الخلافة بين المثال والواقع: رصد المفارقات


فئة :  مقالات

الخلافة بين المثال والواقع: رصد المفارقات

مدخل:

تحت إكراهات الدولة الوطنية ومفاهيم الاجتماع السياسي المعاصر، التي تقدم باعتبارها مثالاً يُحتذى في الدول النامية، تتخذ حركات الإسلام السياسي، ممثلة في شقها الدعوي الذي يحدد "المواقف الفكرية والسياسية من كافة الأحداث العالمية"[1] عادةً، موقفًا زئبقيا يشوبه كثير من الغموض واللبس إزاء القضايا المتعلقة بنظام الحكم، إذ يمكن تصنيف نظام الخلافة في أدبيات منظري الإسلام السياسي في خانة "المسكوت عنه"، وهو لا يظهر في كتاباتهم إلا في ردود الأفعال التي تطغى عليها النبرة الانفعالية، إذ يبدو واضحًا من خلالها أن المس بشرعية الخلافة هو خروج عن الجادة وحرمان للإسلام من دولةٍ تمثله وتطبق حدوده، باعتبار هذه الأخيرة، أي الحدود، بمثابة الجانب التشريعي الأكثر بروزًا وارتباطًا بالتشريع الإسلامي، كما تراه حركات الإسلام السياسي، لأسباب موضوعية تتعلق بتوسيع الهوة بين "الأنا" و"الآخر".

قد يكون من المفيد الإشارة من البداية إلى المنبع الذي ينهل منه مخيال الحركات الإسلامية آماله المستقبلية بقيام نظام الخلافة، إنه حديث رائج في هذه الأدبيات السياسية يصف، بنوع من التفصيل، المسار الذي ستسلكه الأمة الإسلامية، بل يُعد هذا الحديث المنسوب إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، من "علامات النبوة"، إذ إنه حسب المزاعم يصف بالتدقيق طبيعة الأنظمة السياسية التي ستتعاقب لحكم الأمة الإسلامية، وكأنه نوع من الكشف النبوي للغيب. وإذا كان المجال لا يسمح بإثارة النقاش حول حجية السنة، بل نكتفي بالتصريح من البداية بموقفنا المتحفظ من المرويات التي تضخمت في عصر التدوين بشكل يتنافى مع ما كان عليه الجيل الأول من المسلمين المكتفين بالمصدر الأول للتشريع، بل يتعمق تحفظنا ويشتد كلما اقتربنا من دائرة السياسة، إذ نصطدم بتلك المرويات المتناقضة ذات الحمولة السياسية، التي لا نستبعد أنها تشكلت في سياق التدافع السياسي بين الفرق الإسلامية بغية الوصل بين "الأنا"، التي هي الفرقة الإسلامية ذات الطموح السياسي، والبؤرة التأسيسية الأولى، باعتبار "الأنا" هنا الأحق لتكون الامتداد والوريث الوحيد للإسلام الصافي.

إن إضاءة جوانب غامضة من هذا الحديث النبوي قبل التطرق لمواقف الحركات الإسلامية، ومراجعات أو تنازلات مرجعيات هذه التيارات، خطوة لابد منها حتى نضفي شيئًا من الواقعية على انتقاداتنا لمواقفها، فاعتماد هذا الحديث في هذه الأدبيات هو واحد من جوانب مفارقات الحركات الإسلامية التي نود أن نقف عليها، هذه الحركات التي تتعامل في الغالب مع الموروث الذي تجنده في معاركها السياسية بنوع من الجمود والاكتفاء بالتلقي الساذج من غير إعمال لأي حس نقدي لتمحيص هذه الأسس الذي تنبني عليه رؤيتها إلى المستقبل السياسي.

إن أول ما يمكن الوقوف عليه بخصوص الحديث النبوي الذي تستند إليه الحركات الإسلامية للتبشير بالخلافة النبوية، هو ما ورد فيه من مفاهيم سياسية بالغة التعقيد تنمّ عن عراقة العرب في التنظيم السياسي، غير أن الواقع العربي في القرن السابع الميلادي شيء آخر، كما هو معلوم، فلم يكن من معهود العرب توظيف تلك المفاهيم بحمولتها السياسية. فالعرب كما يقول ابن خلدون "أبعد الناس عن سياسة الملك"، ولم تكن لهم أعراف سياسية منظمة، ولا نستبعد، من هنا، أن يكون ذلك التمييز بين "الخلافة" و"الملك" قد ظهر لاحقًا بعد احتكاك الثقافة العربية بروافد أخرى كانت متطورة نسبيًا بمعايير ذلك العصر. على أن القرآن الكريم يزكي هذا الطرح الذي نذهب إليه، إذ لا نكاد نجد في هذا الكتاب العربي المبين الذي نزل متوافقًا مع المستوى الثقافي، بل منسجمًا مع القاموس العربي الموظف في تلك الحقبة، حتى تتحقق الاستجابة المنشودة من تنزيله، أقول لا نكاد نجد هذا التمييز الدلالي بين "الخلافة" و"الملك"، فالله تعالى في كتابه لا يفرق بين "الخليفة" و"الملك"، بل إنه يعتبر أن النبي داود خليفة تارة، وتارة أخرى يحدثنا عن تفضله عليه بإيتائه الملك، يقول جل شأنه: "يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله"، ويقول في آية أخرى: "وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء".

فلا يقيم القرآن الكريم، كما هو واضح، أيّ تقابل بين الخلافة والملك، بل إنهما في هذا النص، كما في العرف العربي، محمولان على دلالتهما اللغوية المعهودة، فالخلافة في المخيال العربي لا تعدو أن تكون ما ترسب فيها من جملة معتقدات تعود إلى حقب زمانية غابرة كرستها الرسالات السماوية السابقة؛ أي أن المخيال العربي كان يعتقد في خلافة آدم وسلالته للأرض بعد أن كان مقيمًا في الجنة، وتعد هذه الترسبات بمثابة إحداثيات في معلمه يوظفها لفهم مدلول كلمة "خليفة". أما الملك فهو مطلق الحكم، ولا يمكن أن يتم إضفاء دلالات جديدة على هذه المفاهيم، إلا بعد تجارب سياسية تاريخية شهدت أنماطًا مختلفة من الحكم السياسي، فوسم نظام معين باسم خاص خطوة لاحقة على قيام ذلك النسق السياسي أو حتى سقوطه، وكما يقول أحد الباحثين "إن المقابلة التفريقية بينهما؛ أي القول بالخلافة نظامًا للحكم مغايرًا للنظام الملكي، أمر لم يعرفه القاموس العربي، فيما نحسب، قبل انقضاء النبوة بزمن غير قصير. وذلك أن القول بالخلافة نمطًا مسمىً بعينه من أنماط الحكم، في مواجهة للملك نمطًا مستقلاً مغايرًا، هو استخدام لمصطلح سياسي يلزم لنشوء الحاجة إليه في اللغة تواجد النمطين في الواقع التاريخي على نحو من التعاقب والاحتكاك، فضلاً عن العمق الزمني اللازم للتراكم، الأمر الذي لا يمكن التسليم باكتماله قبل انتصاف القرن الهجري الأول على وجه التقريب."[2]

ومن هنا، فالمستند الذي تتكئ عليه الحركات الإسلامية في تبشيرها بالخلافة الإسلامية هو في حقيقته إفراز للأسس المنخورة المهترئة التي تميّز، باعتبارها وصمةً إبستمولوجيةً، رؤى قطاع واسع من المثقفين التقليديين، الذين يتوجسون من إعادة النظر في الموروث الثقافي لغربلته وتقويمه، ومن ثمّ الإبقاء على الصالح والتخلص من الطالح.

التبشير بالخلافة: رصد مفارقات المواقف:

يعد البحث في أدبيات الإسلام السياسي عن مواقف قارة واضحة عن الخلافة وهم محض، خاصة في التصريحات والبيانات ذات الطابع الظرفي المؤقت، إذ إن كبار رموز الحركات الإسلامية، سواء تلك التي انخرطت في العمل السياسي، أو ظلت تُنَظّر من بعيد، لم تغفل التنبيه إلى ضرورة مراعاة السياقات السياسية، أقصد تحاشي الحديث عن مشروع الخلافة قبل لحظة "التمكين"، نجد هذا في مواقف حسن البنا، وهو من السباقين للتبشير بنظام الخلافة بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، فالإمام حسن البنا نص على حتمية التغيير على نحو متدرج، وفقْهُ التدرج هذا يمس العمل المحلي لتقوية حزب الإخوان المسلمين في مصر، وكذلك الامتدادات الخارجية لفكر الإخوان في سبيل تحقيقه لمبتغاه في إقامة نظام الخلافة. فعلى المستوى المحلي يجب أن يُعرّف "الأخ" بفكرة الإخوان المسلمين، ثم التكوين إذ يتم انتقاء كوادر الحزب الذين تشبعوا وآمنوا بالفكر الإخواني؛ فمرحلة العمل والإنتاج والتنفيذ على أرض الواقع، ويلح حسن البنا في غير ما موضع على التحلي بالصبر والثبات والتدرج في الدعوة، إذ يقول في المؤتمر الخامس: "أيها الإخوان المسلمون، وبخاصة المتحمسون المتعجلون منكم: اسمعوها مني كلمة داوية عالية من فوق هذا المنبر في مؤتمركم هذا الجامع: إن طريقكم هذا مرسومة خطواته موضوعة حدوده. ولست مخالفًا هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول، أجل قد تكون طريق طويلة، ولكن ليس هناك غيرها. إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والعمل الدائب، فمن أراد منكم أن يقتطف زهرة قبل أوانها فلست معه في ذلك بحال، وخير أن ينصرف عن هذه الدعوة إلى غيرها من الدعوات."[3]

ويتجلى لنا فقه التدرج هذا واضحًا عند الوقوف على مشروعه في سياق مساعيه لإقامة نظام الخلافة، يقول أحد رموز الإخوان المسلمين في الأردن في كتيّبه عن الفقه السياسي للإمام، معتصرًا مجمل آراء المؤسس واستراتيجياته لإعادة الخلافة: "نستخلص مما كتبه البنا أن الخلافة الإسلامية يسبقها قيام حكومات إسلامية في البلاد الإسلامية، حيث يقوم كل شعب بإفراز الحكومة الإسلامية التي تحكمه بالإسلام، ثم تتوثق الصلات بين هذه الحكومات الإسلامية وتندمج في دولة إسلامية عالمية، وقد سمى ذلك الكيان الدولة للأمة الإسلامية"[4]. ولذلك اعتقد حزب الإخوان بعد الربيع العربي واعتلائه سدة الحكم أن حلم حسن البنا بقيام دولة الخلافة على ذلك النحو قد اقترب تحقيقه على أرض الواقع، وهو ما عبر عنه بصريح العبارة مرشد "الإخوان المسلمين" عندما قال: "إن الجماعة قد أصبحت قريبة من تحقيق غايتها العظمي التي حددها الإمام حسن البنا مؤسس الجماعة، وذلك بإقامة نظام حكم عادل رشيد بكل مؤسساته ومقوماته يتضمن حكومة ثم خلافة راشدة وأستاذية العالم."[5] ولا يمكن أن يمر تصريح كهذا بسلام دون أن يثير حافظة المعارضين لنظام الخلافة الإسلامية من متبني الفكر العلماني، واشتد الجدل حول هذا البوح وتصاعدت الأصوات المنددة، وهو ما اضطر حزب الحرية والعدالة لتدارك الموقف ونفي ما قد يتبادر إلى الأذهان من تبشير الإخوان بالنظام الشمولي الذي عرفه التاريخ الإسلامي، إذ دعا المرشد، حسب المقال الذي نشر في الجريدة الرسمية للحزب، إلى قيام ما يسمى في النظم السياسية المعاصرة بالدولة الفيدرالية، أي "أن يكون هناك اتحاد بين جميع الدول العربية والإسلامية."[6] لا أن يكون على رأس الدولة الإسلامية "خليفة" يتمتع بكل صلاحيات الدين والدنيا ويعين ولاة في الأقاليم على ذلك النحو الذي نجده في التاريخ الإسلامي، بل في فقهه السياسي، وهل يمكن أن نميز بين حدود التاريخ والفقه في السياسة الإسلامية؟

ويعد هذا القلق التنظيري الذي تفرضه الاستراتيجية التي حددها الإمام المؤسس حسن البنا بخصوص لحظة إعلان الخلافة والتبشير بدنو تحققها، استراتيجية التدرج وتحيّن اللحظات التاريخية الملائمة التي يكون فيها قطف ثمار الجهد السياسي وتحقيق الحلم الأعظم قريبًا، ويتجلى لنا في المواقف المضطربة لحزب إسلامي آخر، هو حزب النهضة التونسي، فقد اضطر لإصدار "بيان توضيحي حول قضية الخلافة"، بسبب تورط أحد قيادييه في إثارة موضوع الخلافة، فكان "الآخر" الذي يقف على طرف نقيض من المرجعية الإسلامية كعادته بالمرصاد لهذه التصريحات، والبيان في مجمله لا يختلف كثيرًا في مضمونه عن البيان الذي أصدره حزب الحرية والعدالة المصري، وينهل عمومًا مما ترسب في الوجدان الإسلامي من تمجيد للّحظات الأولى للتاريخ الإسلامي، إذ عبرت الأمانة العامة عن كون المقصود من استعارة كلمة الخلافة الراشدة هو الاستلهام القيمي لتراثنا السياسي وحضارة المجتمع التونسي الذي ننتمي إليه ونعتز به، والمشبع بمبادئ العدل والصدق والحرية والأمانة.[7]

على أن هذه السياسة ذات الوجهين تبرز من خلال تصريحات الأمين العام لحزب النهضة راشد الغنوشي على نحو مكشوف، إذ تعكس بشكل أو بآخر تجذّر فكرة الخلافة في مشروع الإسلام السياسي، وأنها الغاية القصوى من انخراطهم في العمل السياسي، بل إن تصريحات السيد الغنوشي تطرح أكثر من إشكال وتوحي أحيانًا بوقوعه في "التقية السياسية"، إذ يبدو أنه لا يبوح بمشروعه إلا في اللقاءات التي تجمعه بمن يشترك معه في القناعات الإيديولوجية نفسها، ويوظف، في المقابل، قاموسًا ينتمي إلى الاجتماع السياسي المعاصر عندما يخرج بتصريحات على الملأ لنقف عند هذه التصريحات المتناقضة التي لا ينتظمها أي خيط جامع، يقول الغنوشي جوابًا عن سؤال "ما تقول في الخلافة على منهاج النبوة؟": "إقامة الخلافة على منهاج النبوة وفق الوسع والاجتهاد هدف لكل المسلمين الواعين بدينهم"[8] فإذا كان نظام الخلافة، كما هو مُنَظر لها في كتب الفقه السياسي الإسلامي، لا يقر بمفاهيم السياسة المعاصرة، من قبيل الديموقراطية وفصل السلطات وتحديد مهام كل مؤسسات الدولة بشكل واضح، ولم يُعلم أن الفكر السياسي الإسلامي المعاصر جدد في نظرية الخلافة بحيث تتوافق مع الحداثة السياسية، فسيكون التوفيق بين التصريح السابق للغنوشي، وهذا التصريح الذي سنسوقه الآن، والذي أدلى به لمركز نماء، مستعصيًا للغاية، إذ يقول الغنوشي: "نحن واثقون من أن التونسيين كما نجحوا في هذا الإبداع الثوري...  سينجحون في إبداع نموذج مجتمعي يترجم دماء الشهداء وتضحيات الأجيال ويترجموها في نظام ديموقراطي حديث"[9] فأية علاقة تربط الخلافة بالنظام الديموقراطي الحديث؟ مفارقة مضنية لا نجد جوابها إلا فيما طبع الفقه السياسي الإسلامي على مر التاريخ من إضفاء صبغة فقهية شرعية على الواقع الذي يفرض ذاته علينا، حيث يتحول هذا الواقع إلى مشروع نبحث له عن مسوغات، وهي تعبر في الوقت ذاته عن تمزق الإسلام السياسي بين مرجعيتين، الحلم بالخلافة، والرضوخ لإكراهات الحاضر.

على أن هذه المفارقات لا نلمسها في تصريحات السياسيين فقط، بل إننا نواجهها عندما نطالع كتابات المرجعيات الدينية، فرغم أن الشيخ القرضاوي، على سبيل المثال، ينحو منحىً تجديديًا في بعض مقارباته الفقهية للقضايا السياسية، ولو طالعنا كتابه "من فقه الدولة في الإسلام" نجد فقهًا مرنًا وحسًا اجتهاديًا عاليًا، إذ إنه اتخذ مواقف إيجابية من "الديموقراطية" و"التعددية الحزبية" ومن مشاركة المرأة في الشأن السياسي،[10] وهي قيم سياسية معاصرة غريبة عن المجال التداولي الإسلامي، أفرزتها المنظومة الحداثية، وقمنا باستيرادها منها في سياق الاحتكاك الحضاري بالغرب، رغم كل هذه المقاربات الفقهية التجديدية إلا أن الشيخ القرضاوي يأبى إلا أن ينتقد الموقف الصريح والواضح للشيخ علي عبد الرازق حول نقض الخلافة، واعتباره إياها من التاريخ لا من التشريع والوحي، مما يعني أن هذه الفتاوى السياسية لا تعدو أن تكون اجتهادات ظرفية بالنسبة للشيخ القرضاوي، وأن الأصل هو نظام الخلافة كما رسمه الواقع التاريخي الإسلامي، يقول ناعيًا الغزو الثقافي الذي طال بعض شيوخ الأزهر، وأجدني هنا على ضوء هذا المفهوم الذي وظّفه، أقصد "الغزو الثقافي"، عاجزًا عن تصنيف فتاوى القرضاوي، هل هي اجتهادات فقهية أم هي نفسها أثر من آثار الغزو الثقافي؟ يقول الشيخ "وكان من أبرز المظاهر لنجاح الغزو الثقافي: أن الفكر العلماني الدخيل الذي ينادي بفصل الدين عن الدولة، لم يقف عند الرجال المدنيين وحدهم، بل تعداهم إلى بعض الذين درسوا دراسة دينية في معهد إسلامي عريق كالأزهر، كما تجلى ذلك في كتاب علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم".[11]

لندع جانبًا الممزقين بين المرجعيتين، ولننتقل إلى أنموذج آخر من نماذج التبشير بالخلافة، لكن بخلاف حركات الإسلام السياسي التي تزدوج رؤيتها إلى نظام الحكم، فإن هذا الأنموذج صريح وشفاف، مبدئي ولا يفتأ يذكرنا بمبدئيته في الدعوة إلى نظام الخلافة من خلال مقالاته التي يحررها كتابه، إنه حزب التحرير السوري. فهذا الحزب على خلاف الآراء التوفيقية التي تحاول أن تردم ذلك الجدار الفاصل بين التقليد والحداثة يعلنها بلا تردد: "لا يجوز أن يؤخذ نظام الحكم الديموقراطي ولا نظام الاقتصاد الرأسمالي، ولا نظام الحريات العامة الموجودة عند الدول الغربية، فالدساتير والقوانين الديموقراطية، وأنظمة الحكم الملكية والجمهورية، والبنوك الربوية، والبورصات وأسواق النقود العالمية، لا يجوز أخذها، لأنها كلها أنظمة كفر، وقوانين كفر، تتناقض مع أحكام الإسلام وأنظمته."[12]

ولا يغفل حزب التحرير التمييز بين جوهر الديموقراطية وماهية الشورى، وهي رسالة مباشرة للمتخاذلين المنهزمين، حسب الحزب، الذين يرضخون لإكراهات الواقع، ويقلدون الغرب الكافر؛ فالشورى ليست سوى إبداء الرأي، والحزب هنا يعبر من غير لبس عن المذهب القائل بعدم إلزامية الرأي المشار به، في حين أن أحكام الديموقراطية ملزمة، يقول الكاتب: "الديموقراطية غير الشورى، فالشورى هي إعطاء الرأي. أما الديموقراطية، فهي وجهة نظر في الحياة."[13] وإذا كان هذا الرأي كما هو واضح علامة ناصعة على تنظير هذا الحزب للديكتاتورية والتوتاليتارية، فلحسن حظنا أنه لا يتركنا للتخمين وبناء النتائج على هذه المقدمات بخصوص موقفهم من صلاحيات الحاكم، بل إنه ينظّر للديكتاتورية بملء فيه، ويقولها مدوية: "ولا يجب على الخليفة أن يرجع لمجلس الأمة لأخذ رأيه فيما يريد تشريعه من أحكام"، وإذا استشاره في مسألة ما "فإن رأي المجلس لا يكون ملزمًا له"[14] فهل يريد الديكتاتور أكثر من "اجتهادات فقهية" كهذه؟

واعتقد حزب التحرير، بسبب سذاجته التنظيرية وبعده عن الواقعية، أنه سيستلم زمام الحكم في ثلاثة عقود على الأكثر[15]، لذلك سارع لوضع "دستور دولة الخلافة" نوعًا من الاستشراف للمستقبل واستباق أحداثه، وقراءة عابرة في مواد هذا الدستور تحيلنا إلى المصادر التي ينهل منها تصوره للحكم وهيكل النظام الذي يرتضيه. إنها بنية الحكم التي عرفها التاريخ الإسلامي نفسها، والتي كانت سببًا لإثارة غير قليل من القلاقل والفتن، بل إن دستور الخلافة هذا يحمل في أحشائه بذور الفتنة، أو لنقل أنه لا يستبعدها من حساباته، بسبب بنية الحكم التوتاليتارية هذه التي لا تحدد المهام المنوطة بكل جهة بدقة، وهكذا تكون كل الأبواب مشرّعة لإمكانية نشوب فوضى وانفلاتات سياسية بسبب غياب الضبط الدستوري. ونقرأ في المادة 40 من هذا الدستور أن من أسباب عزل الحاكم العجز عن القبض بزمام الأمور، وهذا العجز ينتج عن سببين؛ أحدهما "أن يتسلط عليه فرد واحد أو عدة أفراد من حاشيته فيستبدون بتنفيذ الأمور"[16]، وهنا أتساءل ما سبب هذا التسلط الوارد فعلاً؟ أليس الغياب شبه التام لتنظيم الشأن السياسي وفصل السلطات، وقرن مسؤولية كل جهة بالمحاسبة؟ بلى، وهذه هي أكبر ثغرات نظام الخلافة، كما سنرى في المحور التالي.

التنظير للخلافة: مفارقات وثغرات

تكاد تكون مفارقات التنظير الفكري للخلافة أشد بروزًا من المواقف السياسية المتخذة حيالها، بل نستطيع أن نقول إن اضطراب المواقف السياسية من نظام الخلافة في تصريحات السياسيين، هي في مجملها إفراز لتخبط فكري حول جينيالوجيا نظام الخلافة كله، جينيالوجيا الشرعية التي تمتزج امتزاجًا ملتبسًا بالتاريخ، حيث يصير هذا الأخير واقعًا، المشرع الأكبر للفقه السياسي، وهي فكرة نص عليها المفكرون العرب الذين أعادوا النظر في الموروث، كالجابري في "العقل السياسي العربي"، وانتبه لها بعض المفكرين الإسلاميين في كتب صدرت بعد الربيع العربي، يقول أحدهم عن طبيعة الفقه السياسي الذي تنهل منه حركات الإسلام السياسي وتغذي به مخيالها الفكري "فقه السياسة الشرعية كان أقرب إلى توصيف الواقع وحكايته وتسويغه من الناحية الفقهية وآل الأمر إلى تفويض الصلاحيات كلها أو جلها إلى الحاكم الذي اشتدت وطأته وقويت شوكته."[17] على أنه إذا أردنا أن نفصّل في ما يقصده الباحث من تسويغ الواقع، فسنكون في حاجة إلى تأمل الظروف التي أدت إلى تشكل الفكر السياسي السنّي.

لقد كان للخلافات المذهبية بين السنة والشيعة أكبر الأثر في تأبيد المنظومة السنية للتاريخ، واتخاذه مرجعًا للتشريع، في الوقت الذي تظن فيه الحركات الإسلامية أنها تستمد رؤيتها حول النظام السياسي من النص. وبيان ذلك أنه بالموازاة مع الخط الشيعي الذي كان يوجه سهام نقده للتاريخ الإسلامي الأول، وطعنه في شرعية الملابسات السياسية التي عرفتها "الخلافة الراشدة"، قام علم الكلام السني يرد على هذه المطاعن ويضفي الشرعية على هذه الحقبة، من هنا نستطيع أن نحل مفارقة أخرى التبست على كثيرين، وهي إذا كانت السياسة من الفروع فلماذا وردت في كتب علم الكلام التي يذب فيها المتكلم عن الأصول؟ يقول باحث معاصر "أما الشبهة التي عرضت لهذا النفر من الباحثين الإسلاميين، بسبب مجيء مباحث الإمامة في كتب علم الكلام، دون كتب فروع الفقه، فلقد عرض مفكرو الإسلام لتفسيرها ومن ثم رفعوا مبررات الاشتباه، فالشيعة كانوا طليعة المؤلفين في مباحث الإمامة، وقد وضعوا، اتساقًا مع فكرهم، مباحثها في كتب الأصول، فلما جاء المعتزلة وكل فرق أهل السنة ليردوا على الشيعة بمباحثهم في الإمامة؟ جرت عادتهم على مجارات الشيعة بوضع مبحثها في كتب الأصول، برغم أنهم يعدونها من مباحث الفروع، وينكرون أن تكون أصلاً أو ركنًا من أصول الدين وأركانه."[18]

وقد حدث فيما بعد أن تم تخليص "الملحقات السياسية" في كتب علم الكلام من طابعها السجال الجدلي، وتقديمها في صياغة فقهية وكأنها منظومة تشريعية، وهذا ما قصدناه من قولنا إنّ التاريخ استحال تشريعًا، ولا نعدم أمثلة من أشهر كتب الفقه السياسي، مثل "الأحكام السلطانية" للماوردي (ت 450 هـ) على هذا التأبيد للزمني الظرفي، فالماوردي على سبيل المثال عندما يورد طرق اختيار الحاكم داخل المنظومة السنية يضعنا أمام تفاصيل هذا التفريغ الفقهي للتاريخ، إذ يقول: "والإمامة تنعقد من وجهين: أحدهما باختيار أهل العقد والحل. والثاني بعهد الإمام من قبل"[19] فواضح أن ما سماه باختيار أهل الحل والعقد هو الطريقة التي تم بمقتضاها اختيار الخليفة الأول في التاريخ الإسلامي "أبو بكر الصديق" في اجتماع "السقيفة"، وأما العهد فإشارة إلى ترشيح أبي بكر لعمر بن الخطاب وعهده بالحكم إليه، والأمثلة في هذا الكتاب مستفيضة على ما ذكرناه، لهذا يقول الجابري: "والواقع أن عنصر الجدة في عمل الماوردي يرجع إلى كونه انتزع الكلام في الإمامة من كتب المتكلمين، والحديث عن الولايات الدينية من كتب الفقهاء ووصف النظام الإداري في عصره وصفًا تبريريًا، ثم جمع هذه الأقسام الثلاثة في كتاب واحد سماه الأحكام السلطانية والولايات الدينية"[20]

هذا عن مفارقة تسويغ الواقع فقهيًا، وأما ما سماه الباحث "وآل الأمر إلى تفويض الصلاحيات كلها أو جلها إلى الحاكم الذي اشتدت وطأته وقويت شوكته"، فحقيقة معروفة في كتب الفقه السياسي الإسلامي، وهي جزء من بنية نظام الخلافة، التي لا ترى بأسًا في ولاية الاستيلاء، لكن يجب ألّا نفهم من إيراد الباحث لهذه النقطة منفصلة عن تسويغ الواقع، أن هذا التفويض لجميع الصلاحيات إلى من اشتدت وطأته وشوكته كان بمثابة تنظير مجرد لم يحصل على أرض الواقع، لا بل إنه مثال من الأمثلة الدالة على هذا التسويغ، فكثيرًا ما حصل في التاريخ الإسلامي أن وثب صاحب شوكة ما على السلطة، بل إن مفهوم "الشوكة" هو مفتاح نظرية العصبية الخلدونية التي على ضوئها قارب ابن خلدون الدولة الإسلامية، وهكذا لا نستغرب تبرير الفقهاء لهذا الأمر الواقع وشرعنتهم للمتغلب والمستولي على الحكم بالقوة مستندًا على "الشوكة"[21]، يقول أبو حامد الغزالي: "إنما الغرض قيام شوكة الإمام بالاتباع والأشياع"[22].

هذا عن مفارقة تسويغ الواقع، أما المفارقة الأخرى التي سنرصدها الآن، فهي عدم التمييز بين الخلافة والملك على نحو واضح وقاطع في أثناء التنظير، والسبب يرجع في اعتقادنا إلى الاحتفاظ بمفهوم "الخلافة" رغم تحولها إلى "ملك"، وقد أشار ابن خلدون إلى هذه المفارقة في مقدمته، حيث يقول: "ثم ذهبت معاني الخلافة ولم يبق إلا رسمها". إن كثيرًا من المنتمين إلى الحركات الإسلامية يمجدون "الخلافة" الأموية والعباسية والعثمانية، وينعون سقوط هذه الأخيرة، والحقيقة أن بعد انقضاء عهد الخلافة الراشدة قامت كيانات سياسية لا ترعى في الغالب حدود الشرع، ولنقل أنها دول علمانية بالأساس تحكم بسياسة ميكيافيلية لاأخلاقية، يحدثنا أبو الأعلى المودودي عن هذا التحول الذي طال جل التاريخ الإسلامي من معاوية إلى لحظة سقوط الخلافة العثمانية، وهو تحول عن القيم الأخلاقية التي كانت توجه وتؤطر الخلفاء الراشدين، يقول: "كانت بداية التحول معه [أي معاوية] ثم استحكمت وتعمقت جذوره بعد ولاية عهد يزيد لدرجة أنه لم يتزلزل يومًا واحدًا من وقتها وإلى إلغاء مصطفى أتاتورك للخلافة في القرن الحالي."[23] ويورد المودودي جملة من الفوارق الجوهرية بين الخلافة الراشدة والملك، تمس بالأساس "التغيير في قانون تنصيب الخليفة"، فبينما كان اختيار الحاكم في الماضي يتم على أساس أن "الأصل هي الأمة"، والشوري آلية لتفعيل هذا الأصل، صار الحكم ينتقل تلقائيًا آليًا بالتوريث والعهد على أساس قبلي، فتظل السلطة محتكرة من قبل أسرة واحدة. وكذلك "التغيير في طريق عيش الخلفاء"، يقول المودودي: "ثاني التغيرات وضوحًا بعد هذا كان اختيار الخلفاء أسلوب عيش كسرى وقيصر منذ بداية عهد الملك وتركهم طراز عيش النبي، عليه الصلاة والسلام، والخلفاء الراشدين الأربعة"[24]، وكذلك التغيير في وضع بيت المال، سواء طريقة جمع الزكاة والخراج والجزية التي كانت بالأساس موارد أساسية لبيت المال، أو طريقة توزيعها، فقد عرف التاريخ الإسلامي صفحات من الظلم الغاشم، يتجلى لنا ذلك عندما تقرأ في كتب التاريخ كيف كان الولاة يفرضون على من يدخل في الإسلام أداء الجزية. أما الأسلوب المتبع في توزيع هذا المال، ففي الغالب أسلوب غير عادل يروم تثبيت السلطة والنفوذ السياسيين، إما بإغراء الخصوم السياسيين للتنازل عن المعارضة، أو صرفها على "الخواص" من أصحاب الدولة. ويذكر المودودي كذلك "زوال حرية الرأي" و"ظهور العصبيات القومية".[25]

إن بإمكاننا إجمال الفوارق بين الملك والخلافة كما حددها المودودي في خاصية واحدة، ألا وهي النزاهة الأخلاقية، فالسلوك السياسي للخلفاء كان راشدًا ومرشدًا، بينما كان ملوك الإمبراطوريات الأموية والعباسية والعثمانية، إلا القليل منهم، يتوسلون بكل الطرق الشرعية وغير الشرعية من أجل تحقيق مقصدهم الأسمى، وهو الحفاظ على السلطة، ولعل هذه الخاصية ستتفتح لنا آفاقًا جديدة لمفارقات أخرى.

لقد كان الخلفاء الراشدون ذوي خلفيات أخلاقية عالية، لكن هل تكفي نزاهة الخليفة لقيام دولة مثالية؟ لعل الأحداث التاريخية لهذه الحقبة الزمنية تقدم لنا جوابًا واحدًا لهذا السؤال؛ فشيوع "الفتن" الكثيرة ينبئنا بخلل ما في هذه الخلافة، وللإشارة فطبيعة المقاربة لهذه الحقبة تحدد لنا الفارق بين قراءة المفكر الموضوعي وبين من ينساق مع ما يسميه أحد الباحثين "عصابًا جماعيًا"، فأكثر الإسلاميين ينبهرون بالسلوك العادل للخليفة، ويتناسون دراسة الواقع السياسي الذي أفرز تلك الفتن.

وهكذا فنحن، رغم إعجابنا بالسيرة السياسية للخلفاء الراشدين الذين عرفوا بأمانتهم وعدلهم، إلا أنه مهما يكن من مثالية هذه الحقبة فلا يمكن أن تتخذ أنموذجًا تشريعيًا، ذلك أن ثغرات دستورية كثيرة تخللت الفعل السياسي الراشد، يقول الجابري "إذا نحن أردنا أن نستخلص الدروس السياسية من أحداث الفتنة وجب القول إن ما حدث كان تعبيرًا عن فراغ دستوري كبير في نظام الحكم الذي قام بعد وفاة النبي."[26]

ويذكر الجابري ثلاث ثغرات دستورية كبيرة في نظام الخلافة الراشدة، الأولى "عدم إقرار طريقة واحدة مقننة لتعيين الخليفة"، ففي اجتماع السقيفة كان اختيار أبي بكر "فلتة" كما قال عمر بن الخطاب نفسه، ثم بعد ذلك اتقاء لهذه الفلتة عهد أبو بكر لعمر بن الخطاب، فلم تكن هناك طريقة واحدة لتعيين الخليفة، مما يعني أن الباب يبقى مفتوحًا لكل الاجتهادات والاحتمالات.[27] كما أنه من خلال تقديم قراءة تاريخية في حادثة قتل عثمان، تبين له أن من أسباب هذه الفتنة "عدم تحديد مدة ولاية الخليفة"، ويرى أن ذلك راجع إلى ما ترسب في اللاشعور الجمعي من أن "أمير المؤمنين" كغيره من المواطنين في المجتمع العربي لا تبرز مهمته إلا في قيادة الحروب، وبعد أن تضع هذه الأخيرة أوزارها يعود مواطنًا عاديًا، وهكذا لم يبرز هذا المشكل إلا مع تطور الدولة الإسلامية، يقول: "والجديد الذي حدث على عهد عثمان أن مدة ولايته طالت [حتى مله الناس]"[28]. والفراغ الدستوري الثالث هو عدم تحديد اختصاصات الحاكم، يقول عنه "كشفت الثغرة الدستورية الثالثة عن وجهها على لسان الخليفة نفسه: لقد رفض انتقادات الثوار ومطالبهم لأنه كان يرى أنه من اختصاصاته وحده التصرف في فضل المال كما يشاء، وأن من اختصاصاته وحده اختيار العمال والولاة."[29]

يبقى أن نشير إلى مفارقة أخيرة، هل الخلافة من الدين؟ لعل علي عبد الرازق من أهم من أجاب عن هذا السؤال، لننظر بإيجاز في ملحمته "الإسلام وأصول الحكم".

يعرض علي عبد الرازق لآراء مناصري الحكم المطلق في الخلافة، فيورد تعريفهم بأنها: "رياسة عامة في أمور الدين والدنيا نيابة عن النبي، صلى الله عليه وسلم" وهي كما قال ابن خلدون: "خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به"، إن في هذه التعريفات إشارات قوية إلى أصول الاستبداد في الواقع العربي الإسلامي، فالاعتقاد في قداسة الخليفة نابعة من اعتباره خلفًا للنبي، صلى الله عليه وسلم، في أمته، وهكذا فكل الثقل الذي تتمتع به شخصية النبي ينتقل إلى من يخلفه، والسلطتان المدنية والدينية اللتان كانتا للنبي، صلى الله عليه وسلم، ستصير في يد الخليفة، لذلك كان له عليهم الولاية التامة، والسلطان الشامل، وواجب شرعي مختوم بخاتم الفقهاء أن يحبوه بالطاعة المطلقة، يأتمروا بأوامره ويتناهوا عما نهى عنه. ثم يتساءل علي عبد الرازق: "قد كان واجبًا عليهم إذ أفاضوا على الخليفة بكل تلك القوة ورفعوه إلى ذلك المقام، وحفوه بكل هذا السلطان أن يذكروا لنا مصدر تلك السلطة التي زعموها للخليفة، أنى جاءته؟ ومن الذي حباه بها وأفاضها عليه"؟ ولا يجد أنصار الخلافة من دليل لا من القرآن ولا من السنة، بل يلجؤون إلى الأصل الثالث من أصول الاستدلال الإسلامي ألا وهو الإجماع، يقول علي عبد الرازق "إنه لعجب عجيب أن تأخذ بيديك كتاب الله الكريم، وتراجع النظر فيهما بين فاتحته وسورة الناس، فترى فيه تصريف كل مثل "ما فرطنا في الكتاب من شيء" ثم لا تجد فيه ذكر تلك الإمامة العامة".

تلك كانت المفارقات التنظيرية التي وقفنا عليها بخصوص نظام الخلافة، وهي في مجملها تتراوح بين عدم الفصل الحاسم بين الخلافة الراشدة ونظام الملك، وكذلك عدم التمييز بين السيرة الحسنة للخلفاء والثغرات الدستورية الكبيرة في نظام الخلافة التي أطلت بوجهها في الفتن الكثيرة التي نشبت حينها، والأهم من كل هذا عدم الفصل بين التاريخ والشريعة، فنظام الخلافة كما ورثناه في كتب الفقه السياسي تسويغ فقهي للواقع، ولم يكن تنظيرًا منطلقًا من القيم الدينية الموجهة.


[1] المادة 29 من النظام العام للإخوان المسلمين، وتحدد المادة مهام مكتب الإرشاد العام.

[2] عبد الجواد ياسين، السلطة في الإسلام، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2008، ط3، ص 58

[3] حسن البنا، المؤتمر الخامس من مجموعة الرسائل، ص 256

[4] محمد أبو فارس، الفقه السياسي عند حسن البنا، دراسة منشورة على موقع "ويكيبيديا الإخوان المسلمين": http://www.ikhwanwiki.com

[5] نشرته جريدة "المصريون" بتاريخ 29/11/2011، نقلا عن "إصدار برقم 2/12"، حرره شريف زايد، رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير، ولاية مصر، منشور على الموقع الإلكتروني "المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين"، على الرابط التالي: http://www.pal-tahrir.info/hizb-world/4089-

[6] نشرته جريدة الحرية والعدالة بتاريخ 5/1/2012

[7] بيان توضيحي حول قضية الخلافة، حمادي الجبالي (الأمانة العامة)، تونس في 15 نوفمبر 2011، منشور على الموقع الرسمي لحزب النهضة التونسي: http://www.ennahdha.tn/

[8] من حوار مع راشد الغنوشي، إعداد معتز الخطيب، منشور على موقع "ويكيبيديا الإخوان المسلمون": http://www.ikhwanwiki.com/

[9] حوارات ما بعد الثورة، إعداد مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت، 2012، ط1، ص 189

[10] يوسف القرضاوي، من فقه الدولة في الإسلام، القاهرة، دار الشروق، ط3، 2001، ص ص 129 -198

[11] نفسه، ص 14

[12] عبد القديم زلوم، الديموقراطية نظام كفر، يحرم أخذها أو تطبيقها أو الدعوة إليها، من مشورات حزب التحرير، ص 14

[13] نفسه، ص 21

[14] نفسه، ص 18

[15] جواد بحر النتشة، الطريق إلى الدولة الإسلامية عند حزب التحرير، الخليل، مركز دراسات المستقبل، ط1، 2009، ص235 وما بعدها

[16] مشروع دستور دولة الخلافة، من مشورات حزب التحرير، ص13، منشور على الموقع الإلكتروني الرسمي للحزب: http://www.hizb-ut-tahrir.org/

[17] سلمان العودة، أسئلة الثورة، بيروت، مركز نماء للدراسات والأبحاث، ط1، 2012، ص 66

[18] محمد عمارة، الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية، القاهرة، دار الشروق، ط2، 2007، ص 60

[19] أبو الحسن الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، بيروت، دار الكتب العلمية، [د.ت]، ص 7

[20] محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي: محدداته وتجلياته، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط7، 2010، ص 360

[21] قدم أحمد الريسوني مراجعات في حكم ولاية المتغلب في كتابه "فقه الثورة"، وقد رأى أن "إمامة المتغلب في الأصل ولاية باطلة"، وإن أحاط مواقف الفقهاء ببعض المبررات، منها ما هو اجتماعي، فالتفكك الذي يعرفه المجتمع بسبب التنافس السياسي الذي كان يشتد طبعًا في غياب قواعد الديموقراطية التي تصرف أضرار هذا الصراع، هذا التفكك بما يتسبب فيه من أضرار ومخاطر كبيرة حمل الفقهاء على الاعتراف بشرعية إمامة المتغلب، كما أن هذا النظام الذي قام على التغلب ومن غير استشارة للرعية يكون في الغالب بديلاً عن نظام سابق أمعن في الفساد والظلم، وهكذا من باب الموازنة بين المصالح والمفاسد يقبل العلماء على مضض بإمارة المتغلب. أحمد الريسوني، فقه الثورة: مراجعات في الفقه السياسي الإسلامي، القاهرة، دار الكلمة، 2013، ط1

[22] أبو حامد الغزالي، فضائح الباطنية، الكويت، دار الكتب الثقافية، [د.ت]، ص 177

[23] أبو الأعلى المودودي، الخلافة والملك، ترجمة أحمد إدريس، الكويت، دار القلم، ط1، 1978، ص 101

[24] نفسه، ص 102

[25] نفسه، ص 109

[26] محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، ص 329

[27] محمد عابد الجابري، الدين والدولة وتطبيق الشريعة، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1996، ط1، ص 76

[28] نفسه، ص 78

[29] نفسه، ص 80