الثورات العربية والإيديولوجيا: استمرار أزمة الإيديولوجيا العربية المعاصرة


فئة :  قراءات في كتب

الثورات العربية والإيديولوجيا: استمرار أزمة الإيديولوجيا العربية المعاصرة

يتناول المؤلف تمثلات المفاهيم والتصورات الأيديولوجية المتعلقة بالدولة والهوية الديمقراطية لدى الفاعلين المباشرين في سياق الحراك التونسي، محاولا الكشف عن تناقضاتها الدراماتيكية عندما تتحول إلى خيارات عملية فاعلة في الممارسة السياسية، وآثارها على مستوى الواقع، وموقعها في الصراعات المهددة للدولة، والمؤشرة على عودة الاستبدادية من جديد.

لذلك فالشعارات المرفوعة والمعبر عنها من طرف القوى السياسية والمدنية في بداية الثورة، تراجع معناها وحدتها بعد مرور فترة من الثورة، كما أن ظاهرها كان يخفي أزمة أيديولوجية عميقة متعلقة بمفهوم الدولة، وأدوات تحقيق الانتقال إلى الديمقراطية.

انطلاقا من ذلك، يركز المؤلف على إشكالية مركزية متمثلة في أن الثورة التونسية تطرح إشكالات عدة، عندما تجعل الانتقال الديمقراطي أفقا موضوعيا لها، وما تطرحه من مساءلات لفرضيات الانتقال الديمقراطي، لا يمكن توضيحها إلا "بتفعيل الرؤية الإصلاحية القائلة بالتغيير المجتمعي الشامل- وأساسه التغيير الثقافي- الذي يستغرق مدة من الزمن، خلافا لما فكر فيه وفعل في خضم الحراك التونسي ما بعد 14 يناير2011 من رؤية تقول بالتغبير الثوري".

ولعل مثل هذا الطرح يعتبر مهما، باعتباره يتجاوز تلك التحليلات المركزة على المؤامرات الخارجية والتدخل من طرف قوى معادية، ويركز على عوامل داخلية محضة تهم القوى السياسية والمدنية الفاعلة مباشرة في الحراك، سواء تعلق الأمر بتمثلاتها الإيديولوجية أو سلوكياتها السياسية.

أولا: ثورة 14 يناير: التغيير الجذري يسائل الإصلاح التدريجي

يركز المؤلف في الفصل الأول على الأسابيع الستة من الثورة التونسية أو ما يسميه بأنموذج ثورة14يناير. ويذهب إلى أن التجانس الذي ظهر خلال هذه الفترة حول الديمقراطية يخفي تمايزات في المفاهيم وتباينات في التصورات بشأن التنظيم السياسي والثقافي والاجتماعي لدى القوى المدنية والسياسية، إذ إن هذا التجانس المميز للحظة التفاعل الفوري سرعان ما يتراجع لتظهر خطوط التمايز في لحظة التفكير في التدبير وتجاوز المعوقات التي تواجه الانتقال الديمقراطي..

فالتجانس في المواقف تجاه الديمقراطية الذي تظهره القوى السياسية والمدنية في العالم العربي خلال السنوات الأخيرة يخفي في حقيقة الأمر تناقضات عدة واختلافات متباينة حول تصور هذا النظام. ويمكن في هذا الإطار تحديد نزعتين تحكمان مختلف التصورات؛ أولاهما النزعة الوفاقية وتشمل التصورات التي تعتبر الديمقراطية حلا لمشكلة السلطة الاستبدادية في العالم العربي؛ وثانيهما نزعة التغيير المجتمعي التي تعبر عنها التصورات التي ترى في الديمقراطية حلا تاريخيا للوضع الذي تعيشه الأمة العربية والمعبر عنها من قبل مفكرون عرب.

وقد طرحت الثورة التونسية بجذورها الاحتجاجية والاجتماعية العفوية، ومنطلقاتها المطلبية المعاشية وبتبنيها للتغيير الجذري إشكاليات حقيقية على التفكير الديمقراطي بنزعتيه، باعتبار التغيير الثوري الجذري كان مستبعدا كطريقة للتغيير الديمقراطي وباعتبار النضال الديمقراطي كان يركز على إستراتيجية الإصلاح التدريجي التي تجد انتشارا عالميا واسعا.

ثانيا: من الحس المشترك لحظة الانتخابات إلى التناقض الدراماتيكي

يذهب المؤلف إلى أن انتخابات المجلس الوطني التأسيس التونسي في 23 أكتوبر 2011، ساءلت الفرضية التي تركز على أن التحول الديمقراطي في العالم العربي لا يمكن أن يكون إلا نتاج مسار إصلاحي طويل قائم على التحول المجتمعي والتحديث الثقافي، حيث أفرزت عن فوز قوى متقاربة خلال فترة بداية الثورة بالرغم من تباين مرجعيتها الإيديولوجية، كما رجحت المقاربة الثورية القائمة على التغيير الفوري على حساب المقاربة الإصلاحية المجتمعية، وانتصار مقولة التشبث بالبنيات الثقافية الهوياتية السائدة على مقولة التحديث الثقافي والحضاري.

غير أن الباحث يذهب إلى أن هذا "الحس المشترك"، الذي بدا واضحا خلال الانتخابات بفعل نجاح القوى السياسية في الإدماج الحسي المباشر في الخطاب السياسي والخطاب الإيديولوجي، الذي أدى إلى ارتفاع نسبة الإقبال والمشاركة الانتخابية...قد يخفي عناصر سياسية واجتماعية وثقافية، ستكون فاعلة في فترة ما بعد23 أكتوبر، لاسيما أن انتخاب المجلس الوطني التأسيسي لا يمثل نهاية التحول في تونس. وأن هناك إشكالات عديدة ستكون حاسمة في العلاقات بين الأطراف السياسية، وفي تطور المشهد الحراكي التونسي، يمكن أن تثبت القواعد المعرفية لأطروحة التغيير المجتمعي والثقافي، ذلك أن الإدماج الحسي المباشر يتوقف تفعيله، وإنتاج آثاره في المستقبل على أداء الحكومة الجديدة ومعارضتها على المستوى السياسي، وعلى مضامين الدستور فيما يتعلق بالجانب الإيديولوجي.

وقد بدا واضحا أن الحس المشترك الذي طبع انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، تراجع بعد تكوين المؤسسات التنفيذية والتشريعية الانتقالية ومرور الحدث الانتخابي، حيث عرفت الأحزاب السياسية التونسية المؤثرة تعبيرا دراماتيكيا على مستوى خطابها السياسي وكذا خطابها الإيديولوجي. ويرصد المؤلف من خلال تحليل الخطاب السياسي وسلوك الفاعلين ثلاثة مظاهر كبرى في هذا الصدد؛ أولها "البحث عن الحكم الرشيد والمجتمع الراشد" الذي عبرت عنه جزء من النخبة التونسية، وعلى رأسها رئيس الدولة منصف المرزوقي الذي مثل تطورا دراماتيكيا في خطاب النخبة التونسية؛ وثانيها صعود خطاب ضد الثورة، حيث اعتبرت المطالبة بالمطالب الاجتماعية واستمرار الاحتجاجات مهددة لاستقرار الدولة، وباب من أبواب الفتنة والتصدع الاجتماعي، بعد أن كانت مثل هذه الاحتجاجات تمثل الثورة؛ وثالثها الانقلاب على خطاب الهوية الذي يجسد الصراع بين القوى الإسلامية، والتحول من التنافس بين الهوية الإسلامية والعلمانية أو التغريب إلى التنافس بين المذاهب والطوائف الدينية.

هذه التحولات الأساسية على مستوى الخطاب والسلوك السياسي للفاعلين، أظهر التأسيس الديمقراطي بمثابة تهديد للبناء الوطني، وأن هناك مخاطر تهدد مسار الانتقال الديمقراطي، حيث التصادم بين قيم الديمقراطية مع قيم الوطنية، يقول المؤلف: "وكان مخطط الفعل السياسي منصرفا كلية إلى بناء الدولة الديمقراطية، فإذا به يفاجأ بإشكالات تتعلق بالوحدة الوطنية المجتمعية، تمنح ثنائية الديمقراطية والوطنية مضامين أكثر تعينية لثنائية الحكم الرشيد والمجتمع الراشد، لكنها تحتفظ مع ذلك بصبغة عامة تعبر عن جميع مظاهر الصدام الدراماتيكي (...) فحق التظاهر والاحتجاج والاعتصام والمطالب الاجتماعية وحرية الاعتقاد والتفكير والتعبير ونشر الآراء وصيانة الهوية...من أسس الديمقراطية، وهيبة الدولة والمحافظة على الأمن وتنقية مناخ العمل والاستثمار وصيانة وحدة المجتمع... من مرتكزات الوطنية. لذا يمكن تقريبا اختزال جميع الإشكالات التي يعرفها المجتمع التونسي في مساره الانتقال الراهن، في دراماتيكية الصدام بين الديمقراطية والوطنية".

وقد أظهر الواقع صعوبة التركيب بين الآليات الديمقراطية الحديثة والبنيات المؤسساتية الماضوية والجذور الهوياتية، الذي راهنت عليه الإيديولوجية الإسلامية الوفاقية، ذلك أن الدولة الوطنية الحديثة والمجتمع المدني والهوية القومية والهويات الوطنية تمثل نسقا بنيويا مترابطا، ولا يمكن للديمقراطية أن تنجح دون التركيز على مختلف هذه الأبعاد.

لذلك فالواقع الذي شهدته الدول التي عرفت الحراك، كتونس ومصر وليبيا أصبح فيها الجميع مقتنعا بأن تطبيق الديمقراطية وتأسيسها لا يمكن أن يتم في غياب الدولة السيادية والتكامل الوطني والتعددية السياسية والفكرية والمدنية، وما تتيحه من تسامح واحترام ومرونة.

ثالثا: الدولة أداة أم فضاء مشترك: أزمة إيديولوجيا القوى السياسية

إن التركيز على قوة الدولة سيشكل عنوان كبير لانقلاب إيديولوجي ستشهده جل الأحزاب والحركات السياسية في تونس بعد مرور مدة على بداية الثورة، حيث انقلب الإسلاميون واليساريون بما فيهم الراديكاليون على ثوابت إيديولوجية أدت دورا أساسيا في الثورة التونسية، وانتصروا للدولة التي كانوا ينتقدون ممارساتها في الماضي ضد الحركات الاحتجاجية والقوى المعارضة.

هذا الانتقال من موقف ضد الدولة في بداية الثورة، إلى موقف مع الدولة بالنسبة إلى القوى المنتصرة، يعتبره المؤلف معبرا عن تذبذب إيديولوجي، وعن أزمة في الفكر السياسي للأحزاب السياسية، ومعبر عن غياب إيديولوجية الدولة الحديثة لدى مختلف القوى السياسية، إذ إن الفضاء التي تتحرك فيه حسب تمثلها، يمثل فضاء للصراع والتنافس الذي يفضي إلى هيمنة جماعة على جماعات مجتمعية أخرى. إنها تنظر إلى الدولة، باعتبارها أداة للهيمنة، والثورة باعتبارها مقابلا للدولة، والدولة الديمقراطية باعتبارها انتصارا لشطر من المجتمع ينفي شطر آخر.

لذلك، عندما تتحول هذه الإيديولوجيا النافية لفكرة الدولة كفضاء مشترك يتسع للجميع إلى خيارات عملية، تنتج صراعات حادة تهدد الدولة ذاتها وتكامل المجتمع، فالإضرابات والاعتصامات وتخريب المنشآت العمومية وتعطيل الإنتاج وحرق السفارات الأجنبية والصراع الديني وتكديس الأسلحة والعزل السياسي وإفساد الاجتماعات الحزبية للخصوم والصراع على مواد الدستور.. تعبّر بشكل جلي عن أزمة إيديولوجية الفاعلين المباشرين في الحراك التونسي، الذين ينظرون إلى الدولة كجهاز للقمع فقط. ولعل ذلك، يجسد استمرار أزمة الإيديولوجيا العربية المعاصرة التي عبر عنها المفكر عبد الله العروي منذ أواسط الستينيات من القرن الماضي.

استمرار هذه الأزمة، يعد من الأسباب المفسرة لفشل الثورة في العالم العربي، حيث يمكن اعتبارها أصل الصراع الحاد والمهدد بعودة الاستبداد من جديد إلى هذه البلدان، فخلف الشعارات المرفوعة كالوفاق والثورة والديمقراطية تختفي أزمة عميقة في التصورات والمتمثلات والمفاهيم الإيديولوجية بشأن الدولة والديمقراطية.

رابعا: ملاحظات

يثير الكتاب جملة من الملاحظات، يمكن التشديد على ما يلي:

- التركيز على فترة قصيرة من الثروة التونسية وبالرغم من أهميتها، إلا أنها غير كافية للوصول إلى خلاصات موضوعية حول الحراك العربي، وما تمخض عنه من نجاحات وإخفاقات وارتدادات.

- ليس هناك خيط إشكالي ناظم للكتاب، باعتباره تجميع لمجموعة من الدراسات والأبحاث المنشورة سابقا في مجلات أو كتب جماعية. فبالتالي يبدو الانتقال بين بعض الفصول متباعد، ويبدو ذلك بشكل صارخ مثلا في الانتقال من الفصل الثالث الذي يتناول فيه التحولات الدراماتيكية للخطاب السياسي التونسي بين لحظة الانتخابات والتجربة السلطوية العملية، إلى الفصل الرابع الذي يقحم فيه موضوعا في غير محله ألا وهو مشروع عزمي بشارة في التحول الديمقراطي.

يبدو المؤلف أنه غير منشغل بالموضوعية بشكل كبير، إذ يعتبر كتابات عزمي بشارة، وهو رئيس المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الناشر للكتاب مشروعا فكريا متكاملا بشأن التحول الديمقراطي؛ يقول المؤلف: "نقدر أن كتابه في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي يمثل اللحظة التي ارتقى فيها تفكير عزمي بشارة إلى مستوى المشروع الذي يحمل جميع مقومات التمايز النظري"، ويبدو أن المحاباة، والاسترزاق، والخضوع لإغراءات الزبونية مؤثرة في أسباب نزول هذا الفصل أكثر من أي أسباب أخرى. ويظهر ذلك أكثر عندما يضع المؤلف رئيس المركز في نفس المرتبة الفكرية للمفكر عبد الله العروي.