل؟!"

تجيب يُسرا بلا تردد:

"آ...وما المشكلة؟"... المكياج حرام؟![6]

ومع اقتراب نهاية الرواية، يصف توفيق مشهد وداع عائلته له، حيث تعطيه يُسرا البهارات وزيت الزيتون، وتذكره بما تتمنى أن يجلب لها من فرنسا في زيارته القادمة، وكان أهمها معطفًا كهذا الذي رأته يومًا في التلفاز. ويذكره أخوه كذلك، أن يشتري له هاتفًا نقالًا أكثر حداثة في المرة القادمة.

"ينهضون كلهم لتوديعي. تعطيني يُسرا علبة توابل قارورة زيت زيتون ... ولا يفوتها أن تذكرني بأنها لا تزال تحلم بأن أهديها ذات يوم معطفًا كذلك الذي أرتني إياه في التليفزيون، بالرغم من أنها تعرف أن هذا النوع من المعاطف باهظ الثمن حتى في أوربا.

أما إبراهيم، فهو ينبهني مرة أخرى إلى ضرورة القدوم في الصيف في الزيارة القادمة، قبل أن يقول لي إنه يتمنى أن أجلب له من فرنسا هاتفًا نقالًا أكثر تطورًا من جهازه الحالي القديم، والذي صار مادة للتندر من قبل أصدقائه وزملائه الذين يمتلكون كلهم هواتف نقالة من أحدث طراز".[7]

وفي هذا الاقتباس يحاول السالمي التأكيد مرة أخرى للقارئ على موقف المجتمع التونسي، الذي يقدر المنتجات الأوروبية المتطورة، والأزياء الأنيقة؛ فموقف المرأة المسلمة المعاصرة تجاه الأزياء والمنتجات الغربية هنا هو جزء من موقف المجتمع بشكل عام. فتلك النسوة التونسيات واللاتي لهن جذور إسلامية محافظة لن يكبتن افتتانهن بمساحيق التجميل، والفساتين العصرية المماثلة للأزياء الغربية التي تأتي إليهن من الغرب. كل هذا على الرغم من كونهن مسلمات اخترن ارتداء الحجاب دون إجبار.

وبغض النظر عن حقيقة أنه يمكن قراءة موقف المرأة المسلمة المحجبة هنا على أنه موقف مقاوم للصورة النمطية للمرأة المحجبة المقموعة، والتي يجب عليها أن تستتر في احتشام وحياء وراء حجابها، كما يريد لها المجتمع الذكوري، فإن هذا الميل الذي يحاول الجمع بين ملاحقة صيحات الأزياء، واقتناء مستحضرات التجميل، والأزياء حتى مع ارتداء الحجاب قد يفرغ الدين من صفة أساسية له، وهي: "احتشام وبساطة المظهر"، وهو ما دفع رانيا لويس إلى وصف هذا الموقف بأنه "احتشام مزيف" في كتابها "أزياء محتشمة: تصميم الأجساد ووساطة الإيمان" (2013).

وهو ما شرحته كذلك الكاتبة النسوية المصرية فدوى الجندي في كتاب "الحجاب: الخصوصية والمقاومة" (2003)، وهي واحدة من النساء القلائل اللائي درسن تاريخ الحجاب ومعناه في عصر ما بعد الاستعمار الحديث، وفي دراستها تشير لدور الحجاب في المجال العام في ضوء المنظور المختلف "للخصوصية" في الثقافة الإسلامية عنها في الأديان الأخرى.

وتبدأ الجندي بتعريف الخصوصية على أنها: "حاجة الأفراد والعائلات والمجموعات الاجتماعية إلى أن يفصلوا بينهم وبين الآخرين في أوقات مختلفة لنشاطات محددة المعالم جدّاً[8]" وهنا، فإن الإسلام إذ يعتبر أن الجنس جزء لا يتجزأ من حياة الإنسان، فإنه يخصص له مساحة خاصة، ولذلك فالمجال العام يجب أن يكون خالياً من الممارسات الجنسية. وفي هذا السياق تجادل العديد من النساء المسلمات بأن غرضهن من ارتداء الملابس الإسلامية المتواضعة هو تحررهن من نظرات الرجال، و"تحرير النساء من ويلات مسابقة الجمال"، التي تلهث فيها النسوة وراء صورة النساء الجميلات اللاتي يروهن حولهن. ولذلك هنا سيكون اختيار مرتديات الحجاب بمثابة إنقاذ لهن من "عبودية عقرب الساعة المتأرجح لصناعة الأزياء وغيرها من المؤسسات التي تستغل جسد المرأة لصالحها. فالحجاب هنا وسيلة تجنب النساء من السقوط في "مصيدة التعري"، والاحتفاظ "بشخصية" حقيقية خاصة بكل منهن على حدة دون التضحية بحقوقهم في المساواة في المجال العام[9].

وهنا تذكرنا فاطمة المرنيسي برؤيتها لوضع النساء في المجتمع الغربي المعاصر الذي تهيمن عليه الثقافة الاستهلاكية والمنطق الرأسمالي في كتابها "شهرزاد ترحل إلى الغرب: ثقافات مختلفة وصور مختلفة للحريم" (2002)، إذ تجادل بأنه على الرغم من أن المرأة قد مُنحت حق الظهور والمشاركة في المجال العام -وهو أمر ما زال مقيدًا إلى درجة كبيرة في العالم الإسلامي- إلا أن تلك النسوة الغربيات لم تستطعن بالضرورة التحرر تمامًا من هيمنة الذكور عليهن، بل إنهن يتم التحكم بهن أيضًا من خلال سيطرة "مفهوم الجمال" في المجال العام. فهنا تُحدد الصورة المرغوبة للنساء من خلال تحديد حجم المرأة، وعمرها ... والمرأة هنا لا يجب أن يزيد مقاس خصرها عما تحدده الصورة المثالية التي اختارها الرجل لها، ولا أن تظهر على وجهها علامات تقدم السن عن ذلك العمر المثالي الذي قرره لها، وروج له في إعلانات تجارية وصور لنجمات السينما والمشاهير... ومن ثَمَّ تركض المرأة وراء استخدام المساحيق التجميلية والمنتجات والحميات الغذائية فقط؛ لتحصل على الصورة والاختيار الذي اختاره لها الرجل في عصر استهلاكي، ولهذا السبب ترى المرنيسي بأن النساء في الغرب أيضًا تتحكم فيهن سلطة الرجال، حتى لو ظهرت هيمنة الرجل في صورة مختلفة بسبب مصالحه المختلفة. فبينما يهمن الرجل على المرأة في الشرق من خلال السيطرة على المكان (الفضاء العام)، يسيطر الرجل في الغرب على المرأة بسلطته على السوق، ليحدد لها الزمن إذ تقول: "أن تكوني جميلة على الجانب الأوروبي من البحر الأبيض المتوسط، يعني ارتداء الملابس كما يطالبك إمام السوق"؛ ففي عصر الحداثة يهيمن الرجال على النساء من خلال كشف النقاب عما يجب أن يكون عليه الجمال. وفي حال كنتِ لا تشبهين الصورة التي يكشف عنها النقاب، فقد انتهيت".[10]

ومع ذلك وبالعودة إلى المرأة (المسلمة/ العربية)، ورغم إيمانهن بالآيات القرآنية التي تتطلب الاحتشام الداخلي والخارجي، فقد تمكنت منها النزعة الاستهلاكية والهوس بالأزياء والتغيير في تحدٍ لجميع التفسيرات الأبوية التقليدية السائدة للعرف وكذلك للآيات القرآنية، وسينتشر ما يسمى "بالزي الإسلامي" في أشكال وتصميمات مختلفة مصاحبًا لأحدث منتجات التجميل. وهنا يمكن قراءة "اختيار الجمع بين الزي الإسلامي والمنتجات الغربية" كجزء لا يتجزأ من ثقافة المستهلك، ونتيجة لحركته الثقافية، إذ يمكننا الإشارة هنا إلى ما كتبه كل من ماري دوغلاس وبارون إيشيروود (1996) حول الاستهلاك، إذ يريا أنّ: "الاستهلاك هو الساحة نفسها التي تُحارِب فيها الثقافة وتتحول وتتشكّل؛ أي إن الاختيار بين المنتجات يعد نتيجة للثقافة"[11] ومساهما فيها أيضا.

وهنا قد يجادل البعض أن تلك النساء المسلمات العصريات قد وقعن ضحية لبراثن النزعة الاستهلاكية، وصورة الأنثى الجميلة الحديثة، من خلال الجمع بين: (الحجاب، والزي غير المحتشم، ومساحيق التجميل).

ومن ناحية أخرى، ورغم هذا تعرض هؤلاء النساء المسلمات وموقفهن من الموضة والافتتان بالمظهر -لانتقادات من قبل المنظرين "الليبراليين" الغربيين وغير الغربيين، خاصةً مع تمسكهن بغطاء الرأس، فغطاء الرأس عندهم رمز لقمع النساء المسلمات، وإخضاعهن لذكور كارهين للنساء، بغض النظر عن موقعهن الجغرافي أو وضعهن الاجتماعي، وعدم إمكانية تخيل أية امرأة مسلمة متعلمة حديثة تختار اعتناق طقوسها الإسلامية مثل: غطاء الرأس حتى مع تصميمها العصري المألوف، إلا أن هذا الزي في شكله العصري وتصميماته المتنوعة ظل جاذبًا لشريحة واسعة من النساء والفتيات الصغار في المجتمعات الإسلامية.

وهنا بإمكاننا النظر إلى هذا الموقف كأحد المواقف النسوية ما بعد الكولونيالية، من خلال تصوير يُسرى على أنها تمثيل لإحدى النساء المسلمات، يمكننا أن نفترض أنها هنا تتبني استراتيجية النقد المزدوج، فهي تتحدى كلًّا من التفسيرات الأبوية للآيات القرآنية، وكذلك صورة المستشرق الغربي للمرأة المسلمة على أنها مستترة وصامتة. فالمسلمة العصرية هنا تسعى إلى اعتناق كل من نمط النزعة الاستهلاكية العلماني الحديث، وما يقضيه من ملاحقة الجمال الخارجي، وقيمها الإسلامية المتمثلة في ارتداء الحجاب، ممثلة ما وصفته مريم كوك بـ "الوسيط المزدوج"، في مقاومة لكل من المستعمِر والمستعمَر في آنٍ واحد، بينما "تؤكد وتوازن أيضًا بين تداخل متعدد في بعض الأحيان لولاءات متناقضة.[12]

ومن جهة أخرى، يمكن للمرء أن يفهم اختيار يُسرا لارتداء الحجاب، دون التخلي عن رغبتها في أن تظهر بمظهر عصري، في ضوء فهم ما بعد البنيوية لوكالة الفرد في ثقافة معينة. ففي هذا التصور يتم بناء ذاتية الفرد من خلال: اللغة، والخطاب، والأيدولوجية السائدة في المجتمع. فـتأتي اختيارات الفرد نتيجة لذلك "إذ إن كل هوية تميل إلى تخيل نفسها في سياق اجتماعي معين، وتُحَدد اختيارات هذه الهوية بالرجوع إلى معايير واتفاقيات السياق الاجتماعي وداخله".[13]

تحرر مشروط:

وفقًا للمعايير الاجتماعية الأبوية السائدة في الثقافة العربية، فإن سمعة الأسرة وحتى المجتمع مرتبطة بسلوك المرأة وأفعالها. فوفقًا لهذه المعايير الاجتماعية، نجد أن التعامل بين الرجال والنساء من غير الأقارب يعد أمرًا غير مقبول اجتماعيًا، وعلى الرغم من حقيقة انتهاك تلك المعايير من قبل الرجال، فإن النساء مطالبات بعدم انتهاك علاقتهن مع غير الأقارب بأيّ ثمن؛ للحفاظ على نمط المعيشة الشرقي، بعيدًا عن كل السلوكيات الغربية حتى مع انغماس المجتمع العربي في الثقافة الغربية ومنتجاتها.

وسنرى هذا بوضوح في تصوير السالمي لشخصيتي (ليلى، ونعيمة) اللتين اختارتا عدم تغطية شعرهما، واختارتا كذلك ارتداء أزياء على النمط الأوروبي الذي روجت له سياسة الحبيب بورقيبة وقوانينه. ففي الفصل الرابع عشر: يروي لنا الكاتب قصة (ليلى) المرأة العاملة والمتزوجة من موظف ميسور الحال. ليلي امرأة متحررة مفتونة بالأزياء، ومؤمنة بحقها في عيش حياة متحررة لا تحكمها تقاليد يقيدها بها مجتمعها، وخاصة أن القانون في بلدها كفل لها هذا الحق. تروي لنا ليلى خيبة أملها في موقف الرجال والناس من حولها في هذه البيئة الاجتماعية المحافظة قائلة: "هذه البلاد للرجال فقط، المرأة هنا لا يمكنها أن تعيش، لا تستطيع حتى أن تلبس ما تريد، وإذا فعلت يقولون عنها: قحبة، التوانسة يفتخرون بأن المرأة في تونس حرة، ولها حقوق لا توجد في أي بلد عربي أخر، ولكن لا واحد منهم يحترم هذه الحقوق خصوصًا الإخوانجية ..."[14]

وحتى تلفت ليلى نظرنا للفرق بين القوانين والثقافة السائدة في المجتمع، والتي تتحدى اختيارات النسوة الحرة. تلك الثقافة -كما ذكرنا سابقًا- تهيمن ليس فقط على آراء الرجال بل والنساء أيضًا، فهنا نرى يُسرا التي تُدين اختيار أختها الحر لمظهر مختلف عنها، في بلد يكفل لها ذلك بالقانون، فتوجه حديثها لتوفيق قائلة:

"تصرفاتها ما عدت أتحملها، وما عدت أتحمل طريقتها في اللباس أيضًا، فضحتنا في الحي، والكثير من الناس يقولون عنها أنها فاسدة، تلبس حاجات ضيقة. آخر مرة شفتها كان صدرها كله عاريًا، وكل ما أكلمها، أطلب منها أن تستحي تقول أنها حرة، وأني امرأة متخلفة ومن عام ككح".[15]

وهنا يمكن للمرء أن يرى كيف أن هذا المجتمع العربي المنغمس في استهلاك السلع والمنتجات الغربية، فضلاً عن الجو الأكثر ليبرالية -كما يزعمون- للمرأة في العالم العربي ليس مستعدًا للاعتراف بالخيارات الحرة لإناث اختارت تبني أسلوب حياة على الطراز الأوروبي كاختيار (ليلى) هنا لزيها الذي يختلف عما تقره له ثقافتها الاجتماعية المحافظة.

في الفصل الأخير أيضًا، سيصُدم القارئ من القدر المأساوي الذي يؤول إليه مصير (نعيمة)، وهي امرأة مطلقة، كانت تقطن في المبني نفسه الذي يقطن فيه إبراهيم وزوجته وابنه، تلك السيدة التي كان الجميع من حولها يعترف لها بطيب السمعة والسلوك حين كانت ترتدي الحجاب وأزياء فضفاضة، ولكن موقفهم قد تغير تمامًا تجاهها بعد أن قررت التخلي عن الحجاب، وارتداء فساتين غير محتشمة. وسيبدأ من حولها في تتبع تفاصيل حياتها الخاصة حتى يتم الإبلاغ عنها، وأخذها إلى قسم البوليس؛ على أثر اتهامها بالإقامة مع رجل لا تربطها بها علاقة شرعية.

ويحاول السالمي هنا من خلال نعيمة انتقادَ الثقافة العربية التي تُقدر النساء من خلال مظهرهنَّ الخارجي، والمرتبط بأزيائهنَّ فقط، مما قد يدفع الكثير منهن إلى النفاق والتخفي خلف أردية قد لا تعبر بالضرورة عن حقيقة أخلاقهنَّ وقناعتهنَّ. فنعيمة، باعتبارها امرأة مطلقة حاولت جاهدةً أن تنال احترام بيئتها الاجتماعية بارتدائها الحجاب، لكنها خسرت ذلك فقط بمجرد تغيير نمط أزيائها لنمط اختارته، ورأى مَنْ حولها أنه لا يليق بالمجتمع المحافظ. كانت معضلة نعيمة مثل ليلى: أن قبولها اجتماعيًا كان مرتبطًا بشكل أساسي بمظهرها الخارجي، وخاصةً ارتداء الحجاب. فكانت تغطية الرأس هي بطاقة اكتساب المرأةِ الاحترامَ، حتى مع وضع مساحيق التجميل، وارتداء (السراويل، والتنانير، والفساتين الجذابة).

اختار السالمي أن تروى أحداث روايته في حي (الحبيب بورقيبة)، وهو أول رئيس تونسي سعى إلى تأسيس دولة حديثة مقطوعة العلاقة بالثقافة العربية/ الإسلامية التقليدية، وتتبنى أسلوبًا وثقافةً غربية حديثة تتماشى مع العصر الحديث وأفكاره وقوانينه. فأصدر قوانين تُقوِّض من سلطة رجال الدين، وتُثَبِّط الممارسات والطقوس الدينية في المجال العام، ومن أهمها: منع ارتداء غطاء الرأس والوجه، تأييد قوانين تدعم المساواة بين الجنسين في العمل والتعليم، وتضمن حقوقًا منصفة للمرأة، وخصوصًا فيما يتعلق بـ (الزواج، والطلاق، وحضانة الأطفال، والحق في المشاركة في الانتخابات، والتصويت) بطريقة لم يعرفها أيُّ بلد عربي آخر إلى يومنا هذا. وقد ساهم كل هذا في تصدير صورة واحدة للمرأة التونسية، هي صورة المرأة القادرة على المشاركة الفعَّالة في الفضاء العام، وممارسة حقوقها (السياسية، والمدنية، والاقتصادية) دون قيود. وربما أراد السالمي هنا الإشارة إلى تفوق سيادة العرف والتقاليد على القانون، ووضع علامة استفهام حول مشروع الحبيب بورقيبة لبناء دولة حديثة قادرة على القطيعة مع الثقافة الشرقية الإسلامية المحافظة، وخصوصًا فيما يتعلق بأجساد النساء في المجتمعات العربية.

ومع ذلك، فإننا إذا ما قمنا بقراءة "نساء البساتين" من منظور ما بعد الاستعمار، فإن ما يلفت النظر بشدة هو الشخصيات النسائية، ومواقفهن المختلفة تجاه الأزياء الغربية، و"الزي الإسلامي" في مجتمعهن المعاصر، فقد مثلت تلك الصورة تحديًا واضحًا لكل من الخطاب الاستشراقي السائد في مرحلة ما بعد الاستعمار، والذي يقرأ النساء المسلمات كفئة متجانسة. علاوة على ذلك، فإن تلك الشخصيات النسائية الثلاث لَسْنَ من النساء السلبيات المقهورات القابعات في انتظار أن تأتي نسوية غربية لتحررهن، ولكنهن تحاولن مقاومة السلطة والقمع الواقع عليهن بأنفسهن.

على الجانب الآخر، فإن تصوير النهاية المأساوية لنعيمة، وخيبة أمل ليلى في المجتمع التونسي الأكثر تحررًا في المنطقة -يعد تمثيلًا نمطيًا لامرأة عربية مسلمة لن تستطيع أن تمتع بحرية الاختيار إلا في المجتمعات الغربية الليبرالية. في هذا الصدد، هذا يعني أن "الاختيار الحر" لمرتديات الحجاب لزي عصري جذاب واستهلاك مساحيق التجميل لإظهار جمالهن، مخالفًا بذلك الصورة التي اعتادت الأعمال الاستشراقية على استحضارها - في حين أنه قادر على تحدي الصورة الاستشراقية/إمبريالية للمرأة العربية / المسلمة فإنه، إلا أنه يمكن أن يعني أيضًا، أن هؤلاء النساء قد جاءت اختياراتهن فقط ضمن دور معين محدد لهن، دون السماح لهن بتجاوزه من قبل السلطة الاجتماعية والعرف والتقاليد.


[1] نساء البساتين، ص 6

[2] Tarlo Emma, Visibly Muslim: Fashion, Politics, Faith. Oxford: Bloomsbury Academic, 2010. P: 132

[3] Tarllo P: 151

[4] نساء البساتين، ص 10

[5] نساء البساتين، ص 121

[6] المرجع السابق، ص 202

[7] المرجع السابق، ص 206

[8] EL Guindi, F. Veil, Modesty, Privacy and Resistance. Cambridge: Cambridge University Press. 1999: P: 139

[9] Bullock, Katherine. "Rethinking Muslim Women and the Veil: Challenging Historical & Modern Stereotypes". london.2002. P: 20-21

[10] Mernissi, Fatima. Scheherazade Goes West: Different Cultures, Different Harems. New York: Washington Square Press 2002.P: 112.

[11] Douglas, Mary, and Baron Isherwood. The World of Goods: Toward an Anthropology of Consumption. 2nd ed. (London and New York: Routledge. 1996

[12] Cooke, Miriam. Women Claim Islam. London; New York: Routledge. 2001. P: 107

[13] Tylor, Charles. "Modes of Secularism: Secularism and its Critics". Ed. Bhargava Rajeev. New Delhi: Oxford University Press.1998. Pp 47 -53

[14] نساء البساتين. ص ص 137-138

[15] المرجع السابق. ص ص 145-146