استقراء سيكو-سوسيولوجيّ للمجتمع الفلسطينيّ بعد عمليّة السابع من أكتوبر 2023


فئة :  مقالات

استقراء سيكو-سوسيولوجيّ للمجتمع الفلسطينيّ بعد عمليّة السابع من أكتوبر 2023

استقراء سيكو-سوسيولوجيّ للمجتمع الفلسطينيّ

بعد عمليّة السابع من أكتوبر 2023

مقدّمة

تتناول هذه الورقة البحثيّة التأثيرات السيكو-سوسيولوجيّة لعمليّة السابع من أكتوبر 2023 (طوفان الأقصى) على المجتمع الفلسطينيّ، عبر إجراء تحليل لديناميّات التديّن في المجتمع الفلسطينيّ، وتحليل دور الخطاب التعبويّ في صياغة الوعي المظلوميّ، واجتراح الميكانيزمات التحصينيّة للمجتمع اليوتوبيّ كضرورة للوصول إلى الحدث النهائيّ المتخيّل (التحرير). ومن ثم تتطرّق الورقة إلى العلاقة السببيّة بين النموذج اليوتوبيّ الفوق أرضيّ والإعداد العسكريّ للحدث التحت أرضيّ، وتستقرئ انصهار الحركات الإسلاميّة (حماس والجهاد الإسلاميّ) في بوتقة استراتيجيّة "وحدة الساحات".

استقراء لديناميّات التديّن في المجتمع الفلسطينيّ

تتفاعل المجتمعات العربيّة مع الخطاب الدينيّ تفاعلًا آليًّا، وللنصِّ المقدّس تأثيرٌ نفّاذٌ في صيرورة البناء التركيبيّ للوعي الجمعيّ لدى هذه المجتمعات، فهذا النصُّ يمارس سلطته الدينيّة والدنيويّة متعدّيًا حيّزه الكهنوتيّ-المشيخيّ، وممارِسًا لصلاحيّاته العابرة للزمان والمكان؛ فالدين، من المنظورِ الفيبريّ (ماكس فيبر)، هو أنساقٌ لتنظيم الحياة، ويتحدّد مجالهُ الخاصّ بتنظيمِ علاقات القوى "الفوق طبيعيّة". كما يبيّن (فيبر) أنّ الدين يُجيب بشكل جيّد عن حاجات البشر إلى الخلاص، كما يُجيب عن الرغبة في إضفاء الشرعيّة على نجاحهم. ويُلاحظ أنّ الدّين العقلانيّ والأخلاقيّ لا يناسبُ كلّ الفئات الاجتماعيّة، بل يتلاءم مع الفئات الأكثر شعبيّة أو تلك التي تدفعُ نحو العمل البروليتاريّ.

لم تكنْ ظاهرة التديُّنِ، بمختلفِ أشكالها وتمظهراتِها، طارئةً في المجتمع الفلسطينيّ، لكنّ التفاعلات السوسيو-جغرافيّة صبغتهُ بصِبغة عَلمانيّة، اتساقًا مع البُنى الروحانيّة-الأخلاقيّة للبرجوازيّة الفلسطينيّة، التي لا تتمايزُ في تكوينها العلائقيّ عن الارتباط العلائقيّ التاريخيّ بينَ الرأسماليّة والبروتستانتيّة؛ لكنّ ظاهرة التديّنِ في المجتمع الفلسطينيّ أخذت بالتشكُّل الماديّ بعد حرب حزيران عام 1967 (النكسة)، كاستجابة تلقائيّة لتداعي الخطابِ القوميّ-التحرُّريّ من جهة، ونهوض تيّار "الصحوة الإسلاميّة" من جهة أخرى، والذي تأسّس خطابهُ المؤدلج على النزعة الماضويّة الارتداديّة، عبر استعادة دور النصوص المقدّسة بوصفها ترياقًا تاريخيًّا للإعضال الذي أُصيبتْ به المجتمعات العربيّة جرّاء الهزائم/النكبات.

لكنّ مفاعيل خطابِ تيّار الصحوةِ الإسلاميّة ظلّتْ مترقبةً ارتكاسات وانتكاسات الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة حتى تُعيد تموضعها الزمكانيّ، أو بالأحرى اتّخذت من الكمون التكتيكيّ وسيلةً لتحيُّن الفرصة التاريخيّة التي تبدّت بعدَ الغزو الإسرائيليّ للبنان وحصار العاصمة (بيروت) عام 1982، وما تلا ذلك من تصدّعات وانشقاقات داخلَ الحركة الوطنيّة وصلت حدّ الاحتراب والاقتتال الأهليّ (معارك طرابلس والبدّاوي عام 1983 - حرب المخيّمات 1985-1987).

في حمأة التناحرات الداخليّة الفلسطينيّة، كانَ تيّار الصحوة الإسلاميّ، المتمثّل بحركتي حماس والجهاد الإسلاميّ، المُفعم بالاستيهامات بالنموذج الخمينيّ في إيران عام 1979، يؤسّسُ خطابه على نقد خطاب الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، ونقض رؤاها وتصوّراتها ومبادئها وأفكارها عبر التصادم الثقافيّ-الإيديولوجيّ المكثّف، يرافقه استيلاد أنماط نخبويّة من الفئات والشرائح الاجتماعيّة المهمّشة، بوصفها مخزونًا حيويًّا متحيّنًا اتخاذ وضع حركيّ لا سكونيّ، ضمن المحاولات الدؤوبة لاجتراح آليّات الصعود الطبقيّ، كتعبير عن توقٍ مكبوت/مختزن نحو المكان/المكانة.

أنشأ الخطاب الإسلاميّ لحركتي حماس والجهاد الإسلاميّ (وكانت الأولى أكثرَ حديّةً في ذلك) أشكالًا هويّاتيّة تعارضيّة مع الصيغ الهوياتيّة المتداولة في الأنساق الوطنيّة، ولم تكتفِ (أي الأشكال الهوياتيّة) بإبداء موقفها الرّافض لعَلمانيّة (م.ت.ف) وبرنامجها السياسيّ/التحرّريّ فحسب، بل أجرت تحويرات ثقافيّة/فنيّة استعاضت فيها عن القوالب الفنيّة/الفلكلوريّة الوطنيّة بالقوالب الفنيّة الملتزمة بالضوابط الدينيّة، وشرعت في ضخّ خطاب تعبويّ أمميّ من خلال أدبيّاتها، التي اتسمت بالقطيعة المعرفيّة مع أدبيّات الحركة الوطنيّة، مع إجرائها بعض القطع التاريخيّ مع ما لا يتفق وخطابها، ووصل مع ما يدعّمه بالامتدادات الاستكماليّة، كظاهرة عزّ الدين القسّام، على سبيل المثال، كما ينصّ الميثاق التأسيسيّ لحركة (حماس) عام 1987: "حركة المقاومة الإسلاميّة حلقة من حلقات الجهاد في مواجهة الغزوة الصهيونيّة، تتصل وترتبط بانطلاقة الشهيد عز الدين القسّام وإخوانه المجاهدين من الإخوان المسلمين عام 1936، وتمضي لتتصل وترتبط بحلقة أخرى تضم جهاد الفلسطينيين وجهاد وجهود الإخوان المسلمين في حرب 1948، والعمليّات الجهاديّة للإخوان المسلمين عام 1968 وما بعده (قواعد الشيوخ التي كانت داخل حركة فتح)".

يُدلّل تصريح القياديّ في حركة حماس، ماهر أبو صبحة، بتاريخ 17/6/2020، على اختزاليّة ظاهرة التديّن في فلسطين بتاريخ تأسيس الحركة، ومعها الحركات الإسلاميّة الأخرى: "إنّ والدي لم يكن متديّنًا، وإنّ الدين دخل مع بداية الجامعة الإسلاميّة عام 1987، وآباؤنا كانوا يقيمون الصلاة، ولكن على الفطرة".

يعبّر هذا التصريح عن أحكام إدانيّة للدور البطرياركيّ (الأبويّ) في النظام الاجتماعيّ الفلسطينيّ، فهؤلاء (الآباء) اتّصفوا بالجهل بالشؤون الدينيّة، لذا فإنّ جهلهم تسبّب بالهزائم/النكبات كمآل حتميّ، في محاكاة لصراع (الإسلام) الناشئ في مكّة مع الجاهليّة السائدة. وجدير بالملاحظة أنّه قال (دخل) ولم يقل (عاد أو استُعيد)، وهذا ما يعني نفي/انتفاء الدين عن المجتمع الفلسطينيّ، والذي، بحسب التصريح، نشأ مع تأسيس حركة حماس.

هناك تصريحات ومقالات تتّفق مع التصريح الذي ذكرناه آنفًا، لكن لا يتّسع المجال لاستخدامها كنماذج للاستدلال على المحمولات الفكريّة/الأدبيّة لخطاب سيؤسّس لتحوّلات في مسار القضيّة الفلسطينيّة والمجتمع الفلسطينيّ.

الخطاب التعبويّ وصياغة الوعي المظلوميّ... قراءة في الميكانزمات التحصينيّة

رصدت الباحثة الفرنسيّة (ليتسيا بوكاي) خلال جولاتها الميدانيّة في قطاع غزّة والضّفة الغربيّة نهاية التسعينيّات من القرن الماضي تشكّلات ظاهرة التديّن في فلسطين، وأجرت عددًا من المقابلات مع مختلف شرائح وفئات المجتمع للإحاطة بهذه الظاهرة، وقد توصّلت إلى أنّ هناك انشطارًا مفاهيميًّا في المجتمع الفلسطينيّ نتيجة لسياسات اقتصاديّة واجتماعيّة متناهية المركزيّة جعلت بعض الشرائح والفئات مستبعَدةً من الاندماج في البنى المؤسّساتيّة الوطنيّة، ما حال بينها وبين الصعود الطبقيّ المرتجى في مرحلة تأسيس السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة والدولة المرتقبة بحسب اتفاقيّة (أوسلو) وملاحقاتها.

وعلى الرغم من الخطاب الاعتراضيّ/ المُعارِض للتيّار الإسلاميّ على اتفاقيّات (أوسلو) وملاحقاتها؛ إلّا أنّ هذا الخطاب لم يلقَ أصداءً في المجتمع الفلسطينيّ الذي كان -بحسب ما رصدت الباحثة بوكاي- مؤيّدًا للحلّ السياسيّ الشامل (السلام)، وإن كانت لديه ملاحظاته وتحفّظاته ومآخذه، لكنه كان يَرْنُو إلى ازدهار اقتصاديّ- معيشيّ بالتعامد مع حصوله على حقوقه الوطنيّة/ السياسيّة. وما إن انتقلت منظّمة التحرير الفلسطينيّة وكوادرها وموظّفوها ومقاتلوها إلى الداخل الفلسطينيّ، حتّى طفقت الاستثمارات والمنح والمساعدات والبرامج التمويليّة بالتدفّق إلى الداخل؛ ما كان له الأثر الاقتصاديّ- المعيشيّ الملموس، والتغيّر الملحوظ في التركيبة الاجتماعيّة الفلسطينيّة، وظهور أنماط ثقافيّة جديدة في هذا المجتمع، فطغى الاستهلاك الشرائيّ، واستشرى الاقتصاد الخدماتيّ بما يتلاءم ومجتمع ما بعد الانتفاضة بقسميه الأساسين: عائدونٌ معبّؤون بتصوّرات مخياليّة عن الوطن، وهي تصوّرات تكوّنت بشكل تأثّريّ من خلال احتكاكهم الاجتماعيّ والثقافيّ مع المجتمعات العربيّة الأخرى كما ذكر الباحث جميل هلال في قراءته السوسيولوجيّة للمجتمع الفلسطينيّ، وداخلٌ مسكونٌ بالطموحات السياسيّة والطبقيّة في سياق الترميم المتواصل للمعنى الهويّاتيّ، وإعادة تعريف الدور من متلقٍّ إلى فاعل ومؤثّر.

وكما لم يجد خطاب التيّار الإسلاميّ الناقد لاتفاقيّات (أوسلو) أصداءً في المجتمع الفلسطينيّ، فإنّ هذا الخطاب لم يحظَ بالقدرة التأثيريّة على توجّهات هذا المجتمع في المشاركة والاندماج في بناء مؤسّسات نواة الدولة الموعودة والوليدة، سواءٌ بمحاولة الحصول على وظيفة حكوميّة (مدنيّة- أمنيّة) كنمط وظيفيّ مستجدّ، أو بالعمل في المنظّمات غير الحكوميّة التي لم تَقِلّ نفوذًا أو سلطةً عن سواها من المؤسّسات. وهكذا استطاعت آليّات الاستيعاب الوظيفيّ إعادة تشكيل التنظيم الاجتماعيّ الفلسطينيّ بما يتناسب والخيارات السياسيّة/ الاقتصاديّة لمرحلة (أوسلو).

لكنّ خطاب التيّار الإسلاميّ استطاع تثوير واستثارة النزعات المُحافِظة للمجتمع الفلسطينيّ عبر اتخاذ موقف مناهض للمظاهر الثقافيّة للعائدين، والتي اعتبرها دخيلةً على المجتمع. لذا، استخدم هذا الخطاب الميكانزمات التحصينيّة للهويّة المُحافظة من خلال أسلوبيّة تحذيريّة للمجتمع من هذه المظاهر الدخيلة (كالتبرّج والسفور)، ما حدا ببعض المتأثّرين بهذا الخطاب إلى نعت هؤلاء العائدين بـ"التوانسة".

بالمقابل؛ فإنّ استبعاد شرائح اجتماعيّة حيويّة في المجتمع الفلسطينيّ من المشاركة الفاعلة عبر الاعتراف بها وبدورها وقدراتها (الثيموس: المفهوم الفلسفيّ الإغريقيّ حول مساعي الفرد للحصول على الاعتراف) شكّل مادّةَ مظلوميّة لهذا الخطاب، الذي يجد في أحزمة البؤس (كالمخيّمات) ضالته المنشودة، فحصر الثروة الوطنيّة بطبقة محدّدة، ومركزة القوّة والسلطة ساهما في جعل هذا الخطاب ذا طبيعة مغناطيسيّة لهذه الشرائح. أمّا ثالثة الأثافي، فكانت الانهيار التدريجيّ لاتفاقيّة أوسلو، وما تبع ذلك من إخفاقات وإحباطات وتبدّدات للوعود والجهود. وبذلك، أعاد خطاب التيّار الإسلاميّ بلورة نفسه، مدعّمًا ذلك بالممارسات العنفيّة/ المقاوماتيّة، مع مواصلته استنهاض النزعات المحافظة، وتجيير الشرائح المُقصاة في سياقات بناء مجتمع يوتوبيّ/ مثاليّ بواسطة الميكانزمات التحصينيّة التي ترى في النصوص المقدّسة -حصرًا- حلًّا للصراع. لذلك، استُدخل المجتمع الفلسطينيّ في أنساق الغيبيّات المُغيِّبة لفهم الظروف الموضوعيّة والتاريخيّة للصّراع.

النموذج اليوتوبيّ طريقٌ إلى الحدث النهائيّ

إبّان الانتفاضة الثانية (2000) التي شكّل اقتحام رئيس الوزراء الإسرائيليّ الأسبق (أرئيل شارون) للمسجد الأقصى الحدثَ المركزيّ لها، نمت ظاهرةُ التديّن وتصيّرت تعبيراتٍ تزمّتيّة حادّة؛ فالشرائح الاجتماعيّة المُقصاة منذ منتصف التسعينيّات مثّلت (حصان طروادة) للتيّار الإسلاميّ، الذي أجاد استخدام هذه الشرائح وابتداع أفعال تضحويّة كاميكازيّة (العمليّات الانتحاريّة، أو كما تصفها الأدبيّات الإسلاميّة بالاستشهاديّة أو الانغماسيّة).

إلّا أنّ المُسترعي للانتباه هو أنّ هذه الشرائح ليست وحدها من تأثّر بهذا الخطاب، بل حتّى الحركات الوطنيّة واليساريّة تأثّرت بدورها، وشرعت باستخدام الشعارات الدينيّة، ووضعتها على راياتها، ومارست الطقوس الجنائزيّة بشكل مشابه لتلك التي تمارسها الحركات الإسلاميّة، بل واتّخذ كوادرها وعناصرها من "التديّن" الشكليّ والمضمونيّ آليّةً للتعبير عن موقفهم ورؤاهم، وغدا التديّن بؤرةَ الأحكام الأخلاقيّة على سلوكيّات الآخر، الوطنيّة وليست الدينيّة فحسب.

وفي غمرة احتدام الصّراع، احتدمت المنافسة على ممارسة الأفعال التضحويّة/ المقاوماتيّة ذات الطابع الانتحاريّ (الاستشهاديّ)، فتغيّرت المسميات، وتبدّلت العناوين، وما فاقم من ذلك هو الكمّ العُنفِيّ الموجَّه ضدّ الفلسطينيين وما ارتُكب من مجازر في عدد من المناطق والمخيّمات.

انكفأ المجتمع الفلسطينيّ نحو الاكتفاء بالفهم النصوصيّ (النصّ المقدّس) للصراع، وتحوّل خطاب التيّار الإسلاميّ إلى سلطة معرفيّة لها أدواتها وشبكاتها التعاضديّة الأفقيّة. فهذا الانكفاء ليس نتاجًا هجينًا لهذا الخطاب فقط، بل هو إرجاءٌ للحلول النهائيّة كتعبير عن عجز (دائم أو مؤقّت) جرّاء التضحيات الجسيمة التي قُدّمت. وهُنا يتموضع النصّ المقدّس في تموضعات متعدّدة، لكنّ لسلطة الخطاب مقدرةً على مفهمة النصّ المقدّس بما يتوافق واحتياجاتها الظرفيّة.

بعيد الانتفاضة الثانية، أعاد خطاب التيّار الإسلاميّ تموضعه من موقع الخطاب المُعارِض للأوضاع السياسيّة السائدة إلى الساعي للاضطلاع بدور تقويميّ من خلال اجتراحه لمشروع سياسيّ– اجتماعيّ قائم على "الإصلاح والتغيير" (الاسمُ الرسميّ لقائمة حماس الانتخابيّة 2005–2006). وقد سبق ذلك تطوّرات دراماتيكيّة متمثّلةً باغتيال القيادات المؤسّسة للحركة، وتبوُّء القيادات المنتمية إلى الطبقة الوسطى فما دون موقع قيادة الحركة؛ فتلاشى الشكل المشيخيّ– الروحيّ لزعيم وقائد الحركة، وحلّ محلّه شكلٌ سياسيٌّ حداثيٌّ عصريّ، مع الحفاظ على سيماء التديّن (اللحية، الثفن [زبيبة الصلاة]، الإمامة في الصلاة... إلخ) مع إجراء تعديلات طفيفة في الخطاب الذي اتّسم سابقًا باللغة الدينيّة المحضة، إلى تنويع المرجعيّات والمراجع مع الحفاظ على الإطار المرجعيّ الدعويّ– الدينيّ ذي الجذور الإخوانيّة (الإخوان المسلمون)، ولاحقًا التحوّل من الميثاق إلى الوثيقة عام 2017 كاستجابة للمتغيّرات الإقليميّة والدوليّة.

لم يتشكّل المشروع السياسيّ للتيّار الإسلاميّ دون مقوّمات ثقافيّة تصوغ مفاهيمه وأفكاره، فكانت (الأنتلجنسيا المسجدية) مضطلعةً بأدوارها في صياغة الوعي الجماهيريّ، والانْعطاف بمسار هذا الوعي من الوعي المظلوميّ (كما ذكرنا آنفًا) إلى الوعي السياسيّ الفاعل، وعدم الاكتفاء بالنقد السلبيّ الشكّاء. فجاء قرار المشاركة في الانتخابات (بعد إصدار المرجعيّة الدينيّة، التي كانت قد حرّمت المشاركة في الانتخابات، فتوى بجواز المشاركة). وطبعًا لا ينفصل ذلك عن الظروف الدوليّة والإقليميّة ومشروع إعادة تأهيل الحركات الإسلاميّة في المنطقة كضرورة لمشاريع جيوسياسيّة ظهرت لاحقًا فيما عُرف بـ"الربيع العربيّ".

استطاع خطاب التيّار الإسلاميّ، مرّةً أخرى، تطويع الوعي المظلوميّ ضمن الاستخدامات الانتخابيّة، لكن ليس لدى الشرائح المستبعَدة فحسب، بل امتدّ إلى الشرائح المهمَّشة في الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة؛ ففوز التيّار الإسلاميّ في الانتخابات لا يختزل بتراكم الوعي الدينيّ من منظور هذا التيّار في المجتمع الفلسطينيّ، إنّما جاء أيضًا تعبيرًا عن نقمةٍ وانتقامٍ من الشرائح المهمَّشة تجاه مُهمِّشيها. وهكذا انتقل خطاب التيّار الإسلاميّ من الطور النقديّ إلى الطور التقويميّ، بيد أنّ ذلك بدا استحاليًّا مع تنامي الآراء الحاثّة على بناء المدينة اليوتوبيّة (قطاع غزّة) كضرورة اقتدائيّة بالنموذج اليثربيّ– المدينيّ في الإعداد والتحضير للحدث النهائيّ (معركة التحرير)، خصوصًا بعد التصادم العسكريّ مع السلطة الوطنيّة التقليديّة الذي أدّى إلى انقسام سياسيّ– جغرافيّ سيتسبّب بتداعيات تحوّليّة على القضيّة الفلسطينيّة برمّتها.

النموذج اليوتوبيّ الفوق أرضي والإعداد التحت أرضيّ

حرص التيّار الإسلاميّ على تفعيل مشروعه الثقافيّ بما يُسرّع من إنشاء المدينة اليوتوبيّة بهدف إنجاز الحدث النهائيّ (الأبوكاليبسيّ)، عبر الترويج للصيغ الخلاصيّة- المسيحانيّة للصراع. وهذا يتطلّب إعدادًا عسكريًّا، ومأسسة القوّة العسكريّة (الميليشياويّة).

ويُحاذي ذلك إجراء هندسة اجتماعيّة يكون المسجد ذا مكانة مركزيّة فيها، والاهتمام بالمؤسّسة التربويّة التنشيئيّة كمدماك أساسيّ لإنتاج المادة البشريّة للحدث النهائيّ، كما عمل على تأسيس مراكز تحفيظ القرآن وبرامج دعويّة كقنوات إجباريّة لانتخاب المادة البشريّة التي يجب أن تكون معبّأةً دينيًّا على غرار النموذج الإسلاميّ المُقتفى.

لكنّ إنشاء المدينة اليوتوبيّة المُتخيّلة لم يكن دون عوائق، تجسّدت بأسباب ذاتيّة، كوَهَن الحوكمة، وهشاشة الخبرة في الإدارة والحكم. نجم عن ذلك إعادة إنتاج لظواهر كان التيّار الإسلاميّ ناقدًا لها، كالفساد الإداريّ والماليّ، والقمع، وتَركّز السلطة، وتحوّل (أئمّة المساجد) إلى ذوي سلطة ومسؤولين ورساميل؛ ما أعاق البناء الطبيعيّ لتلك المدينة في مكانٍ (قطاع غزّة) للسلطة القبليّة-العشائريّة سطوةٌ ونفوذ. وكانت هناك أسباب موضوعيّة، كالظروف الإقليميّة (صعود الإسلام السياسيّ وهبوطه)، تعرقل هذا البناء.

وعلى الرغم من التعقيدات التي أحاطت بمشروع المدينة اليوتوبيّة، فقد تمكّن التيّار الإسلاميّ من رسم ملامح أوليّة لهذه المدينة، وسعت وسائل إعلامه إلى إظهار هذه المدينة كنموذج للمزاوجة بين المشروع السياسيّ/الأيديولوجيّ وبين المشروع اليوتوبيّ المتخيّل، كمسار لا مَندوحة عنه للوصول إلى الحدث النهائيّ (التحرير).

لهذا كانت الحروب المتعاقبة منذ نهاية العام 2008 وحتّى معركة 2021 اختبارًا لفاعليّة المشروع اليوتوبيّ في بلورة ذلك الحدث، والتأكيد على المفاهيم الخلاصيّة-المسيحانيّة المنبثقة من الحتميّة الدينيّة لمآلات الصراع.

المشروع اليوتوبيّ لم يكن فوق الأرض، بل كانت مختبراته تحت الأرض، عبر إنشاء ما سُمّي بـ(مترو الأنفاق)، كاستراتيجيّة عسكريّة مستمدّة من التجارب العسكريّة التاريخيّة، وبمتابعة حثيثة وميدانيّة من الجنرالات الإيرانيّين، وأبرزهم الجنرال قاسم سليماني، بحسب التقارير الصحفيّة.

لذا، فهناك علاقة سببيّة بين مشروع ما فوق الأرض، وبين مشروع ما تحتها، لإنجاز الحدث النهائيّ عبر استدعاء القصص التاريخيّة والمآثر الدينيّة اللتين تُبرهنان على شرطيّة إتمام المشروع اليوتوبيّ كشرط حاسم لإنجاز هذا الحدث. وخلال الحروب المتعاقبة، استُخدم الأداء العسكريّ كبرهان على أنّ التكامليّة ما بين فوق الأرض وما بين تحتها ضرورةٌ لا ريب فيها.

وبعيد الإعلان عن تهدئة أو هدنة، كان التيّار الإسلاميّ يشحذ خطابه بالدلائل والبراهين على صوابيّة المزاوجة بين المشروع اليوتوبيّ وبين المشروع السياسيّ، فيما رجع الخطاب الوطنيّ التقليديّ القهقرى لاندماجه في خيارات سياسيّة لم تحظَ بتأييد المجتمع الفلسطينيّ، الذي رأى في هذا المشروع اليوتوبيّ هيكلًا أيديولوجيًّا متماسكًا للعبور نحو الحدث النهائيّ، مع القبول/التقبّل لتجربة الحكم في قطاع غزّة بإخفاقاتها وتعثّراتها؛ أي "لا صوت فوق صوت المعركة".

لم يكن هذا التأييد عاطفيًّا-انفعاليًّا محضًا، ففي استطلاع للرأي أعرب 80 بالمئة من الفلسطينيين المستطلعة آراؤهم (في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة) عن تأييدهم لعمليّة السابع من أكتوبر (طوفان الأقصى)، مُعتقدين أنّها وضعت القضيّة الفلسطينيّة في بؤرة الاهتمام العالميّ.

وبحسب الاستطلاع الذي نُشر في شهر حزيران من العام 2024، فإنّ نصف الذين استُطلعت آراؤهم أبدَوا توقّعًا بأنّ (حماس) ستنتصر وستعود لحكم قطاع غزّة، فيما أيّد هؤلاء العمل المسلّح، مع هبوط في تأييد حلّ الدولتين.

نتائجُ الاستطلاع الذي أُجري بعد عمليّة السابع من أكتوبر 2023 بثمانية شهور، تكشف عن اتجاهات تأييديّة، ليس لتلك العمليّة كتمثُّل لما يُختزن في اللاوعي الوطنيّ، بل كمخاض لتحوّلات تاريخيّة تُذرّر الأوضاع السياسيّة الآسنة، وتضمّد الذات الوطنيّة الجريحة المُستلبة، وتُسرّع من حركة التاريخ نحو الوصول إلى الحلول الخلاصيّة-المسيحانيّة؛ أي وضع النصّ المقدّس في سياق إمبريقيّ، بالتماهي مع ديناميّات الصراع في القدس (المسجد الأقصى على وجه التحديد)، التي استحوذت على الخطاب الإسلاميّ منذ حرب 2021 (معركة سيف القدس)، وما تلاها من خطابات لقائد حركة حماس في قطاع غزّة، يحيى السنوار (الذي اغتيل في شهر تشرين الأوّل عام 2024)، بما تحتويه من صيغ وتعبيرات تحذيريّة-تهديديّة لأيّ انتهاك أو اعتداء أو مساس بالمسجد الأقصى، الذي تفاعل روّاده بمطالبة القوّة الردعيّة في قطاع غزّة بالتدخّل بعد أيّ حدث اقتحاميّ للمسجد.

استراتيجيّة "وحدة الساحات" والحدث النهائيّ

أفرزت التحوّلات الإقليميّة تعدّدًا تيّاراتيًّا داخل حركة (حماس) وانقسامًا رؤيويًّا ليس على الصعيد الجغرافيّ فحسب (داخل - خارج)، بل في الخيارات والتحالفات السياسيّة، وقد استطاع تيّار (الداخل) وقتذاك التحكّم بمقود هذه الخيارات، وترميم العلاقات التحالفيّة التي أُصيبت بتصدّعات ناجمة عن مواقف سياسيّة ظرفيّة تجاه ما يُعرف بـ"الربيع العربيّ". وقد كانت هذه السياسة الترميميّة جزءًا من التصوّر الشامل للحدث النهائيّ، عبر تحشيد الدعم العسكريّ واللوجستيّ والخبراتيّ، وإقصاء العناصر التأزيميّة داخل المؤسّسة الحزبيّة، للوصول إلى هذا الحدث مع التغاضي عن الخلافات والاختلافات والتباينات السياسيّة أو الأيديولوجيّة أو المذهبيّة، والانصهار في بوتقة استراتيجيّة إقليميّة شاملة (وحدة السّاحات).

برزت "وحدة السّاحات" كاستراتيجيّة جيوسياسيّة إيرانيّة لتطويق "إسرائيل"، عبر إحاطتها بجبهات مناوئة من فصائل وحركات وتنظيمات مُعادية عقائديًّا وقوميًّا لها، وهي استراتيجيّة لم تتشكّل استجابةً لاحتياجات نفوذيّة آنيّة، بل نتيجةً للتفاعلات الإقليميّة المعقّدة ضمن التقاطعات والتعامدات والتعارضات المشاريعيّة بين القوى الدوليّة والإقليميّة.

كيف تبلورت استراتيجية وحدة الساحات؟

تُدرك المؤسسة الدينية الحاكمة في إيران إدراكًا مؤسَسًا على استقراءات عقائدية وتاريخية واستراتيجية أن لدى “إسرائيل” عقدة الدخيل الكياني؛ أي الكيان الدخيل الذي يحاصره ويحصره أعداؤه المتربصون، وهي العقدة السيكوـسياسية التي استحكمت بقادة “إسرائيل” ومؤسسيها بمختلف منابتهم الإيديولوجية وأفكارهم ورؤاهم؛ فـ”إسرائيل” مصابةٌ بـ{برانوايا وجودية} إن صح التعبير، ودون الإياب إلى المسببات التاريخية والمادية لهذه البرانويا؛ فإن الشعور الحيوي بالتهديد الوجودي يتبدى في مُجمل السلوكيات السياسية والعسكرية والأمنية لإسرائيل.

وبالعودة إلى استراتيجية وحدة الساحات؛ فقد تبلورت هذه الاستراتيجية تبلورًا حقيقيًا في لبنان، وعلى وجه الدقة؛ بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982؛ فالخمينية السياسية ارتأت أن تدعم حزبًا وليدًا مكونًا من جيل ينتمي إلى طبقات فقيرة ومسحوقة ومستضعفة درس في حوزات النجف وقم، وتأثر تأثرًا ملموسًا بالأئمة الذين شكلوا باعثَ إلهام لهم، وهكذا نشأ “حزب الله” الذي شرع بمقاومة الوجود العسكري الإسرائيلي في لبنان وصولًا إلى الانسحاب الإسرائيلي في الخامس والعشرين من أيار عام 2000 وحتى هذه الآونة.

ونظرًا للتطور الكمي والنوعي لدى “حزب الله”، وقدرته الفائقة على فرض نفسه كفصيل سياسي يمثل طائفة دينية كبيرة في ظروف إقليمية ومحلية ساهمتا مساهمةً فاعلةً في ذلك؛ فإن إيران التي لم تضن بدعمها العسكري والمادي والخبراتي على حليفها الاستراتيجي في لبنان، ارتأت أن تستنسخ التجربة وتعممها في قطاع غزة بعد سيطرة حركة حماس عليه عام 2007، وجماعة أنصار الله {الحوثيون} في اليمن، والفصائل العسكرية- العقائدية في العراق، وطبعًا كان للجنرال الراحل قاسم سليماني وعدد من قادة الحرس الثوري الإيراني قصب السبق في هذا الشأن، فزيارة سليماني السرية إلى قطاع غزة، وإشرافه المباشر على إنشاء الأنفاق العسكرية تؤكد أن “وحدة الساحات” استراتيجية مُتبناة لدى المؤسسة الدينية الحاكمة في إيران وذراعها الضارب ألا وهو الحرس الثوري.

تناهى إلينا مصطلح “وحدة الساحات” كاستراتيجية جيوسياسية منذ عدة سنوات، ولكنه ظل مصطلحًا عائمًا وعموميًا إلا أن تمثل بشكل فيزيقي ملموس بالتعبيرات الواقعية لدى المسؤولين الإيرانيين مثل وزير الخارجية الإيراني الراحل أمير عبداللهيان الذي شارك بحياكة هذه الاستراتيجية، عبر لقاءاته واجتماعاته الدورية والمتكررة مع قادة حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي وأنصار الله، وليس أدل على ذلك؛ من الاجتماع الاستثنائي الذي عقد بينه وبين الأمين العام لحزب الله الراحل حسن نصرالله ونائب رئيس حركة حماس الراحل صالح العاروري والأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي زياد نخالة قبل عملية “طوفان الأقصى” بأيام.

وبعد عملية “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول الماضي؛ وُضعت استراتيجية “وحدة الساحات” موضَع الاختبار والقياس، وكانت “إسرائيل” والولايات المتحدة الأمريكية تترقبان وتراقبان حتى انقشع الغبار بإعلان “حزب الله” فتح جبهة الإسناد في الثامن من الشهر ذاته ضمن قواعد اشتباك تُراعي الحسابات الداخلية في لبنان، والاعتبارات الإقليمية في المنطقة ككل، وهو ما أحاط هذه الاستراتيجية بالشك والارتياب، خصوصًا، مع تنامي النزعات الشكوكية حول تأثير جبهة الإسناد اللبنانية على مجريات المعارك في قطاع غزة، وهو ما عبر عنه مسؤولون في حركة حماس، أبرزهم؛ خالد مشعل، يرافق ذلك؛ خطاب إعلامي ودعائي مغذ لتلك النزعات.

مرةً أخرى؛ تعرضت استراتيجية “وحدة الساحات” للاختبار الحاسم، لكن النزعات الشكوكية تقلصت رويدًا رويدًا بعد قصف جماعة {أنصار الله} لـ”إسرائيل”، وإعلانها منع مرور السفن المتجهة إليها {أي إسرائيل} عبر مضيق باب المندب، وسرعان ما شرعت الفصائل العسكرية في العراق بإطلاق المُسيرات المفخخة إلى “إسرائيل”، وبإصدار البيانات التي تجسد “وحدة الساحات”، لكن المصداقية التطبيقية لـ ”وحدة الساحات” تمثلت بالتطور الدراماتيكي في الجبهة اللبنانية، وانتقال إيران من مرحلة “الصبر الاستراتيجي” إلى “الردع الاستراتيجي” بعد استهداف سفارتها في دمشق في شهر نيسان من العام الماضي تحولًا في مجرى الصراع الإقليمي، بالتوازي مع تسارع التطورات الميدانية في قطاع غزة وجبهات الإسناد في جنوب لبنان واليمن والعراق.

أما عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في مقر إقامته بالعاصمة الإيرانية طهران خلال مشاركته في حفل تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان وما تلاها من عمليات اغتيال استهدفت قيادات وكوادر متقدمة في حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي، فقد أسست لتساؤلات دقيقة حول استراتيجية “وحدة الساحات” وطاقتها الاستيعابية لتلك الاغتيالات التي رامت “إسرائيل” ومعها الولايات المتحدة الأمريكية إلى تذرير “وحدة الساحات” وتفكيكها ليس كاستراتيجية تحررية- عقائدية متناهية المركزية فحسب، بل كشبكة تعاضد عابرة للطائفية {شيعة-سنة} ضد المراكز الكولونيالية وأطرافها.

وقد سعت “إسرائيل” إلى التفكيك الجغرافي والسياسي لاستراتيجية “وحدة الساحات”، من خلال محاولة إبرام اتفاقات تهدئة تفصل جبهات الإسناد عن جبهة قطاع غزة، ولكنها لم تغفل أيضًا أن أي موافقة من حزب الله أو أنصار الله على ذلك؛ قد يؤدي إلى احتضار تلك الاستراتيجية وتبددها. لذلك، اتخذت “إسرائيل” قرارها باغتيال الأمين العام لحزب الله وقيادات الحزب السياسية والعسكرية، والشروع بعملية برية تضمن من خلالها إنشاء منطقة نفوذ تمتد حتى ما وراء النهر الليطاني، وبينما “إسرائيل” تتهيأ لبناء وقائع جيوسياسية في لبنان؛ فإن عينيها ترنو إلى الفصائل العسكرية- العقائدية في العراق، والتي أبلغتها إيران بأن تحت الميكروسكوب الإسرائيلي، أما فيما يرتبط بجماعة أنصار الله، فإن المقاربة الأمريكية- الإسرائيلية بشأنها تتمايز عمن سواها.

لا يسعنا التكهن بمستقبل استراتيجية “وحدة الساحات” أو استشراف مآلاتها في واقع حال يموج بالتطورات المتسارعة والمكثفة، وفي أتون صدام المشاريع الإقليمية وتصارعها؛ يتراءى تساؤل يستدعي التمحيص: ما مستقبل الطائفة الشيعية في حال استطاعت إسرائيل ومعها الولايات المتحدة الأمريكية تفكيك استراتيجية وحدة الساحات؟

يمكننا الاستدلال على عدد من المؤشرات التي تُجيب عن تساؤلنا، وهي:

– تفويض حزب الله لرئيس مجلس النواب اللبناني والزعيم الشيعي نبيه بري بإدارة المفاوضات المتعلقة بلبنان ما بعد جبهة الإسناد.

– صراع مراكز القوى في طهران، وتغلغل الإصلاحيين داخل بنية المؤسسة الحاكمة، وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ عودة محمد جواد ظريف السياسية.

– اجتماع الثلاثي {مقياتي- بري- جنبلاط} حول الترتيبات المتعلقة بلبنان ما بعد جبهة الإسناد، أو ما بعد حزب الله كما يتعامل حزب القوات اللبنانية بقيادة سمير جعجع.

وهي مؤشرات لا تختلف أو تتخالف مع مؤشرات أخرى، أهمها؛ أن مستقبل الطائفة الشيعية كقوة إقليمية لها امتداداتها مرتبط بمصير استراتيجية “وحدة الساحات”.

"طوفان الأقصى".. الاستعارة الميثولوجيّة محاكاة النموذج النوحيّ

الاستعارة الميثولوجيّة للقصّة المؤسطرة "الطوفان" جاءت تعبيرًا عن اكتمال النموذج اليوتوبيّ المتخيّل فوق الأرض، والانتهاء من البناء العسكريّ التراكميّ تحت الأرض؛ فأضحى الحدث النهائيّ قاب قوسين أو أدنى من التحقّق والتمثّل، فالدلالات الميثولوجيّة لـ"الطوفان" تعني عمليّة الإغراق الاجتثاثيّ، وإلصاقها بـ"المسجد الأقصى" يُعدّ مواءمةً بين (الإغراق) في محاكاة للنموذج "النوحيّ" عبر التوظيف المكثّف للمرويّات الدينيّة-الأسطوريّة، وبين المسجد كبؤرة خلاصيّة-حتمويّة للصراع، ويُمكن الاستدلال على النموذج "النوحيّ" من خلال الباحث (جاك مايلز) الذي أعاد استقراء الأبعاد الأسطوريّة والميثولوجيّة لقصّة "نوح" في كتابه سيرة الله: "أمّا الله، فانطلاقًا من أنّ العالم قد أضحى بحاجة إلى دمار يطهره، وهكذا نجد في التكوين، أنّ الرّب (هُنا يُمايزُ مايلز بين الله والرّب) يشعر بمرارة، وأنّ الدمار ينشأ من هذه المرارة".

ويضيف (مايلز): "ومع أنّ هنالك استثناءً لنوح؛ فإنّ الأرض لا تُدمّر من أجل نوح؛ أي ليس للقيام ببداية جديدة للخلق يكون فيها نوح بمثابة آدم جديد. التدمير هنا هو غاية لا وسيلة. فعل تعبيريّ لا فعل أداتيّ".

بالإياب إلى الخطاب الافتتاحيّ للحدث النهائيّ لقائد كتائب عزّ الدين القسّام (محمد ضيف)، والذي جرى اغتياله في شهر تمّوز من العام 2024؛ فإنّ الخطاب يُستهَلّ بنداء قوميّ-أُمميّ. أمّا المضامين المتنيّة، فهي استرجاع تاريخيّ للصراع طفا عليه السرد المظلوميّ-التسويغيّ للعملية، تبوّأ (المسجد الأقصى) مكانةً مركزيّةً فيه، أو كما ذكرنا كموضعةٍ له بوصفه بؤرةً خلاصيّة، مع استخدام الآيات القرآنيّة المُحفِّزة على القتال والاشتباك الجهاديّ؛ أي تفعيل النصّ المقدّس ودوره التعبويّ، ووضعه كما ذكرنا سابقًا في سياق ديناميكيّ-اختباريّ لوعوده الحتميّة، واستدعاء الخوارق (الملائكة) والقوى اللامرئيّة في بناء المتخيّل (الحدث النهائيّ) اتساقًا مع مشهد الفتوحات النهائيّة ضمن مخيّلة تُدلّل التعبيرات الدراميّة على يقظتها ونشاطها.

اعتُبرت المشاهد الأوليّة-الاقتحاميّة لعمليّة السابع من أكتوبر إنجازًا ماديًّا للحدث النهائيّ (دون استشراف العواقب والمآلات)، وليس أدلّ على ذلك من السجود الجماعيّ (سجدة الشكر أو الثناء) لقادة حركة (حماس) حينما رأوا تلك المشاهد، فبما أنّ النموذج اليوتوبيّ المُكتمل فوق الأرض، والجهوزيّة العسكريّة تحتها، أديّا إلى إنجاز ذاك الحدث، فإنّ المبتغى الخلاصيّ قد أزف، وعليه؛ فقد شكّلت تصريحات قيادة الحركة بعيد العمليّة وفي أيّامها الأولى دلالةً جازمةً على ذلك.

أمّا المجتمع الفلسطينيّ، الذي أبدى تأييدًا ساحقًا لتلك العمليّة انسجامًا مع الخطاب الإسلاميّ وتصوّراته للحدث النهائيّ (الذي قد تحقّق كما خُطّط له فعلًا)، فإنّه ذهب مذهبًا تأييديًّا للبنى العقائديّة-الأيديولوجيّة لهذا الخطاب، عبر المواقف التأييديّة الصارمة للحدث النهائيّ المؤسّسة على قناعات إيمانيّة لا تخضع للنقاش أو التفكير الجدليّ. ففي استطلاع للرأي، أكّد (52) بالمئة من المستطلعة آراؤهم تأييدهم للمقاومة المُسلّحة، لكنّ هذا الاستطلاع يكشف أيضًا عن تراجع ملحوظ بنسبة (17) بالمئة لمؤيّدي حركة (حماس) قياسًا بالاستطلاعات السابقة، والتي أبدى فيها ما نسبته (38) بالمئة من المستطلعة آراؤهم تأييدهم لـ(حماس)، مع تنامٍ لنسبة الذين اتّخذوا مواقفَ حياديّة؛ ما يعني أنّ المآلات المابعديّة للحدث تسبّبت باضطراب استيعابيّ للوقائع التي اكتست بالمشاهد الدمويّة، يُضاف إليها: الدمار الكلّيّ للأحياء السكنيّة والمرافق الحيويّة، وانهيار منظومات الخدمات الأساسيّة، واستشراء الأوبئة والأمراض، والإزاحة الديمغرافيّة المتواصلة، والجوع الجماعيّ، وتهتّك النسيج الاجتماعيّ-الأهليّ جرّاء ظواهر الجريمة والسرقة والقتل وقطع الطريق والانفلات الأمنيّ، وغيرها من الظواهر التي يتمخّض عنها سؤال جوهرانيّ حول جدوى النموذج اليوتوبيّ المتّسق بالحدث النهائيّ.

استخلاصات ختاميّة

تُعدُّ التحوّلات السوسيولوجيّة في الحروب والأهوال أداةَ قياس فاعلة في القراءة التنبّؤية لاتجاهات المجتمعات، ويمكن لأيّ باحث أن يرصد هذه التحوّلات وصيرورتها؛ فالأكلاف البشريّة التضحويّة الباهظة، والتداعي الميلودراميّ للنموذج اليوتوبيّ والفاعلين فيه، يشكّلان تساؤلًا حول آليّات التفكير العقلانيّ لهؤلاء الفاعلين، الذين عقدوا مؤتمرًا بتاريخ الثلاثين من شهر أيلول عام 2021 بعنوان "وعد الآخرة"، شارك فيه عدد من الباحثين والأكاديميّين المحسوبين على التيّار الإسلاميّ، وأصدروا توصيات اعتبروها خارطةَ طريق لما بعد الحدث النهائيّ (التحرير)، وبالرغم من الانتقادات التهكّميّة التي أحاقت بالمؤتمر، إلّا أنّ القائمين عليه والمشاركين فيه كانوا من اليقينيّة بحتميّة هذا الحدث بما لا يدع مجالًا لاستقبال أيّ ملاحظة أو رأي مغاير.

بالعودة إلى التحوّلات السيكو-سوسيولوجيّة داخل المجتمع الفلسطينيّ، يُمكن رصد الانكفاء نحو المُسلّمات الغيبيّة بعد ما آل إليه النموذج اليوتوبيّ، كضرورة لإعادة توجيه مشاعر الخوف الجمعيّ من انتقال تلك المآلات بشكل استنساخيّ إلى أمكنة أخرى، وبما أنّ النصّ المقدّس (بصلاحيّته الزمنيّة والمكانيّة) لديه تنبّؤاته لما سينتهي إليه هذا الصراع، فالأجدى هو اجتراح مقاربة أخرى تضمن البقاءَ كأولويّة لا تتقدّمها أولويّات؛ أي الحفاظ على الحياة كقيمة عُليا أمام الكمّ العنفيّ الهائل بمختلف أشكاله وصنوفه.

 

المراجع:

(استطلاع رأي، 2025)

(استطلاع رأي 2024)

(كتاب سوسيولوجيا الدين ماكس فيبر)

(مؤتمر وعد الآخرة، 2021)

(ميثاق حماس التأسيسي، 1987)

(خطاب الضيف، 2023)

(مايلز)