الإنسان وتفتيق عبقرية المكان


فئة :  مقالات

الإنسان وتفتيق عبقرية المكان

ترك المؤمنون الأوائل مكة رغم تعلقهم بها، كما هاجر من قبلهم إبراهيم الخليل عليه السلام من أرضه لما ضاقت به، أو ضاق به أهلها. وبعودة المؤمنين مع الرسول الخاتم عليه الصلاة والسلام بعد الهجرة إلى مكة فاتحين طُهّر المكان الذي أسس له الخليل من قبل، ليكون بلدًا آمنًا بما يتحقق فيه من حرية وكرامة وتوحيد، فتبدو "مكة المكرمة" هي مجال نموذجي تتجلى فيه قدسية المكان في أصدق تعبيراتها، وذلك بالحراك الذي تكتنزه تلك البقاع، وبخصوصية القيم التي تصنع ذلك الحراك. هذا الحراك الذي أتاحه سياق تاريخي ممتد ركّزته الرسالة الخاتمة بفضل عقيدة التوحيد وبفضل المسعى إلى الحق والحرية الذي أسسه إبراهيم الخليل.

ولمزيدٍ من التمحيص لهذه المسألة يمكن الاستفادة من مقولة الدكتور جمال حمدان، أحد المنظّرين العرب الكبار المعاصرين للفكر الجغرافي، وذلك لتفسير كيف أتيح لذلك الوادي القفر أن يسفر عن "عبقريته" الخاصة؛ فتظهر شخصيته المتميزة التي وقع إرساؤها على امتداد تاريخ بدأته المسيرة الإبراهيمية وتوّجته الرسالة الخاتمة.

عن هذه السيرورة وتلك الشخصية، يقول جمال حمدان في كتابه "شخصية مصر، دراسة في عبقرية المكان": "إن تكن الجغرافيا في الاتجاه السائد بين المدارس المعاصرة هي التباين الأرضي والتعرف على الاختلافات الرئيسية بين أجزاء الأرض، فمن الطبيعي أن تكون قمة الجغرافيا هي التعرف على شخصيات الأقاليم". بهذا المعنى، تصبح للأماكن "روح" أو "شخصية" هي أكبر من مجرد محصلة رياضية للخصائص الظاهرية المحسوسة لذلك المكان، وذلك لأن ما يتيح لمنطقة تفردًا وتميّزًا بين سائر المناطق هو تفاعل جملة من الخصائص والقيم التي تتركز في عنصر قار ومتواصل هو عنصر الأمان الذي تعبر عنه قيمة "حرمة الإنسان"، والتي بدونها تتراجع عبقرية المكان وتخبو فاعلية التمدن منه.

لا ينفصل سرّ المكان إذن عن حرمة إنسانه، وإذا كانت مكة المكرمة قد عرفت تحوّلاً ضخمًا في العصر النبوي، فإن ما زاد من أهميتها إتاحتها لأماكن أخرى في الجزيرة العربية وخارجها أن تفتّق طاقاتها وتَشْخَصَ بــ"عبقريتها" أمام أعين التاريخ. لقد أنجز البشر فيها بُعدًا إنسانيًا تجاوز حدود ذات الإنسان، ليشمل مكونات البيئة بحيوانها ونباتها. لقد وسّـعت بذلك ما يمكن أن نطلق عليه "دائرة القداسة" التي يتفاعل فيها الإنسان والمكان بمنظومة قيم مركزها التوحيد بأبعاده العقدية والمعرفية والحضارية، هي دائرة تصوغ معنى الاستخلاف الذي لا يقف عند مكان أو مجال.

نجد إشارات لهذا المعنى فيما أوردته النصوص الإسلامية المؤسسة من عبارات مميزة تنعت بها بعض الأماكن التي تحمل معنى القداسة والتمجيد كــ"المقدس" و"المحرم" و"المبارك". من ذلك نجد في سورة المائدة الآية رقم "21" قوله تعالى: "يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم" أو قوله في سورة آل عمران آية رقم "96": "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا وهدى للعالمين".

يؤكد ما يقدمه عموم المفسرين في خصوص هذه العبارات، أنها مواقع مُشرَّفَة لطهارتها التي نتجت عن محايثتها المطهَّرينَ من الأنبياء، أو لنفعها الكثير وفائدتها الجمة؛ فهي محرّمة "صلاحًا ومعاشًا لقيام أمر الدين والدنيا عليها". ويتعمّق هذا المعنى عندما نعرض هذه العبارات على القاعدة التوحيدية للنص القرآني: أساسُ بنائه والمنهجُ الذي ينبغي اعتماده في تمحيص كل القضايا المتعلقة بدلالاته ومفاهيمه، فيتضح من هذه الناحية أن "التوحيد" يمثل قاعدة البناء العقدي والفكري للتصور الإسلامي، مما ينتج عنه أن التوحيد يتجاوز الفكرة المجردة، ليمثّل منطلقًا إدراكيًا ينبني عليه فهم خاص للواقع الماثل والماضي المنصرم، فضلاً عن ملامح المستقبل المُشرِف. هو بذلك، يغدو للإنسان أداة لتمثُّل الواقع وتحصيل المعرفة وتراكمها والارتقاء بها في امتلاك الخبرات وتفسير الوجود بما يحقق درجة عالية من الإرادة والفاعلية.

يتكامل في هذا المستوى البعد الاعتقادي مع البعدين الفكري والحضاري، وذلك لأن معالجة مفهوم الإدراك (Perception) عند الإنسان يضعنا أمام قضية دقيقة. والإدراك خلافًا لما كان سائدًا لدى عدد من الفلاسفة ليس مجرد "استقبال العالم الماثل أمام الحواس"، ولا يكفي أن نفتح أعيننا أو أن نصغي حتى نرى أو نسمع ما يحيط بنا من مظاهر العالم وكنوزه. والإدراك من إحدى جهاته تضافر عمل جملة من الحواس، وهو فوق ذلك يقتضي عملاً تخيّليًا انتقائيًا وتصنيفيًا يقوم به الإنسان المدرك وفق معتقدات قَبْلية وقيم موجهة، ذلك أن الدماغ البشري يتلقى معلومات عديدة مقطّعة عبر وسائط إدراكية وحسية عما يحيط بالإنسان وما يعتمل في داخله، فيقوم بفرزها وبناء تمثّل موحِّد لها.

هذا ما يجعل العملية الإدراكية عملية شديدة التعقيد تتداخل وتتفاعل فيها جملة من العناصر الحسية والنفسية والتقييمية والاعتقادية المفضية إلى تأويل وقراءة في اتجاه واحد يسمح باتخاذ قرار ينبني عليه تصرّف محدد. هذا ما يفسر ظاهرة الاختلاف الواضح بين قراءات إدراكية متباينة، لأن كل إدراك هو خلاصة عمل بنائي يتمثل واقعًا محددًا لكنه يختلف عن ذلك الواقع لكونه يرتبط بصورة مؤكدة بحاجيات الإنسان المدرِك بما يصنع إدراكه من ميول وغايات وخبرات وقبْليات. يعد الإدراك عند الإنسان، في كلمة، عملاً موحِّـدًا يتمثّل الواقع الموضوعي دون أن ينفصل عن الذات، وهو تعبير مكثّف عن ثراء العالم الإنساني بما يوفره من إمكان التعدد في قراءة الواقع وإدراك عناصره بين مختلف الأفراد، مما يفتح الباب إلى الاكتشاف والتطوّر والتغيير.

إذا نظرنا الآن إلى العلاقة التفاعلية التي تنشأ بين المكان والإنسان بما يعتمل فيهما من رموز وقيم من منظور تاريخ الأديان، يتبيّن أن صفة القداسة تُطلق على المكان الذي شهد وقوع أحداث غير مألوفة مما يكسبه طبيعة خاصة تستدعي تمييزه عن الأماكن الأخرى. بهذا يصبح المكان مقدّسًا لدى المجتمعات البشرية حين تظهر فيه "القوى الخفية" معبّرة عن نفسها، مما يكسب المكان طاقة جاذبة وإمكانيات للتمدن والاستقرار به نظرًا لحاجة الإنسان إلى الارتباط بتلك القوى والتفاعل معها بما تتيحه من طاقات الفعل والإبداع الإنسانيين.

من هنا، فإن السؤال الذي ينبغي ألّا يغيب عن الأذهان هو: كيف يمكن أن نقرأ اليوم في ضوء ما سبق رسالةَ المكان المقدس على مسامع إنسانية قلقة تبحث عن المعنى وعن الإبداع؟ كيف يتأتى لمعنى الاستخلاف أن يتنزل في واقع بشري معاصر؟ وهل يمكن أن يسهم في تغيير عالم اقتربت في جانب شعوبه وثقافاته دون أن يؤدي ذلك في الغالب إلا إلى مضاعفة الحواجز وتزايد التناكر؟

لا نتردد في القول، إن الرسالة الاستخلافية التي ترمز إليها الأماكن المقدسة الإسلامية، والتي تعبر عنها الرسالة الخاتمة لا تتوقف عند الماضي المشرق فقط، بل هي موصولة بمقتضيات الوجود البشري اليوم ورهانه الحضاري الخاص. قدسية المكان وعبقريته تظل اليوم موصولة بإنسانه وما تتطلبه إنسانيته ووجوده من عناصر تحقيق رهان استعادة الفاعلية الفكرية والروحية للجماعة التي يحيا ضمنها.

وذلك ما يجعلنا نعتبر أن تفعيل العقول وإحياء الحياة الدينية هو أول شروط استعادة الرسالة الاستخلافية كاملَ عافيتها وفاعليتها، حيث تصبح قادرة على ملاحقة الواقع في جميع مواقعه ومختلف تطلعاته.

وبالعودة إلى مكة المكرمة في ضوء "دائرة القداسة" الآنفة الذكر، وفي ضوء تكامل الأبعاد الاعتقادية والفكرية والحضارية للإنسان تتضح العلاقة بين دلالة البعد الإنساني الكامن في قدسية المكان وبين ما يتيحه هذا الأخير من إسفار عن حقيقة الأمة في واقعها ودفع إلى تفعيل سيرورتها. إن مثل هذه الفاعلية تتعين خاصة في مكة وفي المشاعر المقدسة التي تتيحها للمؤمنين، إذ تجعلهم في مواجهة فريدة من نوعها. إنها تؤدي بهم إلى ولوج مستوى مختلف من الحياة مغاير لما يعرفونه في سائد أيامهم عبر حياة تُعتقهم من ضغوط متنوعة وجاذبيات قاهرة. على هذا، يفتح "المكان المقدّس"، إن وقع التعاطي معه بالصورة والتوتر المشار إليه سابقًا، الباب على ضرب من التجربة المنتمية إلى ما فوق الواقع وما وراء الجغرافيا.

إنها مواجهة متعبة لكنها فريدة؛ لأنها تسمح للفرد أن يكتشف فيها نفسه وواقعه، وما يمكن أن يؤول إليه ذلك الواقع في مستقبل قريب. من ثم يتحول المكان المقدس إلى منطلق اكتشاف وكشف؛ أي إلى علاقة نادرة يقف فيها المرء أمام ذاته وإزاء من يشاركونه توقه ليتلمّس الوجهة التي ينبغي أن تتخذها "راحلته" في رحلة الوجود المضنية، وليعيَ جانبًا من موكب الأمة في مسيرتها الصعبة.

هكذا يصبح المكان المقدس مَعْبَرًا ينخرط فيه الإنسان مكثِّفًا رؤيته لنفسه ولموقعه المجتمعي ومُطّلِعًا على ذات أمته في علاقتها بمنابعها وعمق اهتماماتها وفي مواكبتها للسير الذي دشّنه إبراهيم الخليل حين أذّن في الناس للحج.

تلك هي مكة في قدسيتها: مكان لا يستقيم وجود الجماعة المؤمنة إلاّ فيه، لكونه محل التحوّل الذي ينكشف فيه ما يكون وراء عالم العيش من وجهة في مجال الحياة. ويمكن للمؤمن من دائرة القداسة تلك أن يهاجر إلى مختلف أبعاد "الداخل"، فيقف على ذاته وأمته والحراك الذي ينتظمهما، ومنه يتبيّن قوة التغيير الشخصي التي يتوفر عليها والآفاق المدخرة لدى جماعته.

ضمن هذه الرؤية، يصبح تصورنا للعالَم وللأماكن المقدسة فيه مدخل لمزيد إثراء الحياة الإنسانية، وبذلك تستوعب "دائرةُ القداسة" أحدَ الأبعاد الكبرى للرسالة الخاتمة ولأمة التوحيد، وهو البعد الذي لا يقتصر على أمجاد سالفة وعصور ماضية، بل هو استعادة للفعل الذي يتغلغل في مستجدات الأمور المستعصية، ليجلّي الرحمة الإلهية أملاً تراه أعين التاريخ.