أوهام النخبة أو نقد المثقف لعلي حرب


فئة :  قراءات في كتب

 أوهام النخبة أو نقد المثقف لعلي حرب

يكتسي البحث في قضايا الثّقافة والمثقّف والنّخبة طابعاً خاصّاً، على اعتبار أنّ كلّ هذه المفاهيم تشكّل حلقة من حلقات الأزمة التي يمرّ منها عالمنا المعاصر، حيث لم يعد عالم اليوم ذلك العالم المحدود جغرافيا أو تاريخيا أو علميا، تستطيع الحدود الوهمية المصطنعة أنْ تقف حائلا بينه وبين الإنسان، ومتطلّباته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لقد صارت كلّ هذه الحدود الجغرافية وتبعاتها الاستعمارية مجرّد سراب ووهْم في ذهن الإنسان المعاصر بتجلّياته المختلفة، في عالم تجاوز كلّ الحدود، ولم تتوقّف مسيرته عند اختراق الزمان والمكان، ليؤسّس الإنسان بهذا الكشف مسيرة حضارية يوظّفها الكلُّ تبعاً لمنطلقاتهم الإيديولوجية، سواءٌ كانت في خدمة الإنسانية، أو لصالح دوائر التحكُّم في القرار العالمي، أو لتكريس مصالح طبقات معيّنة نافذة بسبب الهيمنة الإمبريالية الجديدة، التي تسعى إلى فرض نموذج ثقافي وفكري واقتصادي، يصبُّ أوّلا وأخيرا في خدمة المشاريع المتحكّمة في دواليب السّلطة.

وتزداد أهمّية الموضوع أيضا من خلال تصدّع غالبية المشاريع الإيديولوجية، خاصّة الشّمولية منها، وسقوط ادّعاءاتها الإنسانية، وانهيار منظومة القيم المدافعة عنها. ومن هنا كان المأزق الحرج في وضعية المثقّف، حيث انقلبت غالبية دعواته إلى عكس مسمّياتها، في ظلّ هذا الواقع المعيش القابع في رقعة جغرافية جلُّ بلدانها لا زالت تلهث وراء ركب التّنمية دون أنْ تدركها، وتتخبّط في مجموعة من الأزمات بدءاً من الاقتصادية، انتهاءً بما هو فكري وثقافي، حيث تمثِّل الأميّة رقماً صعباً في مقياس الكثير من هذه البلدان.

يأتي كتاب "أوهام النّخبة أو نقد المثقّف" لعلي حرب في هذا السّياق النّقدي لخطاب المثقّف، وأوهامه النّخبوية، وأمراضه السّيكولوجية، لا ليختلق مشكلة مع هذه الفئة، بقدْر ما يحاول الكشف عن معالم الأزمة في خطابها. والمقصود بالأزمة هنا فقدان المصداقية الفكرية والفاعلية النّضالية. ويتكون الكتاب من 222 صفحة، وصدر عن المركز الثّقافي العربي.

إنّ أول ثمرات هذا النّقد بحسب علي حرب، هو إعادة صياغة الأفكار والمفاهيم، صياغة تبتغي نزع القدسية على هذه المفاهيم، التي يتمّ استهلاكها من طرف البعض، دون إدراك لمآلاتها وتداعياتها على الواقع. وهذا هو الأفق الذي يمتح منه علي حرب في مختلف كتاباته، إذ لا شيء بمعزل عن النّقد والتّفكيك وإعادة البناء، إيمانا بأنّ التّجاوز هو مرحلة مهمّة بعد الاستيعاب، ولا يمكن أنْ يتمّ ذلك إلاّ بالنّقد.

ولعلّ ما يثير الانتباه في هذا الصّدد هو اشتغال المثقّف بحراسة الأفكار، ويعني ذلك التعلّق بالفكرة، وتحويلها إلى أقانيم مقدّسة، يصعب تجاوزها، ونماذج لا انفكاك عنها. وهنا يكمن مقتل الفكرة ذاتها، حين تنقلب إلى ضدّها، وذلك لأنّ: "الأفكار ليست شعارات ينبغي الدفاع عنها، أو مقولات ينبغي تطبيقها، بقدر ما هي أدوات لفهم الحدث، وتشخيص الواقع ...". ص11

لكي يتّضح الأمر بشكل جليّ، نأخذ على ذلك مثالا بالعقلانية: فهي ليست فكرة تقوم بذاتها ولذاتها، بقدر ما هي صياغة لتجاربنا وعلاقاتنا بالأشياء والأحداث، بلُغة مفهومية لا تكون نهائية، بل تخضع للنّسخ والتّعديل والتّطوير. كذلك الأمر بالنّسبة إلى الاستنارة، فهي مفهوم يتمّ تداوله بشكل واسع، دون الوعي بأنّه فسحة لممارسة حيوية الفكر، على نحو متواصل، للعودة النّقدية للفكر على ذاته، ومساءلة بداهاته وآليات اشتغاله. أمّا الحرية: فهي ليست مجرّد وهم نتعلّق به للتحرّر من سلطة الاستعباد والديكتاتورية، بقدر ما هي اندراجنا في هذا العالم بقواه وسلطاته، بأنظمته ومؤسَّساته عبر تفكيك المعنى، وأصول الحق، ومرجعيات القصد.

وخلاصة الأمر، فالمثقّف ليس من يقوم بترداد المفاهيم، وصياغتها واستهلاكها دون وعي لمآلاتها الواقعية، ولكنْ هو ذلك الّذي يقيم مع منظومة المفاهيم والقيم علاقة نقدية، تتيح له القدرة على إغناء مفاهيمه حول الحرية والاستنارة والعقلانية.

لكلّ عمل نقديّ مسوِّغاته، ومن هنا كان علي حرب مدفوعا بهواجس نقدية كثيرة، تمثّلت في عجز المثقّف عن تجديد صيغ العقلانية، وفي تراجع محاولات الاستنارة، وفشل الكثير من التّجارب الدّيمقراطية.

إنّ التّركيز على دور المثقف ليس من زاوية تلميع صورته، أو منحه الحظوة اللائقة، وكذلك ليس الأمر مرتبطا بجلد الذّات، والنّقد الهدّام الذي لا يعترف بمجهود أو فضل. ولكن التّركيز هنا نابع من قدرة النّقد على تعرية المسبقات التي توجِّه رؤية المثقّف لذاته ومجتمعه، وفضح البداهات التي يتوارى خلفها. وقبل أنْ نقوم بإعطاء مدلول المثقّف كما يتصورّه علي حرب، لا بأس أنْ نعرّج على بعض التعاريف:

يقرّ الباحثون في المجال الفكري على صعوبة إيجاد تعريف قارّ للثقافة. فابن نبي بتتبّعه لكلمة الثقافة، يجد بأنّها تأتي تعبيرا عن الكلمة culture بالحروف اللاتينية. والجذر العربي لهذه الكلمة "ثقِف" موجود في القرآن الكريم، لكنْ بدلالات لا تتوافق مع معنى culture. فمن نقل الكلمة إلى العربية بحسب تعبير ابن نبي كان صنّاعا ماهراً في اللغة العربية، حريصا على تجويد اللّفظ وصفائه. فالكلمة لا تزال تحتاج إلى عكّاز أجنبي مثل كلمة culture لكي تنتشر. فالخلاصة حسب ابن نبي هو أنّ هذا اللفظ هو صناعة أوروبية نتيجة عصر النهضة. وإذا ما نظرنا في مختلف التّعريفات التي أعطيت، فلن تخرج عن تحديدين أساسيين: الأول: أنّها منظومة من السّمات التي تميّز جماعة دون أخرى. والثاني: منظومة ما من الظواهر الأكثر تميزاً وحضوراً من منظومة أخرى من الظواهر داخل جماعة محدَّدة.

إجمالا يمكن التعبير عن الثقافة بالقول: "هي فلسفة الجماعة ونظرتها إلى الوجود من حولها". ولو أنّ هذا التعريف يشير في أبعاده إلى الاتجاه الماركسي في تعريف الثقافة بكونها هي فلسفة المجتمع. لهذا أضاف ابن نبي إلى تعريف الثقافة لدى كل من المدرسة الغربية والمدرسة الاشتراكية، في نظرتهما لمفهوم الثقافة بعداً آخر، حين ربط بين الثقافة والحضارة. ففي ضوء هذا الرّبط، تصبح الثقافة نظرية في السلوك أكثر من أنْ تكون نظرية في المعرفة. وبهذا يمكن أنْ يقاس الفرق الضروري بين الثقافة والعلم.

كما أشرنا إلى صعوبة تحديد مفهوم الثقافة من قبل، نعيد التنبيه إلى ذلك مع لفظ "المثقّف". هنا يتعين الحديث عن الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي بوصفه واحدا من الفلاسفة الذين التصق بهم تعريف المثقّف بشقّيه التقليدي والعضوي. فلقد ميّز غرامشي بين نوعين من المثقفين: الأوّل يضمّ المثقّفين التقليديين كالإداريين والمتعلمين والكهنة، والثاني: يضمّ من يسمّيهم المثقفين المنسّقين، وهم من يرتبط مباشرة بالطبقات أو المشروعات التي تستخدم المثقفين في تنظيم مصالحها واكتساب المزيد من السلطة والمزيد من الرقابة.

فحسب غرامشي فكلّ مجموعة اجتماعية تنتج بشكل عضوي فئة أو أكثر من المثقفين، مهمّتهم هو إكساب المجموعة تجانسها ووعيها لوظائفها في جميع المجالات. وبالتالي، فما يميّز فئة المثقفين العضويين عن بقية الجماعات الاجتماعية، هو الدور الخاّص الذي يلعبونه في عالم الإنتاج. وهناك من ذهب أكثر من غرامشي في وصف فئة المثقفين بموظّفي المجموعة المسيطرة كما عبّر عن ذلك بولانتزاس.

إنّ المثقّف بحسب علي حرب، ليس ذلك الذي يملك حظَّا وافرا من المعرفة، أو الثقافة العامة، أو الكاتب، أو الأديب، أو الفنان، أو المفكّر الذي يشتغل في حقل إنتاج الفكر والتنظير. ولكنّ المثقف هو: "من تشغله قضية الحقوق والحريات، أو تهمّه سياسة الحقيقة، أو يلتزم الدّفاع عن القيم الثّقافية، المجتمعية والكونية بفكره وسجالاته، بكتاباته أو مواقفه ...". ص 38

إنّ المثقف بتعبير أدقّ هو كائن أزماتي إنْ صح التعبير؛ أيْ أنّه لا يستطيع أنْ يحيا خارج الأزمات، من فولتير الذي كان يقول: أخالفك الرأي، ولكنّي أقاتل دفاعا عن حقّك في التّعبير عن رأيك، إلى سارتر الذي كان يتصرّف بوصفه الشّاهد على عصره، والناطق بهموم مجتمعه. إلى محمد عبده من دعاة الإصلاح والتجديد، إلى حسن حنفي الذي يتصرّف بوصفه فقيه الأمّة، وحارس أفكارها، والمؤتمن على الحرّية والهويّة. لكنْ كلّ هذا المشهد تهاوى؛ فالمثقف الذي كان يعيش على الأزمات، أصبح هو نفسه في أزمة، بعد أنْ تهاوتْ كلّ الإيديولوجيات، والأنساق الفكرية التي ناضل من أجلها، كما أن المشاريع السياسية أجهضت، وبات الإنسان مشتّت الفكر والوطن، في مشهد قاتم يحيلنا على موت هذه النّظريات، والشّكل البئيس لثقافتنا. وهنا يحق لنا أن نتساءل: ما جدوى المثقف؟:

هذا السؤال يحيلنا إلى الكاتب والمناضل الكبير ريجيس دوبريه الذي انتهت به مسيرته الفكرية، إلى قراءة ذاته، ومساءلة مسبقاته الفكرية، ليصل بالأخير إلى عدم جدوى المثقفين كسحرة يصنعون المعنى، ويبيعون الوهم.

كان لتشتّت هذه النّخبة الثقافية غيابا للتّأطير الثقافي، وغيابا للمشاريع الفكرية والفلسفية التي من شأنها أنْ تنهض بالمجتمع نحو التغيير. لم يكن بحقّ عدم حضور ما يسمّى بالنّخبة منفصلا عن هذا التأخّر العربي على ساحة الفكر والثقافة والاقتصاد، وغير ذلك من المجالات الحيوية في أيّة تنمية بشرية. وضع المثقّف العربي نفسه لاعتبارات عديدة في خانة السّياسي تارة، حيث كانت كل توجّهاته موجّهة للتأطير السّياسي والدّفاع على نظام أو حزب أو مشروع فئوي ضيّق. وتارة كان ناطقاً باسم المعارضة المترفعة على إكراهات الواقع. لم تكن المشاركة ومنطقها في حسبانه في العديد من الأحيان، إذ لم يقدّم برامج وأفكارا وحلولا، وإنّما كان يقدّم مشروعا لا يصلح إلا لمجال الخطابة على شاكلة برامج الأحزاب العربية.

غاب المثقف العربي، لأنّه لا يريد أنْ ينزل من تنظيره الفكري إلى أرض الواقع، ومعايشة الأرقام المهولة في تدنّي الأجور، ومستويات التعليم، وارتفاع أرقام الجريمة والانحراف؛ إذ ليست الثقافة عزلة داخل المكتبات وتصفّح الأخبار والأوراق فحسب، ولكن الثّقافة هي فنّ العيش، وملامسة الواقع، من خلال الاحتكاك الحقيقي بالطبقات الاجتماعية المختلفة، وتلبية مطالبها بالوعي، والتحسيس، والخروج من الأزمة في الوقت المناسب والمكان المناسب، لأنّ العلاقة بين الأزمة ومسمّى المثقّف علاقة جدلية كما أشار تركي الحمد: "فالأزمة توجِدُ مثقّفها والمثقّف يحدِّد مسار الأزمة بما له من موقف ذهني ومشروع عقلي تجاهها". أمّا غير ذلك، فلنْ تكون ثقافة إلا عند من تستهويه كلمة مثقف، أو مفكر، أو النّخبة التي تفترض العزلة والطبقية بالضرورة، أو عند من يرون بأنّ المثقف هو الحامل لشهادات أكاديمية عليَا، حيث إنّ المعنى الغربي للثّقافة والمثقّفين هو السّائد والمقصود حين الحديث عن المثقفين بصفتهم صفوة معينة (élite)، تعتمد العقل في النظر إلى الأمور أو يفترض ذلك. وبالتالي، فإنّها صاحبة موقف معين نابع من ملكاتها التي جعلتها صفوة معينة.

لاكتشاف معالم الأزمة في خطاب المثقف، وفي نظرته لذاته ومجتمعه يعدّد علي حرب مجموعة من الأوهام التي يعيشها المثقّف، ويحصرها في خمسة: وهي وهم النّخبة، وهم الحرية، وهم المطابقة، وهم الهوية، وهم الحداثة. هذه أصول الداء في فكر المثقف، وفي علاقته بالآخر، والمحيط، وجب تفكيكها، وتعرية المسلَّمات التي تقف وراءها:

وهم النخبة: بهذا الوهم وجد المثقّف نفسه أمام مسؤولية جسيمة، فهو الذي طالما سعى إلى تنصيب نفسه وصيّاً على النّاس، وقائدا ملهما للجماهير. ولقد كانت الإخفاقات المتوالية لهذه الفئة تعبّر دوما عن جروح نرجسية، يعاني منها كلّ من حاول الانتماء إليها، حيث "طالبوا بالوحدة فإذا بالواقع ينتج مزيدا من الفرقة، وناضلوا من أجل الحرية، فإذا بالحريات تتراجع، وآمنوا بالعلمنة، فإذا بالحركات الأصولية تكتسح ساحة الفكر والعمل". ص 98

لا مناص بأنّ هذا الواقع لا يمكن أن ينتج إلا عقلية تعاني من جروح نرجسية لا يكفيها أن تخفي عيوبها بالتستّر، وهو واقع ساهم فيه بشكل كبير المثقّف نفسه من خلال نظرته إلى ذاته، ولو أنّه دوما كان يتحجّج بواقعه، وبنظرية المؤامرات التي صنعها وصدّقها إلى حدّ التماهي معها. إنّ نرجسية المثقّف هي في تعامله مع نفسه من أفقٍ اصطفائي نخبوي، فهو القائد، والرّسول، والمبشّر، والحارس للأفكار، والموجّه، والمرشد. وكان ثمن هذه العقلية، وهذا النّمط في التفكير عزلته عن النّاس، والوقوع أسيراً لأفكاره، ومخططاته، ومشاريعه. فتحوّلت كل أفكاره إلى أضدادها.

من هنا كان لزاما على المثقف أنْ يعيد قراءة ذاتهـ ويقرّ باليقين أن مشكلته في أفكاره، وأن مأزقه في نخبويته وعزلته؛ إذ إن مسؤولية التّغيير لا تقف على فرد مع أهمية ذلك، ولكنّ التغيير عملٌ جماعي، وكلّ واقع هو إفراز طبيعي لمن يعيشونه، ويفكرون به وفيه.

وهم الحرية: ينبثق هذا المعطى من أنّ المثقّف يعتقد واهماً بأنّ بإمكانه تحرير المجتمعات والشّعوب من القهر والعبودية والظلم. وقد شكّل هذا الوهم عائقا أمام المثقّف على الاضطلاع بمهمّته الأولى، وهي الإنتاج الفكري، ومعرفة الإنسان، ومتطلباته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولا يمكن أنْ يكون المثقّف منتِجاً في مجاله الطّبيعي إلا بافتتاح منطقة للتّفكير، واجتراح طريقة لها، تتيح إدارة الأفكار على نحوٍ يجعلها أكثر واقعية وفاعلية. ولعلّ المدخل الأساسي لهذه العملية، هو النّقد بوصفه الوسيلة المثلى لتصويب الفكر، وطرح البدائل الممكنة، وتفكيك الأنساق بغية تجاوزها، أو الحفاظ على مناطق الاستنارة فيها.

ومن هذا المنطلق، يجد المثقّف نفسه ملزَماً بطرح التّساؤلات النّقدية حول ما يفهمه عن مفهوم الحرية: "لماذا يزداد انتهاك الحرية في عصر التحرّر وعلى يد دعاة التحرّر أنفسهم؟ أو لماذا تتراجع الحريات الديمقراطية على أرضها بالذات؟ ص100". هكذا تكون النتيجة لمن لا يسأل ولا ينتقد، ولا يقرأ ذاته بعيدا عن أناه، إذ من لا ينتج معرفة بالمجتمع، لا يستطيع المساهمة في تغييره، ومن لا يبدع فكراً هو أعجز عن أن يؤثر في مجرى الأحداث وتطوّر الأفكار. وهذا هو مأزق المثقف، وتلك هي إشكالية أزماته.

وهم الهوية: وتعني أنّ المرء يعتقد بأنّ بإمكانه أنْ يبقى هو هو، بالتطابق مع أصوله، والالتصاق بذاكرته، أو المحافظة على تراثه. وهذا هو مكمن الأزمة في فكر المثقف، فهو أيضا يعتقد بأنّ الهوية شيء ثابت، لذلك نصّب نفسه حارساً للأفكار، ناطقا باسم ما يحمله من هوية، جامدا في مكانه، بعيدا عن الانخراط في التحوّلات المتسارعة التي يعيشها العالم المعاصر. وبدل أنْ يشتغل بإنتاج الأفكار، والعمل على تطويرها، لأنّها مهمته الأساسية، آثر التقوقع على الذّات، والحفاظ على الهوية، والانتماء إلى عوالم العقيدة والقبيلة والتراث، بدل عالم الفكر.

وهم المطابقة: مفاد هذا الوهم أنّ الحقيقة جوهر ثابت، سابق على التجربة، متعالٍ على الممارسة، يمكن القبض عليه عبر التصوّرات، والتّعبير عنه بواسطة الكلمات. ومن ثمة ترجمته في الحياة العملية، والممارسات التطبيقية. لكنّ هذا الاعتقاد كثيرا ما آل إلى إحباطات كبيرة: "فالذين أملوا بالسّلام لم يحسنوا سوى صناعة الحرب، والذين فكّروا في زوال الدّولة لم يؤسسوا مملكة للحرية، بل انتجوا دولة كلانية سحقت الفرد، وابتلعت المجتمع المدني ومؤسّساته... ص 108".

وكذلك الأمر في علاقتنا مع الدّيمقراطية، وفشل تجربتها بمجتمعاتنا، فالكثيرون ظنّوا بأنها مجرّد فكرة يتمّ اقتباسها، وإنّما هي عمل شاق ومتواصل يقوم به المجتمع على نفسه، وهو ما يحيلنا إلى ما سمّاه جورج طرابيشي بإشكالية المفتاح والتّاج، حيث يبتدئ طرابيشي مقاربته لهذه الإشكالية، بسؤال يحمل هذه الطّبيعة: هل الدّيمقراطية هي المفتاح السّحري الذي نفتح به جميع الأبواب المقفلة، أمْ أنّ الديمقراطية هي على العكس من ذلك، التّاج الذي يتوِّج التطوّر العضوي للمجتمع المعني، وينهض مقياساً على مستوى تطوّره؟. ص10. وما أراده الكاتب من خلال هذه الإشكالية هو ضرْبُ الإيديولوجية الخلاصية، التي تعتمل في المخيِّلة الجمعية للإنسان العربي. فالدّيمقراطية هي مسارٌ اجتماعي، وتتويج لحركة اجتماعية، وليستْ مفتاحاً سحرياً، ينقُل المجتمع من طور التخلف، إلى طور التقدّم. ولنا في النّماذج الأمريكية والفرنسية خيرُ مثال على ذلك.

وهم الحداثة: ويعني به علي حرب تمسّك الحداثي بحداثته كتمسّك اللاّهوتي بأقانيمه، أو المتكلّم بأصوله، أو المقلّد بنماذجه، وهكذا فنحن بإزّاء سلوك فكري يتجلّى في تقديس الأشخاص، وعبادة النّماذج، والتعلّق الماورائي بالأسماء. وهكذا فالكلّ يفكر بطريقة نموذجية في أبعادها ومآلاتها، مهما تعدّدت النّماذج. فالحداثة لا تصنع بالتّقليد، شأنها شأن الديمقراطية كما أشرنا سالفا، لكنّ الحداثة مسار شاق وطويل يصنع بالخلق والإبداع، والخروج من ضيق القوالب الفكرية. إنها طفرة في الوعي والإدراك والفكر.