الحكم والرّدّة: إضافتان إلى الدين تؤسسان للعنف والتطرف


فئة :  مقالات

الحكم والرّدّة: إضافتان إلى الدين تؤسسان للعنف والتطرف

"ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله"

لم يكن الصراع الإسلامي الإسلامي على مدى التاريخ سوى صراع على الحكم، وهذا شأن جميع الأمم والدول أيضًا، ولكنّ التجربة الإسلامية تميزت بإقحام مسألة الحكم في الدين حتى صارت جزءًا منه، ولم يعد سهلاً التمييز بين الإنساني والديني، وتحول الصراع إلى دينيّ يحشد الناس والمؤيدين للدفاع عن الدّين، ولأجل منح السلطة والصراع مزيدًا من الصلابة والتماسك فقد قننت الردة في أحكام تبدو دينية مسلطة على كل معارض وكل إنسان ليجد نفسه إن أغضب السلطان مرتدًّا يجب قتله لأجل الدين وليس لحماية الحكم والسلطة وغضبًا لله وليس غضبًا للحاكم!

وبطبيعة الحال، فإنّ المواجهة مع الكراهية والعنف والتطرف (الإسلامي) سوف تظل في حالة اشتباك مع مفاهيم الحكم والردة وقضاياهما وأحكامهما التي اكتسبت على مدى التاريخ شرعيةً وصلابةً، وصارتا أكثر أهمية وحضورًا من الدين نفسه بالرغم من أنّهما أضيفتا إليه من عند البشر وليس من عند الله، يقتتل الناس ويقتلون ويسجنون ويعذبون ويحرمون لأجلهما، ونكاد لا نسمع عن صراع أو حرمان لأجل أركان الإسلام وأركان الإيمان بالرغم من أنّها الدين الذي نزل من عند الله.

إنّ الفكر الإسلامي التقليدي المتبع لدى الدول والمجتمعات في مسألة الحكم في حاجة إلى مراجعة، والمحتوى الفهم التاريخي المتبع والمستمد من التراث الديني والمؤسسات الدينية الرسمية والمراجع الإسلامية التاريخية والتقليدية يمثل مصدرًا مشتركًا للدول والسلطات العربية والإسلامية القائمة والتاريخية كما الإخوان المسلمون والجماعات المتشددة، ومساحة الاختلاف بين الفهم والفكر الرسمي الذي تتبعه الدول والأنظمة السياسية العربية والإسلامية وبين الجماعات المتشددة ليست كبيرة، وتكاد لا تذكر!

ولم يعد ثمة مناص من البحث عن نموذج فكري وفقهي مقبول دينيًّا ويساعد أكثر في المواجهة الفكرية مع المتطرفين، ويصلح لدولة معاصرة تقوم على المواطنة، ويمكن بالطبع للدول والمجتمعات أن تجد نموذجًا فكريًّا وفقهيًّا لا يتعارض أبدًا مع الضمير الديني ولا الشريعة الإسلامية ومقاصدها وجوهرها، وفي الوقت نفسه فإنّه نموذج أكثر فعالية وتأثيرًا في المواجهة الفكرية مع المتشددين والإرهابيين والخارجين على القانون باسم الدين، وهو أيضًا يمكن أن يجد احترامًا وقبولاً كبيرين في العالم المتقدم.

هل ثمة مجال لفهم الإسلام وتطبيقه واتّباعه من غير تعارض مع الاتجاهات المعاصرة للدول والحضارات التي أنشأت قيمًا للعلاقة بين الفرد والدولة والمجتمع تقوم على الحريات والعقلانية، وترد التشريعات وشؤونها ومسائلها واحتياجاتها إلى سلطة بشرية منتخبة؟ هل يمكن التخلي عن النموذج والفهم الأكثر اتباعًا في التاريخ من قبل الدول والمجتمعات، وفي الوقت نفسه التمايز الفكري والفقهي الواضح والحاسم مع الجماعات المتطرفة والخارجة دون التخلي عن الإسلام وعلاقته بالتشريع والدولة والتراث والثقافة والتعليم والمجتمع، وأن نكون أكثر انسجامًا مع العالم والعصر، وأكثر تقبلاً متبادلاً بيننا نحن المسلمين وبين العالم؟

هناك بالطبع قراءات معاصرة وتاريخية للنصوص الدينية تحقق هذه المطلب، مثل أعمال (وآراء) "علي عبد الرازق"، و"حسن الهضيبي"، و"محمد أركون"، و"عبد الله النعيم"، و"نصر حامد أبو زيد"، و"طه حسين"، و"ابن رشد" و"الكاساني"، وغيرهم كثير، ولكنهم لشديد الأسف تعرضوا للإقصاء والتهميش والعقوبة والحرمان على يد السلطات السياسية، ويجب التذكير وتكرار التذكير أنّ "علي عبد الرازق" و"نصر حامد أبو زيد" و"طه حسين" تعرضوا للعقوبة والحرمان على يد السلطة السياسية وليس الجماعات الدينية، وأنّ السلطات السياسية الحديثة ساهمت في محاربة القراءة العقلانية للدين وشجعت ورعت جماعات الإسلام السياسي والتكفير والجهاد، وهي مسألة تحتاج إلى وقفة مستقلة!

يقول الشيخ علي عبد الرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم" إنّ الموقف الغالب في الفكر والتراث الإسلامي السني والشيعي هو النظر إلى الخلافة والحكم باعتبارهما ركنًا أساسيًّا من الدين والعقيدة، ويغلب في السلوك والفكر الإسلامي المتبع حتى اليوم في الدول العربية والإسلامية إضفاء كثير من معاني القدسية وأحكامها على الخلافة، وأنّ الخليفة يستمد سلطانه من الله، ولكن هناك مذهب ثان نزع إليه بعض علماء الأمة وهو أنّ الخليفة يستمد سلطانه من الأمة، فهي مصدر قوته، وهي التي تختاره لهذا المقام، ومثل هذا الخلاف بين المسلمين في مصدر سلطان الخليفة قد ظهر بين الأوروبيين وكان له أثر فعلي كبير في تطور التاريخ الأوروبي، يمثل الاتجاه الأول الفيلسوف توماس هوبز، والثاني جون لوك.

لقد أضفى التراث الإسلامي على الخليفة صفات دينية عظيمة، فهو (الخليفة) يستمد سلطانه من سلطان الله تعالى وقوته من قوته. ذلك رأي تجد روحه سارية بين عامة العلماء وعامة المسلمين أيضًا، وكل كلماتهم على الخلافة ومباحثهم فيها تنحو ذلك النحو، وتشير إلى هذه العقيدة، وقد جعلوا الخليفة ظل الله تعالى. (على عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم، ص119) فالخليفة ينزل من أمته بمنزلة الرسول من المؤمنين، له عليهم الولاية العامة، والطاعة التامة، والسلطان الشامل، وله حق القيام على دينهم، فيقيم فيهم حدوده، وينفذ شرائعه، وله بالأولى حق القيام على شؤون دنياهم أيضًا، وعليهم أن يحبوه بالكرامة لأنّه نائب رسول الله، فمن سما إلى مقامه بلغ الغاية التي لا مجال فوقها لمخلوق. (عبد الرازق ص 116 مقتبسًا من البيضاوي: مطالع الأنوار) وعلى المسلمين أن يسمعوا له ويطيعوا ظاهرًا وباطنًا، وليس للخليفة شريك في ولايته ولا لغيره ولاية على المسلمين. (عبد الرازق، ص 117، مقتبسًا عن الباجوري شيخ الأزهر في العام 1847 في شرح جوهرة التوحيد) لأنّ طاعة الأئمة من طاعة الله وعصيانهم من عصيان الله. فنصح الإمام ولزوم طاعته فرض واجب وأمر لازم، ولا يتم إيمان إلاّ به ولا يثبت إسلام إلا عليه،.. وجملة القول إنّ السلطان خليفة رسول الله وهو أيضًا حمى الله في بلاده وظله الممدود على عباده،.. ولايته عامة مطلقة، كولاية الله وولاية رسوله، ولا غرو حينئذ أن يكون له حق التصرف في أرقاب الناس وأبضاعهم. (عبد الرازق، ص117، مقتبسًا من العقد الفريد)

ويذكر علي عبد الرازق بأنّه يمكن أن ترى في مقدمات الكتب مثل الرسالة الشمسية في القواعد المنطقية للقزويني الكاتبي، وفي شرحها لقطب الدين الرازي، وحاشية السيالكوتي على الشرح المذكور كيف أنّ الاعتقاد بأنّ سلطة الملك أو الخليفة مستمدة من الله مقولة راسخة بين العلماء وسائر الناس.

وفي مجمل كتب الفقه والعقيدة (علم الكلام) يمكن بوضوح ملاحظة أنّ الأغلبية ترى وجوب الخلافة، وقد خالفهم في ذلك بعض الفقهاء من المعتزلة والخوارج، والواجب عند هؤلاء إنّما هو إمضاء أحكام الشرع، فإذا تواطأت الأمة على العدل وتنفيذ أحكام الله تعالى لم يحتج إلى إمام ولا يجب نصبه، وأما الموجبون فقد احتجوا بـإجماع الصحابة والأمة من بعدهم وضرورة تطبيق الأحكام والإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. (عبد الرازق، ص123)

وعلى الرغم من أنّ المسلمين تخلوا عن نموذج الخلافة منذ قرون طويلة، وتحولوا إلى سلطنات ودول سياسية مدنية فقد ظلت المرجعية الدينية والفكرية للدول والمجتمعات هي نفسها التي تؤسس للخلافة والنظر إليها باعتبارها جزءًا أساسيًّا من الدين، وفي ذلك كانت تحدث تناقضات كبرى، فالدول والحكومات تسلك على نحو واقعي وانساني، وتريد غطاءً شرعيًّا دينيًّا، وهي بالطبع تكسب تأييد النخب والناس وكثير من الطبقات الاجتماعية، ولكنها تحمل نفسها أعباء لا تريدها، وتجد نفسها في مواجهة جماعات وفئات تعتقد أنّها تناقض الشريعة ولا تطبقها.