أفلاطون: أول منظر للتربية


فئة :  ترجمات

أفلاطون: أول منظر للتربية

أفلاطون: أول منظر للتربية[1]

جورج مينوا*

ترجمة: بلال مراوي*

يقول أفلاطون: "يستغرق الأمر خمسين سنة لإعداد الإنسان" يمزج هذا الفيلسوف اليوناني بين ما هو كلاسيكي وما هو حداثي بشكل عجيب؛ إذ طور في أكاديميته برنامجا لتعليم شهي خصص للأرواح الخيرة التي تولد في المدينة.

وُلد علم التربية، في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، بأثينا، لتَلْبِية حاجات النظام السياسي الديمقراطي بالمدينة؛ المتعلقة بتدريب المواطنين القادرين على إدارة الشؤون العامة. استجابة لهذه الحاجة النّفعية، نجد هناك تصورين متعارضين: واحد للسفسطائيين المحترفين الذي يتقاضون أجراً مثل بروتاغوراس (485-411 ق. م) وهدف التعليم عندهم لا يوصل إلى حقيقة افتراضية، بل إلى "معرفة الكيفية التي تكون بها أكثر تأثيرا من خلال أفعالك وخُطبك." وبعبارة أخرى، اكتساب فن الاقناع عبر الخَطابة؛ لأن "الإنسان [في نظرهم] مقياس كل الأشياء". والآخر لأفلاطون الأرستقراطي، الذي افتتح، بعد تجارب سياسية مخيّبة للآمال، في حديقة الأكاديمية بأثينا عام 387، نوعا من المدارس العليا ومركزا للبحوث، أو [بالأحرى] حيث قام بالتدريس أثناء تأليفه للعديد من محاوراته. وأهمها محاورة الجمهورية التي تصف المجتمع المثالي، وتتضمن عرضا لنظام بيداغوجي حقيقي.

الحكام-الفلاسفة للمدينة الفاضلة.

يعتقد أفلاطون (427-347)، على عكس السفسطائيين، بوجود الحقيقة، حقيقة متعالية ومطلقة، كامنة في عالم الأفكار الإلهي؛ بيد أن الغاية من التعليم هي اكتشاف [هذه الحقيقة]. فهي لا يمكن فصلها عن الجمال والخير، وبالتالي فالتعليم العقلي لا ينفصل عن الأخلاق والاستطيقا. إنها مسألة تدريب الرجال الفضلاء والعقلاء الذين سيصبحون فيما بعد حكام- فلاسفة للمدينة الفاضلة. لذلك فهو نظام نخبوي للغاية، لا يركز إلا على أفضل العقول، ومثاليته هذه ليست ديمقراطية. إن الدولة التي يتصورها أرستقراطية يقودها "الحراس" الذين تم تدريبهم عبر تنسّك تعليمي طويل. إنها يوتوبيا سوسيو- سياسية مقلقة من نواحي كثيرة؛ لأنها تحتوي على أفكار حديثة وأخرى رجعية للغاية، والتي ستشكل حججا للبداغوجيين من جميع التوجهات. وهكذا، فإن هذا التأييد الصارم لاختيار أرواح مولودة جيدا لا يستبعد النساء، "فجميع النساء اللاتي منحتهن طبيعتهن القدرة" سيحصلن على نفس التعليم الذي يحصل عليه الرجال.

يتم التدريس في الأكاديمية بطريقة سقراطية، وعلى هيئة حوار يدور بين مجموعة من المتعلمين الذي يرتبطون فيما بينهم بالصداقة أو عبر الحب المثلي، الذي يضمن، كما يقال "مجتمعا أكثر اتحادا" بين المدرس والمتعلم: الحوارات الأفلاطونية ليست أفلاطونية بالكامل، بل يمكن رؤيتها في سياق الثقافة اليونانية الكلاسيكية. ولكن أفلاطون، في المدينة الفاضلة، على عكس السفسطائيين الذين يدافعون على تعليم فردي من النوع الذي يكون المسؤول عليه هو المدرس، يعتقد أن التعليم يتعين على الدولة توليه، فهي المسؤولة عن تدريب المواطنين.

البحث عن الحقيقة.

إن البرامج الدراسية كانت صادمة قبل المحاورة التي ستروق للنزعة الإنسية في القرن السادس عشر، ولكنها بشكل عام غير واقعية وهذا مزج مدهش مرة أخرى بين الأفكار الحديثة والتصورات الرجعية. كل شيء يبدأ حوالي السبع سنوات [الأولى]، مع تعلم المبادئ الأولية؛ بيد أن عقل الطفل يكون مرنا في هذا السن "يستوعب كل الانطباعات التي نريد ترسيخها فيه". ينبغي الاستفادة من العادات الجيدة لتطوير التناغم العقلي والجسدي، من خلال الموسيقى، الرقص، والغناء الكورالي، والجمباز، تحت إشراف مراقبين مأجورين من طرف الدولة. يوصي أفلاطون بممارسة الألعاب التربوية في رياض الأطفال واستخدام طرائق نشيطة؛ أكثر بطئا ولكن أكثر أمنا، والتي وصفها "بالدورة الكبيرة" أو "الدورة الشاسعة" ويبدو أفلاطون هنا حديث جدا. في هذا السن البرعومي، من الضروري استبعاد القصص الأسطورية، الخيالية، والأوهام التي نسميها "حكايات خرافية"، كل الأوهام التي "أخبرنا بها هوزيود وكذلك هوميروس وبقية الشعراء؛ لأن هؤلاء بدون شك قدموا للرجال حكايات كاذبة واستمروا في تقديمها. إن هذه الأوهام تشوش عقول الشباب بقصص غير أخلاقية وعديمة الجدوى، وخرافات تقود العقل إلى الضلال، وتهيج العواطف، وتحط [من شأن] الآلهة والرجال العظماء، وتنزاح عن الهدف العظيم الذي يجب على التعليم أن يوجد من أجله: البحث عن الحقيقة.

في مرحلة سن العاشرة، تبدأ الدراسات الأدبية والرياضيات. يعلق أفلاطون أهمية كبيرة على هذه الأخيرة: فهي تعود المتعلم على التجريد وعلى المنطق، وتعده إعدادا ممتازا للتأمل الفلسفي وتسمح باختيار "أفضل الطبائع" التي ستتمكن وحدها من الوصول إلى الميتافيزيقا. ومنذ مرحلة سن الثامنة عشر يتم التركيز على التدريب البدني والعسكري؛ لأن المواطن الصالح يجب أيضا أن يكون قادرا على الدفاع عن المدينة. ثم تأتي، بعد ذلك، عشر سنوات من دراسة العلوم والرياضيات المجردة، وخمس سنوات من الجدل، وخمسة عشرة سنة من التدريب الداخلي في الشؤون العام. وباختصار شديد يكتب أفلاطون: "يستغرق الأمر خمسين سنة لإعداد الإنسان" وبمجرد ما ينتهي المرء من دراسته يحين وقت تقاعده، أو كما يقول أراغون: "حينما حان الوقت لتعلم العيش فات الأوان بالفعل." على نحو ما؛ نستطيع أن نعتبر نظام أفلاطون مخططا للتعلم مدى الحياة، وهي فكرة مدهشة لأساتذتنا البيداغوجين اليوم الذين لن يقدروا من ناحية أخرى التركيز على النخبوية والاختيار من خلال الرياضيات.

سقراط والمنهج التوليدي:

يحتل سقراط (حوالي 399-470) مكانة استثنائية في تاريخ التعليم؛ أولا لأنه يقول إنه لا يعرف شيئا وهو أمر مفارق بالنسبة إلى المربي: فقد كانت عرافة دلفي تبلغه [قولا]: "أنت أكثر الرجال معرفة لأنك تعرف أنك لا تعرف شيئا." لذلك ليس لديه ما ينقله. بالنسبة إليه، كل إنسان لديه المعرفة مسبقا، وهذا يشبه قليلا المرأة الحامل بطفلها. دور المربي يشبه الدور الذي تقوم به القابلة (وقد كانت هذه وظيفة فيناريت والدة [سقراط]) وضع الأرواح؛ أي استخراج الحقائق التي يحملها كل واحد في ذاته. إنه فن التوليد (باليونانية maieutikê: فن الولادة الذي تترأسه الإلهة مايا) وهذا الأمر نفسه الذي جعل أفلاطون يقول في [محاورة] تياتيتوس: "وفني في التوليد له الصفات العامة نفسها التي هي لفن القابلات ..... إن أولئك الذين يأتون إلي يبدون أنهم لا يعرفون شيئا على الاطلاق، ورغم أنهم لم يتعلموا مني شيئا قط، فالحقائق العديدة الجميلة الخاصة بهم إنما تم لهم اكتشافها بأنفسهم."

إن فنه في التوليد يتأسس على الحوار، وعلى طرح الأسئلة من أجل توجيه المتعلم إلى أن يكتشف الحقيقة [بنفسه]. لكن يمكننا القول، باستخدام الاستعارة، إنه قبل كل شيء فن للإجهاض: إن استجوابه المبني على السخرية، يخلق فراغا في عقول محاوريه الذين يكتشفون أن ما يعتقدونه مجرد وهم. وفي الأخير، فإن الهدف الوحيد من التعليم السقراطي هو اكتشاف الذات؛ تبعا للصيغة التي اقتبسها من وسيطة الوحي: "اعرف نفسك بنفسك".

إن مثل هذه البيداغوجية الثورية لم تطق بالنسبة إلى السلطات التي حكمت على سقراط بالموت بتهمة "إفساد عقول الشباب". ولكن ليس من الغريب أن يتبناه مختلف المبدعين الثائرين، على تاريخ البيداغوجيا، كنموذج لهم.

للاطلاع على الملف كاملا المرجو  الضغط هنا

 

_______________________________________________________________

[1] Georges Minois Platon, premier théoricien de l’éducation Les grands dossiers des sciences Humaines n° 45 Décembre 2016/janvier-février 2017 pp: 6-7

* مؤرخ فرنسي وأستاذ للتاريخ والجغرافيا بمدرسة إرنست رينان الثانوية في سانت بريوك ازداد في 27 يونيو 1946 من بين أعماله: هنري الثامن (1989) تاريخ الجحيم (1991) التاريخ الجديد لبريطانيا (1992)

* باحث مغربي وأستاذ الفلسفة بالتعليم الثانوي.