الإدارة المجتمعية للشأن الديني: من التدين السياسي إلى التدين المجتمعي


فئة :  مقالات

الإدارة المجتمعية للشأن الديني: من التدين السياسي إلى التدين المجتمعي

يقتبس د. رضوان السيد؛ المفكر اللبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية، عبارة أبو الحسن بني صدر الرئيس الأسبق لإيران "الحد الفاصل بين الدين والسياسة"، عنوانا لمقالته في صحيفة الشرق الأوسط(1) في إشارة للمحاولات الفاشلة لبني صدر في مواجهة تغول السلطة السياسية باسم الدين، كما فشلت أيضا محاولات آية الله منتظري المفكر الإسلامي الشيعي البارز، وللتأكيد على أن كل سلطة سياسية باسم الدين -وليس عند المسلمين فقط- يلغي السلطات الأخرى، ويُحدثُ صراعات بين الطرفين، لا تنتهي إلا بنهاية سلطة أحدهما؛ البابوية عند الكاثوليك على سبيل المثال.

يعني التحول في إدارة وتنظيم الشأن الديني من الدولة إلى المجتمع التحول في رسالة الدين ودوره، والتحول أيضا في رسالة ودور الدولة والمجتمع؛ ففي حالة الدور الديني للدولة يعني أن الدين يؤدي دورا سياسيا، والحال أن "الإسلام السياسي" ظاهرة أنتجتها وطورتها السلطات السياسية، وإن شاركتها في ذلك جماعات إسلامية سياسية، فالحديث عن الإسلام السياسي يشمل السلطات السياسية كما يشمل الجماعات والأحزاب، وفي الحديث عن الدور المجتمعي أو ولاية المجتمع على الشأن الديني لا يمكن بطبيعة الحال إغفال أزمة المجتمعات وأولوياتها وتطلعاتها واحتياجاتها، ولذلك فإن الحديث عن التحول في الولاية الدينية من الدولة إلى المجتمع، ليس حديثا عن عمليات فنية وإدارية لتبادل الأدوار، أو لتسليم مؤسسات ورسالات من الدولة إلى المجتمع، وهي قضية تذكر بعمليات الخصخصة التي جرت في دول كثيرة في أنحاء العالم عندما تخلت الدولة عن إدارة وتوريد عدد من الخدمات والسلع، وأسندت ذلك إلى القطاع الخاص، ففي سرعة وفساد هذه العمليات وإدارتها في غياب التأهيل الكافي للمجتمعات والأسواق وتنظيم العلاقة بينهما وبين الدولة والسوق تحولت إلى إقطاع فظيع يضر بالمجتمعات والمستهلكين، وينشئ تحالفا فاسدا بين النفوذ والمال في مواجهة المجتمعات والطبقات الوسطى والفقيرة.

لقد ألحق "الإسلام السياسي" بما هو التوظيف والاستيعاب السياسي للإسلام، سواء على يد السلطات أو الجماعات أضرارا بالغة بالدولة والمجتمع والإسلام معا، وأنشأ صراعا سياسيا واجتماعيا جديدا على الدين والشرعية على حساب القيم السياسية والاجتماعية التي تنظيم علاقة الدولة بالمجتمع والعقد الاجتماعي الناظم لمسار واتجاهات الدول والمجتمعات والأسواق.

وقد ارتكبت السلطات السياسية في هذا السياق أخطاء تاريخية متراكمة؛ منها الاستناد في السلطة والحكم إلى شرعية دينية مبالغ فيها، وتفوق ما يمكن ان يمنحه الدين لترسيخ الحكم والنظام السياسي، وفي ذلك غُيّب العقد الاجتماعي والمصالح الأساسية للدول والمجتمعات وتنظيم العلاقة بينهما، وأقحم الدين والشرعية الدينية في الصراع مع الخصوم والمنافسين، فوضعت الأنظمة السياسية نفسها في ميزان التقييم على أساس ديني، ووجدت نفسها في مواجهة خصوم يقدمون الأدلة والمبررات التي تستند إليها الأنظمة السياسية بأحقيتهم في السلطة والحكم، واستعانت السلطات بجماعات الإسلام السياسي وتحالفت معها، ومكنتها من مواجهة الخصوم السياسيين؛ ما جعل الدول والأنظمة السياسية تستبدل خصما سياسيا بخصم أشد خطورة، وجعلها أيضا تغير في البيئة الفكرية والتعليمية وتضحي بالقيم الحقيقية التي تقوم عليها مصالح الدول والمجتمعات والأسواق، وكان القبول بالولاء السياسي لهذه الجماعات مع بقائها متشددة دينيا، مثل إدخال الوحش إلى البيت اعتقادا بإمكانية تدجينه وترويضه، وأسرفت السلطات والجماعات المتحالفة معها أو المنافسة لها في توظيف الدين لبناء الهويات الوطنية والتماسك الاجتماعي وراء الأنظمة السياسية أو الجماعات والأحزاب السياسية؛ الأمر الذي وإن ساعد الدول في اكتساب شرعية سياسية ودينية؛ فإنه أنشأ صراعات داخلية وطائفية وشجع على التدخلات الخارجية في شؤون الدول والمجتمعات، وأممت الحكومات العمل الديني، وحولته إلى مؤسسات حكومية رسمية؛ بخلاف ما كان عليه الحال طوال التاريخ الإسلامي، ما أضعف دور المجتمع وأضعف أيضا المصداقية الدينية للدولة.

وكانت المآلات الطبيعية أن السلطات والجماعات أضعفت المذاهب الفقهية والعلمية والمؤسسات المجتمعية العلمية والروحية إلى حد يقترب من القضاء عليها أو تغييبها، وفي ذلك فقد أضعفت أو غيبت الدور الاجتماعي والروحي للدين وطابعه الفردي ليغلب عليه الطابع السياسي، وحشد الدين في الصراعات والأزمات السياسية الداخلية والخارجية، الأمر الذي أضرّ بالسلام والتكامل الاجتماعي والعلاقات الخارجية للدول، وأضر بالمشاركة العالمية للمسلمين دولا وأفرادا ومجتمعات وجعلهم غير متقبلين في العالم وغير قادرين على تقبل العالم.

الدور الاجتماعي الإيجابي الممكن للدين

يقابل التوظيف السياسي للدين وحشده في الصراع السياسي والداخلي نماذج إيجابية واجتماعية للعمل الديني ترتقي بحياة الناس وعلاقاتهم؛ ففي أمريكا اللاتينية على سبيل المثال، تشارك الكنيسة الكاثوليكية مع المجتمعات في مطالبها واحتياجاتها وتواجه معها السلطات والشركات الرأسمالية.

فالحركات الاجتماعية في أمريكا اللاتينية تستلهم تعاليم المسيحية ومبادئها في العدالة ومناصرة الفقراء والمستضعفين، وتنظر إلى المسيح عليه السلام، باعتباره القائد الاجتماعي المتواضع والمنحاز للفقراء. وفي البرازيل، تبنت الكنيسة هوية جديدة بوصفها "كنيسة الشعب"، فتعتبر الكنيسة نفسها صوت الطبقات الفقيرة الأساسي في مواجهة حالة لا يجدون فيها تمثيلا لآرائهم واهتماماتهم، أو هي "صوت من لا صوت له"، وكان لذلك دور كبير في التحول الديمقراطي، ولكن هذه الهوية وجدت نفسها برأي خوسيه كازانوفا مؤلف كتاب "الأديان العامة في العالم الحديث"(1) في صراع مع الواقع التعددي للمجتمع المدني البنيوي ومع واقع البنى المهنية النخبوية للمجتمع السياسي.

فالحركات الاجتماعية التي نشأت في البرازيل وبخاصة بعد سياسات إهمال الريف وتجاهل الفقراء شملت الكنيسة لتشارك في برامج الإصلاح الزراعي والانحياز لخيار الفقراء، بل وتحول أساقفة الكنيسة إلى دعاة اجتماعيين ينتقدون الأوضاع غير الإنسانية للفقراء والمزارعين.

وساهمت الكنيسة في تشكيل ونشأة الحركات النقابية الريفية، ومواجهة الحكم العسكري الذي جاء نتيجة انقلاب عام 1964 وبدأت مواجهة قوية بين الكنيسة والدولة موضوعها حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية.

وكان رد الكنيسة على سياسات الحكومة والاستثمارات الرأسمالية التي أدت إلى نشوء هجرة واسعة من الريف إلى المدن وقيام أحزمة البؤس حولها بمساعدة الهنود والريفيين على تنظيم أنفسهم، وتقديم الدعم والحماية لهم في مواجهة الإقطاعيين والسلطات المحلية والمركزية والشركات الاستثمارية.

وأنشئت أيضا مؤسسات كنسية من الأساقفة لهذه الأغراض، مثل اللجنة الرعوية لشؤون العمال والسكان الأصليين (الهنود) ولجنة العدل والسلام لتنسيق النشاطات الإنسانية والاجتماعية والنقابية، والعمل السياسي والإعلامي في مواجهة التعذيب والفساد وانتهاكات حقوق الإنسان.

ومع بداية الثمانينيات، كان في البرازيل حوالي ثمانية آلاف جمعية كنسية تعمل كتنظيمات شعبية بين الطبقات الفقيرة بين البرازيليين البالغ عددهم حوالي مائتي مليون يعاني نصفهم على الأقل من الفقر ويعيشون على الهامش، وتعتبر الكنيسة هناك صوتهم الأساسي في مواجهة حالة لا يجدون فيها تمثيلا لآرائهم واهتماماتهم،

إن الدولة ظاهرة حديثة. ولم تكن الدول السيادية في مطلع القرن العشرين تتجاوز العشرين دولة، لكنها اليوم حوالي مائتي دولة؛ أي أنها تضاعفت خلال مئة سنة عشرة أضعاف، وهي اليوم تواجه تحديات كثيرة، ويقدم الدين في معظم أنحاء العالم شعوراً جديداً بالهوية والانتماء, وقد أضافت العولمة وتقنيات الاتصال فرصاً وتحديات جديدة، حيث بدأت الدول تتخلى بسرعة عن كثير من وظائفها لصالح الشركات والمجتمع الأهلي، أو للقوى والمنظمات الخارجية كالأمم المتحدة وحلف الأطلسي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، أو للشركات العالمية الكبرى.

يرى جون أسبوزيتو الأستاذ بجامعة جورج تاون(2) أن مشروعات ووعود النخب السياسية بالتنمية وحياة أفضل لم تتحقق، وارتبط هذا الفشل بالعلمانية. وكان المشهد الذي آلت إليه الدول والمجتمعات يدعو إلى ردود فعل عكسية وغاضبة، وبحث عن وسائل وأطر أخرى للإصلاح غير تلك التي سادت طوال هذا القرن، حيث تكونت مجتمعات تستفيد فيها أقلية ضئيلة عدداً من كل مزايا الحضارة الحديثة، وترزح الأغلبية في بؤس وفقر. وكان هذا الغنى الفاحش والفقر المدقع على درجة من التجاور والاحتكاك، تؤدي إلى المواجهة المستمرة.

إن المجتمعات تبحث بحرقة عن أصالتها وهويتها، ولا يكفي القول إن الفقر والبطالة والتهميش هي الأسباب الوحيدة المحركة للبعث الديني، وسيظل الدين والثقافة لهما وزنهما في الهوية والتنمية.

وعودة إلى مقالة د. رضوان السيد المشار إليه في بداية المقال(1)، فإن السيد يرى أن العلمانية الأوروبية لم يكن هدفها إلغاء الدين، بل إجراء ترتيبات لإيقاف التنازع بين السلطتين على المجال العام؛ أو وضع حد فاصل بين الدين والسياسة، وبين الكنيسة والدولة، وهذا الأمر هو الذي رجاه أبو الحسن بني صدر وغيره في المجال الإسلامي، وفي الأزمنة المعاصرة، وفشلوا فيه، .. ثم آلت الأمور إلى صراعات لا تقبل الشراكة، وتفضل الخراب على الخضوع، .. إذ في المجال العام لا إمكانية للشراكة بين رجل الدولة ورجل الدين!

(1) رضوان السيد: الحد الفاصل بين الدين والسياسة، صحيفة الشرق الأوسط، 13 شباط 2015

(2) خوسيه كازانوافا: الأديان العامة في العالم الحديث، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2005

(3) جون اسبوسيتو: التهديد الإسلامي خرافة أم حقيقة، القاهرة: دار الشروق، 2002