الثورة المستعصية؛ دراسة للديناميات الاحتجاجية والثورية بالعالم العربي


فئة :  قراءات في كتب

الثورة المستعصية؛ دراسة للديناميات الاحتجاجية والثورية بالعالم العربي

 الثورة المستعصية؛

دراسة للديناميات الاحتجاجية والثورية بالعالم العربي

La révolution improbable sous la direction du professeur Youssef Sadik


يصعب على أي باحث أن يتنبأ بسيرورة المجتمعات وبآفاق ومسار الديناميات البشرية، وهو الشيء الذي أكدته الثورات العربية منذ أيام قليلة، حيث انقلبت كل السيناريوهات حول مجتمعين غالبا ما نعثا بالخنوع والاستكانة تحت أقدام رجلين تفننا في المزاوجة بين قمع كل متنفس للديمقراطية عند شعوبهم وإخضاع سياستهم الخارجية لتوجهات ومصالح الدول العظمى ... ولطالما تم التغاضي عن كل تجاوزات الحاكمين العرب من طرف رؤساء الدول العريقة في الديمقراطية بدعوى محاربة التطرف والإرهاب و...و... الحد من كل أشكال الراديكالية التي يمكن أن تهدد الغرب نفسه ومصالحه في العالم العربي.

واليوم، وإن كنا لا نعرف حقيقة الكواليس، فإن الشارع قلب المعادلات وأدخل إليها عنصرا مجهولا آخر يتعذر حله هذه المرة، وهو: هل يمكن للشارع أن يؤطر نفسه بنفسه بعيدا عن عويل الأحزاب المجردة من مشروعياتها السياسية ومن رصيدها الجماهيري وبمنأى عن شعارات النقابات وملفاتها المطلبية، والتي ارتمى زعماؤها في أحضان السلطة بدعوى "الحفاظ على مكتسبات الطبقة الشغيلة"؟.

الشارع الذي خرج دون زعامات وبدون مقدمات وجد لنفسه، بعد تجربة بسيطة في العقوبة، ديناميته الخاصة وأشكاله التعبيرية الملائمة، والتي تجاوزت بكثير حدود العمل المؤسساتي دون أن تدعي الاستغناء عنه أو تعويضه أو إقبار وظائفه.

اشتعلت الثورة وصهرت رياحها مطالب كل الفئات المحرومة والمهمشة والمتطلعة إلى فضاء رحب للحرية والديمقراطية. خرج الفقير الأمي إلى جانب المثقف الغني والشاب إلى جانب الشيخ والمرأة إلى جانب الرجل، وردد الأطفال شعارات الكبار وأناشيدهم ورصت الشوارع صفوف فئات كانت الأنظمة تميز وتمايز بينها في كل الحقوق والسياسات العمومية، ووحدت الثورة ما لم تستطع عقود من الحكم المستبد أن توحده، وهو الإيمان بالوطن وبقوة الوطنية. وفي الوقت الذي حاولت تلك الأنظمة أن تخلق لنفسها نخبها ومحيطها من المرتشين والمصلحين الذين غالبا ما ادعوا الإخلاص، لم يستطع محيط الزعماء أن يصمد لوقت طويل أمام قوة الشعب وعمق عزيمته ... تلاشت العلاقات المصلحية في أيامها الأولى وتخلت الحاشية عن رئيسها وذاب "مناضلو" الأحزاب الحاكمة واندثروا وكأنهم لم يحتشدوا يوما في مؤتمر أو ندوة أو قاعة!!

وهي صورة ملحمية حول أكذوبة الحزب الحاكم التي لا تعدو أن تكون سرابا: كلما ازدادت مراهنة الحاكم عليه كلما تباعدت الهوة بينه وبين شعبه. لم تستطع كل تلك السنوات من حشو نخب المائدة بكل أصناف الامتيازات من الصمود أمام ساعات قليلة من المظاهرات ولم تستطع كل تلك الكلمات التي رصعت جرائد وكتب الأنظمة المستبدة من مقاومة شعارات عفوية تولدت من رحم الشعب وكتبت على اللافتات.

يقدم الكتاب دراسات متعددة لباحثين ومفكرين عرب وأجانب حول ما بات يعرف بـ"الربيع العربي"، النعث الذي لم يستعمل في الكتاب إلا لوضعه فوق طاولة التشريح والاختبار السوسيولوجي. فبقدر ما يحاول الكتاب، في ما يعادل 223 صفحة من الحجم المتوسط، خلخلة المفاهيم المتداولة ونقد المقولات التي سرعان ما هاجرت من مجال الصحافة إلى مجال البحث، بقدر ما يقدم لنا قراءة جديدة متجددة للشرارات الأولى التي أعلنت ميلاد حركية نضالية جديدة تتجاوز الإطار الضيق الذي رسمته الدراسات النيوكولونيالية للتغيير في العالم العربي، باعتباره أصبح مرادفا للجمود والعجز. وبالشكل الذي حاول فيه الكتاب تعبيد الطريق أمام قراءة جديدة تأخذ بعين الاعتبار مختلف المتغيرات السوسيو-تاريحية التي طرأت على عدة أقطار من العالم العربي، فإنه لم ينسق بشكل تلقائي مع القراءات "المتحمسة" التي أعلنها بعض الكتاب والمفكرين في تغييب ممنهج لأوليات البحث العلمي الاجتماعي الرصين كما أسس له المنهج التفسيري لماكس فيبر أو ما بات يلخص بعبارة الحياد القيمي.

ثلاث عشرة مساهمة علمية جعلت من الكتاب يجوب عدة أقطار عربية، ليرصد أسس وجذور التغيير والرغبة في التغيير التي كانت، بدون أدنى شك، أكبر وأضخم من ديناميات التغيير كما شهد عليها الحراك. ورغم النهاية المأساوية التي عانقتها الكثير من هذه التجارب، فإن الكتاب حاول أن يدرس البنيات الاجتماعية ودينامياتها، سواء المجالية أو السوسيولوجية لفهم ما يجري وتقدم تفسير علمي لتلك الأحداث المتعاقبة.

يمكن القول إن الكتاب يلامس قضايا التغيير بشكل عام من خلال إعادة تفكيك رموز النظريات السوسيولوجية الكبرى، ولاسيما تلك المتعلقة منها بالتغيير الاجتماعي، التعبئة الاجتماعية أو الثورة. يحتوي الكتاب على دراسات عامة ذات حمولة نظرية كدراسة دومينيك مارتان D. Martin "الانتفاضات العربية منذ 2011: من الأحاسيس إلى الحراك الاجتماعي (ص 15 إلى 44) أو تلك المتعلقة ب "الاحتجاج" لبان سبورك (ص 45 – 56)، إضافة إلى تطور أشكال التعبئة الجماعية في العالم العربي" لسليمة اللعبي – زبير (ص 191 – 205). إلى جانب هذه الدراسات يقدم الكتاب حالات أقطار تونس والجزائر والمغرب قبل وبعد الحراك العربي، وتحاول بعض المساهمات تلمس طريق "الاختيار الثوري" في بعض هذه البلدان منذ سنوات خلت مؤكدة على أن الحراك لم يخب إلا لطبيعة بعض المعطيات الجيوستراتيجية، وهو الشيء الذي ذهبت إليه بعض القراءات لحالة الجزائر مثلا.

من بين الدراسات التي تناولت الوضع التونسي - مهد الحراك العربي، يقدم لنا الباحث مراد بنجلول (آخر عامل على إقليم سيدي بوزيد، والذي غادره مباشرة بعد اندلاع الشرارات الأولى لثورة الياسمين ليلتحق بكرسيه الجامعي) العمق السوسيو-مجالي للفوارق الاجتماعية التي نخرت البنيات الاجتماعية بهذه المنطقة، والتي لا تعتبر حادثة البوعزيزي سوى تجلي من تجلياتها الأكثر انتشارا عبر وسائل الإعلام والاتصال الحديث،

وهو الموضوع الذي درسه بإمعان جان مارك سالمون J.M. Salmon في مساهمته المعنونة "انهيار النظام السلطوي والرقمية العابرة للحدود: حالة تونس" (ص 97 – 124")، والتي يرصد من خلالها دور الاستعمال الذكي وأحيانا "المتحايل" للتقنيات الإعلامية والرقمية، سواء داخل تونس أو من خارجها (فرنسا مثلا) لإعادة صناعة الأحداث بشكل يجعلها تصب في قالب ثوري عام، ويعطيها الشرعيتين الإعلامية والشعبية.

أما مساهمة يوسف صديق، فإنها وصفت الحراك المغربي من خلال دراسته لحركة 20 فبراير محاولة ربطها بواقعها السوسيولوجي، باعتبارها تدخل في سياق تحولات عميقة يعرفها المشهد السياسي والاجتماعي المغربي منذ عقود. وهي الحركة، في نهاية المطاف، ورغم قوة ولادتها وجدة أشكال احتجاجها وتعبئتها، انخرطت وبشكل عفوي في الأشكال التقليدية التي كانت الأحزاب والجماعات السياسية مصدرها. فخفت صوتها تدريجيا وانطفأت أنوارها كلما وطدت علاقتها بمجال حزبي- تقليدي لا يحتج إلا ليستعيد كرسيه حول طاولة المفاوضات مع المخزن، بعدما انعزلت نخبه عن واقعها الاجتماعي وانزوت في صالونات الندوات والمحاضرات العميقة.