الإسلام السياسيّ والفقر التنظيريّ (الجزء الثاني)


فئة :  مقالات

الإسلام السياسيّ والفقر التنظيريّ (الجزء الثاني)

1- المحاكاة المقنّعة وأسلمة المسمّيات:

لئن ساد الاعتقاد بأنّ مشروع الإسلام السّياسيّ قائم على القطيعة مع المنظومات الغربيّة، ويسعى من خلال عرض أطروحاته إلى تأكيد العداء واختيار المواجهة حلاّ أمثل للإصلاح؛ فإنّ الناظر بعمق في مقولات المؤسسين، يلاحظ عجزا عن صياغة نظريات جديدة، يمكن أن تُكوّن وجهة جديدة للفكر الإنساني، تتراكم المعارف لتطويرها ونقدها. ونضرب على ذلك مثل العدالة الاجتماعيّة، فقد أضحى هذا المفهوم محلّ نظر دعاة الإسلام السياسيّ، وحاولوا صياغة مفهوم مختلف للعدالة الاجتماعيّة، ولكنّه مفهوم يحاكي مقاصد النظريّة الشيوعيّة في تحقيق هذا الهدف؛ بمعنى إنّه محاكاة في الأهداف ومحاولة للاختلاف في السبل لم تفض إلى بناء نظرية متكاملة، وإنّما أسهمت في بناء متخيّل اجتماعيّ يستثمر في إعادة تدوير مقولات الزكاة والتكافل. ونقصد بهذا المتخيّل "الفهم المشترك الذي يجعل الممارسات الاجتماعيّة ممكنة، إضافة إلى الإحساس العام المشترك بالمشروعيّة. يحدث في أكثر الأحيان أن يتسرّب إلى المتخيّل الاجتماعيّ ما يبدأ على شكل صورة نظريّة يحملها بعض الناس، وربّما يكون التسرّب إلى أفراد النخبة في البداية، لكنّه يتجاوزهم إلى المجتمع كلّه بعد ذلك."[1]

لتوضيح هذه الفكرة، يمكن أن نعود إلى كتاب "العدالة الاجتماعيّة في الإسلام" لسيّد قطب[2]، ويمكننا منذ المقدّمة أن نفهم طبيعة المنهج الذي قام عليه الكتاب وفكر كاتبه، فبحسب رأيه "في عالم الاقتصاد، لا يلجأ الفرد إلى الاستدانة، وله رصيد مذخور، قبل أن يراجع رصيده، فيرى إن كان فيه غناء..."[3] وهذا المنهج الذي يتصوّر الفكر كالمال يمكن أن يدّخر من أزمنة سابقة، يؤكّد أمرين مهمّين: الأمر الأوّل هو أنّ الوثوق بوجود رصيد ذاتي لحلّ مشكل العدالة الاجتماعيّة يعني أنّه ليس على الإنسان سوى استثمار رصيده في العدالة، وهو رصيد روحي تتّصل مقوماته بالتحرّر الوجداني والمساواة الإنسانيّة والتكافل الاجتماعي، وتتّصل وسائل تحقيقه بسياسة الحكم وسياسة المال في الإسلام. وإنّ هذه المنظومة المشبعة بالمبادئ لتنمّ عن جهل مزدوج بالنظريّة والواقع؛ فالروافد المعرفيّة المتّصلة برصيد إسلاميّ تقتصر على التراث، وترى في فريضة الزكاة ومجموع المبادئ الدينية العامة حول الملكيّة الفرديّة وطرائق الإنفاق نظريّة متكاملة تصلح لمواجهة مشاكل الواقع وإصلاح ما شابه من أزمات. والأمر الثاني هو أنّ هذا المسار التأويليّ لا يؤمن بمبدأ الاستفادة من النظريات العلميّة التي قاربت مفهوم العدالة الاجتماعيّة، ويتجاهل أنّ الرأسماليّة والشيوعيّة ليست مجرّد نظريات إيديولوجيّة تنافس إيديولوجيا الإسلام السياسيّ، وإنّما هي أيضا مقاربات ذات صلة بالفكر الفلسفي أقيمت على نظريات تمثّلت المسارات التاريخيّة التي مرّت بها المجتمعات، وحاولت تقديم تصوّر لإصلاحها. وقد اتّجهت مقاصد "سيّد قطب" إلى مقاطعتها بعد استثمارها والاستفادة من فتوحاتها النظريّة. ولذلك ظلّت تصوّرات "سيّد قطب" مرتبطة بمجتمعات بدائيّة وريعيّة، والحال أنّ الواقع شهد تحوّلات نحو مجتمعات تعقّدت بنيتها الطبقيّة، وما عادت الآليات القديمة قادرة على تقديم الحلول لأزماتها، فضلا عن أنّ المبادئ العامّة التي يقترحها في كتابه "العدالة الاجتماعيّة في الإسلام" تبدو أقرب إلى مجموعة من المواعظ الأخلاقيّة التي يمكن أن تتلاءم مع مجتمع ما قبل حداثيّ، ولكنها لا تتصوّر نظاما دولاتيّا ممأسسا يمكن أن ينهض بأحوال مجتمعات خاضعة لسلطة رأسماليّة عالميّة ومرتبطة بنظام عالميّ متشابك المصالح ويحقّق له العدالة. فالغاية القصوى من وراء هذا الخطاب هي الإيهام بوجود نظريّة ثالثة في العالم تنافس الرأسماليّة والشيوعيّة، ولكنّها تقع في المحاكاة وأسلمة المسمّيات بدل أن تبدع أشكالا جديدة لفهم المجتمع أو معالجة أزماته.

إن المتأمّل في أدبيات كثير من دعاة الإسلام السياسيّ، ليلاحظ بيسر الفقر التنظيري في مجالات كثيرة

ليس منكرا أن تتّجه المقاربة الإسلامية إلى مخزونها التراثيّ تفتّش فيه عن حلول، ولكن التّعامل مع هذا التّراث، باعتباره يقدّم حلولا جاهزة للمشاكل الاقتصاديّة والاجتماعيّة هو بيت الدّاء وموطن الخلل الذي جعل تيّار الإسلام السياسيّ تيّارا متواكلا لا يكّلف نفسه عناء التّعامل الإيجابيّ مع النظريات السّائدة، ليستفيد منها وينقد ما لا يراه ملائما للمجتمعات الإسلاميّة بنفس درجة التّواكل في علاقته بالرّوافد التّراثيّة التّي لا يكلّف نفسه عناء نقدها وتأويلها، لتتلاءم مع التحولات الطبيعيّة التي تشهدها المجتمعات الإسلاميّة. فتكون النتيجة تلوين منجزات الغرب بمسمّيات إسلاميّة. فالنّقد يخالف ما قامت عليه رؤية "سيّد قطب" من رفض قطعي لكلّ وافد وقبول غير مشروط بكل ما قدّمه التّراث للسلف من حلول.

فنتيجة هذا التصوّر، نُسِجَ مُتخيّل اجتماعيّ أساسه الاعتقاد الراسخ بأنّ "الإسلام نظر إلى وحدة الرّوح والجسد في الفرد، وإلى وحدة المعنويّات والماديات في الحياة، كما نظر إلى وحدة الهدف بين الفرد والجماعة، ووحدة المصلحة بين الجماعات المختلفة في الأمّة الواحدة، ووحدة الغاية بين الأمم الإنسانيّة، ووحدة الصّلة بين الأجيال المتعاقبة على اختلاف المصالح القريبة المحدودة."[4] وهو متخيّل يتجاهل الوقائع التّاريخيّة التي تثبت في كثير من المناسبات أنّ هذه الصّورة المثاليّة لم تتحقّق في التاريخ، وهي غير قابلة للتحقّق. مقابل الاعتقاد بحتميّة العداء بين الشيوعيّة والدين، [5] وأنّ أوروبا مضطربة لتنحية الدّين عن حياتها العامّة.[6]

لعلّ قول "المودودي" يمكن أن يختزل المتخيّل الاجتماعيّ الذي بدأ يتشكّل في فكر الجماعة المؤمنة بمقولات الإسلام السياسيّ، ويؤشّر لآثاره الكبيرة على تصوّراتهم، إذ يقول: "فكذلك شأن الانقلاب الإسلاميّ، فإنّه لا تثمر شجرته ولا تؤتي أُكُلَهَا إلاّ إذا قامت حركة شعبيّة على أساس النظريّات والأحكام القرآنيّة ودعامة سيرة محمّد ﷺ وسنته الطّاهرة، تقوم هذه الحركة الشعبيّة، وتنهض وتقوى حتّى تغيّر بجهادها المستمرّ العنيف أسس الجاهليّة الفكريّة والخلقيّة والنفسيّة والثقافيّة السّائدة في الحياة الاجتماعيّة، وتأتي بُنيانها من القواعد"[7].

لقد صدقت تصورات "المودودي"، فتلك الحركة الشعبويّة نجحت في الاستقطاب وحشد الجماهير المؤمنة بمنهج الانقلاب الإسلاميّ، ولكنّها كانت تتقن بمعاول الهدم مواجهة الأنظمة والوصول إلى الحكم، وكانت حركة الهدم عندها فعّالة. ولكنّ حركة البناء كانت تكشف دوما خواء النظريّة، وضعف المسارات التي يمكن أن تحقّق التقدّم والنهضة المنشودتين من كل حركة انقلاب، والسرّ وراء ذلك اتّباعها مسارات الانفعال بالواقع وردود الأفعال بدل عقلنته وتصوّره تصوّرا موضوعيّا.

تبدو المحاكاة المقنّعة من خلال البحث عن تحقيق الأهداف التي رامت الشيوعيّة تحقيقها. ولكن باختزال النظريّة وقطع السبل التأويليّة عن روافدها الفلسفيّة وتحميل النصّ الدينيّ كلّ ما تطمح الشيوعيّة إلى تحقيقه مع إدانة الأصل بالإلحاد ومعاداة الدين وتصوير الإسلام، باعتباره الرافد الوحيد للعدالة الاجتماعيّة. لعلّ ذلك ما دفع "نصر حامد أبو زيد" إلى الحديث عن التّلوين، وهو "آليّة أشبه بآليّة الاستعارة في النصّ الأدبيّ، حيث يتمّ نقل دلالة النّصوص والأفكار من مجالاتها الأصليّة إلى مجالات أخرى عصريّة، لا عن طريق استثمار إمكانات الدلالة الأصليّة، بل عن طريق توسّط "الشعور" أو التجربة الشعوريّة للباحث كما يحدث في الاستعارة الشعريّة؛ بيد أنّ أزمة هذا الشعور تتمثّل في عقدة تضخّم الذات التي تحوّلت إلى نوع من السّاديّة. و"تكون في صورة سلوك عدوانيّ من مثقّف أو مثقفين تجاه أفكار وآراء آخرين على نحو لا يتوازن فيه المثقّف السّاديّ إلاّ متى التذّ بالتجريح الذي أصاب به ضحاياه من المثقفين."[8] ولا غرابة أن تتحوّل تلك الساديّة إلى حركات دينيّة عنيفة تمارس القتل بشتّى أنواعه، ولا تفرّق بين عدوّ قريب أو بعيد. فساديّة الفكر تضع الأسس النظريّة لساديّة العنف الجماعي.

2- مفاهيم الانغلاق اللاهوتيّ:

تعدّ شبكة المفاهيم التي أنتجها خطاب الإسلام السياسيّ السبب في تنامي النزعة العدوانيّة وإيجاد حواجز رمزيّة بين منظومة الإسلام السياسيّ والمفاهيم الكونيّة. فهندسة تلك المفاهيم –وإن كانت محكومة بردود الأفعال والرغبة المقنّعة في المحاكاة- لا تقام إلاّ على أساس الاختلاف، فهي لا تفهم إلاّ في إطار ثنائيّات أسّس بها دعاة الإسلام السياسيّ بنيان رؤيتهم، وقضوا بها على كثير من إمكانيات التطوّر والانفتاح على الفكر الإنسانيّ.

من تلك المفاهيم مفهوم الأسلمة الذي يقابل في كثير من الأحيان مفهوم الكفر أو التغريب، أو مفهوم الجماعة المسلمة الذي يقابل مفهوم الجاهليّة. وتساق في التيّار الأوّل رؤية تأويليّة ضيّقة هي أشبه برؤية الفرقة الناجية لعجزها عن استيعاب التنوّع الدّيني الذي يسم الإسلام، وبلوغ خطابها مرحلة الصّدام التأويلي والعسكريّ مع جماعات إسلاميّة أخرى، بل إنّ مفهوم الأسلمة الذي اقتضى في كثير من الأحيان وسم الآخر المختلف بالكفر يمكن أن يصير آليّة للصراع بين الجماعات ذات المرجعيّة الدينيّة الواحدة؛ أي تلك التي تعود في تأويلها إلى روافد تراثيّة مشتركة، مثلما هو الأمر بالنسبة إلى الصراع بين "تنظيم داعش" و"جبهة النصرة"، وهو ما يؤكّد أنّ تبنّي مثل هذا الخطاب قد أسهم في خلق هوّة سحيقة بين مسارات تطوّر الفكر الإنساني في سياقاته العلميّة والفلسفيّة، وثبات المقولات الدينيّة الموسومة بالأسلمة. وليس هذا الثّبات مقتصرا على الأسانيد النظريّة، بل هو شامل لكل التصوّرات الأخرى المتعلّقة بتنظيم الحياة السياسيّة والاجتماعيّة والقضائيّة وأساليب تطبيق القوانين داخل المناطق التي تخضع إلى سلطة هذه التنظيمات. ويكفي أن ننظر مثلا إلى "مستعمرة العقاب" الدّاعشي على حدّ عبارة "فالح عبد الجبّار" لندرك ارتدادا إلى شكل الخلافة وتجاهلا لكل الأسانيد النظرية التي أسّست لمفهوم الدولة الحديثة، وتبنيا لأساليب العقاب البدائيّة كقطع الرؤوس والنحر والرجم والإلقاء من فوق المباني العالية. وقيام الأحكام القضائية على الشبهة والظنّ بعد أن صارت الجرائم تواجه اليوم في الدول المتقدمة بأحدث التقنيات وأدق الوسائل العلميّة لضمان معاقبة الجاني وإنصاف البريء.... ذاك غيض من فيض الأسلمة في مفهومها البدائيّ التي أضحت أشبه بتصوير فِلْم تاريخي، ولكن بمشاهد واقعيّة وبضحايا حقيقيين.

ولئن اقتنع بعض دعاة الإسلام السياسي في مناطق أخرى من العالم العربي بالديمقراطية وصارت أقدس ما يدافعون عنه، فإنّ فهمهم للديمقراطيّة ظلّ مرتهنا إلى تلك الأرضيّة الأولى التي شرّع لها المؤسّسون، وهي أنّه لا يمكن أن نستغني عن السقف الذي يُظلّها، وهو سقف الشريعة الإسلاميّة. من ذلك قول الغنّوشي: "كلّ الحركات الإسلاميّة تشترك في التأكيد على ضرورة التسليم بأنّ المرجعيّة العليا في الدولة تشريعا وتنفيذا وثقافة ينبغي أن تكون لنصوص الوحي كتابا وسنّة."[9]

لقد كان مفهوم الشريعة من أهم أركان الإسلام السياسيّ، وتكمن إشكالية هذا المفهوم في كونه يتّخذ طابعا شموليا يعتقد به أصحابه أنّه يجمع مضامين الحياة كلّها اقتصادية كانت أو اجتماعية أو خلقية أو سياسيّة؛ إلاّ أنّ هذا المفهوم يمكن أن يفضي بتأويله إلى مسارات الانغلاق، لأنّه كلّما ظهر فريق يبدي مرونة تأويليّة وبراغماتيّة في تعامله مع الفكر الإنسانيّ[10] إلاّ وظهر فريق يخرج المتساهلين تأويلا من دائرة الإسلام ويلحقهم بدائرة الكفرة والمرتدّين.[11] وحتى داخل النسق التأويلي الجديد الموسوم بالمرونة والبراغماتية، فإن تلك النزعات ظلت سببا في الخوف من الارتداد إلى الانغلاق اللاهوتي وتطبيق "الشريعة"، مثلما نظّر إليها دعاة الإسلام السياسيّ متى سمحت الظروف، وذلك هو المنطق البراغماتيّ الذي يوغل في الاستخفاف بالبعد العلميّ.

وإنّ المتأمّل في أدبيات كثير من دعاة الإسلام السياسيّ، ليلاحظ بيسر الفقر التنظيري في مجالات كثيرة. فتكوين الغنوشي الدّيني غَلَبَ على الفلسفة التي درسها، ولكن يبدو أنّ ذلك تمّ بغير منطقها. ورؤيته للإصلاح التربوي لا تتعدّى نظريّات الأقدمين وآراء السابقين. أمّا حظّه من الاطلاع على تجارب الأمم المتقدّمة، فضعيف بل شبه منعدم، رغم أنّه قضّى وقتا طويلا في بريطانيا. والسبب وراء ذلك هي قسمة ضيزى أسّسها الدّعاة الأوّلون لهذا التيار تقضي بالفصل بين ما هو إسلامي وما هو غربيّ. فكانت أكبر نكبة للفكر إهدار البعد الإنساني باسم عداء الغرب.

إنّ أزمة الخطاب الإيديولوجيّ كامنة في ضيقها المعرفيّ ورؤيتها الحقائق من زوايا محدّدة ومضبوطة سلفا

وقد توهمنا كثرة المصنفات التي تناولت "الإسلام السياسيّ" بالدرس والتحليل بثراء تلك التجربة. ولكن سبب ذلك الاهتمام، فضلا عن المقاصد العلميّة والرغبة في تفكيك هذا الخطاب، هو الشعور بخطورة السّطو على المشترك الإسلامي وتوظيف المقدّس من أجل الصراع السياسيّ. ومثلما أسهمت حركة الاضطهاد السياسيّ لهذا التيار في نشأة مفهوم "المظلوميّة" الذي أكسب المنتمين إلى هذا التيّار المشروعية السياسيّة، وجعلهم يظهرون بثوب الضحايا، ويسارعون إلى نيل التعويضات بعد تولّيهم الحكم في تونس مثلا. فقد كان للصّراعات الإيديولوجية التي خاضتها التيارات الأخرى وظيفة في إخراج هذا التيار من دائرة التأثير الشعبوي إلى دائرة الجدل النظري، وهو ما أسهم نسبيّا في تطوير بعض مقولاته. إلاّ هذا التطوّر الذي بلغ ذروته مع ظهور تسمية "الإسلاميين الديمقراطيين" الذي اشتركت فيه أهواء دعاة الإسلام السياسي، وقد تخلوا عن شريعتهم وناشدوا شرعيتهم الدولية مع ما أعدته مخابر السياسة الأمريكيّة داخل مراكزها البحثيّة. وأضحت الأصوات الغربيّة بدورها رافدا آخرا، يمنح تلك التيارات الشرعيّة السياسيّة، ولكنّه لا يستطيع أن يحجب فقرها التنظيري واتّكالها المستمر على "كيمياء سياسيّة" مبسّطة لا تمتزج فيها المفاهيم امتزاجا حقيقيا، وإنما تحافظ على مكوناتها الأصلية داخل نفس المنظومة السياسيّة. فالجمع بين الإسلام والديمقراطيّة يتطلّب عمقا وجرأة في تناول المفاهيم الدينيّة وعلاقتها بالمفاهيم المدنيّة، وهو أمر لن يتاح لدعاة الإسلام السياسيّ ما لم يؤمنوا بأنّ السياسة فعل إنسانيّ وليست مرتهنة إلى دين بعينه، وما لم يدركوا أن الدين مشترك بين جميع الفئات الاجتماعية ومسألة تتعلّق بقناعات فردية، وإن إقحامه في ساحة الصراع السياسيّ يعود بالضرر على الدين والإنسان على حدّ سواء، والأدلة على ذلك متواترة منذ الفتنة بين علي ومعاوية وصولا إلى الفتنة الطائفية في العراق.

3- نحو آفاق أخرى للوعي الإنسانيّ:

إنّ أزمة الخطاب الإيديولوجيّ كامنة في ضيقها المعرفيّ ورؤيتها الحقائق من زوايا محدّدة ومضبوطة سلفا. وإنّه لا يمكن اليوم تجاهل التحوّلات الكبرى التي شهدها الواقع في سائر مجالات الحياة، وإنّ محاولة التفكير في حلول سياسيّة لأزمات الدول ينطلق حتما من مقاربات علميّة تقوم بتشخيص أوضاع المجتمع وإمكانيات الدولة وطاقاتها البشرية والظروف الدوليّة والاستفادة من تجارب الدول التي عاشت أوضاعا متشابهة وحققت لنفسها نقلة نوعيّة في الاقتصاد والمجتمع، وهو أمر موكول إلى العلماء وليس إلى السّاسة؛ بمعنى أن إيجاد مراكز تفكير ذات طابع سياسي واقتصادي تضمّ مختصّين يقع انتقاؤهم على أساس الكفاءة وليس على أساس الولاء الحزبي من أجل منح السياسيين حلولا عمليّة قابلة للتحقّق. ولئن منحت الديمقراطيّة حلاّ حداثيّا لأزمة الاختلاف، فإنّها لم تكن قادرة على إيجاد حلول لأزمة المأسسة، إذ لا يخفى أنّ عقليّة الجماعة التي حكمت الأحزاب في الدول العربيّة قد رسّخت عقليّة المحاباة والوساطة، ونشرت الفساد بين دواليب الدولة، وهو أمر لا يمكن إصلاحه بمجرّد إلقاء المواعظ الأخلاقيّة من فوق منابر المساجد. وإنما يتطلّب إرادة جماعيّة للإصلاح وتفعيلا للقوانين التي ظلّت شكليّة ولا تطبّق إلاّ في حالات دون أخرى. وحينئذ، فسوف يتحقّق للإسلاميين وغيرهم ما يطمحون إليه من أسباب العدالة الاجتماعيّة.

يكشف الواقع أنّ من تولّوا الحكم في تونس من بعد انتفاضة شعبها أو في العراق بعد سقوط نظام "البعث العراقيّ" قد سارعوا إلى الغنيمة على حساب الآخرين. وأثبتوا أنهم لا يمتلكون مشروعا حقيقيّا للإصلاح. وقدموا صورة مشوّهة لتطبيق الحكم بمعايير "الإسلام السياسيّ" بوجهيه السنّي والشيعي، وهو ما أفضى في العراق إلى فتنة طائفيّة، وأضعف من ثقة الجماهير بالسياسيين وصعود ظاهرة المستقلين في تونس لفقدان الثقة في النخبة السياسيّة وتحوّل الديمقراطيّة إلى طقوس عبور لا تفضي إلاّ لمزيد الأزمات الاقتصادية والاجتماعيّة. حتّى صارت غايتها تحقيق طموح الجماعة الحاكمة وتوزيع المنافع على المنتمين إليها بدل استرضاء المحكومين وتحقيق الإصلاح المنشود من كل تحوّل سياسيّ. وقد أثبتت هذه الحركات الطابع البراغماتي الذي يسم تعاملها مع الخطاب الدّيني، باعتباره مجرّد آليّة للحشد والتعبئة، ولذلك يتحوّل إلى مجرّد شعارات جوفاء لا أثر لها في الممارسة السياسيّة. ولا تبقى منها سوى المواجهات المفتعلة والمعارك الوهميّة ضدّ "المسيئين للإسلام" و"أعدائه"، ويستغني أصحابه عنه حين يحققون به ما أرادوه من رغبة في الوصول إلى الحكم.

تظلّ آليات الدّعاية الحزبيّة/ الدينيّة مثل المساجد والخيام الدعويّة والقنوات الإعلاميّة غارقة في متخيّل إسلاميّ كثيرا ما تتماهى فيه صورة الإسلام السياسيّ بالمؤسسين الأوائل (السلف الصالح)، وتتناسخ فيه المعارك القديمة ضدّ الكفّار، لتصير إمّا معارك ضدّ خصوم سياسيين، أو طوائف في الداخل أو أعداء/ كفّار من الخارج. وتهدر مداخل النقد والإصلاح وإمكانيات استثمار الاختلاف من هذا الخطاب المنغلق، ليؤول الأمر دوما إلى صناعة لوهم تفوق مبنيّ على أطلال الماضي يكشف عجزا عن بناء مشروع فكريّ أو سياسيّ له قابليّة التحقّق والتنفيذ في المستوى السياسيّ، لأنّه يعاني من أزمة التواكل الفكريّ والفقر التنظيري.


[1] تشارلز تايلر، المتخيّلات الاجتماعيّة الحديثة، (ترجمة الحارث النبهان)، ط1، لبنان/ قطر، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015، ص ص 35، 36

[2] انظر: سيد قطب، العدالة الاجتماعيّة في الإسلام، ط13، مصر، دار الشروق، 1993

[3] سيّد قطب، العدالة الاجتماعيّة في الإسلام، ط1، مصر، دار الشروق، 1995، ص7

[4] سيّد قطب، المرجع نفسه، ص 31

[5] انظر: المرجع نفسه، ص11

[6] المرجع نفسه، ص 17

[7] أبو الأعلى المودودي، منهاج الانقلاب الإسلاميّ، ط2، السعوديّة، الدار السعوديّة للنشر والتوزيع، 1988، ص24

[8] عبد الإله بلقزيز، نهاية الداعية الممكن والممتنع في أدوار المثقفين، ط1، بيروت/ الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، 2010، ص 59

[9] راشد الغنوشي، الديمقراطيّة وحقوق الإنسان، ص 130

[10] انظر: فريد بن بلقاسم، الإسلام السياسيّ ومفهوم المخاطر، ط1، تونس، دار الجنوب، 2019، ص 96

[11] انظر مثلا تكفير "تنظيم داعش" لحركة النهضة التونسيّة.