الأنماط الثقافية للعنف


فئة :  مقالات

الأنماط الثقافية للعنف

الأنماط الثقافية للعنف

أما وقد أضحى العنف في حياتنا ملمحاً أساسياً لا يمرّ نهار دون أن يتبلور بأكثر صوره فظاظة وفداحة ودموية؛ فقد صار من اللازم تظهير صورة العنف على نحو أبعد من تشخيصها نفسياً أو سوسيولوجياً، وإنما بردّ هذه الأنماط العنيفة إلى جذورها الأسطورية، والتحديق في تمثلاتها الرمزية وتشريعاتها الدينية، من أجل استظهار مفهوم معرفي للعنف.

وقد حاولت أستاذة علم الأخلاق والدراسات الثقافية في جامعة تورنتو بكندا باربرا ويتمر، أن تفكك العنف من ناحية مفاهيمية في كتابها "الأنماط الثقافية للعنف" الذي ترجمه د. ممدوح يوسف عمران" وصدر ضمن سلسلة "عالم المعرفة" في آذار (مارس) 2007.

وعلى الرغم من أن ويتمر قصرت بحثها على الثقافة الغربية، إلا أنّ بعض ما ذكرته على كيفية تشكّل الأنماط الثقافية للعنف، يصلح للإضاءة على براكين العنف المتفجرة باستمرار في الحياة العربية الإسلامية، وتنعكس تفجيراً وتدميراً في فضاء وأرض العالم الغربي الذي أضحى في تصور خطاب التزمت الإرهابي "دار حرب" وميداناً لإظهار مدى التوحش والهمجية القابعة في "الإنسان"، وقد وضعنا الكلمة بين قوسين، لتشكّكنا في المفردة ودلالتها. فهل يصدر كل هذا عن "إنسان"، أم إن كلمة "إنسان" تطوي في أحشائها الإنسان والحيوان والبدائية والجنون وكهف التفكير الأول؟!

إنّ الانفصام بين العقل/ الجسد، كما ترى ويتمر، جزء من فرضية في حكاية أنماط العنف الثقافية في الحضارة الغربية تفيد بأنّ العنف فطري وطبيعي، وأنّ الأفراد عنيفون بفطرتهم.

العنف إذاً، عبارة عن استجابة سلوكية مكتسبة ومروّضة من خلال الموروث، والمحاكاة الرمزية، والتجربة. وقد جرت المصادقة عليه ثقافياً منذ قرون، وأعيد تعزيزه عبر الخطابات الثقافية.

وفي جدل العنف الفطري أو المكتسب، يُستدعى إلى الذاكرة كتاب فيرنون مارك وفرانك إيرفين "العنف والدماغ" الذي يعبّر بوضوح عن رؤية عضوية للاختلال الوظيفي العقلي بلغة الدماغ "المشدود" كأداة سلوك، وأنّ أي فعل أو حالة وجود (أي السلوك أو التفكير) هو انعكاس لنمط معيّن من تنظيم معقد لدورات الدماغ.

وقد جادل بعضهم أنّ الزعم بكون العنف يصدر عن دماغ الفرد، هو زعم مريب بسبب الطبيعة الاجتماعية أساساً (أو اللااجتماعية) للأعمال الهجومية العنيفة. فالعنف يشير إلى الصفة السلوكية التي يقوم بموجبها شخص بممارسة عمل ضد شخص أو (شيء) آخر (يعده المتلقي أو الآخرون) مؤذياً وغير مبرّر".

كتب "لي تشايلدرس"، وهو عريف في كتيبة الهليوكبتر الهجومية 206 في فو لواي بفيتنام، من يونيو 1967 إلى مايو 1968، يتساءل عن الشرعية الأخلاقية للحرب، بحسب تعبير باربرا ويتمر، حيث يقول: "عندما تصبح تحت النار، لأول مرة تفكر: اللعنة، كيف لهم أن يفعلوا ذلك لي؟ لو كان بإمكاني الحديث لأولئك البلهاء الذين يطلقون النار عليّ لكنّا تفاهمنا ولكان كل شيء على ما يرام. كان لدي شعور غامر أنني لو تمكنت من الحديث إلى أولئك الناس، لقلت لهم إنهم بالفعل مثلي، ولسنا نحن الذين نفعلها، بل هو نظام آخر، نحن فيه مجرد رهائن لهذا الأمر اللعين نتقاذف القاذورات بعضنا على بعض".

وتلفت المؤلفة إلى باحثة تدعى "أليس ميللر" تمّيز بين العاطفة التي يعانيها الفرد وبين العاطفة التي يتفاداها؛ لأنها غير مقبولة، فتُمنع من التماهي والاندماج في مخزون عواطف الفرد. وتذكر مثالاً على أنّ "الكره شعور إنساني عاديّ، والعاطفة لم تقتل أي فرد أبداً". وبالتالي فليس الكره الذي يعانيه الفرد هو الذي يؤدي إلى أعمال عنف، لكنه الكره الموضوع تحت اسم الأيديولوجيا هو الذي يمكن تشريعه بوصفه مقبولاً.

وتتشكل الأيديولوجيا من قاعدة الخطاب الرمزي. فتحت مستوى "التشويه" الأيديولوجي نكتشف أنظمة التشريع التي تستجيب لادعاء الشرعية الذي يتطلبه نظام السلطة، وهذا يردم الفجوة بين الإيمان والسلطة، في نظر ويتمر التي تلاحظ أنّ العنف بدا "في تحوّله من المستوى الكوني إلى المستوى الإنساني وكأنّ لديه وجوداً مستقلاً بذاته".

ويستدعي الأمر فكرة ضرورة العدو، فالقديس غير جدير بمرتبة القداسة من دون أعداء حقيقيين. وهكذا "يتحوّل العدوان إلى حسنة من حيث إنه يؤمّن الفرصة للارتقاء فوق إنسانية المرء العادية".

واستطراداً، فإن نظير البطل النشيط هو البطل المستسلم الذي يكابد الألم، أي الشهيد الذي وقع عليه العنف، وفق الكاتبة التي تعتقد أنّ المعاناة تتطلب وقوع شيء بحق المرء، أي حصول فعل معادٍ. وبالتالي، فإنّ الحرب والعنف والعدوان توفر الفرصة أيضاً كي يعاني المرء ويصبح عظيماً عبر إلحاقه الهزيمة بالعدو، من خلال خضوع مبرّر أخلاقياً؛ أي العدوان السلبي.

وعند هيغل، دمجت الحربُ العدوانَ والمعاناة معاً في ميدان المعركة الفلسفي، فعملية تحقيق الروح يمكن أن تصبح دفاعاً عن العنف والعدوان، نظراً إلى أنّ المرء يحقق ذاته من خلال صراع حياة أو موت مع عدو.

وفي ضوء التحليل النفسي للعنف، يتم الاستعانة بفرويد الذي يتحدث عن غريزة العدوان. فبقدر ما يحاول الشخص السيطرة على عدوانيته تجاه العالم ويكبحها، بقدر ما يصبح نموذج الأنا عنده صارماً أو عدوانياً. لذا بقدر ما يسعى المرء إلى السيطرة على عدوانيته، بقدر ما يتشدّد نزوع مثله الأعلى نحو العدوانية ضد أناه. ويزعم فرويد أنّ حياة الجماعة ممكنة فقط عندما تتوحّد الجماعة التي هي أقوى من أي فرد. فاستبدال قوة الفرد بقوة الجماعة يشكّل "الخطوة الحاسمة في الحضارة". وتقود هذه الخطوة إلى حكم القانون، حيث يضحّي الجميع بغرائزهم على شكل تسامٍ أو كبح أو كبت، أو أي وسيلة أخرى، ولا تترك أحداً تحت رحمة القوة الغاشمة.

وقد يكون مسبّبو الدمار أناساً عانوا الإهمال أو عدم المقدرة على تأمين سلامة الذات مع الآخرين، والإساءة الناجمة عن التعاطي غير المناسب مع الحاجة. وعندما يسلكون سلوكاً غير متوازن يتسم بفقدان الثقة، قد يتجاهلون حدود الآخرين في محاولات يائسة لتلبية حاجاتهم من أجل البقاء. إنّ درجة العنف والحاجة إلى التحكم الاجتماعي في أعضاء الجماعة، بحسب ويتمر، تعكسان مدى إخفاق المجتمع في تأمين احترام الحاجات وتنفيذها الجماعي، بغية توليد الثقة في العلاقات الاجتماعية.

وفي التحليل اللغوي للعنف، يبدو أنّ فوكو يدعم ادعاء دريدا أنّ الحرب هي نشوء الكلام بحد ذاته. ويبدو أيضاً أنه يصف الحرب بأنها مثال دقيق على التفاعل البدني للذات التي تعتمد على الصور والتفاعل في التواصل السابق للغة. فالطفل الذي "في حرب" مع المعتني به يطوّر عدم الثقة كتوجّه أولي نحو الحياة.

وفي سياق متصل باللغة ودلالاتها وارتباطها بالعنف في مستوياتها المختلفة، تشير الباحثة دينيس أكيرمان إلى ما تسميه "قحط لغة الإيمان" ولغة الحياة العاطفية، وعلاقات الثقة في الثقافة الغربية، حيث جرت "تعرية اللغة من القداسة والتعاطف، وأصبحت مختصرة وذات بعد واحد". وبالتالي يتطلب إغناء هذه اللغة من خلال أخذ العواطف والإيمان والسمات والآمال لكل البشرية على محمل الجد.

وإذا ما تمّ ذلك، فإنه يستتبع بالتوازي تقديم تصور عن النساء والأطفال من الناحية الثقافية، باعتبارهم أشخاصاً يستحقون الاحترام والاعتبار والتمكين والمساواة. وإذا ما اعتاد الرجال على وعي مشاعر الأطفال والنساء وشعروا بالمسؤولية تجاههم بطريقة غير تدميرية، عندئذ، يمكن، كما تتوقع ويتمر، لديناميكية المعتدي – الضحية أن تتغيّر. وقد يكون من الأفضل دراسة الضعف الإنساني على محمل الجد، والنظر إليه كقوة بدلاً من ضعف.

إنّ القبول الصادق بحياة عاطفية مهمّشة في مجال الجاني والضحية يمكّن من الدمج الواقعي للحياة العقلية البطولية التي يتم تأليهها في الثقافة الغربية.

وفي إشارة بليغة لسطوة العنف على اللحظة المدنية الراهنة التي تتسم بالحضارة والتفوق، تتحدث الباحثة فيث بوبكورن عن "العقلانية المهووسة بالشك"، لافتة في فرضيتها الأولى إلى أنه "لأول مرة في تاريخ البشرية، تصبح البريّة أكثر أماناً من المدنية"..!