الإنسان مركّبًا


فئة :  مقالات

الإنسان مركّبًا

الإنسان مركّبًا

هشام الكردوسي

التركيب فكرة قديمة لكنها ظهرت كحركة في القرن التاسع عشر بين الحربين العالميتين، ظهرت بمفهوم ما يسمى البنيوية Structuralism؛ والبنيوية تعني في أبسط معانيها بأن البنية: "تحمل _ أولًا وقبل كل شيء _ طابع النسق أو النظام؛ فالبنية تتألف من عناصر يكون من شأن أي تحول يعرض للواحد منها، أن يحدث تحولًا في باقي العناصر الأخرى"(1). وبذلك، تهدف البنية إلى الوصول إلى جوهر أو أساس العلاقة الباطنية أو الداخلية للنسق، فهي طريقة لرؤية العالم أو الأشياء بعمق وشمول وتكامل مشيرة إلى الكيفية التي يُشيد عليها هذا البناء. وقد دخلت البنيوية في مجالات عدة، مثل الأحياء واللغة والأدب والفلسفة ومجموعة من العلوم الأخرى.

فالبنيوية هي نظام أو نسق من المعقولية؛ فليست البنية هي الشيء أو هيكله أو وحدته المادية أو التصميم الكلي الذي يربط أجزاءه فحسب، وإنما هي أيضًا القانون الذي يفسر تكوين الشيء ومعقوليته. وبعبارة أخرى، يمكننا القول إن البنيويين حيثما يبحثون عن بينة هذا الشيء أو ذاك، فإنهم لا يتوقفون عن المعنى التجريبي الذي يضعه الواقع بين أيدينا _ على نحو مباشر _ وكأن كل ما يهمهم هو الوصول إلى إدراك العلاقات المادية الظاهرية التي تحقق الترابط بين عناصر المجموعة الواحدة، بل إنهم يهدفون، أولًا وقبل كل شي، إلى الكشف عن النسق العقلي الذي يزودنا بتفسير للعمليات الجارية في نطاق مجموعة بعينها(2). لكن السؤال الذي نطرحه هنا: هل يمكن اعتبار الإنسان (الفرد) نسقًا في حد ذاته؟ أي إنه ذو تركيب بنيوي يمكن تشريحه؟ أو بمعنى آخر، هل يمكن رد العلاقات الداخلية للإنسان إلى مجموعة من العلاقات المنطقية باعتباره نموذجًا بنيويًا عقلانيًا؟ والمقصود بالطبع هنا في السؤالين ليس التركيب المادي له، بل التركيب المعنوي للإنسان.

في البداية، نشير إلى أن الإنسان كبنية أو كتركيب لا يمكن أن يوجد إلا حيث توجد لغة له؛ لأن لكل بنية لغتها الخاصة التي تعبر عنها، حتى وإن كانت تلك البنية شيء مادي. فالفرد لا يعيش في عالم النشاط الاجتماعي فقط، كما يفهم في العادة، بل يقع تحت رحمة اللغة التي أصبحت وسطًا للتعبير في المجتمع الذي يعيشون فيه. فاللغة قادرة على نقل التصور الداخلي للفرد إلى بناء تصورات خارجية في المجتمع. واللغة تحمل أهم سمة من سمات البنية لدى الفرد، وهي العلاقات القائمة بين اللغة نفسها، وبينها وبين تلك التصورات الذهنية المُعبر عنها بتلك اللغة؛ أي عمليات التأليف والتكوين للتركيب الإنساني.

ويمكن القول إن هناك تمييزًا بين مستويين كبيرين: اللغة Langue والكلام Parole؛ فاللغة هي القوانين والأنظمة العامة التي تحكم إنتاج الكلام دون أن توجد جميعًا إلا بوصفها بُنى في كتب اللغة. إنها السلطة التجريدية المشاعة التي يستمد الكلام منها اختياراته الفعلية. أما الكلام، فهو التطبيق الفعلي لهذه القوانين والقواعد، هو محاولة كل متعلم أن ينسجم في داخل مؤسسة اللغة الكبيرة بفعل فردي. اللغة منظومة اجتماعية لا شعورية، والكلام اختيار فردي مقصود. اللغة ذات وجود عيني يخضع للدراسة والتصنيف. أما الكلام، فهو مستوى اللغة المشخص الذي يبدو عصيًا على الدراسة في ضوء اللغة نفسها(3). وبذلك تكون اللغة خالقة للتصورات كنظام رمزي ومنتجة للكلمات، حتى وإن لم يستخدم الفرد تلك اللغة اجتماعيا. والمفارقة أن اللغة هي نظام بنيوي لكنها في نفس الوقت تدخل كتركيب في بنية الفرد الداخلية.

أضاف رينيه ديكارت في مفتتح "مقاله عن المنهج" العقل كعنصر يدخل في تركيب الفرد والذي يحظى به اشتراك الجميع فيه، مضيفًا إليه الذات المفكرة التي لا يستطيع اللاأدريون زعزعتها على حد قوله: "أنا أفكر إذن أنا موجود". لكن هذا ليس معناه أن الشك واليقين عناصر أيضًا في بنية الفرد؛ فهم ليسوا كذلك لأن الذات المفكرة من عملها التفكير في الشك واليقين على حد سواء. وبذلك تكون النفس وهي الآنية التي "أنا بها" متمايزة تمام التمايز عن البدن لدى ديكارت، فهي عنصر بنيوي صرف يدخل في تركيب الإنسان. أضف إلى ذلك، بعض العناصر البنيوية لدى الإنسان تستتبع بالضرورة الذات المفكرة، حيث يقول في كتابه تأملات في الفلسفة الأولى:

"أي شيء أنا؟ أنا شيء يفكر، وما هو الشيء الذي يفكر؟ هو شيء يشك، ويدرك، ويفهم، ويثبت، وينفي، ويريد، ويرفض، ويتخيل أيضًا، ويحس"(4). ونجد هنا الشك كعنصر وضعه ديكارت في كتابه التأملات، لكننا نرى أنه وضع الحالة النفسية التي كان يعيشها في ذلك الوقت والتي أسندها إلى خدعة الحواس والشيطان المضلل، وما ذلك إلا وسيلة لإثبات الذات المفكرة من خلال ما أطلق عليه عبارات الوضوح والتميز. كما أنه يحاول إثبات النفس التي نعتبرها عادة موجودة صميم الفرد الدائم نسبيا بدعوى أن هناك في كل لحظة من لحظات الوعي شيئاً بالضرورة

إذن تلك العناصر التي وضعها ديكارت كعناصر تدخل في تركيب الفرد، والتي تحدث عنها بصيغة الأنا، يمكن الحديث عنها بصيغة جمعية؛ أي نحن نفكر ونقول. وهذا يعد عودة إلى تجربة الوعي الذاتي لكل منا؛ لأنها بنية يمكن إظهارها لدى الجميع. فأنا بنية وأستطيع إظهار تلك البنية. ويمكن القول إنه في الأصل قامت البنية على مرجع فلسفة الذات؛ لأن هذه العناصر البنيوية بها علاقات ووظائف مع بعضها البعض تحكم الذات، والتي قائمة أيضًا على علاقة مع بنية العالم الخارجي الذي أُقيم بكفالة إلهية لدى ديكارت.

أما شوبنهاور، فأضاف الإرادة كعنصر بنيوي للفرد، فالإرادة لدى شوبنهاور هي شيء في ذاته، وبالتالي خارجي على الزمان والمكان، وهي منفصلة عن ظاهراتها، فلا تعرف الكثرة، فهي إذن واحدة، ولكنها ليست واحدة كما يكون الفرد واحدًا أو التصور واحدًا، ولكنها واحدة كشيء يكون مبدأ الفردية ــــ وهو شرط الكثرة ــــ غريبًا عنه. وكثرة الأشياء التي تؤلف بالنسبة إليها موضوعيتها لا تمسها في شيء، وإنما تظل الإرادة غير منقسمة، فلا يكمن منها في الحجر جزء ضئيل، بينما يكمن في الفرد منها جزء كبير(5). فالإرادة ليست تركيب بنيوي في حد ذاتها لكنها عنصر بنيوي في تركيب الفرد وبما أن الإرادة وحدة متحققة في بنيوية الإنسان، فهي بالتالي تتحقق في الأفراد جميعًا.

من الناحية الدينية، كمثال، لدى العقيدة الإسلامية نجد من الراجح أن النفس أقرب إلى الطبع أو القوة الحيوية التي تشمل الإرادة كما تشمل الغريزة، وتعمل واعية كما تعمل غير واعية. وتأتي في مواضعها من الآيات الكثيرة مرادفة للقوة التي يدركها النوم، والقوة التي يزهقها القتل، والقوة التي تحس النعمة والعذاب، وتلهم الفجور والتقوى، وتحاسب على ما تعمل من حسنة وسيئة؛ فهي القوة التي تعمل وتريد مهتدية بهدي العقل، أو منقادة لنوازع الطبع والهوى، وتوضع لها الموازين القسط يوم القيامة(6). فالنفس في العقيدة الدينية توازي الإرادة لدى شوبنهاور. فكما النفس واحدة بذاتها متكثرة بصفاتها كذلك كانت الإرادة لدى شوبنهاور واحدة فردية لكنها متكثرة أيضًا، وشرط الكثرة غريبًا عن تلك الإرادة. وكلاهما عنصرًا بنيويًا في تركيب الفرد.

النموذج الرابع هنا هم الوجوديين الذين رأوا أن بنية الإنسان تتكون من الذات التي تخلق ماهيتها بعد وجودها، وأن الوجود يملي بعض العناصر في تركيبة الإنسان وأولها القلق: يقول جان بول سارتر: "إن الوجود يعلن صراحة أن الإنسان يحيا في قلق ويكابد القلق"(7). وبما أن القلق شعور داخلي يشارك عنصر الذات المفكرة وعنصر الإرادة والنفس المرتبطة بالروح فإنه يدخل في بنية الإنسان. فالوجودية رأت أن المشاعر ككل (كمفهوم فلسفي) لها مكانة في النسيج الكلي للوجود البشري.. فالمشاعر ترتبط ارتباطا وثيقًا بالجسد وأحواله المتغيرة، فعندما يغضب الإنسان نلاحظ عليه أعراضًا جسمية(8). هذه المشاعر يمكن تجريدها كتجريد العقل الخالص من قبل لدى كانط لكنها تدخل في سياقات حياتية مع العالم الخارجي؛ أي الوجود. وبالتالي تشكل عنصرًا أساسيًا في تركيب بنية الإنسان.

إذن العناصر البنيوية التي تدخل في تركيب الإنسان كفرد، والتي تظهر خارجيا من خلال الصفات الشخصية يمكن إبرازها بتلك المقارنة مع لعبة الشطرنج. ففي حالة الشطرنج، من السهل نسبيًا التمييز بين ما هو خارجي وما هو داخلي. حقيقة أن الشطرنج أتى من بلاد فارس إلى أوروبا هي حقيقة خارجية، في حين أن كل ما يتعلق بالنظام وقواعده هو حقيقة داخلية. إذا تم استبدال القطع المصنوعة من العاج بقطع مصنوعة من الخشب، فلن يحدث هذا التغيير فرقًا في النظام. ولكن إذا قل عدد القطع أو زاد، فهذا تغيير يؤثر بعمق على قواعد اللعبة(9).

هكذا، بشكل مبسط، الإنسان في تركيبه البنيوي (كفرد) تظهر عليه خارجيًا أثر عناصر بنيته في تفاعلها الداخلي؛ تظهر بنسب متفاوتة وبتجارب متباينة حسب حدة العلاقات التي تتجاوب مع الواقع الخارجي الذي يعيشه الإنسان. هذه العناصر (بنيويًا) لا يمكن رقمنتها أو تأطيرها، لكن كل منها يُشكل وحدة ذاتية داخليًا تدخل في علاقة مع الأخرى، وجميعهم يدخلون في علاقة مع العالم الخارجي. هكذا يكون الإنسان مركبًا.

 

هوامش المقال:

(1)       زكريا إبراهيم: مشكلة البنية، مكتبة مصر للنشر، 1990، ص 31

(2)       زكريا إبراهيم: المرجع السابق، ص 29-30

(3)       سعيد الغانمي: البنيوية (الأصول اللغوية والمعنى الفلسفي)، مجلة الأقلام، ع 7، 1 يوليو 1988، ص 65

(4)       رينيه ديكارت: التأملات في الفلسفة الأولى، ترجمة/ عثمان أمين، المركز القومي للترجمة، 2009، ص 101

(5)       فؤاد كامل: الفرد في فلسفة شوبنهاور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1991، ص 16

(6)       عباس محمود العقاد: الإنسان في القرآن الكريم، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، ص28

(7)       جان بول سارتر: الوجودية مذهب إنساني، ترجمة/ عبد المنعم حنفي، مطبعة الدار المصرية، الطبعة الأولى، 1964، ص 18

(8)       جون ماكوري: الوجودية، ترجمة/ إمام عبد الفتاح إمام، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت، 1982، ص 137

(9)       Ferdinand de Saussure: Course in General Linguistics, Translated/ Roy Harris, Bloomsbury Academic; Reprint edition (December 12, 2013). p.62