شعوب في الأسر أو اعتقال المكان وموت السياسة


فئة :  مقالات

شعوب في الأسر أو اعتقال المكان وموت السياسة

كان الفلسطينيّ وسيظلّ أيقونة الانتماء في أفق أنفسنا المعاصرة: اللاجئ، الأسير، الشهيد......الإنسان. بيد أنّه قد تمّت بسرعة أقنمة هذا النوع الجليل من البشر وحرمان الإنسانية من ترتيب علاقة عادية معه. ونتساءل دوما: هل للفلسطينيين حياة يوميّة؟.. كما تساءل أحد الباحثين الأوروبيين: "هل كان لآلهة اليونان حياة يوميّة؟" - يشعر كلّ من يواصل استعمال لغة الضادّ أنّه يقف في الموقع الخطأ طالما أنّ "بوصلة" الكينونة لا توجّه يديه نحو ما ينبغي أن يُقال. وما ينبغي أن يُقال لم يتزحزح عن الأفق منذ 1948: أنّ علاقتنا بالأرض قد تغيّرت بلا رجعة، لأنّ جزءًا من أنفسنا قد تمّ حذفه وتخزينه في رفّ قوميّ غير قابل للاستعمال. هذه المساحة من الهوية التي تشير إليها فلسطين ظلّت معطّلة بكلّ حرص كأنّها تهديد أخلاقي لمستقبل الإنسانية. كان ثمّة انتظار فجّ مارسته أجيال من الشعوب: انتظار أن تتحرّر فلسطين. لكنّ من ينتظر يقف دوما في الجانب غير المناسب من تاريخه. وبدلا من طرد كل أجهزة الحداثة التي أوقعت فلسطين في براثن المستعمر، انخرطت شعوبنا في غزل تاريخي مع الأيقونة دون أيّ خوف حقيقي من العالم الذي تقترحه علينا. ضاعت فلسطين؛ لأنّ الحداثة تفترض ذلك. لم يعد يمكننا الفصل بين وعود التنوير وبين خطط الاستعمار. ولأنّنا اعتنقنا وعود التنوير- والتي تحوّلت اليوم إلى عدميّة دينية، أي إلى حركات استعمار داخلي- دون أيّ احتساب بنوع العالم الذي سوف ننخرط فيه، لم يعد ممكنا تحرير فلسطين بواسطة الدولة-الأمة التي وعدتنا بالاستقلال.

كيف يبقى شعب في الأسر؟ أمّ أنّ الأسر هو نموذج بيو-سياسي لكلّ أنواع الحياة التي ستُفرَض على الجموع في المستقبل؟ - انتبهت الشعوب منذ 2011، مثلا، إلى أنّ الأسر ليس حالة فلسطينية خاصة. وأنّ شعوباً بأكملها سوف تنزاح عنها غشاوة الدولة-الأمة أو الدولة الحديثة، وتجد نفسها وجها لوجه مع نوع غير مسبوق من الاحتلال: نوع غير قومي ولا أجنبي ولا حتى استعماري من الاحتلال. إنّه احتلال الداخل. لقد اكتشفت الشعوب- لاسيّما تلك التي كانت تظنّ أنّها في حالة انتظار شرعي لتحرير فلسطين يستمرّ إلى مدّة غير معلومة - أنّ قاعة الانتظار التاريخية لالتحاق فلسطين بها لم تعد تتسع لكلّ أنواع الأسرى. لقد بدأ تاريخ اعتقال المكان. ولم تعد الشعوب ضروريّة للبقاء، لم يعد الإنسان ضروريا كي تستمرّ دولة ما في فرض جهاز البقاء على المكان. وفجأة ماتت السياسة، ولم يعد يوجد غير حيل البقاء. كلّ الانتخابات التي جرت منذ 2011 في أفق العرب المعاصرين هي انتخابات غير سياسية، بل هي مجرّد حيل للبقاء في عصر اعتقال المكان. وعلى الشعوب أن تتأقلم مع هذا النوع غير المسبوق من الانتماء. الانتماء إلى الحياة فقط. وما عدا ذلك لم يعد ضروريّا؛ قد يُقال: إنّ ذلك صحيح لأنّ الدولة كانت دوما استثناءً في تاريخنا. أو أنّ الدولة كانت دوما حالة طوارئ منظّمة أو محروسة بشكل ناجع. لكنّ المشكل الراهن لم يعد الدولة، بل شكل الحياة الذي يتمّ اقتراحه أو سوف يتمّ اقتراحه على الشعوب منذ الآن: أن تغيّر المكان أو أن تتعلّم البقاء من دون أيّ ادّعاءات هوويّة إضافية.

ربّما يكون المكسب الأكبر هنا هو الوقوف المزعج على أنّ الهويات القطرية أو القومية هي مجرد ألق حداثيّ فرضته القوى الاستعماريّة كبرنامج انفعالات وطنيّة دقيقة وموسميّة ورسميّة للناس بعد أن تمّ هدم عالمهم السابق والتجديف على سرديات أنفسهم السابقة. لقد تمّت برمجة "شعوب" جديدة للمكان. ولم يكن المستعمر يتصوّر كم أنّ خطّته لاختراع الهوية الحديثة كانت ناجحة وناجعة. لكنّ 2011 فتحت ملفّ الهويات من جديد وأيقظت الشعوب من سباتها الهووي، والذي هو في واقع الأمر نتيجة أخلاقية مباشرة لسياسة الاستعمار بوصفه سياسة الكينونة التي فرضها عصر الأنوار الأوروبي علينا، وبلغت بها أمريكا مرحلتها المعلوماتية.

طبعا، ليس عيداً أبدا لأحد أن تتبعثر هويات الشعوب، وتصبح مدفوعة مرة أخرى إلى استجداء أشكال هووية جديدة لتمثيل ذاتها. لكنّ ما يقع اليوم يشبه بشكل ملعون ما وقع قبل مئة وخمسين عاما خلت: هدم عالم الحياة القديم وإلقاء الناس في ساحة هوية بلا ملامح. كان الانتقال في المرة الأولى من سرديّة الملّة إلى واقعة الحداثة؛ أمّا اليوم فإنّه انزياح، وهو مرعب كما في المرة الأولى، من سردية الدولة-الأمة، دولة الاستقلال، إلى واقعة "الثورة" - هكذا يمكننا أن نشير إلى حالة حرية غير مسبوقة لكنّها بلا أيّ مضمون هووي صلب. لقد دخلت الشعوب في مرحلة أسر تاريخي لم يقع الاستعداد له. وليس فقط لأنّ النموذج الحديث للدولة-الأمة قد فشل أو استوفى إمكانيته التاريخية- بل لأنّ المثقف الهووي قد استوفى هو أيضا دوره التاريخي.

عديد المثقفين هم عالة أخلاقية على شعوبهم. وليس لأنّهم ليسوا مثقّفين، بل بالتحديد لأنّهم كذلك فحسب. ربما لم تعد الشعوب تحتاج على وجه التخصيص إلى "مثقفين"، وذلك في نفس اللحظة التي دخلت فيها في عصر الأسر التاريخي: الأسر الإمبراطوري، الشبكي، الذي حوّل كل معارك الحياة اليومية لأيّ شعب أو مجموعة أو أقليّة إلى معارك "معولمة" بلا رجعة، أي إلى معارك إمبراطورية. حين تسقط الدولة-الأمة يسقط معها نوع المثقفين الذين ظهروا تاريخيًّا في نطاقها.

إنّ الأسير الفلسطيني هو فضيحة الإمبراطورية بامتياز. إنّ أسئلته نموذجية وقصوى مهما كان الوضع الذي يأتي فيه إلى خطاب البشر: لماذا تسكت الإنسانية عن أسر شعب بأكمله؟ ما هو ثمن الانتماء الحقيقي إلى الإنسانية؟ كيف يمكن أن يُعتقَل إنسانٌ "إداريّا"؟ هل كان كافكا أو أدورنو يقصد هذا بأنّ العالم قد تحوّل إلى "إدارة"؟ كيف يتمّ تشريع قانون لاعتقال الأطفال بعد كل إعلانات حقوق الإنسان العالمية؟ ما هو الأساس الأخلاقي كي يحكم بالمؤبّد على الأطفال؟ هل الطفولة قيمة تقديرية يمكن التفاوض حولها بشكل عسكريّ؟ وكيف تُغلق قطعة من الأرض على سكّانها وكأنّهم شعب يعيش في سجن انفرادي؟ هل الحياة سجن انفرادي لنوع من البشر فقط؟ هل هذا ما كان يقصده فيشته بعبارة "الدولة المغلقة"؟ لماذا يموت أناس لا يسمع بهم أحد كأنّهم أخبار زائفة؟ هل جاء الزمن الذي صارت فيه بعض الشعوب إشاعة مغرضة؟ إلى متى يُقتل الجسم البشري ربحاً للوقت أو درءًا للشبهات أو احتياطاً فقط؟...

حين تكون الكارثة قد حلّت بشعب ما فإنّه لا معنى لأن يكون المرء لائقا أو مصيباً في موقفه السياسي أو غير مصيب. حين تحل الكارثة تموت "السياسة". وتنهار معها كلّ خطابات العدالة. كلّ عدالة هي إمبراطورية أو لا تكون؛ إذ لا معنى لتنمية الكارثة أو الاستثمار في الموت. تُقسَّم الشعوب إلى متقاتلين. ثمّ يُطالب هذا الفريق أو ذاك بأن يكون على "حقّ" وبأن تكون قضيّته "عادلة" وبأن يحقّق "النصر" على "العدو". ولكن هل ثمّة معنى للقتال بين الأسرى؟ إلى أيّ مدى أخلاقي يحقّ لهذا أو ذاك أن يدّعي أنّه انتصر على الأسير المجاور؟ - أفاقت الشعوب على واقعة إمبراطورية كبرى: أنّها موضوع أسر انفرادي، وأنّ عليها أن تتعلّم البقاء من دون ادّعاءات هووية كبيرة. ولكن لأنّه لا معنى للاستثمار في الكارثة، فإنّ على جميع النفوس الحرة ألاّ تدافع عن الدكتاتوريات وكأنّها خبر سار. إذ أنّ الأسر يعلّم الشعوب أيضا أنّها كانت محكومة بدول في الأسر، ولا تقلّ سجنا انفراديّا عنها. بعض الدول لا تملك حتى شرف الأسر. لقد تمّ تركها لنفسها وصارت "الصوملة" مثالا يُحتذى.

لا زال بعضنا يصرّ على الدفاع عن الحاكم الهووي حيّا أو ميّتا، وكأنّ نوع العدالة الوحيد يجب أن يمرّ عبر بوّابة الهوية. لماذا لا ننصت بدلا من ذلك إلى الشعوب كما تقول نفسها، وليس كما يواصل المثقفون الهوويون تعليبها في وضعيات أو مواقف سياسية قابلة للاستهلاك المشّرف. علينا أن نفصل بشكل حادّ بين الدفاع عن فكرة الدولة - والتي تحوّلت منذ التسعينات إلى ادّعاء سيادي قابل للمراجعة - وبين الدفاع عن الحاكم الهووي، باعتباره هو بني "الوطن". ليست الدولة مزرعة هوويّة للحكّام إلاّ ضمن سياسة تملّق هووي واسطة النطاق قد يجدها بعض المثقفين مريحة ومضمونة النتائج. وصار ينبغي الفصل بين "الوطن" و"الموطن": الوطن هوية الحكام وحصان الرهان لديهم. وكلّ "حداثة" مهما كان شكلها هي تبشّر بتنصيب "وطن" قومي، أي بتنصيب هوية عمومية قابلة للاستعمال القانوني، تنتهي غالبا إلى تحويل الحاكم الهووي إلى "إله فان" ينبغي عبادته بوسائل علمانية ناجعة. لكنّ "الموطن" هو روح المكان الذي يسكنه شعب ما، باعتباره مسكن الكينونة في العالم، وليس مسكن الكينونة في الدولة.

لماذا يقع تخيير الشعوب بين الموت الهووي (كما تقتضيه دكتاتورية الانتماء) وبين الموت العدمي (كما تؤدّي إليه ثقافة الموت التي ينصّبها أعداء الحرية مهما كان لونهم أو دينهم أو أدبهم أو قانونهم)؟ أليس ثمّة طريقة أخرى قد يجب على "الباحثين" عن حالات الحرية المناسبة لوجودهم أن يعملوا على بلورتها أو على اختراعها، بعد انهيار نموذج المثقف الهووي وعدم ظهور أيّ بديل أخلاقي عنه إلى حدّ الآن، إذ إنّ "الخبراء" ليس بديلا مناسبا عن "المثقفين"؟ لماذا نخاف من عدم الانخراط في الحل الجاهز -الهووي - لأنفسنا، أكان دكتاتوريا أو عدميّا؟ علينا أن نيأس كما يئست الشعوب من أيّ حاكم هووي مناسب. لكنّ الحلّ ليس في بيع حالات الحرية القليلة إلى العدميين.

ليس أكثر دكتاتورية من حاكم لا زال يطمع في تمديد عمره الهووي بواسطة المثقفين-الخبراء في الدفاع عن الدول أو في تدبير الثورات عند الجيران. وليس أكثر عدميّة من متمرّدين حوّلوا تقنية "الثورة" إلى حرب عصابات ضد الشعب اليومي. بيد أنّه لا يمكن للدولة أن تنتصر على عدوّ تشكيلي، ينتشر تحت إبط كلّ فلانيّ يمرّ في هذا الشارع أو ذاك. ولكن أيضا، عندما تكفّ الثورة عن احترام كرامة الحياة، تتحوّل إلى كارثة أخلاقية. ولذلك فإنّ الفشل التاريخي الذي يتهدّدنا اليوم فشل مضاعف: "دول" فقدت شرعيتها الأخلاقية وانقلبت إلى حكومات تصريف أعمال ميتافيزيقي؛ و"مثقّفين" سقطت الدولة الهووية التي أنتجتهم لكنّهم مازالوا يصرّون على الحديث باسم الشعوب. ليس لدينا دول أسرى فقط، بل أيضا مثقّفون أسرى.

وبما أنّه لا يمكن التحرّر من دون فكرة مناسبة عن الحرية، فإنّ شعوبنا تجد نفسها عزلاء بلا أيّ مشروع حرية مناسب لشكل الحياة الذي تحلم به. لقد خرجنا من أفق دول الاستقلال، دول الهوية والانتماء..إلخ؛ لكنّنا لم ندخل بعدُ في نطاق الدولة المدنية الموعودة. لازلت العائلة والقبيلة والطائفة والجهة والطبقة،...تسيطر على بنية الانتماء إلى أنفسنا وربما إلى وقت غير معلوم. صحيح أنّ هذه البنى العميقة أو القيود الهووية مفيدة منهجيّا في تفسير عديد الحوادث الروحية والسياسية التي تحصل لنا. لكنّ ذلك لا يجعل منها أبدا مقامات جيّدة للحياة. إنّه لا يمكن للشعوب أن تتحرر بواسطة قيودها الهوويّة، لاسيّما بعد أن عملت الدولة الحديثة على ترجمة هذه القيود في قوالب كولونيالية تحوّلت مع الوقت إلى أجهزة انتماء نموت من أجلها. لا توجد الشعوب بشكل منهجي أبدا، بل في بحث دؤوب- وإن كان دفينا- عن شروط جديدة لحريتها، ليس فقط من الآخر، بل من حقبة ما من ذاتها أيضا.

وإنّ الأسير الفلسطيني هو ليس فقط بوصلة الحرية في أرض الأنبياء، بل هو أيضا وبنفس القدر المدرسة الأخلاقية، حيث يجب على الشعوب أن تتدرّب على التحرّر.

إنّ درس الأسر هو الدرس الميتافيزيقي الأكبر للشعوب بعد درس الثورات. إنّ ليبيا واليمن وسوريا والعراق... إلى جانب شعوب أخرى تلوذ بالصمت، قد صارت اليوم مسرحا لعمليات أسر تاريخية طويلة الأمد لشعوب بأكملها. ولا فرق في درس الحرية عندئذ: أكان دكتاتوريا أو عدميا، فهو يؤجّل لوقت غير معلوم لحظة التحرر المنشودة.