الإعلام تنمية


فئة :  مقالات

الإعلام تنمية

تعد العلاقة بين التنمية والإعلام، علاقة ثابتة ومقررة في الدراسات الأكاديمية الكمية الصرفة، وفي الدراسات النوعية الخالصة، سواء تعلق الأمر بالحوامل والأعتدة، أو بالمحتويات، أو بالبنى التحتية، أو بالمضامين المروجة. فكلما كانت الأعتدة والبنى متوفرة وناجعة، والشبكات واسعة ومنتشرة، وسبل البلوغ للمعلومات والمعطيات والبيانات مضمونة ومكفولة بالشكل والمضمون، ضمن ذلك سريانًا لها بين مستويات الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، وكلما كانت القيمة المضافة المتأتية من ذلك معتبرة، أعني من شأنها أن تسهم في مداخل الإنتاج وتستنبت من بين ظهرانيها عناصر النمو الكمي، ومقومات التنمية النوعية.

تم وضع هذا الاستنتاج في نماذج، منذ عقود، بالنسبة لشبكات الاتصالات، والإذاعة والتلفزة، وبالنسبة للشبكات الإلكترونية وما سواها في السنين الأخيرة، ناهيك عن المجالات الأخرى، كالنشر والتوزيع والطبع المتعلقة بسوق الكتاب والأقراص والموسوعات، وغيرها مما يقاس على ذلك، ناهيك عن الاجتهادات التي طاولت الإنترنت من مدة ليست بالبعيدة، وأبانت عن صدقية ذات الاستنتاج شكلاً ومضمونًا.

ومفاد هذه النماذج، القول إن توفر بنى قارة وواسعة وناجعة ومنتشرة بكل أطراف المجال الجغرافي، من شأنها، ليس رفد سبل النمو القطاعية وتوفير الأدوات للرفع من المردودية والإنتاجية فحسب، بل من شأنها خلق نسقية بالأطر الإنتاجية كذلك، وتوفير الإمكانات للفاعلين في ذات الأطر، لتمثل دور الإعلام والمعلومات والاتصال في التنمية في بعدها الكمي الصرف، كما في تعقيداتها المجتمعية المتعددة، أعني في أدوات ترجمتها على أرض الواقع بكل الميادين.

تعد العلاقة بين الإعلام والتنمية تكاملية بامتياز؛ فلا تنمية بدون وسائل إعلام تضمن سريانًا سليمًا للمعلومات، ولا إعلام بغياب تنمية حقيقة، يكون رافدًا لها ضمن باقي الروافد، ولا نموذج لحالة في التنمية إذا لم يكن الإعلام والمعلومات حامل لوائها، والضامن لصيرورتها، والمجسم لتمظهراتها بالشكل والجوهر. كما أنها علاقة نسقية من أكثر من زاوية، إذ كلما تحققت التنمية وارتفع منسوب الوعي، ازدادت الحاجة للمعلومات، وتقوت أشكال التعبير بالحوامل الإعلامية، واتسع نطاق ذات الأشكال بالفضاءات الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وما سواها.

والإعلام المقصود هنا لا يقتصر على البنى التحتية أو على التكنولوجيا الحاملة، أو الموارد المادية الملازمة لذلك، إنه يتعداها ليطال المضامين المروجة، والمحتويات الموفرة، والمعطيات والبيانات والبرامج التي تقتني البنى ذاتها، تجسمها وتعطيها القيمة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي لا تعبر عنها البنى والأدوات ذاتها، إن هي بقيت مفتقرة للمادة المفروض تمريرها ونشرها.

وعليه فإن العنصرين معًا، أقصد عنصرا التنمية والإعلام، إنما هما عنصران متلازمان، لا يستقيم أحدهما دون الآخر، ولا يستقيم في إغفاله أو إقصائه، أو في التجاوز عن عطائه. ومن هنا، فإنهما يستوجبان مستوى معينًا من الحرية، ومنسوبًا محددًا من التشاركية في الزمان والمكان، تفتح لهما في الآفاق، وتدفع بهما إلى أقصى مدى ممكن، أعني إلى التنمية لا كنمو كمي فحسب، بل كتحول في بنى الإنتاج والتراكم والاستهلاك. فلا تنمية بدون حرية؛ أي بدون تشاركية في الزمان، ولا حرية بدون تنمية في الفضاء والمكان؛ أي تنمية عامة، يفيد منها المواطن كائنة ما تكن وضعيته، وأينما يكن تموقعه الجغرافي والفضائي أو ما سواه.

إذا لم يكن بد للتنمية من حرية، وللحرية من تنمية، فإنه لا يمكن تصور تنمية أو إعلام بدون ديموقراطية؛ أي بدون حالة سياسية تضمن للغالبية من الناس الإسهام في صناعة القرار، بالكلمة المباشرة، ثم بالفعل المباشر، ثم بالحق في تحديد أولويات التنمية، وتقرير مساراتها عند كل عملية تقييم. من هذه الزاوية، فإننا لسنا ضمن المؤمنين بالتقسيمات التي غالبًا ما يضعها البعض، للتأشير على وجود نوع من الإعلام ذي طبيعة تنموية، وآخر ذي طبيعة إخبارية أو ثقافية، وثالث ذي صبغة ترفيهية، وما سواها. والإعلام في البداية وبالمحصلة تنمية، يقوم الإعلام إياه على مواكبتها وتزكيتها، فيجند لها الكفاءات والموارد، ويحذر من الانزلاقات التي قد تعترضها، أو تحد من المجال المطلوب إدراكه من لدنها.

والتنمية، في الآن ذاته، لا تكون تنمية إلا إذا كانت شاملة لكل المجالات بما فيها الإعلام، بنى ومحتويات؛ أي إذا لم تكن عامة تطاول الفرد والجماعة، ويمس مفعولها الإيجابي القاطن في البادية، كما المحتمي بميزات ومميزات التمدن والتحضر. والعنصران، في الوقت ذاته، يسيران معًا، وجنبًا إلى جنب، بدليل أن الدول المتقدمة صناعيًا هي التي يتوفر بها إعلام حر وشفاف وغير خاضع لرقابة هذه الجهة أو تلك، لا بل تفتح له القوانين سبل البلوغ والنفاذ لقواعد المعطيات وبنوك البيانات، دونما رقابة مسبقة، أو حجر أو تمييز.

عندما يقول أمارتيا صان، إن التنمية حرية، فهو إنما يقصد القول بأن أسس ذات التنمية تفترض تشاركية في المكان والزمان؛ أي العمل على إشراك الجماهير في تحديد طبيعة التنمية المبتغاة، ووسائل إدراك ذات التنمية، ثم الإفادة منها من لدن أكبر عدد ممكن. إنه بقوله هذا، لا يحيل على التنمية مخرجاتٍ وسلعٍ وخدماتٍ فحسب، بل إنه يحيل عليها كنمطً حكامة وتدبير للشأن العام، وتجسيد لمبدأ الحرية فعلاً، لا الحرية إجراءات في الدساتير أو اللوائح والتشريعات.

كل هذا للتأشير على أن المراهنة على التنمية بمدن إعلامية حرة مثلاً، كما الحال ببعض الدول العربية، إنما هي مراهنة أثبتت فشلها، لأنه من غير الممكن أن نفرز جغرافيات متقدمة بفضاء واسع، ملؤه التخلف وتردي الأوضاع. ولا يمكن إفراز تنمية شاملة، في ظل إعلام متقوقع بهذا المجال الجغرافي أو ذاك، أو محاصر بهذا القانون أو ذاك. إن الإعلام تنمية، وإن فصلته عن ذات الحقيقة، فكأنما تفصله عن ذاته؛ أعني تفصله عن جسده وعن روحه