تحوُّلات الهويَّة العربيَّة ومآل الفلسطينيين


فئة :  مقالات

تحوُّلات الهويَّة العربيَّة ومآل الفلسطينيين

تحوُّلات الهويَّة العربيَّة ومآل الفلسطينيين([1])


هناك في البدء ثلاث ملاحظات؛ تقول الأولى: يرث كلّ إنسان هويَّة من شروطه الخاصَّة به، مختلفة في تطوُّرها، تنطوي على العشائري، والدّيني، والقومي، والبيئة الثقافيَّة، علماً أنَّ الهويَّة الموروثة تعارض الحياة في أشياء كثيرة، ذلك أنَّ الهويَّة الحقيقيَّة تصنع ولا تورَّث. وتؤكد الثانية أنَّه لا وجود لهويَّة إلَّا في مواجهة هويَّة أخرى تهدّدها أو تتبادل معها الخصام والنفور، قد تصبح متعصّبة وعدوانيَّة في شروط محدَّدة. وتقرّر الملاحظة الثالثة أنَّ الهويَّة في ذاتها محايدة، وما يحرّضها يصدر عن خارجها لأسباب تتوسَّل المصلحة والسلطة، وهي قابلة للصعود والتطوُّر بقدر ما هي قابلة للتراجع والانطفاء.

يحتلّ اليوم سؤال الهويَّة، رغم شرعيَّته، مكاناً مسيطراً في حوارات المثقفين العرب، دون أن يكون سؤالاً صحيحاً واضح الأصول

وفي الحالات جميعاً، فإنَّ تصادم الهويَّات في مجتمع محدَّد تعبير عن أزمته، وعن عجز القوى الفاعلة عن توليد حلٍّ مجتمعي، يشعر الأطراف المتصارعة بالعدالة والمساواة والأمان... وربَّما تكون "القوى الفاعلة"، وكما نشهد في أكثر من بلد عربي، سبباً للتحريض "الهويَّاتي" ودافعاً إلى استمراريَّته، كما لو كان إيقاظ الهويَّات في مجتمع مأزوم، تعويضاً عن الحلّ الاجتماعي الموضوعي، وهروباً إلى حلول زائفة تفضي إلى تفكيك المجتمع واستنزاف قواه.

لم يعرف العالم العربي، في القرن العشرين على الأقل، مشهداً مماثلاً للصدام الهويَّاتي القائم الآن، وفي المجال الطائفي بشكل خاص. وما هو قائم، في أبعاده الدمويَّة، صورة عن تآكل الوضع العربي وتطامنه. ذلك أنَّ في اعتناق الطائفيَّة، على سبيل المثال، حجباً للمشاكل التي تعاني منها المجتمعات في العالم العربي، والاستعاضة عنها بقضايا "مصطنعة". وبداهة، فإنَّ الطوائف والعشائر والقبائل ليست ظواهر مصطنعة، فهي جزء عضوي من الموروث الاجتماعي- الثقافي، إنَّما المصطنع هو التعامل البراغماتي معها، الذي يلبّي مصالح فئات تعطّل السياسات الوطنيَّة المحتملة. ففي مجتمع بالغ الهشاشة، حال المجتمع العربي، إن صحَّ القول، فإنَّ الهويَّات تصدر عن الهشاشة المجتمعيَّة، قبل أن تأتي من التاريخ الخاص بها، ما يجعل هذه الهويَّات تتقهقر عن الوضع الذي كانت عليه، وترتدّ إلى أوضاع بدائيَّة من التعصُّب والانحطاط، لم تكن قائمة في أزمنة سابقة.

1 ـ صعود الهويَّات أم تفكك المجتمع:

عرفت الذاكرة العربيَّة، في زمن تولّى، شيئاً دُعي "الثورة العربيَّة الكبرى" التي أطلقها الشريف حسين، حاكم مكَّة، إبَّان الحرب العالميَّة الأولى متطلعاً إلى حريَّة الشعوب العربيَّة ووحدتها. ومع أنَّ الإنجليز، كما هو دأب القوى الغربيَّة بعامَّة، أخلفوا وعودهم وبادلوها بأشكال مختلفة من الكذب إلى أن أنجزوا نقائضها، فإنَّ الذاكرة المذكورة، ولعقود متوالية، حفظت ذلك التاريخ وتعاملت معه باحترام، لأنَّ تلك الثورة ارتبطت بآمال قوميَّة عربيَّة، دون النظر إلى براءة شريف مكَّة، ومعرفته الغائبة بأخلاق الاستعماريين. ولعلَّ مصطلح "الأمَّة العربيَّة"، بلغة إنشائيَّة مستمرَّة، أو "القوميَّة العربيَّة"، بلغة صادقة آفلة، هو الذي أقنع المفكّر ساطع الحصري بالربط العضوي بين القوميَّة والثقافة العربيتين، وباعتبار "الثقافة العربيَّة" ثقافة لكلّ الذين يعيشون في مجتمعات العالم العربي، عرباً كانوا أو غير عرب.

إنَّ الإنسان العربي، اقترب من نسيان "الهويَّة الوطنيَّة"، بالمعنى الذي اجتهد فيه الكواكبي وعلّال الفاسي وطه حسين وساطع الحصري

إنَّ مصطلح "القوميَّة العربيَّة"، الذي أخذ بدءاً من أربعينات القرن الماضي شكل البداهة، هو الذي وضع في دراسات قسطنطين زريق الشاب بعداً متفائلاً، لا يقلُّ عن براءة شريف مكَّة، حين اعتبر أنَّ استقلال الشعوب العربيَّة، بعد نهاية الحرب العالميَّة الثانية، مدخلاً بدَهيَّاً إلى "الوحدة العربيَّة". لم يكن أحد، في ذاك الزمان، يماري في ضرورة الوحدة، من حيث هي أساس لقوَّة العرب، ووسيلة لمحاربة "التخلّف والتآمر الاستعماري". والمقصود في هذه الحالة، كالتي سبقتها، "الوعي الشعبي العام"، الذي كان عربياً، من دون الحاجة إلى نظريَّات وأحزاب.

ولن يختلف الموقف الشعبي العربي بعد سقوط فلسطين عام 1948، الذي أجمع على محاربة الصهيونيَّة وأنصارها، واسترداد أرض فلسطين "السليبة". غدت القضيَّة الفلسطينيَّة قضيَّة العرب جميعاً (وهي جملة بلاغيَّة اشتهرت طويلاً) أسهم المثقفون والأدباء في الدفاع عنها وعالجها الشعراء في متواليات من القصائد، في انتظار "قضيَّة مقدَّسة أخرى" عنوانها: حرب التحرير الجزائريَّة. كان في ذلك السياق، الذي بلغ ذروته في خمسينات القرن المنصرم، ما أطلق كلمة "القومي" التي أصبحت صفة حميدة تلازم "السياسي" والشاعر والفنَّان، وتفصل بين العروبي والشعوبي، وتواجه النزوعات الفرعونيَّة والفينيقيَّة والمتوسطيَّة، بشعارات "أمَّة العرب" و"المجد التليد"، وصولاً إلى معركة ذي قار.

صعدت الهويَّة القوميَّة العربيَّة في النصف الأوَّل من القرن العشرين، مدفوعة ببُعدين: إرادة الانتصار والإيمان بمستقبل عربي فاعل، وتعيين العدو الخارجي، المختلف الهويَّة، الذي تجب مواجهته، ذلك أنَّه لا وجود لهويَّة إلا بمواجهة هويَّة نقيضة، تمثلت آنذاك بالصهيونيَّة والاستعمار.

وإرادة المواجهة، والحال هذه، مهما تكن حدودها، هي ما يوقظ الهويَّة، ويفتح لها آفاقاً جديدة، بعيداً عن زمن لاحق استنام إلى الخنوع والإلحاق والهزيمة، وحجب العدو الخارجي بعدو داخلي مخترع. استعاد الوعي القاصر عزيمته بعد هزيمة 1967، وأمدّته الحرب الأهليَّة في لبنان الربع الأخير من القرن الماضي بقوَّة جديدة، وتمدّد بعد احتلال إسرائيل لبيروت عام 1982، وبلغ ذروته مع سقوط العراق عام 2003، ... والمأساوي في هذا المشهد علاقة التضاد بين الوطني والهويَّاتي، فعوضاً عن أن يكون الحصار الاستعماري الخارجي، بأشكاله المتنوّعة، حافزاً على توليد هويَّة عربيَّة فاعلة، أصبحت الهزائم المتوالية، التي لحقت بالمجتمعات العربيَّة، مصدراً لتوليد هويَّات متصارعة، لا تعي معنى الهويَّة، ولا دورها في توحيد العرب وتدفع إلى وعي أيديولوجي لا تنقصه الأوهام.

يلازم سؤال الهويَّة، منطقياً، طرفاً مهزوماً، بعيداً عن "الآخر" المنتصر الذي ترجم هويته بانتصاره

2 ـ هويَّة "الدولة الوطنيَّة":

تطلّعت الأنظمة العربيَّة المستقلّة، رغم عموميَّة اللغة، بعد نهاية الحرب العالمية الثانيَّة 1945 إلى هويَّة عربيَّة مستقلة، زاد من ضرورتها قيام دولة إسرائيل عام 1948. وسعياً إلى تحقيق ما يجب وجوده رفعت الأنظمة "القوميَّة" شعارات ثلاثة: تأمين النمو الاجتماعي ردَّاً على التخلّف وتجاوزاً له، وتوطيد الوحدة الوطنيَّة، إذ لا نموّ إلا بإرادة موحّدة، وتحقيق الوحدة العربيَّة اللازمة "لتحرير فلسطين المغتصبة". وانطلاقاً من إعلاء الوحدة ومحاربة الانقسام، اجتهدت هذه الأنظمة بأشكال مختلفة في اقتلاع "السياسة" ومحاربة الاختلاف الإيديولوجي، اعتماداً على "دولة قائدة" تتحدَّث باسم المجتمع وتلغيه. أخذت "الدولة"، الكليَّة المعرفة والإرادة، بخيار "الواحد" الذي يقهر رذائل "المتعدّد"، حتى بدت الدولة، التي تحوَّلت إلى سلطة مستبدَّة لا تعترف بمقوّمات الدولة، هويَّة المجتمع كله، واختصرت هويَّته في إذعانه لها. وإذا كانت هويَّة المجتمع تصدر عن القوى "الخارجيَّة" التي يواجهها، فإنَّ إقالة المجتمع من دوره السياسي/ الوطني، وتحويله إلى "رعايا"، بلغة الشيخ المصري خالد محمَّد خالد في خمسينات القرن الماضي، اختصرت هويَّة المجتمع في إذعانه للسلطة المستبدة وفوَّضت أمر الهويَّة الوطنيَّة إلى سلطات هويَّتها من مصالحها، ومناوراتها وتنازلاتها وتبعيتها. وإذا عدنا إلى الرواية العربيَّة، بدءاً من ستينات القرن الماضي، وهي الشاهد الأكثر وضوحاً، وقعنا على عالم عربي منقسم إلى المستبدّين، ممثلين بأجهزة السلطة، والمستبَدّ بهم، وهم بقيَّة المجتمع، ما يعني، وبشيء من العسف النظري، أنَّ هويَّة المجتمعات العربيَّة توزَّعت على شكلين: هويَّة القامع الذي استنجد "بالتبعيَّة" كي يعيش طويلاً، وهويَّة المقموع التابع لأوامر "الدولة الوطنيَّة". والمحصّلة لا تنقصها المفارقة، ذلك أنَّ هاتين الهويَّتين مفرغتان، فعلياً، من المضمون المحدّد الذي لا تكون الهويَّة إلا به.

اطمأنت "الدولة الوطنيَّة"، بالمعنى العام، إلى هويَّة قامعة قوامها تأمين الاستمراريَّة المتجانسة، التي تقمع الفعل الاجتماعي، وتجتهد في توليد سياسات الخوف والتجهيل واعتقال إنسانيَّة الإنسان. اختصرت هويَّة المقموع في صمته، ما يجعل من الإذعان هويَّته الأساسيَّة، كما لو كان الله قد خلق حاكماً عربيَّاً كليَّ القدرة، وإنساناً عربيَّاً مقموعاً كامل العجز. تنتهي عندها سياسة النمو الاجتماعي، فما ينمو هو قدرات الجهاز السلطوي، الذي يرغب في التحرُّر من العبء السكَّاني عن طريق الهجرة "وقهر الأحياء الذين أجَّل دفنهم"، وتصبح الوحدة العربيَّة وحدة "وزارات الداخليَّة والأجهزة الأمنيَّة"، وتخسر فلسطين كلَّ شيء، بما في ذلك القصائد والأشعار.

يختصر إرث "الدولة الوطنيَّة"، المستقر من حرب 1967 إلى زمن "الاحتجاج العربي الواسع"، في عنوان كبير هو: "كيف تسقط الأمم؟" الذي يترجم ذاته في انفصال السلطة عن المجتمع، في لحظة أولى، وتصاعد العداء بينهما، في لحظة ثانية، كما لو كانت السلطة الحاكمة عدوَّاً خارجيَّاً تجب محاربته. تولد عندها الهويَّة وتزدهر بشكل مقلوب، بديلاً عن هويَّة وطنيَّة مقاتلة تحارب عدواً خارجيَّاً دفاعاً عن سلام الوطن وكرامته، وتأتي هويَّة مقاتلة تحارب السلطة، دون أن تهجس كثيراً بأحوال الوطن ومصائره. والأمر، في الحالين، من آثار السلطة المستبدَّة، التي أسَّست لهويَّة انتقاميَّة اجتهدت في توليد وعي اجتماعي ضليل، بعد أن حاصرت السياسة والأحزاب السياسيَّة، وأفقرت الثقافة والقيم الثقافيَّة.

وواقع الأمر أنَّ الإنسان العربي، الذي أفقر إفقاراً متعدّد الأبعاد في العقود الأخيرة، اقترب من نسيان "الهويَّة الوطنيَّة"، بالمعنى الذي اجتهد فيه الكواكبي وعلّال الفاسي وطه حسين وساطع الحصري، وانتهى إلى هويَّة فقيرة، أقرب إلى "هويَّة الكفاف اليومي"، إن صحَّ القول، التي لا تستطيع مقاومة العدو الخارجي وتسخر ربَّما من كلمة "الوحدة العربيَّة"، وتنظر إلى واقع فلسطين بحزن تخالطه اللَّامبالاة، بعد أن تحوَّل الكثير من العرب إلى "فلسطينيين جدد"، يرحّلون من أوطانهم ويتَّجهون إلى "الشمال".

3 ـ من هويَّة الدَّولة الوطنيَّة إلى هويَّات متناثرة:

يقال: الحكم الديمقراطي هو الذي لا أقليَّة فيه، على اعتبار أنَّ المساواة في الحقوق والواجبات تلغي الفروق بين فئات المجتمع، وتضع المواطنين جميعاً أمام قانون يساوي بينهم، ما يلغي، شكلانيَّاً، ثنائيَّة الأقليَّة والأغلبيَّة. وقد يثير الأمر في علاقته بالنظام العربي، أو ببعض دوله، شيئاً من السخرية، بسبب اختصار الدولة القوانين والمؤسَّسات في السلطة، واختصار الأخيرة إلى العائلة الحاكمة التي قد تجعل من "هويتها العائليَّة" مرجعاً لهويَّة الوطن والمجتمع.

إذا كان الحكم المستبد يعيّن ذاته أغلبيَّة كاسحة، ويصيّر ما تبقى إلى أقليَّة غير مرغوب بها، فإنَّ شروطاً أخرى تحاصر في الحكم المستبد تصوّره القاصر وتفرض أحياناً أوضاعاً لا ينقصها التعقيد ولا السخرية، كأن يكون في "البلد" أقليَّات فعليَّة متعدّدة يقع عليها ظلم مزدوج: فلها من الاضطهاد ما للمجتمع الذي لا يعترف الحاكم المستبد بحقوقه، ولها اضطهاد خاص بها يؤكّد "هامشيتها" ويبتلع حقوقها القليلة.

يصدر عن هذا الوضع أشكال عشوائيَّة من الهويَّات. فالمجتمع المضطهد، الذي لا تمثله السلطة، يلوذ بمراجعه الموروثة، ملتمساً شيئاً من الأمان، راجعاً إلى القبيلة والعشيرة والطائفة، بقدر ما تنزاح الأقليَّة المهمَّشة عن المجتمع والسلطة معاً، مستعيدة ثقافتها "الأولى"، واللغة التي تنتسب إليها، حال "الأكراد"، الذين يطالبون اليوم في العراق بدولة خاصة بهم. لا فرق إن كان قرارهم مشروعاً، أو قليل المشروعيَّة تسلّلت إليه حسابات خارجيَّة. ينتهي الأمر في الحالين إلى تقوّض المجتمع وطمس هويته "الوطنيَّة".

نذكر هنا السياسة الأمريكيَّة في العراق بعد احتلاله، التي قسَّمت المجتمع إلى: شيعة وعرب سُنَّة وأكراد، كما لو كانت هويَّة الكردي الوطنيَّة من كرديَّته، وهويَّة الشيعي من شيعيته، بمعزله عن عروبته، بما أنَّه ينفصل نظريَّاً عن السنّي العراقي، الذي هو العربي الوحيد. وواقع الأمر أنَّ في التوصيف الأمريكي إيحاءً ظاهراً، يزيد من تفكك العراق بعد رحيل صدّام، ويوحي لكلّ مكوّن من مكوّنات العراق البشريَّة "بهويَّة خاصَّة به" لا تكتمل إلا "بدويلة" تساوي هويَّته. يبدأ الأمر بدولة للأكراد تتلوه، إن تحققت، دولة خاصَّة بالشيعة، وما تبقَّى، إن تبقَّى شيء له معنى، يذهب إلى السنَّة، الذي خسروا امتيازاتهم مع رحيل الحاكم العراقي.

الهويَّة الوطنيَّة تستلزم، نظريَّاً، وجود الدولة، وبيئة اجتماعيَّة تؤمّن وحدة الثقافة والحوار والتفاعل، وهو ما حُرم منه الفلسطينيون

بدأ الأمريكان باللغة الموحية، وخلقوا لها شروطاً سياسيَّة موائمة، تزيح "العراق القديم"، وتستولد بعده عراقاً جديداً، يتبادل سكانه الكراهية، وتحوّل هويَّة العراق إلى جمع من الهويَّات الجديدة، جاء بها الاحتلال الأمريكي، ولم يعرفها العراق سابقاً، حين كان عربياً، أو كان يتعرَّف ببعده العربي المسيطر.

لا يختلف الأمر، رغم خفوت صوته، في السودان، الذي كان موحَّداً وانقسم إلى شمال يعترف "بالإسلام العربي"، وجنوب يمقت الشمال وتغازله إسرائيل. وقد يذهب شمال العراق مع "بتروله"، بقدر ما يذهب جنوب السودان مع إمكانياته. والأمر، في الحالين، لم يسقط من السماء، ولم يخترعه الإيحاء الاستعماري، فقد أعطته السياسة المستبدَّة، في البلدين، بنية تحتيَّة، تسوّغ انقسام المغبون وانفصال المضطهد، وخاصَّة إن كان لدى المغبون/ المطضهد منافع للقوى الأجنبيَّة، التي لا تريد عالماً عربيَّاً موحَّداً. كأنَّ السلطات المتخلّفة تستقدم الاستعمار، قبل أن يتهيَّأ لتلبية رغباتها. ولنا أيضاً واقع "الحوثيين" اليوم، في اليمن، الذين شكلّوا من مئات السنين جزءاً عضويَّاً من اليمن، جزءاً لم يعرف الإنصاف إلا في مصادفات سعيدة.

عرفت اللغة الدبلوماسيَّة إلى منتصف الثمانينات مصطلح: الحوار العربي/ الأوروبي، ما يعرف العالم العربي بقوميَّته، وعرفت لاحقاً مصطلحاً بديلاً: الحوار الأوربي/ الإسلامي. ومع أنَّ إنكار إسلام المجتمع العربي لا معنى له، فإنَّ الإنزياح من مصطلح إلى آخر، يشير إلى عالم عربي تزعزعت هويَّته، لا بسبب ما دعي "بالصحوة الإسلاميَّة" فقط، بل بسبب "تأسلم المجتمعات العربيَّة" الذي جاء ردَّاً على سلطات مستبدة لا هويَّة لها، فلا هي بالإسلاميَّة الصريحة، ولا بالعلمانيَّة المعترف بها، ولا بالقوميَّة العربيَّة التي تنصر فلسطين، ولا بالعربيَّة الإسلاميَّة التي تنصر شعوبها.

يحتلّ اليوم سؤال الهويَّة، رغم شرعيَّته، مكاناً مسيطراً في حوارات المثقفين العرب، دون أن يكون سؤالاً صحيحاً واضح الأصول، ذلك أنَّ السؤال مرتبط في التحديد الأخير بشيء محدَّد هو: وضع السلطات العربيَّة في المرحلة التي أعقبت هزيمة عام 1967، التي انتهت إلى شروط مريضة تحتمل أوضاعاً كثيرة: الدولة الفاشلة، الدولة المخفقة، الدولة التابعة، الدولة المتخلّفة، ... لا غرابة أن تعرف هذه الدول، كما جاء في إحصاءات سليمة كثيرة: حقوق الإنسان في أكثر أشكالها تدنيَّاً، وحقوق المرأة المجزوءة والناقصة، ومستوى التعليم المتدنّي، وتهميش البحث العلمي، ... لم يصدر سؤال الهويَّة في العالم العربي عن الهويَّة ذاتها، بقدر ما صدر عن سلطات هزمت شعوبها، ذلك أنَّ سؤال الهويَّة يلازم، منطقياً، طرفاً مهزوماً، بعيداً عن "الآخر" المنتصر الذي ترجم هويته بانتصاره. وإذا كان هذا "الآخر"، الذي لم يعرف سلطة الواحد المستبد والمتخلّف، قد رفع مجدَّداً لواء هويَّته بصوت واضح، كما هو حال الحركات الشعبويَّة العنصريَّة في أوروبا، فالسبب هو "ذاك الآخر الغريب"، الذي ترك بلاده الفقيرة في كلّ شيء، وبحث عن مأوى يطعمه ويذّله، ويعطيه عملاً ويحتقره، ويفرض عليه "هويَّة ذليلة" ورثها عن نظامه السياسي الذي طرده، قبل أن تأخذ في بلاد الغير صيغة جديدة.

4 ـ هويَّة فلسطين في زمن عربي ضائع الهويَّة:

في زمن تسييس الطوائف والاثنيات والعشائر لم تعد هويَّة فلسطين على ما كانت عليه. كانت هويتها عربيَّة الوضوح حين كانت قضيَّة العرب جميعاً، وهو أمر تباعد، وحين اعتقد الفلسطينيون أنَّ كفاحهم، المدعوم عربيَّاً، ضمان تحرير أرضهم، وهو ما لا تدلُّ عليه الوقائع اليوم.

تتعيَّن هويَّة المسألة الفلسطينيَّة اليوم بمأساويتها، فما زال شعبها موزَّعاً على الاحتلال الإسرائيلي والشتات، ذلك أنَّ مواقف الفلسطينيين ارتبطت، بقسم كبير منها، بمصائر البلدان العربيَّة. حوصروا في لبنان ورُحِّلوا إلى البلدان الإسكندنافيَّة (قسم كبير منهم على الأقل)، وسقط العراق وطرد منه الفلسطينيون إلى الهند وتشيلي، أو علقوا على الحدود، وخرج قسم كبير منهم من سورية، بعد أن دخلها الخراب. انتهت الهويَّة الفلسطينيَّة إلى هويَّات، على اعتبار أنَّ الهويَّة الوطنيَّة تستلزم، نظريَّاً، وجود الدولة، وهو ما حُرم منه الفلسطينيون، وبيئة اجتماعيَّة تؤمّن وحدة الثقافة والحوار والتفاعل اليوم، وهو بعيد عنهم أيضاً.

تتعيَّن هويَّة الفلسطينيين اليوم بصيغة الجمع، فالذين وصلوا إلى الخليج اكتسبوا ثقافة معيَّنة، والموجودون منهم في إسرائيل يكافحون لكي يحتفظوا بلغتهم العربيَّة، وواقع الموجودين منهم في غزَّة يختلف، نسبيَّاً، عنه في منطقة "السلطة الوطنيَّة". والمحصّلة: هويَّة الشتات، أو "هويَّة شتاتيَّة" لا يمكن أن تتوحَّد، إن توحَّدت، إلا بنهوض عربي أو بعمل سياسي وطني فلسطيني، والأمران قيد الانتظار، الذي يتحقق أو لا يتحقق.

كانت مشكلة فلسطين مشكلة العرب في انتظار زمن أصبح فيه واقع العرب مشكلة الفلسطينيين. والأمر، في وجهيه، متصل بواقع الهويَّة، الذي انطوى على التماسك والتراجع والتآكل، وفقاً لتبدُّلات الأزمنة واختناق الوجود العربي، المحدَّد سلطويَّاً. ولهذا يبدو اليوم شعار: "لَبّيْك يا وطن العروبة" أثراً من زمن غنائي رحل. ما هو قائم الآن لا يثبّت حدود العالم العربي، الذي قسّم أكثر من مرَّة، ولا يثبّت الحق الفلسطيني. مع ذلك تبقى فلسطين قائمة في رمزيَّتها، وفي الأفكار الصادرة عنها، ويتبقى الفلسطينيون، في هويَّاتهم الشتاتيَّة، التي لا تتنازل عن "العودة".

فات قطار التاريخ العرب، حين لم يعوا معنى الصهيونيَّة، وفاتهم من جديد حين اعتبروا قضيَّة فلسطين عبئاً ثقيلاً خاصَّاً بالفلسطينيين، وفاتهم ثالثة حين ارتضوا بأنظمة تساوي بين ديمومتها والتاريخ العربي القديم والجديد معاً. بقي اليوم عرب يبحثون عن هويَّتهم، ترسَّب إلى جانبهم شعب فلسطيني يتعايش مع ظلم متجدّد. ربَّما كان في هذا التعايش، الصعب الشروط، ما يمدُّهم بهويَّة، تصدر عن وجودهم الذي غابت عنه العدالة، بمعزل عن "القوميَّة العربيَّة الضامنة"، التي تآكلت قبل أن تتحقَّق، وعن البلاغة العربيَّة التي كانت طافحة بالتفاؤل في زمن مضى.


[1] نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون، الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 12