الثقافة وأنسنة التاريخ


فئة :  مقالات

الثقافة وأنسنة التاريخ

الثقافة وأنسنة التاريخ[1]

إن التعامل مع تاريخ الثقافة مسألة وشيجة الصلة بدراسة الأدب، لا انطلاقا من المقولة القديمة فى الثقافة العربية "الشعر ديوان العرب"، ولا من اعتبار الإبداع بشكل عام أو على اختلاف أشكاله وأجناسه يعد نقلا حرفيا للواقع ـ كما يعتبره بعض الباحثين وبعض المستشرقين ـ لكن بوصفه يلقي أضواء على جوانب أغفلها التاريخ الرسمي عمدا أو دون عمد من قبل المؤسسة الرسمية أو النظامية على مرّ العصور، وقد تكون هذه النصوص دالّة بشكل مباشر أو غير مباشر على أمور تم السكوت عنها، أو تقوم بتصحيح ما اعتبر ثوابت تاريخية أو أدبية، ولن يلتفت إليها، إلا من يمتلك وعيا نقديا حقيقيا وأدوات منهجية طيعة لا مصمتة.

أتحدث هنا عن تعامل المؤرخة الدكتورة نللي حنا مع نصوص تنتمي إلى العصر العثماني، وأخص بالذكر كتابها "ثقافة الطبقة الوسطى في مصر العثمانية ق 16: ق 18" الذي كتبته بالإنجليزية وترجمه إلى العربية المؤرخ الدكتور رؤوف عباس، والمصدر الرئيس لبحثها هو مخطوط "محمد بن حسن ذاكر"، الذي قدم من خلاله رؤيته الشخصية لتجربة جيله والفترة الزمنية التي عاشها.

وضعت نللي حنا النص الذي عثرت عليه، واعتمدته بالدرجة الأولى في سياق ثقافي واجتماعي أوسع؛ لأنه في الأساس نص أدبي، ولم تتعامل معه بوصفه وثيقة صماء، بل أعطته إكسير الحياة عن طريق إقامة حوار مع أطراف متعددة؛ أي إنها تعاملت مع النص بوصفه إنسانا، ومن أبرز سمات الإنسانية الحقيقية أنها تقوم على الجدل والحوار المبني على تعدد الرؤى لا أحادية الرأي وسلطته القامعة لغيره، ولم تكتف نيللي حنا بحوار هذا الكتاب فقط، لتستنبط منه ما تريد أو تستنطق بعض الحقائق المسكوت عنها، لكنها سعت في تكوين رؤيتها إلى معايشة الوسط الثقافي والاجتماعي الذي كتب فيه، ووجدت منه جوانب داخل الكتاب نفسه، ووازنت بين ما جاء فيه وبين أعمال أدبية أخرى وبعض كتب السيرة والطرائف وبعض وثائق المحاكم الشرعية؛ أي إنها أحيته لتسري فيه روح إنسانية ذات وشائج متعددة ومتشعبة مع من حوله، وأقامت بين هذه الأطراف المتشعبة حوارا جدليا، وبين ما نألفه وندرسه في حاضرنا عن تلك الحقبة التاريخية، رغم العقود الطويلة التي باعدت بيننا وبينه.

ولأن أساس بحثها نص أدبي لم تقفز نيللي حنا عليه ببارشوت المناهج الجاهزة أو السائدة أو الأكثر شهرة وانتشارا، أو الأسهل في التطبيق المنهجي، لكنها جعلت من الكتاب شريكا لها في اختيار ما يناسبه من مناهج ومداخل للدراسة، وولجت إلى نص "محمد بن حسن ذاكر" غير محملة بأفكار كررت وكرست من قبل بعض المستشرقين وبعض المدارس أو المناهج التاريخية التي أرست رأيها ورسخته فى هذه الحقبة التاريخية من زمن بعيد، التي لو سلمت بها مثل غيرها لسكنت إلى الركود، وبحثت عن موضوعات أخرى أسهل في التناول وأضمن في تأييد التلقي الجماعي المعهود في مجتمعاتنا أكاديميا وشعبيا.

إن أكثر ما يستفز محلل الخطاب في أيّ مجال أو يثير شكوك صاحب العقلية النقدية الواعية حملات الذم والتشويه أو حملات تكييل المديح، هذه الحملات تخلف لديه حالة من القلق وتدفعه إلى البحث عن أصولها وسياقها الثقافي واختبار مدى مصداقيتها، وخلال مسيرته يصطدم بأشياء عديدة منها:

الآراء والنتائج التي تكتسب قدسيتها بمرور الزمن، فينشأ جمهور مناهض لأيّ تغيير في تلك الآراء، أو رغبة المؤسسات الرسمية وغير الرسمية في الاحتفاظ بما توصلت إليه من نتائج، لتظل باقية كما هي في وعي الجمهور، وكلاهما منافٍ تماما لطبيعة العلم وتطوره.

هذا الحوار الذي لم تعزله نللي حنا عن سياقه، بل كان مادة للتاريخ الاجتماعي للحقبة التي درستها بشكل علمي لا عنصري، وكان هدفها وضع يدها على التاريخ الثقافي للطبقة الوسطى الحضرية في هذا العصر، في الوقت الذي تقسم فيه الدراسات الثقافية إلى نخبة وأقلية مهمشة.

عملت نللي حنا على الكتابة بوصفها ظاهرة ثقافية، وعلى المحتوى بوصفه ظاهرة اجتماعية، وهي تدرس الطبقة الوسطى في علاقتها المتشعبة مع طبقات أخرى مثل: الطبقة العسكرية أو الحاكمة أو المؤسسة الدينية.

وربما يعمل هذا الاتجاه البحثي حال تناميه بشكل منتظم ومتنام على رأب الصدع الحادث في التاريخ الثقافي الذي انعكس على التحليل النقدي للنصوص في وقت سابق؛ بمعنى أن بعض القراءات استنبطت بعض الظواهر الاجتماعية من النصوص الإبداعية، ولم يتم الترحيب بها نتيجة عدم وجود دلائل في التاريخ الاجتماعي المكتوب يساندها، ومن وجهة أخرى أن رسوخ آراء تاريخية أو نقدية قديمة أبعدت المتلقي بشكل عام، والباحث بشكل خاص عن ألوان من الكتابة لم يسلط عليها الضوء بشكل كافٍ، لأنها لم تنتم إلى الأدب النخبوي أو الأدب الشعبي، ومنه كتاب محمد بن حسن ذاكر "ولد في 1106 هـ /1694 م"، الذي تناول فيه موضوعات اجتماعية واقتصادية وسياسية، بعضها ورد على نسق السيرة الذاتية، وما أورده في كتابه يختلف عما ساد فى كتابات غيره من معاصريه من العلماء والمماليك والهيكل الاجتماعي والعلاقة بين الجنسين، فقد قدم من خلال كتابته زاوية لفهم القرن الثامن عشر، فضلا عن رؤيته الشخصية عن المشاكل التي عانى منها جيله.

ترى د. نللي حنا أن هناك فئة لم تحظ بالقبول على نطاق واسع عند مؤرخي ذلك العصر، وهم من حصلوا على قدر من التعليم لم يرق إلى مصاف العلماء؛ لكنهم نظروا إلى الدنيا نظرة واقعية، وهذه الطبقة كانت خارج نظام الحكم وهيكل السلطة، أسلوب كتاباتهم يميل إلى لغة الحياة العادية لكن دورهم الثقافي أكبر مما نظن.

ومن منظور أوسع، يصرح المؤرخ الدكتور رؤوف عباس أن العصر العثماني في مصر بشكل عام أقل عصور التاريخ حظا فى اهتمام المؤرخين العرب عامة والمصريين خاصة، ويرجع ذلك إلى عدة أسباب منها:

أنه على الرغم من وجود مصادر أصلية للبحث، إلا أن الظروف السياسية التي أحاطت بهذا العصر أغرت المؤرخين بالكتابة عنها، واستقطبت الكتابة التاريخية بشكل عام، مثل: دخول الحملة الفرنسية وبداية الفتح العثماني، وقوع العصر العثماني بين عصرين؛ عصر سلاطين المماليك وعصر محمد علي باشا، وكانت مصر وقتها تلعب دور القوة الإقليمية الكبرى.

ومنها انبهار المؤرخين بالتغيرات المهمة التي شهدتها مصر في عصر محمد علي، والميل إلى تفسيرها في سياق المؤثرات الحضارية الغربية التي خلفتها الحملة الفرنسية على مصر، والعبارة الملازمة لأغلب الدراسات أن الحملة حركتها وحررتها من الركود الذي عانت منه في العصر العثماني، وهو اتجاه روّج له المستشرقون أيضا وتأثر به المؤرخون، ليصل المتلقي إلى يقين أن مصر ظلت في هذه الحالة على مدى ثلاثة قرون.

ومنها أيضا، أن النظرة إلى العصر العثماني تأثرت بما حدث في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين من مظالم مارستها الإدارة العثمانية في الهلال الخصيب.

ومنها أسباب أكاديمية محضة؛ فقد وقع العصر العثماني في منطقة حدودية بين ميدان بحث مؤرخي العصور الوسطى ومجال بحث مؤرخي العصر الحديث، فحدث تماسّ بين الحقلين.

كل هذا حول العصر العثماني إلى جملة اعتراضية في تاريخ مصر على حد وصف المؤرخ رؤوف عباس، وفي المقابل دفع بعض المؤرخين المصريين إلى التوجه إلى دراسته من جديد وبرؤية ذات منظور مختلف من مصادر ووثائق أخرى، مثل: سجلات المحاكم الشرعية وحجج الأوقاف وسجلات الروزنامة وغيرها.

وتؤكد المؤرخة الدكتورة نللي حنا أن الباحثين المعنيين بدراسة الثقافة ركزوا جل اهتمامهم على العلماء والمؤسسات التعليمية، وتغاضوا عن الاهتمام بأبعاد ثقافية أخرى لايمكننا في ظل تجاهلها فهم الحالة الثقافية فهما كاملا، إذا ركزنا على ثقافة النظام الرسمية فقط، وذلك رغم وجود منهج غرامشي الذي يرى أن النخب تسيطر على السكان من خلال ثقافات الهيمنة لما تملكه من وسائل لتحقيق ذلك؛ ليوجدوا إجماعا زائفا على حكمهم بين السكان.

وعلى الرغم من سيطرة الأزهر آنذاك على التعليم، إلا أنه لم يحتكر كل أشكال المعرفة ووسائل نقلها إلى الآخرين، وبينت خطأ رسوخ فكرة هيمنة الدين التامة على هذا العصر، فلاشك أن هناك وجودا للبعد الدنيوي في ثقافة الطبقة الوسطى حتى ثقافة العلماء لم تكن دينية محضة، بل كانت ثقافة مركبة؛ أي أن المنتج النهائي للتعليم الديني لم يكن على درجة من التجانس، كما يظن بالإضافة إلى انتشار الطرق الصوفية بين التجار والحرفيين، ووجود أنماط للتعليم ونقل المعرفة غير مرتبطة بالتعليم النظامي.

أمر آخر طرحته نللي حنا، وهو أن الطبقة الوسطى كانت لها أبعاد اجتماعية وفكرية متميزة داخل إطار ثقافتها؛ بمعنى أنها كانت تتمتع بثقافة أدبية خصبة شفهية ومكتوبة معا، فقد كانوا ينتمون إلى ثقافة تجارية تتسم بالنظرة العملية للأمور، ويدركون أن عالمهم مرتبط بعوالم أخرى دنيوية واجتماعية، وعليهم أن يستخدموا كل الوسائل المتاحة لحماية مصالحهم.

ارتكزت المؤرخة نللي حنا على فرضية بحثية تقوم على وجود صلة بين الأوضاع الثقافية والأوضاع المادية التي أتاحت لثقافة الطبقة الوسطى المتعلمة أن تبرز وتؤثر في المعاصرين، واعتمدت في ذلك على عمل أندريه ريمون في كتابه عن التجار في القاهرة في القرن الثامن عشر.

وتوصلت إلى كشف هزل الحديث عن فكرة التدهور في هذا العصر، مبينة أن تدهور إقليم معين غير مرتبط بتدهور إقليم آخر، وأن هذه الفكرة خاطئة، ويمكننا أن نقول إن هناك أكثر من مركز ثقافي في إقليم ما، وأن النتائج التي نتوصل إليها في إقليم معين لا تنسحب على إقليم آخر، والسير خلف نتيجة خاصة معممة يؤدي إلى نتائج مضللة في البحث، لأنه يعمل على إغفال دور الأنساق المحلية في صياغة السياقات التاريخية، وبينت أثره المضلل على الأبحاث لكونه يعد إهمالا لإبراز العلاقة بين القوى المحلية والإقليمية والدولية، وأنه بنى فرضياته واستخلص النتائج بعيدا عنها.

وإذا كان أغلب الباحثين تبنوا آراء وكتابات بعض المستشرقين، واستكانوا إلى جملة من الصفات أصبحت مكررة في مؤلفات العصر العثماني، مثل: الجمود والركود والتخلف والاضمحلال؛ فإن تقارير الرحالة والقناصل الأجانب كانت مصادر وسيطة، لتأكيد تلك الصفات في كتاباتهم التاريخية، مما دفعهم إلى الاطمئنان إليها.

ورأت المؤرخة نللي حنا أن علاقة المركز بالأطراف نظرية أخذ بها بعض المؤرخين، وعلى إثرها تبنوا وصف التدهور، لكن التدهور، كما أسلفتْ، ظاهرة محلية وإقليمية معا؛ فقد مثل القرن الثامن عشر أدنى نقطة انحدرت عنها الثقافة الإسلامية عن مستوى القمة الذي بلغته في العصر العباسي، وقد تجمد التدهور عند القرن التاسع عشر، متى وجدت ظروفا جديدة فيما يتصل بالتعليم والثقافة، كما اعتبر تدهور ثقافة حوض البحر المتوسط نتيجة ظهور أوروبا الشمالية المرتبطة بتجارة المحيط الأطلنطي وانتقال الحركة من الجنوب إلى الشمال من القرن السادس عشر.

أما الآن، فقد تغيرت الفكرة بسبب إمكانية وجود أكثر من مركز للحركة الناشطة ثقافيا وتجاريا في الوقت نفسه. وخير دليل على هذه الفكرة كما ذكر المؤرخ رؤوف عباس، أن التحولات التي نجحت على يد محمد علي باشا لم تأت من فراغ، وبصفة خاصة أنه لم يعتمد على رأس المال الأجنبي في إقامة البنية الأساسية فى اقتصاد السوق لإدارة الدولة، بل اعتمد على موارد مصر وحدها طول فترة حكمه، فمن أين استطاع الاقتصاد المصري أن يوفر هذا، رغم الإصرار على وصفه أنه كان اقتصادا راكدا وتقليديا؟ وكيف استطاع أن يتجاوب مع خططه التطورية إن لم يكن ـ في الأساس ـ هناك وعي ثقافي عال في الطبقة المتوسطة من هذا الشعب؟

هنا يمكننا مساءلة الدراسات الثقافية التي قسمت شرائح المجتمعات إلى متن وهامش: أين وضعت تلك الطبقة المتوسطة التي هُمشت في كثير من الأحيان وأغفلت دراستها، وتم ضمها إلى الطبقة الشعبية وأهمل تاريخها الثقافي؟!

هنا يمكننا أن ندعو إلى فعل القراءة الذي لا يستكين إلى المسلمات والمناهج والنظريات الجاهزة بصرف النظر عن شهرتها وعدد من طبقوها، هنا يمكننا إعادة النظر في قضايا أدبية واجتماعية وتاريخية وثقافية غير منطلقين في دراستها بمسلمات سابقة أو بسبب انتشار الاستسهال أو مراعاة جماعة التلقي التي تقدس الآراء القديمة، من هنا يمكن أن نبدأ بالقراءة الواعية الناقدة لكتابات الماضي والحاضر، لنستشرف أفقا جديدا غفلنا عنه عن عمد أو دون عمد، وإذا كنا ننظر آنيا إلى ضرورة مواكبة النقد ومناهجه للإبداع بدافع تطوير المجالين، فالنظرة المستقبلية تستوجب ذلك للتأريخ الثقافي والاجتماعي لكل مرحلة نحياها.

 

المراجع:

ـ ثقافة الطبقة الوسطى فى مصر العثمانية، تأليف د. نللي حنا، ترجمة د. رؤوف عباس، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2004

ـ كتابة تاريخ مصر إلى أين؟ أزمنة المنهج ورؤى نقدية، د. رؤوف عباس حاد، دار الكتب والوثائق القومية – القاهرة- 2009

ـ جدل الموضوعية والذاتية فى كتابة تاريخ مصر، دراسات مهداة إلى المؤرخة نللي حنا، تحرير د. ناصر أحمد إبراهيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2012

[1]- مجلة ذوات العدد48