الأيديولوجيا والعنف والمؤسسات


فئة :  مقالات

الأيديولوجيا والعنف والمؤسسات

يبين تحليل النزاعات، في الماضي والحاضر، أن ثمة علاقة بنيوية بين الأيديولوجيا والعنف؛ وأن أية أيديولوجية، دينية كانت أم غير دينية، تنطوي على جرثومة عنف أو على إمكانات عنف، لا تظهر إلا إذا تبنتها قوة اجتماعية سياسية تقنِّع مصالحها بها، وتخوض معاركها السياسية تحت رايتها. ولكن الأيديولوجية أكثر من مجرد قناع، لأنها يمكن أن تصير "هوية اجتماعية سياسية" للأفراد والجماعات، وتتحول بذاتها إلى عامل من عوامل نزاع الهويات، وتتحكم في نتائجه. ولا يتأتى لها ذلك إلا حين تتمأسس، فتغدو عاملاً من العوامل المؤثرة في نشاط المؤسسات وعلاقاتها الداخلية والخارجية. وبهذا تكون المؤسسات صورة الحياة الاجتماعية - السياسية، أي التعبير العملي عن رأس المال الاجتماعي ومضامينه الرمزية، الثقافية والأخلاقية، على قاعدة اقتصادية معطاة، أو رأسمال مادي متحقق. وهذا مما يقتضي البحث في علاقة الأيديولوجيا بالعنف في المؤسسات الرسمية، بما هي مؤسسات عامة، تسيطر عليها وتحكمها أيديولوجية خاصة، قومية أو إسلامية أو اشتراكية تستثير أيديولوجيات مضادة.

يتفق أصحاب الفكر المؤسسي الجديد، على اختلاف منظوراتهم ومناهجهم، على نقطتين: الأولى أن "المؤسسات تشكِّلُ السياسة"؛ والثانية أن "المؤسسات يشكلها التاريخ"[1]، أي البشر الذين يصنعون تاريخهم، ولكنهم لا يصنعونه على هواهم. فالأداء العملي للمؤسسات مشروط بالسياق الاجتماعي الذي تعمل فيه.

فثمة فروق جوهرية بين مجتمع مدني يتسم بمواطنة نشطة ومواطنات غيورات ومواطنين غيورين على المصلحة العامة، وعلاقات سياسية قوامها الحرية والمساواة، ونسيج اجتماعي من الثقة والتعاون، وبين مجتمع مصاب بلعنة السياسات ذات البنيان الرأسي والعلاقات البطركية، وحياة اجتماعية تتسم بالتفكك والعزلة وثقافة من عدم الثقة. هذه اللعنة هي لعنة الأيديولوجيا حين تصير سياسة، تتنكر لإنسانية الآخر المختلف وجدارته واستحقاقه.

ما يلفت النظر، في البلدان التي تعاني من نزاع الهويات، الحظوة التي تتمتع بها مؤسسات العنف وثقافة الحرب، لدى دوائر واسعة من المستقطبات والمستقطبين على محوري النزاع، أو على محاوره، والرهان على حسم الصراع "عسكرياً"، وعلى دور سياسي للجماعات المسلحة، على أنها رمز السيادة الوطنية أو رمز الحاكمية والخلافة، وتقابلها هشاشة الفعاليات الاجتماعية والثقافية والسياسية والمنظمات الأهلية وانتظامات المجتمع المدني وتنظيماته. تتأتى هذه المفارقة أساساً من رؤية للتاريخ تقوم على مبدأ الغَلَبَة والقهر، وتقرن الحق بالقوة العارية، وتضفي على هذه الأخيرة طابع الشرعية، وتباعد ما بين المساواة والحرية إلى درجة التناقض المطلق، فتنفي مبدأ المواطنة وفكرة العدالة. وقد تجلى ذلك واقعياً في هيمنة المؤسسة العسكرية – الأمنية على الحياة السياسية هيمنة شبه مطلقة في البلدان المعنية، منذ غدت هذه المؤسسة القوة المرجِّحة في الصراعات السياسية، ثم القوة الوحيدة التي تمسك بمقاليد الأمور، وفي استعلائها على كل ما هو مدني وازدرائه، علاوة على استئثارها بالامتيازات، واعتبارها فوق النقد والمساءلة.

فقد رأينا أن الحياة السياسية السورية، على سبيل المثال، كانت ولا تزال محكومة بالبنية التسلطية للنظام[2]، التي قوامها "الإرهاب (الجيش والمخابرات) والأيديولوجية والإعلام"[3]، حسب تشخيص حنة أرندت للنظم الشمولية. فالعنف الذي مارسته السلطة وتمارسه، من خلال المؤسسات، ليس ذلك العنف القانوني، الذي تحتكره الدولة، ويهدف إلى حماية المجتمع وضمان حريات المواطنين وحقوقهم، بل هو عنف لا قانوني ولاأخلاقي، يهدف إلى ترضيض المجتمع وإخضاعه والسيطرة على مقدراته، ومن ثم فإن المؤسسة العسكرية – الأمنية وما يتصل بها من معتقلات وسجون ومخبرين مأجورين ووشاة متطوعين هي الوجه الآخر أو الصورة السلبية (نيكاتيف) للمؤسسات التشريعية والقضائية والسياسية والإدارية والخدمية والإنتاجية. وضحايا القمع والاعتقال والسجن والتعذيب هم الصورة السلبية لما صار عليه المجتمع بالفعل. فــ "المراقبة والمعاقبة" هما العنوانان الرئيسان للسلطة، والمضمون الرئيس لسياساتها، والأيديولوجيا هي المعيار الرئيس للمراقبة والمعاقبة، فلا يمكن فهم العنف والإرهاب إلا بدلالتها، ولا يمكن تبريرهما إلا بها. وسنغامر بالقول إنه لا عنف ولا إرهاب بدون أيديولوجيا هي مبعثهما وتبريرهما.

الأيديولوجيا ليست غاية السلطة، بل وسيلتها وأداتها، فلا تُعرَّف الأيديولوجيا إلا بوظيفتها، فهي تستمد قوامها من طبيعة من يمارسون السلطة من جهة ومن طبيعة أهدافهم وغاياتهم الذاتية ومصالحهم الخاصة العمياء من جهة أخرى. وهذا مما يجعلها نسقاً لتوليد الكراهية والعنف وتبريرهما، ويفسر اقترانها بنظام الامتيازات وتوزيع الغنائم المادية والمعنوية، وأثر هذا النظام في أداء المؤسسات وكفاءتها وقدرتها على القيام بوظائفها، على اعتبار هذه الوظائف هي الغاية المتوخاة من تشكُّلها أو تشكيلها. كما يبين أثر الممارسة التقليدية و"الاحتكار الفعال للسلطة والثروة ومصادر القوة" في تَقْلدة المؤسسات الحديثة والحد من قدرتها على تأدية وظائفها الاجتماعية، والحيلولة دون تحولها إلى روافع لازدهار المجتمع وتقدمه، ويبين، من ثم، أثر الأيديولوجيا، التي توجه الممارسة، وتسوغ الاحتكار، في نشاط المؤسسات الرسمية وعلاقتها بالمجتمع وتحولها إلى أدوات للسيطرة الفظة والهيمنة الناعمة وتشكيل أجساد المحكومين. وينجر من ذلك أثر نظام الامتيازات وتوزيع الغنائم في آليات الاصطفاء والتهميش في المؤسسات المعنية، ومن ثم في المجتمع كله، وفي عملية أو سيرورة التبنين الاجتماعي (الطبقي)، وحلول العلاقات الأفقية والشبكية محل العلاقات العمودية، وفي تقرير مبادئ الحق والأخلاق، ومبادئ المواطنة والعدالة.

فلا يمكن تقصي العلاقة بين الأيديولوجيا والعنف إلا بتحليل بنية السلطة وآليات اشتغالها ومعاييرها، ونقدها، ابتداء من صورتها الأخيرة الأكثر تعقيداً، ونزولاً أو رجوعاً إلى عناصرها البسيطة. نقصد بالعناصر البسيطة ما يسميه ميشيل فوكو "ميكروفيزياء السلطة"، أي علاقات القوة الأولية، التي تنشأ من العلاقات المتبادلة بين الأفراد والجماعات، ونقاطها المبثوثة في الجسم الاجتماعي، من جهة، وجنيالوجيا المعرفة، أي المبادئ الأولية التي تشكل أنماط التفكير ومنظومات القيم، بالتلازم الضروري بين هذه وتلك، من الجهة المقابلة؛ إذ السلطة معرفة مموضعة، معرفة لا تتحدد بطبيعة موضوعها فقط، بل بإرادة السيطرة عليه أيضاً، ومن هنا تتولد الأيديولوجيا. هذه الإرادة، إرادة السيطرة والهيمنة أو إرادة السلطة أو "إرادة القوة"، ولا فرق، مكنونة في المعرفة، وتنبثق منها، فتستقل عنها، لكي تعيد إنتاجها وإنتاج ذاتها فيها. هذه العلاقة المركبة بين المعرفة والسلطة هي بالضبط العلاقة المركبة بين الحرية والضرورة؛ الضرورة مكنونة في الحرية وتنبثق منها، فتستقل عنها لكي تعيد إنتاجها وإنتاج ذاتها فيها مرة تلو مرة. السلطة ضرورية ومقاومتها ضرورية وواجبة، بالقدر نفسه، وإلا فلا تحسن ولا تقدم. وعي ضرورة السلطة هو شرط مقاومتها.

المعرفة تنتج السلطة، ثم تعيد السلطة إنتاجها وفق مصالحها وغاياتها، وتحدد حقولها، وتتحكم في توزيع محصولها. "السلطة والمعرفة تقتضي كل منهما الأخرى، فلا توجد سلطة من دون تأسيس مناسب لحقل معرفة، ولا توجد معرفة لا تفترض ولا تقيم علاقات سلطة[4]. المؤسسات، من هذه الزاوية، تعيُّنات أو تموضعات للمعرفة – السلطة في تواشجهما واشتباكهما وتحولاتهما التاريخية، والأيديولوجيا حاضرة دوماً في هذين التواشج والاشتباك، باعتبارها معرفة قطعية مغلقة على يقينها الذاتي وثوابتها الفكرية والأخلاقية.

المعرفة والسلطة ليسا مظهرين مستقلين لنظام الحكم، بل هما عنصران أو حدان متعارضان في مركب جدلي، كل منهما متغير مستقل بذاته ومتغير تابع للآخر، في الوقت نفسه، أي مركب جدلي يتحول كل من حدَّيه إلى الآخر، فلا تظل السلطة، ولا تكون، سلطةً محضة، ولا تظل المعرفة، ولا تكون، معرفةً خالصة. والمؤسسات هي هذا المركب من المعرفة والسلطة. والمعرفة، هنا، عمل أو فعل بالقوة، والعمل معرفة بالفعل، فإن معرفة السلطة وملفوظاتها هي التي تتحول إلى أفعال تترك آثاراً مباشرة ظاهرة وخافية في أجساد المحكومين ونفوسهم. السلطة تنقش ذاتها وتكتب تاريخها على أجساد المحكومين وفي نفوسهم، فتشكل هذه وتلك وتفرض عليها أنماط تفكيرها وعملها[5]. أيديولوجية السلطة هنا قيد على المعرفة مثلما السلطة ذاتها قيد على الجسد، فالتلقين الذي تمارسه السلطة من خلال المؤسسات التربوية والتعليمية والمؤسسات الأيديولوجية، كالأحزاب السياسية والمؤسسات الدينية ووزارة الثقافة ووزارة الإعلام أو "وزارة الحقيقة"، يقيد المعرفة وينمِّطها، بمقدار ما يقيد الحرية، ويحول الثقافة إلى إعلام كاذب وناقص، والفكر إلى أيديولوجيا.

في سوريا وغيرها من البلدان العربية، لا يمكن تجاهل التباس الأيديولوجيا والسياسة، وغلبة الأولى على الثانية وأثر هذا الالتباس وهذه الغلبة في الممارسة السياسية ومأسسة العنف وإطلاقه من أي قيد قانوي أو أخلاقي. فقد كانت السياسة ولا تزال تستهدف تشكيل أجساد المحكومين وجمهرة الشعب، أي تحويله إلى جماهير، وترميز العنف وتغليفه بالبلاغة، باعتباره دفاعاً عن المكتسبات الثورية ووسيلة لتحقيق أهداف الأمة في الوحدة والحرية والاشتراكية، وربطه بأمجاد الأمة وتراثها[6]. ومن ثم، فإن "تحليل التوظيف السياسي للجسد وميكروفيزياء السلطة يفترص تلازم الأيديولوجية والعنف"[7]. لذلك، تبدو لنا المعرفة المتحررة من السلطة هي المعرفة المقاومة لسلطة قائمة بالفعل، والمتحررة من الأيديولوجيا، في الوقت نفسه. هذه المعرفة موجودة دوماً بإزاء معرفة السلطة وثقافتها وقواعدها وآليات اشتغالها وأشكال ممارستها. لولا ذلك ما كان نمو المؤسسات وتطورها ممكنين، ولا كان ممكناً إصلاحها أو استعادتها إلى المجتمع.


[1]- روبرت بوتنام، كيف تنجح الديمقراطية، تقاليد المجتمع المدني في إيطاليا الحديثة، ترجمة إيناس عفت، الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة، القاهرة، 2006، ص 9

[2]- جاد الكريم الجباعي، البنية التسلطية للنظام السوري، في "خلفيات السياسة"، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بقطر، 2014.

[3]- حنة أرندت، أسس التوتاليتارية، ...

[4]- ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة، ولادة السجن ترجمة علي مقلد، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1990، ص 65. بتصرف.

[5]- في حوارها مع الفيلسوف الفرنسي فولتير، إذا لم تخني الذاكرة، قالت الإمبراطورة كاترينا: "أنتم أيها الفلاسفة تكتبون على الورق، أما نحن فنكتب على جلود البشر".

[6]- يتغنى المعلمون والطلاب والقارئات والقراء بقصيدة أبي تمام الطائي في مديح المعتصم بالله، التي تصف "مجزرة جماعية" في عمورية، إذ يقول:

ما رَبـع مية معمـوراً يطـوف بـه    غيلان أبهى ربىً من ربعـها الخرب

ولا الخدود وقــد أدمين من خجل    أشهى إلى ناظري من خــدها الترب

تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت   جلودهم قبل نضج التيــن والعنــــب

[7]- فوكو، ص 65، بتصرف.