الإسلاميون: مستقبل وهم؟


فئة :  مقالات

الإسلاميون: مستقبل وهم؟

سئلت زوجة الزعيم التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة، في أوائل الثمانينيات من القرن المنصرم، بينما كانت الحركة الإسلامية التونسية تواجه أولى محنها مع النظام، عن رأيها في هذه الحركة، فأجابت بما أدهش سائلَها قائلة: "ماذا عساك تفعل لو أن بعض أبنائك انخرط في ما اعتقد أنه عمل في سبيل الله".

إن أوّل ما تشير إليه هذه الإجابة هو رفض ما انساقت فيه نخب عربية حاكمة ومثقفة من ضرورة قمع مخالفيهم الذين يرفعون عقيدتهم باسم قيم ومرجعية يعدها الحكّام حكرًا لهم يدعمون بها شرعيّتهم. وتثبت هذه الإجابة كذلك أنْ لا صلة لمفهوم «السياسة»، في الفضاء العربي، بالمعقول، فلا غرابة ألاّ تُدرس الظاهرات المجتمعية ولا يعتَدّ بها فضلاً عن أن ينبني عليها توجّه سياسي مغاير. لذلك، فإنّ السياسة حين تغادر حقول المعقول تغدو امتيازًا تنفرد به خاصة الخاصة التي تنقطع بها السبل عمّا يحيط بها فلا تُلقي بالاً لما يعتمل خارج دوائرها المعروفة والخاصة. من ثمّ يصبح سرّ الحكم، كما قيل، أن يكون الحكم سريّاً فلا يرقى إلى فهمه أو صنعه عمومُ الناس، لا غرو عندئذ ألا يحرص الحاكم على تعليل فعله وإبانة دوافعه وأهدافه. إنّه لا يرى جدوى من الإنصات إلى «عامّته» وإشراكهم في القرار، لأن الحكم في تقديره شأن خاصّ.

ومن أهم ما يبدو في هذه الإجابة الأولى هو أنها في تصوّرها للظاهرة الإسلامية اقتصرت على الإمساك بجزء بسيط من دلالتها، متغافلة عن أجزاء أشدّ أهمية. لقد كان احتجاج الإسلاميين في تونس، في قسمه الأهمّ، متعلقاً بطبيعة نظام الحكم الفردي، وبالتحديث التعسّفي الذي شمل الحياة الاجتماعية وبانسلاخه عن جملة من القيم والمعاني الثقافية والدينية. ومما تبرزه هذه الإجابة هو اعتبار ظاهرة «الإسلام الحركي» غير ذات صلة بالإشكال السياسيّ، فلا تحتاج إلى درس أو حوار، لأنها «حماسة إيمانية» أقرب إلى نزق الشباب. وكانت جهات تونسية أخرى، في الوقت ذاته، تنظر بكثير من التوجّس إلى تلك الحركة الناشئة، فلم ترد أن ترى منها إلا أنها صنيعة من صنائع النظام الحاكم اختلقها لمواجهة التيار اليساري وتقليص أهميته، في صفوف طلبة الجامعة خاصة.

لذلك، لم يُمسك عدد من المنظّرين اليساريين المعتمدين عادة على آليات تحليل اجتماعي وتاريخي بأهم ما في تلك الظاهرة، فلم يقفوا على أهم ما تعبّر عنه في مرحلة أولية من نموّها. لقد انساقوا في نوع من التفسير التآمري وخلطوا بين ما يمكن أن يكون قد استفاده النظام من تلك الظاهرة وبين طبيعتها وأبعادها. ولا نلمس هنا توقّعًا لأيّ مستقبل حقيقيّ لهذه الحركة التي بدت أقرب إلى الوهم الكبير؛ وَهْمِ التصدّي للعقلانية الحديثة باسم معتقد ديني.

هاتان مقاربتان كانتا، منذ ثلث قرن، تعبّران عن رفض نخب عربية مثقفة وحاكمة لظاهرة قلّما وقعت استساغتها سياسيًا لراديكاليتها الحالمة والعاملة على تغيير عالمها كليًّا عبر مراجعة التحديث المفروض من الدولة والمدعوم بقسم من النخب. واليوم بعد أن تغيّر المشهد كليًّا، و بعد أن أضحت «الحركات الأصولية أو الراديكالية» متجاوزة لقطر أو منطقة، و بعد أن خرجت من حدود الاحتجاج لتكون شريكة في الحكم أو على مشارفه، فإن السؤال المطروح هو: لماذا تظل مع ذلك مفزِعة لأكثر من جهة؟ و لماذا لم يفدها توسّعها في تحديد طبيعتها بعيدًا عما يردده البعض من أنها وهم أو أنه مجرد تصرف طائش لا مستقبل له؟

لو غادرنا مجالنا الوطني لوجدنا مقاربات مغايرة في تفسير الظاهرة؛ الأولى نستخرجها من جواب وزير دفاع أمريكي سابق عن سؤال طُرح عليه متعلّقٍ بالظاهرة وأسبابها، إذ لم يتردد في القول بأنه لا يعتني بالإجابة عن سؤال: «لماذا» هذه الظاهرة المهدّدة لأمن الولايات المتحدة وللعالَم؟ وما يشغله هو القضاء عليها؛ فالأهمّ هو معرفة «كيف» تعمل عناصرها؟ وكيف تجمع الأموال والسلاح؟ وأين ينبغي أن تكون مواجهتها؟

لا يختلف جوهر هذه المقاربة نوعيًا عن تشخيص بعض اليساريين العرب المتطرفين الذين رأوا أنهم يواجهون في الراديكالية الأصولية إجرامًا لا يستحقّ إلا الاجتثاث، وهنا أيضًا لا معنى للسؤال: «لماذا» هذه الظاهرة؟ ولا فائدة تُرجى منه لأنّه لا حلّ إلاّ باستئصال "الوهم الخطير".

يرى الأميركي "جون إسبوزيتو" أستاذ الأديان والعلاقات الدولية في جامعة «جورج تاون»، في الجانب الآخر من المشهد الثقافي السياسي، أن الأصولية الإسلامية مصطلح غير دقيق، لأنه لا يصدق إلاّ في سياق مسيحيّ، إنّه لا يحيط بما يعتمل من حراك فكريّ واجتماعي وديني في العالم العربي الإسلامي، وهو تعبير مضلّل، لأنه لا يتّصل بأسباب تنامي الظاهرة وبجملة العوامل الثقافية والدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ولدتها داخليًا، وقد ولدت ظواهر أخرى خارجياً أولّها إخفاق الأنظمة العربية في مواجهة التوسع الصهيوني، وآخرها فقدان الغرب كل مصداقية سياسية وتنموية وقِيَميّة لدى عموم المجتمعات والنخب الصاعدة. ويلخّص إسبوزيتو في النهاية طبيعة هذه الحركية «الراديكالية» في كونها تسعى للإجابة عن سؤالين رئيسين هما: أيّة مؤسسات للعالم الإسلامي المعاصر؟ وأيّ معنى ينبغي اعتماده اليوم للشريعة؟

المعالجة الثالثة من الغرب لـ"برونو إيتيان" أحد المتخصصين في الشأن الإسلامي، سئل عن الموضوع ذاته في بعده العالمي، فأجاب محيلاً إلى القول المنسوب إلى المفكّر والأديب الفرنسي أندري مالرو (1901-1976). استشهد إيتيان بقولة مالرو الشهيرة التي تنصّ على «أن القرن الحادي والعشرين سيكون قرن تديّن بامتياز». كان له بعد ذلك تفسير وتعليق، إذ وضّح أن "القول النبوءة" تحدّثت عن عودة للروح» (spiritualité) ولم تذكر «التديّن (religiosité)، ما أراده مدير مرصد الشأن الديني في جنوب فرنسا من خلال تمييزه بين الروحي والديني هو ضرورة التفريق بين المجالين، على الرغم من تقاطعهما في علاقتهما بالتوق الإنساني إلى المتعالي، ذلك أن حقل "الديني" في السياق التاريخي الغربي بعامة والفرنسي بخاصة ملتصق بالجانب الطقوسي الكنسي الموصول بنمط اجتماعي ثابت، بينما يفيد «الروحي» التحرّرَ من الضوابط المؤسساتية الجماعية. وما يراه الباحث الاجتماعي المعجب بتأملات الأمير عبدالقادر الجزائري الصوفية هو أن عنفوان الظاهرة الدينية في سياقها العالمي المعاصر مستمدّ من النزعة المادية الجامحة التي هيمنت طوال القرن العشرين، تلك الهيمنة هي التي أفضت إلى بحث عن المعنى، وعبّرت عن ضرورة مراجعات جوهرية أكثر من أيّة حاجة إلى وثوقية عقدية متلبّسة بمنظومة طقوسية تكرّس أوضاعاً اجتماعية عفّى عليها الزمن.

إن أهمّ ما في قراءة «إيتيان» إعراضها عن اعتبار الظاهرة خطرًا أو وهمًا، إنّه إقرار بأنّ موجة التديّن في العالم روحانية أساسًا، تكشف عن درجة من الوعي الموضوعي بأزمة الحضارة؛ فهي سعي إلى صيَغٍ من الفعل يسكب فيها الباحثون عن الحريّة والعدل استشعارهم لروح العصر الجديد ومتطلباته بعيدًا عن التعابير الدينية والاجتماعية التقليدية.

ورابعة المقاربات للفيلسوف الألماني المعاصر "يورغن هابرماس" الذي أبرز في حوار له عن "الإرهاب ودلالاته" أنّ راديكالية الأصوليين الإسلاميين "تمرّدٌ عاجزٌ" يواجه به أصحابه عدوًّا غاشمًا لا يمكنهم التغلّب عليه، وأنّ أهمّ ما يميّز حركة هؤلاء أمران: الأول هو "افتقارهم لأهداف واقعية، وقدرتهم على الاستفادة من مواقع الهشاشة في المنظومة المعقّدة للحضارة العصرية". ويواصل هابرماس بعد ذلك تحليله للمسألة عبر شرحه مأزق الحضارة بما تحمله من عنف بنيوي تصاعدي ناجم عن قصور في الفعل التواصلي.

إن ما يعنينا من هذا التحليل هو أن فيلسوف «إيتيقيا التواصل» لم يرَ في الراديكالية الإسـلامية إلا إحدى نتائج الإخلال التواصلي بين الأطـراف الأقوى وبين الأطراف الأضعف في المستوى الدولي. ظاهرة الراديكالية إذن، عارض من عوارض أزمة الأخلاق والحوار في الفكر الغربي، وعليه فمقولة "صراع الثقافات" ليست إلاّ تستّرًا على المصالح الماديّة الغربية في سعيها للتصرّف المطلق في ثروات النفط والطاقة في العالَم. في منظور هابرماس، الراديكاليون ليسوا سوى ضحايا "معقولية تقنية استراتيجية لم تتغير منذ عهد الاستعمار"، إنهم لا يضيفون شيئًا إلى الفيلسوف الذي لم يفقد الثقة في العقل وفي الدور الاجتماعي للفلسفة. قصارى قيمة ردّ فعل الراديكاليين هو تدعيم مهمّة الفـلسفة المطالبة ببناء مشروع إنساني يتجاوز المركزية الثقافية الغربية.

تنظر هذه النماذج على اختلافها إلى الحراك الإسلامي على أنّه حالة عابرة، هي في أسوأ الأحوال، خطر ينبغي استئصاله، وفي أفضلها إرهاص لحركة مراجعة وتجديد عرفتها من قبل الديانتين: اليهودية والمسيحية. لكن هذا الاختلاف على أهميّته ينبغي ألاّ ينسينا ما اتفقت عليه جملة هذه المقاربات ضمنيًا، من أننا أمام حركة يمكن أن يفهم البعض دوافعَ غيظها واحتجاجها، لكنها لا تحمل عناصر مستقبل حقيقيّ، لأنها لمّا تنشئ بعدُ خطابًا عقلانيًا معاصرًا تنفتح به على مجتمعاتها وعلى العالَم.

إنّ الحركية الإسلامية منظورًا إليها بعيون خارجية تبدو غير حاملة للهمّ الإنساني فكرًا وثقافةً، هي في أفضل الحالات كالمِسَنِّ تشحذ ولا تقطع، تحسن مخاطبة ذاتها مكرّرة في سرّها عبارة: "إنما نُصِرْتُ بالرعب" مقتطعة من سياقها. إنّها لا يمكن أن تحجز نفسها بمنأى عن مراتع الاستبداد أو الفوضى إلاّ إذا وضعت شروط مشروع تجديدي يقوم على الارتفاع الفكريّ إلى مستوى الأحداث الإنسانية و ما تستدعيه من وعي و فاعلية.