الإسلام والديمقراطية: (حوار مع مارسيل غوشيه)


فئة :  حوارات

الإسلام والديمقراطية: (حوار مع مارسيل غوشيه)

الإسلام والديمقراطية*

(حوار مع مارسيل غوشيه)**

أجراه: فرانسوا أزوفي و سلفيان بيرون

ترجمة: د. منوبي غباش

مقدمة المترجم:

هذا النص هو جزء من الفصل الخامس من كتاب الوضع التاريخي لمارسيل غوشيه Marcel Gauchet، وهو عبارة عن حوار بين الكاتب من جهة، وفرانسوا أزوفي Francois Azouvi (فيلسوف ومدير البحوث في المركز الوطني للبحوث العلمية CNRS) وسلفيان برون Sylvian Piron (مؤرّخ فرنسي) من جهة أخرى. يتعلق النص المترجم بمسألة العلاقة بين اللاهوتي والسياسي. ويؤكد غوشيه، بصورة خاصة، أنّ «الإسلام هو عقلَنة للفكرة التوحيدية»؛ أي إنّه يقوم على تصور عقلاني للكائن المطلق (الله) الذي يدبر العالم. لا يخفى أنّ لمثل هذا التصوّر تبعات خطيرة على مستوى التصوّر اللاهوتي – السياسي، وعلى مستوى المشروعية السياسية في الدول التي تكوّن ما يسمى بالعالم الإسلامي اليوم. إنّ ما رمنا التنبيه إليه من خلال ترجمة هذا النص هو إبراز موقف غوشيه من الإسلام. إنّه يرى أنّ الإسلام لا يتناقض مع الحداثة السياسية التي تكوّنت خارجه، وذلك لأنّه يتضمن فكرة الفصل بين الديني والسياسي. «لا يوجد من حيث المبدأ عدم تطابق بين الإسلام والديمقراطية» (ص 164).

نصّ حوار مارسيل غوشيه من كتابه "الوضع التاريخي":

- لوصف الإله المسيحي استعملتم مرات كثيرة عبارة "الخارجي تماما"، ألا ينطبق ذلك الوصف على إله بني إسرائيل أيضا؟

مارسيل غوشيه: يتعلّق الأمر بتعريف الديانة التوحيدية: يوجد إله منفصل عن العالم الذي يهيمن عليه. ولكن تعريف الله باستعمال علامة الغيرية الجذرية شيء، وعلاقة الإنسان بهذه الغيرية بحسب طريقة التفكير فيها وقابليتها للتفكير شيء آخر. بداية الديانات التوحيدية الثلاث متقاربة جدا، والفوارق التي تفصل بينها دقيقة. ومع ذلك، فإنّ هذه الفوارق الصغيرة تُنتج تباعدا كبيرا. يتعلّق الأمر بفهم أهمّية هذه الفوارق في تحديد مكانة الله. إنّ الجوهري بهذا الخصوص يبدو لي كامنا في نمط بلوغه. في الحالات الثلاث نحن أمام وحي. تكمن غيرية الله في واقعة الوحي ذاته: يجب أن يظهر للبشر لكي يتعرفوا إلى أنفسهم كمدينين له في ما وراء آلهتهم الزائفة. ولكن كل شيء كامن في الطريقة التي بها يعطى هذا الوحي، فالإله اليهودي يتحدث إلى شعبه مباشرة، ويتابعه عن قرب ويبقى في غيريّته، حيث لا يعرف الشعب ماذا يريد الله منه، فمخطّطاته مجهولة ومن هنا تأتي الحاجة إلى الأنبياء. بهذا المعنى يمكن أن يقال بالفعل عن الإله اليهودي إنّه خارجيّ تماما، ولكنه يبقى من الناحية الميتافيزيقية مشاركا للعالم عبر الوحي الذي يوجّهه إلى الشعب المختار. إنّه، بطريقة ما، يتّحد به عندما يكلّمه: يسكن يهوه شعبه، وتعاليه لا يحول دون حضوره. إنّ معبد القدس يكرّس توثيق المنفصل.

ما هو مميّز في حالة المسيحية هو أنّ الله لا يتحدّث مباشرة. لقد تحدّث في لحظة أولى إلى اليهود ولكن ذلك لم يكن، وهو أمر غريب، إلاّ تجَسُّدا مسبّقا. وفي لحظة ثانية، عندما أراد أن يوصل إرادته ووعده بالخلاص، أرسل ابنه، وهنا قمّة الغموض. عندما أقول إنّ الإله المسيحي في الخارج، فذلك بالنظر إلى مدلوله في عملية التجسّد. إنّ ما هو خاص في الغيرية المسيحية مدرَج كلّيّة في واقعة مجيء المسيح، وهو يعني غرابة وخارجية الإله الأب التي لا يتضمّنها الوحي المباشر المعطى بواسطة القول. لقد جعل الإله نفسه إنسانا وهذا يعني أنّه كان عليه أن يظهر في صورة أخرى غير صورته الأصلية، لكي تكون رسالته قابلة للإدراك. إنّ عقل الله، أي حكمته، قابل للقياس بكل ما يمكن أن نتمثله باعتبارنا بشرا.

لا وجود لشيء مماثل لهذا في اليهودية، حيث القاعدة هي اشتراك الله والبشر في نفس الطبيعة، وهو ما يفسّر التحالف بينهما بشكل جيّد. وإذا كان التحالف يحتوي على معنى فلسفي، فهو التعبير عن صلة ما أخيرة في الخلق بين الله والإنسان. في المقابل، جاء الإله المسيحي، ثم انسحب وليس لدينا عنه إلاّ سلسلة من الشهادات لإعادة صياغة كلماته، وهي كلمات هشّة لأنّ مبدأ ألوهيته يُلغِمُ، بطريقة ما، كلامه البشري، ويُلزمنا بأن نبحث فيه عن معنى خفيّ. لا توجد فقط مسافة غير قابلة للقياس تفصل عن الله، يُظهرها تضاعف الأب والابن، ولكن هذا العالم وهو نظام مغاير للنظام الإلهي، وباعتباره مسرَحا للتجسيد، يجب أن يُرتّب على حدة. هذا المكان الخاص، هو بالتحديد، ما ستشغله الكنيسة أوّلاً طارحة نفسها كوسيط. ستكون إحدى أقوى الشهادات عن هذه الطريقة المختلفة لفهم الغيرية الإلهية هي وجود كنيسة وسيطة تُديم توسّط المسيح في شكل مؤسّسة. وهذه الأخيرة، تُعيّن فضاء أرضيا هو بحاجة إلى أن يتكوّن في وحدته الروحية لتتّصل بما يتجاوزه بصورة مطلقة.

- يمكن بيسر رؤية الفضاء الذي فُتح للتخيّل الميتافيزيقي في المسيحية.

مارسيل غوشيه: في اليهودية لم يكن له نفس الدافع للانتشار باستثناء القبالة La Kabbale، وهي تأمّل في انسحاب الإله: كيف لإله يحكمُ العالم أن لا يظهر فيه؟ لا وجود في الإرشاد الأساسي لليهودية للغموض، بل بالعكس: يعيش المؤمن الحقيقي مطمئنا إلى الأوامر الإلهية في تطابق مع قانونه وفي تحالف مع الله. وفي المقابل، تُحوّل المسيحية مذهب الوحدانية في اتجاه دين غامض، وبالتالي نحو الهرطقة: إمكانية التأويل وضرورة السلطة المؤسساتية لإثبات التأويل يعطي لمكانة الحقيقة توتّرا هائلا.

- وماذا عن الإسلام؟

مارسيل غوشيه: يمنح الإسلام فرصة إضافية للتأكد ممّا قلته لكم حول اليهودية والمسيحية: كل شيء مرتبط بظروف الوحي، وبالطريقة التي يكون فيها قابلا للتأويل. تتمثل حالة الإسلام الخاصة في كونه دينا تاريخيا. نقصد دينا يعرّف نفسه بالنظر إلى أديان سابقة عليه. فقد جاء مذهب التوحيد الإسلامي بعد مذهبين آخرين. وقد كان ذلك هو حال المسيحية التي هي يهودية من درجة ثانية. إنّها ترى ذاتها اكتمالا لليهودية. إنّ إرادة دمج التاريخ اليهودي في تاريخها الخاص هو أحد عناصرها المكوِّنة. من البديهي أنّ المسيحية كانت ستكون مختلفة لو كانت منفصلة تماما عن اليهودية. يعيد الإسلام العملية بدرجة إضافية ولكن مع فرق واضح في الإلهام: إذا كان ثمة دين تنطبق عليه مقولة العقلنة الفيبرية Rationalisation wébérienne فهو الإسلام. وما الإسلام بالفعل إلاّ عقلنةَ لفكرة التوحيد من قِبل إنسان بسيط وثابت، لم يكن لاهوتيًّا بارعًا بل تميّز بعقلٍ راجحٍ، وكان مستقيما، وكان أبا ذا حسٍّ سليمٍ منشغل بإعادة توضيح الأمور. ما هو الشيء المهمّ في مذهب التوحيد؟ يبدو أنّ (النبيّ) محمّدا طرح على نفسه هذا السؤال. و(لعلّه) أجاب (كالتالي): الوحدانية الإلهية. كل شيء هنا، فلنستخلص النتائج. يتأتّى الجوهري في الإسلام من الوصول إلى هذا المبدأ ومن إمكانية التبسيط والعقلنة. ينتج عن ذلك مذهب توحيد أكثر جذرية وأكثر صرامة من مذهب اليهود الذي يقوم على عقيدة الشعب المختار، ومن مذهب المسيحيين الذي يقوم على عقيدة التجسيد.

تنطبق نفس العقلنة الحاسمة على شروط الوحي. بما أنّ الله واحد، أزليّ وقادر على كل شيء، فلن يكون ثمة قانون صالح غير الذي يعبّر عنه بنفسه بصورة مباشرة وتامة، وما النبي إلاّ كاتب Scribe ينقل ما يوحى إليه. لنا هذه المرّة كلام الله نفسه، الأبدي وغير المخلوق في كماله المطلق. لقد وُضع الختم في دورة النبوّة الإبراهيمية. لقد تغيرت طريقة فهم الوحي تماما مثل تصوّر الإلهي. إنّ الاعتقاد، أي اتّباع قول النبي، يعني الدخول في إرادة الله التي هي سبب الأشياء. الله هو القادر على كل شيء وهو منفصل بصورة مطلقة. والبشر مشمولون بحضوره، ما داموا قد تلقّوا رسالته النهائية. يتحرّك العقل الإنساني متّحدا ومتّفقا مع المنفصل.

لقد تحدّدت قواعد تأويل الكتاب في إطار هذه العقلنة بدقة. يوجد في الإسلام تأويل، علم (التفسير)، لأنّنا أمام نص معقّد وليس بالإمكان تفحّصه بعناية فائقة. لا يجب فقط التأكد مما يقول حرفيا بل يجب معرفة كيفية تطبيق القانون الذي يُقرّه بتبصّر. ومع ذلك لا مكان لتأويلية (هرمينوطيقا) مثل تلك التي شرّعتها المسيحية، بمعنى كشف حقيقة الإلهي في ما وراء الإنساني.

ومن جديد يوجد استثناء على هذا الطريق يثبت القاعدة. سيتمّ تطوير تأويلية إسلامية ولكن في إطار المذهب الشيعي، لفائدة الفرقة الكبرى الأصلية، فرقة أتباع علي. وسيعرف التشيع في الآن نفسه اتحادا دالّا بين رجال دين وعلْمٍ متعلّق بالمعنى الخفيّ للنص المقدّس. تتعلق المعضلة التي يجب حلّها هنا بالانتصار الظاهر للمستضعفين. كيف يسمح الله القادر على كل شيء بهزيمة المؤمنين الصادقين وانتصار الماكرين؟ لحلّ هذه المعضلة الكبرى كوّن المذهب الشيعي بداية من القرون الأولى للهجرة تقليدا غنيّا للبحث عن معاني الوحي الإلهي السرّيّة في انتظار ظهورها التام. يتعلق الأمر بتأويلية أخرَوِيّة من طبيعة باطنية.

في هذا المستوى يجب توضيح نقطة، وهي أنّه بالرغم من أنّ معنى "ما فوق الطبيعي" في المسيحية يكون دائما متوسَّطا وغير قابل للقراءة مباشرة، فإنّها ليست ديانة باطنية. ليس هناك سرّ يتعلق بالله. هناك وحي ذو طابع إشكالي، وهو أمر جدّ مختلف، وغموض (في) الطبيعة وفي علم الله بالنسبة إلى العقل الإنساني. الفارق الدقيق ومهمّ. لقد استبعَدت المسيحية دائما الميل إلى الغُنوصية. لا تتمثل محدودية العقل في التحصين الموضوعي للحقيقي وإخفائه تحت حجاب غير قابل للهتك من قِبَل عامة العقول. إنّ القول بأنّ الكتب المقدّسة تقتضي قراءة متأنية لما يُعبّر عنه في ما وراء اللغة الإنسانية ليس هو نفس القول بأنّ لها معنى خفيا يتطلّب تقنية تلقينيّة للكشف (une technique initiatique de déchiffrement). إذا كان المعنى الروحي للنص المسيحي يطرح مشكلا، فإنّ من شأنه أن يكون مفهوما بواسطة المؤوِّلين المؤهَّلين وبمساعدة التقليد. ما يُبيّنه لنا الإسلام هو شيء من طبيعة أخرى. فلنا من جهة معنى واضح يجب القبول به، وهذا لا يعني أنّه لا يتطلّب اهتماما وتحوّطا ومعرفة واسعة. ويوجد في جانب آخر معنى سريّ تختصّ به فئة (تابعة) للإمام الغائب (une cléricature de l’Imam caché) أو يختصّ به المريدون في الفرق الصوفية. المسيحية، على العكس من ذلك، هي دين عمومي بالرغم من الثقل الذي يمثّله رجال الدين (الإكليروس) فيها. بطبيعة الحال قلّةٌ هم الذين لديهم سلطة المعنى ولكنّ دورهم هو إيصاله الى الشعب.

- بما أنّ الإسلام هو دين عقلنة مبدأ التوحيد فقد أعطى مكانة مهمة للفلسفة.

مارسيل غوشيه: ثمّة نزعة فلسفية في الإسلام. لقد صارت فكرة الله الواحد القادر على كلّ شيء، وهي ما يراد إبرازه من زاوية العقلانية الداخلية، موضوع نظر فلسفي مهم. وكان ثمة عدد كبير من المفكّرين المسلمين الذين عملوا على بلورتها. ولكن هذه الفلسفة التي هي ميتافيزيقا خالصة سرعان ما خبا نورها بعد توهّج رائع. ولذلك أسباب مرتبطة بالسياق، بسبب عدم تسامح الفقه وبسبب النزعة الحَرْفِية في قراءة النص، وقد مثّلا إمكانية أخرى كامنة في الوحي الإسلامي. ولكن من المحتمل أن تكون هناك أسباب داخلية وبإمكان المقارنة بالحالة المسيحية أن تساعد على فهمها. كان المحرّك في الحالة المسيحية هو الصراع المستمرّ بين الغموض والوضوح، بين العقل والإيمان، بين الاستقلالية والسلطة. الفكر المسيحي هو في الأصل إيمانيّ. والإيمان يناهض العقل، يتجاوزه ويُعيّن "ما وراء" لا يتلاءم مع حدود الذهن البشري. ولكن بتعميق الهوّة بين الأمور الإلهية والمجال الذي هو في متناول فهمنا، يتمكّن الفكر المسيحي من إظهار قطاع مستقل، نظام للعالم ينتمي إلى الحكمة الإلهية ولكنه في متناول فهمنا. يستطيع هذا الفهم تأمل العقل الإلهي انطلاقا من العقل الناظر في الطبيعة (العقل الإنساني). بقدر ما يتأكّد الإيمان في مجال ما وراء العقل، فإنّه يترك مكانة مهمة للعقل. إنّ النزعة الإرادية لأوكّامOccam [1] تقضي على التأليف الطوماوي[2] Synthèse thomiste بين الإيمان والعقل، وذلك في النهاية، من أجل فتح مجال الظواهر الطبيعية أمام العقل المعاصر.

الفكر الإسلامي عقلاني في مستوى مقدّماته، فهو يتناول الأمور الإلهية من منظور عقلانية جوهرية. ولكن هذا العقل يذهب نحو الإيمان، ويقود إلى التأمل الصوفي لمعطى الوحي. لا يعني ذلك عدم الاشتغال بالفلسفة، بل يعني أنّ الفلسفة تكتمل في ما هو أكثر منها وما يجعلها غير مجدية. توجد صياغات كثيرة مشابهة في الفلسفة المسيحية وفي المحصّلة، وهو المهم، هي العُدّة التي تُحيلها إلى عمل العقل بالرغم منها. ويمكن القول إنّ العُدّة تعمل بالنسبة إلى الفلسفة الإسلامية بحسب معنى مختلف. هذه الفلسفة مدفوعة نحو نزعة إيمانية صوفية ونحو هوّة الإلهي، بالرغم من ثقتها في العقل الإنساني.

- يقال إنّ اللاهوت والسياسة متطابقان في الإسلام؛ وذلك يعتبر حجّة على أنّ المسلمين غير قادرين على الدخول في الحداثة.

مارسيل غوشيه: لئن تضمّن هذا القول بعض الوجاهة، فهو خاطئ على الأقل من منظور سوسيولوجي: هناك فقهاء ورجال سلطة، وهما طرفان مختلفان. لا يوجد في القرآن ما يسمح بإقامة سلطة سياسية تكون في نفس الوقت سلطة دينية. بالعكس في حكم الكلام (Logocratie) كالذي أقامه الإسلام - حسب العبارة التي اقترحها جون بول شارني Jean Paul Charnay - لا يوجد مكان لسلطة يمكنها أن تزعم احتكار سلطة وحي هو في جوهره معطى للجميع. ما هو صحيح هو أنّه، بحسب نفس المنطق، لا توجد مأسسة مُمكنة لقوّة روحية منفصلة. وبالإضافة الى ذلك، يضطلع مختصّون وفقهاء وقضاة بمهمّة إظهار القانون، ولكنهم لا يمثلون سلطة مستقلّة فهم يبقون مشتّتين في المجتمع، وبالتالي معرّضين لتحكّم السلطة السياسية دون أن يكون لهذه الأخيرة نفوذ على الشأن الديني. إنّ الأنموذج الأسمى هو أنموذج سلطة واحدة تأمر جماعة المؤمنين في انسجام تام مع الأوامر الإلهية، وهو ما يتجلّى في صورة الخليفة. هذه الصورة توحّد أو بالأحرى تقرن بين "السلطة السياسية والسلطة الدينية"، ولكن بمعنى وبحسب نمط لا علاقة له بالمقولات المسيحية. يجب الحذر من إسقاط صورة الحبر الروماني. بالعكس يجب البداية بقياس حدود مفهوم "السلطة الدينية" الذي يتضمّنه حكم الكلام القرآني. لقد رسّخت ظروف قرون الإسلام الأولى وتوسّعه الحربي علوية السلطة السياسية بإخراجها، ولنقل ذلك، من الدين. بهذا المعنى، يقال بالعبارة المتداولة إنّ الإسلام هو دين وحكم (أو دين ودولة). ولكن هذه الوضعية لا تبدو وضعية انصهار الديني في السياسي، إلاّ إذا نُظر إليها من بعيد ومن خلال نظّارات خادعة.

ليست السلطة ممثلا لله. ولكن الله القدير الذي يتحكّم بالعالم يتحكّم أيضا بصورة غير مباشرة بالأمور السياسية. الله هو مصدر السلطات بالضرورة دون أن يعني ذلك أنّه يتقلّدها. لا توجد سلطة تقليدية لها مشروعية داخلية من جهة مصدرها وحائزة على الاعتراف. وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ دين القوّة الإلهية المطلقة هذا يحتوي على خميرة قوية للفوضى. يقود الإسلام إلى مجتمعات سياسية غير مستقرة ومتنازَعة. إنّ من يحكم إنّما يحكم باسم الله ويستمدّ مشروعيّة حكمه من الله وليس له أي مشروعية من ذاته، فالله هو الحافظ لمبدأ السلطة. وعندما يتمرّد معارض على الحاكم وينجح في إسقاطه، فإنّ انتصاره هو أيضا مُرادٌ من الله. إنّ لكلّ مشروعية أرضية هي، في هذا الإطار، هشّة بصورة نهائية قياسا، وبصورة متناقضة، للسلطة الغاشمة التي تُطالب بها. إنّ الخضوع الذي تطالب به السلطات لا يمنعها من أن تكون معرَّضَة باستمرار لمعارضة لها أيضا أسُسُها في الدين. ستتمّ صياغة هذا الوضع في نظرية الإمارة. على خلاف الخليفة، الأمير هو المغتصب الذي يحكم بالقوّة، إلاّ أنّه حاكم شرعيّ، لأنّ الله هو الذي أراد حكمه وإن بقي مع ذلك مغتصبا.

تظهر حالة المسيحيّة الغربية مختلفة؛ فهي تجعلنا نتابع ابتكار سلطة مقدّسة أي مشروعة تماما. لقد حصل التحوّل في القرن الثامن: السلطة المقدّسة، النظام السياسي هي المماثل أو المشاكل البنيوي لسلطة الوساطة الخاصة بالكنيسة. إنّها تستمدّ نفوذها المطلق من علاقتها بالمتعالي. بعبارة أخرى، تعترف الكنيسة بالملك كوسيط قُدُسي، وذلك دليل على أنّها تقدّسه.

إنّ بدايات التأسيس بسيطة وتحدث اتّفاقا، ولكنّها تستجيب لشيء عميق: ضرورة إيجاد شيء ثابت في عالم متغيّر. والكنيسة هي ذاتها بحاجة إلى الاستقرار الذي يمكن أن تحصل عليه بإضفاء القداسة على المشروعية التقليدية؛ ذلك ما لا يقبل به الإسلام. إنّه يهيّئ المشروعية، ولكنّه لا يستطيع أن يجعلها دينية، إنّها تبقى خارجية بصورة جذرية ورهينة لتحوّلات المجتمع. في حين أنّ السلطة الدينية في مسيحية الغرب تشمل السلطة السياسية من خلال القيمة المقدّسة التي تسندها للتراث الملكي. إنّ أنموذج التأسيس الملَكي موجود في التوراة، فقد كان لليهود ملوكٌ. وبهذه المَلَكيّة ستبتكر مسيحية العصر الوسيط المتقدّم أنموذجا جديدا للسلطة. في هذا الأنموذج، يعترف بالخارجية بمعنى أنّ الكنيسة لا "تُعيّن" السلطات، بل تقدّسها وهكذا ستصنع سلطة قويّة تماما، سلطة مسيحيّة مشروعة يمكنها أن تطالب بالأولوية في علاقتها بالكنيسة نفسها. إنّ ذلك لأمر فريد وحاسم في تاريخنا.

يجب أن يطرح الآن المشكل المتعلّق بالعلاقة بين الإسلام والديمقراطية. ليس السؤال هو معرفة ما إذا كانت النظرة الإسلامية للديني والسياسي تدفع بصورة عفوية نحو الفصل بين النظامين على مستوى المؤسّسات. يمكننا الإقرار بأنّ تطوّرا داخليا كان غير محتمل في أرض الإسلام، ليس بسبب الوحدة المفترَضة بين الديني والسياسي، بل بسبب طريقة فهم انفصالهما. يوجد السؤال الحقيقي من الآن فصاعدا في نطاق آخر. إنّه سؤال المصادر التي يحتوي عليها الإسلام لكي يتلاءم مع حداثة سياسية تكوّنت خارجه. لا أرى أنّه يوجد عدم تلاؤم لاهوتي مبدئيّ بين الإسلام والديمقراطية. ويبدو لي أنّه بالإمكان أن نكوّن بيُسرٍ وفي العمق نظرة عن الديمقراطية الإسلامية. وهناك، في المقابل، صعوبة بالنسبة إلى العالم غير الغربيّ تتعلّق باستيعاب نسق من القواعد مصدره الخارج، وهي صعوبة عويصة بصورة خاصة بسبب اعتزاز المؤمنين بـ "خاتم النبوة". وهناك أيضا ما هو أهمّ؛ أي التجذّر الاجتماعي للمشروعية الانتخابية، وهو أمر ليس معروفا في تاريخ المجتمعات الإسلامية. إنّ المركزية الأوروبية هي الاستشاري في هذا المجال لكأنّ مسارات امتدت لقرون عندنا يمكنها أن تتحقق بمعجزة في مجتمعات هي مطالَبَة من الخارج بأن تغيّر اتجاهها ضدّ تقاليدها.


 

* هذا العنوان من وضع المترجم

** المصدر:

Marcel Gauchet, La condition historique, (Paris: Gallimard, «coll. folio», 2003), pp. 150-165

[1]ـ نسبة إلى الفيلسوف الإنجليزي غيوم دوكام (Guillaume d’Ockham) (1285 ـ 1347). وقد رمت الكنيسة مذهبه بالهرطقة لأنّه نقد المبادئ الإيمانيّة التي قام عليها اللاهوت الكنسي (المترجم).

[2]ـ الطوميّة (Thomisme) مذهب فلسفي يستند مرجعيّا إلى توماس الإكويني (1225 ـ 1274). ومن أبرز مقالات هذا المذهب أنّ بإمكان الإنسان إدراك وجود الإله من خلال التأمّل في الموجودات والأشياء المرئيّة (المترجم).