"الربيع العربي" في مرآة تاريخ الزمن الراهن


فئة :  مقالات

"الربيع العربي" في مرآة تاريخ الزمن الراهن

"الربيع العربي" في مرآة تاريخ الزمن الراهن

الطيب بياض[1]

انطلقت شرارة ما سمي بـ"الربيع العربي"، بإحراق البائع المتجول محمد البوعزيزي نفسه بالبلاد التونسية كرد فعل على واقع مزر أحس فيه بالغبن والدونية. وتوالت الأحداث، وانتقلت الشرارة إلى بلدان أخرى، بدرجات متفاوتة. وبعد خمس سنوات على حادث البوعزيزي، قام ابن وطنه حسام العبدلي، المنتمي إلى أحد الأحياء الفقيرة بتونس العاصمة، والمعتنق للفكر التكفيري الجهادي العنيف، بتفجير حافلة للأمن الرئاسي التونسي[2].

فما الذي جرى ليتوارى شعار نبيل وجميل، ومطلب محق ومشروع، ينادي بالحرية والعدالة الاجتماعية، فاسحا المجال قسرا، في مجموعة من الأقطار العربية، لصورة مشهدية حالكة موسومة بالعنف والردة الفكرية؟

تفاوتت القراءات والتأويلات، وتمايزت النعوت والأوصاف، لما عرفته البلاد العربية في التسع سنوات الأخيرة؛ هل هو ربيع مزهر أم خريف حزين أم شتاء قارس أم صيف قائظ؟ هل هو ثورة أم انتفاضة أم حركة اجتماعية أم مجرد أمر دبر بليل جرى إخراجه في حلل تمردية مختلفة الشكل، لكنها في الجوهر خدع سينمائية تعيد إنتاج السائد في أشد تجلياته بؤسا ودراماتيكية؟

مصوغ السؤال الأخير يرتبط بتقصي واقع ما حدث، هل هو افراز موضوعي لتطور سيرورة نضجت شروط إثمارها أم مجرد هبة فجائية؟ وفي كلتا الحالتين، هل هو فعل داخلي سواء أكان واعيا ومفكرا فيه ونتيجة تراكم، أو كان عفويا؟ أم إن كل ما جرى كان بمهماز خارجي؟ أو على الأقل جرى توظيفه وتوجيهه لخدمة مصالح واستراتيجيات معينة؟ وقبل هذا وذاك ما هي هواجس مؤرخ الزمن الراهن في التعامل مع هذه الرجة التي ولدها احتقان تراكم خيبات في العديد من البلدان العربية؟ وما هي زاوية معالجته للإسهام في فهم ما جرى؟

موضوع التاريخ هو الإنسان ويُكتب من الحاضر:

إذا كانت داعش قد اختارت لنفسها شعار "باقية وتتمدد"، فأجابها المخرج السوري نجدت إسماعيل أنزور بفيلم يحمل عنوانا نقيضا: "فانية وتتبدد"، فإن هذه التسمية المختزلة لاسم الدولة الإسلامية في العراق والشام، أضحت من أكثر الأسماء التي تلوكها الألسن في السنوات الأخيرة. وقد اختلف الباحثون والمحللون في تفسير أصل وسياق ظهور هذا التنظيم، وبيئته الحاضنة؛ بين من فسر الأمر بتداعيات غزو العراق وحل الجيش العراقي، ومن اعتبر الأمر مجرد صناعة أمريكية لإعادة رسم جغرافية الإقليم، وإخراج الطبعة الثانية من سايكس بيكو، وهناك من ربط الأمر ليس بمتغيرات الحاضر فقط، بل بمسألة المرجعية والنص والسلف. واستهوى الأمر بعض الباحثين لإجراء مقارنة بين داعش والقاعدة، ليس على مستوى الأيديولوجية، بل على مستوى البرنامج وسلم الأولويات. فبينما يقول التنظيم الأول بتنظيف البيت الداخلي من الروافض استعدادا لمواجهة الصليبيين والصهاينة، ترى القاعدة أن الأولوية تقتضي قطع رأس الأفعى، وتقصد بها الولايات المتحدة الأمريكية، ليشعر الصهاينة باليتم والضعف فيسهل القضاء عليهم. وإن كان ما يجمع التنظيمين، فضلا عن المذهب والمرجعية، هو خيار العنف، حتى صارت المغالاة فيه مقياسا معياريا للحشد والتعبئة وجلب الدعم وكسب الأنصار.

كما تنوعت نظرة الباحثين إلى البيئة العربية التي أضحت شبيهة برمال متحركة، والتي زادتها تداعيات ما بعد "بنعلي هرب" اهتزازا، في ظل صعود كتل بشرية محروثة داعشيا، تكفر بالعمل المدني وتترجم عمليا قول الشاعر أبو تمام:

السيف أصدق إنباء من الكتب // في حده الحد بين الجد واللعب

وهي اللغة التي أتقنها القوم في الخمس سنوات الأخيرة من جبل الشعانبي في تونس إلى الموصل في العراق، ومن عدن في اليمن إلى الرقة في سوريا.

غير أنه أمام تعدد وتنوع القراءات والاجتهادات التي قدمها باحثون منتمون لمختلف الحقول المعرفية، يُطرح سؤال ماذا عسى مؤرخ الزمن الراهن أن يضيف؟ وهل باستطاعته تجاوز الصعوبات التي تطرحها الكتابة في هذا النوع من المواضيع الحارقة المحسوبة على الحاضر وليس الماضي؟ وكيف له أن يقبض على "القوى العميقة" المفسرة للأحداث، بلغة المؤرخ الفرنسي بيير رونوفانPierre Renouvin))، لكشف تعقيدات الموضوع؟[3].

"نقول أحيانا: التاريخ علم الماضي، يا له من كلام سيء، وإنه لأمر سخيف أن يكون الماضي، في حد ذاته موضوعا للعلم"[4]. هكذا يكسر مارك بلوك الجرة فوق رؤوس الإخباريين ورواة السير ومحنطي التاريخ. ثم سرعان ما ينتقل من هدم القديم إلى بناء الجديد، وفي رسمه لمعالم الممكن بدل القائم، يستحضر اجتهادات السلف المجدد في جعل الإنسان موضوعا للتاريخ، وغايته في الآن نفسه. "في الواقع تعلمنا منذ زمن طويل، من خلال شيوخنا العظماء، من أمثال ميشلي وفوستيل دو كولانج أن ندرك أن موضوع التاريخ بطبيعته هو الإنسان"[5]. أو لمزيد من الدقة، "يجب إضافة الإنسان في الزمن"[6]. فالزمن بطبيعته مستمر، لكنه دائم التغيير أيضا، ومن تناقض هذين الميسمين الذين يسمانه، تنشأ الإشكاليات الكبرى للبحث التاريخي[7]. فالمؤرخ شديد الالتصاق بالزمن، لا يخرج منه أبدا. تقوده مراوحة ضرورية إلى أن يصيخ السمع أحيانا للموجات الكبرى للظواهر المرئية، العابرة في الزمن، من جانب إلى آخر، والقبض أحيانا على اللحظة الإنسانية، حيث يجري تكثيف هذه التيارات في العقدة القوية للوعي[8]. فيصير التاريخ بذلك علما للإنسان في الزمن المستمر والممتد لكن أيضا المتغير؛ أي علم التغيرات والتبدلات في أحوال الناس وطباعهم وذهنياتهم، بل وحتى أجسادهم.[9]

ينسج المؤرخ الفرنسي إيمانويل لوروا لادوري على منوال سلفه في مدرسة الحوليات، مارك بلوك، ويضيف: "التاريخ يكتب من الحاضر وبضمير خاص"[10]؛ بيد أن من يتصدى لكتابة التاريخ الحاضر أو الراهن تعترضه جملة تعقيدات، قد تتفسخ وتحلل وتذوب في مختبر المؤرخ، إن عالجها بالمواد العلمية الضرورية لها. ويمكن إجمالها في خمسة:

أولا: مسألة المسافة الزمنية كشرط للموضوعية

أعتقد أن الموضوعية لم تكن يوما مرتبطة بالمسافة الزمنية، بل بعُدة المؤرخ وزاوية معالجته وتمكنه من أدوات صنعته؛ فقد تكون صاحب نزوع هوياتي ضيق وتكتب عن أسلافك القدامى المنتمين لزمن سحيق بكثير من التحيز والخلاصات الجاهزة؛ أي بقليل من الموضوعية، وبالمقابل قد تكون حريصا على صفتك الأكاديمية، متسلحا بأدواتها فتكتب عما جرى بالأمس القريب بكثير من الموضوعية.

ثانيا: الكتابة عن أشخاص وفاعلين مازالوا على قيد الحياة

يجعلك هذا التحدي لا تخشى الأحياء قدر احترامك للأموات، فتخوض في تمرين الكتابة عن الجميع بالحذر المنهجي المطلوب، خارج منطق التبخيس أو التقديس.

ثالثا: الكتابة عن سيرورات لم تنته وتطورات لم تكتمل، مازالت تحت مراقبة العين الفاحصة للمؤرخ

أعتقد في هذه الحالة أنه ينبغي التميز بين الظرفي الحدثي العابر والبنيوي العضوي الممتد في الزمن، وبناء عليه نقدم خلاصات أولية، وليس خواتم نهائية، وفي كل الأحوال ليست هناك خلاصات نهائية في حقل التاريخ، لأنه حقل مفتوح على إعادة الكتابة باستمرار في ضوء ظهور وثائق جديدة أو فقط مدارس ومناهج جديدة، تغير زاوية المعالجة والمقاربة.

رابعا: نوعية الوثائق وكيفية التعامل معها

يظهر في مجال تاريخ الزمن الراهن صنف جديد من الوثائق، مختلف عما درج المؤرخون استعماله وتوظيفه، يحضر فيه ما يجري تداوله في وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير. لكن مع ذلك تبقى الوثيقة وثيقة، كل ما حصل في واقع الأمر هو توسيع مفهومها ليشمل كل ما له علاقة بالإنسان؛ ذلك أنها لم تعد مختزلة في الوثائق الرسمية المتأكد من سلامتها. وفي جميع الحالات، يبقى على المؤرخ، كما قال مارك بلوك، أن يبرع في اقتناص وثائقه، فهو الذي يحدد قيمتها ومصداقيتها، لكن عليه أن لا يساير كل ما ورد فيها، بل التعامل معها بنَفَس نقدي، وتملك أدوات استنطاقها لاستخراج المادة العلمية منها.[11]

خامسا: الاشتغال على الشهادات والمذكرات، مع ما يكتنفها من ثقوب وأعطاب

حري بنا الانتباه إلى ثلاثية النواقص الملازمة للذاكرة، والمتمثلة في النسيان والانتقائية وتضخم الأنا، ثم السعي لمعالجتها وفحصها وتأطيرها في أفق الارتقاء بالشهادات إلى مصاف الذاكرة التاريخية.

من باب الوعي بأن المؤرخ معني بما يجري حوله، وبأنه مدعو مثل غيره من الباحثين في العلوم الانسانية والاجتماعية إلى التفاعل مع قضايا عصره، انخرط عدد من المؤرخين العرب في الكتابة عما سمي بـ"الربيع العربي"، من بينهم المصري محمود إسماعيل[12] والتونسي فتحي ليسير[13] والمغربي إبراهيم القادري بوتشيش[14]. باجتهادات وقراءات متعددة محكومة بمرجعيات فكرية ونظرية، وبسياقات تفاعلهم مع الموضوع، وضمن هذا التراكم نقترح تكثيف تفسير أسباب الانزياح الذي عرفته الانتفاضات العربية المطالبة بالتغيير، من استشراف أفق الحرية والعدالة والكرامة إلى الالتفاف عليها من تيارات أمعنت في امتهان الكرامة الإنسانية فيما يلي:

الحاجة إلى الجيوبوليتيك والعلاقات الدولية لإدراك السياق الشارح

شكلت أعوام 1916 و1917 و1918، وقد مر عليها اليوم، ما يفوق قرنا من الزمن، محطات فارقة، بصمت التاريخ الإقليمي في علاقاته بالمحددات الدولية. فبعد إعادة رسم خريطة المنطقة على مقاس القوتين العظميين عصرئذ، بريطانيا وفرنسا، كما صاغ إحداثياتها وحدودها، كل من مارك سايكس وفرنسوا جورج بيكو سنة 1916، إثر تلاشي نفوذ آل عثمان. انطلقت الحلقة الثانية ضمن هذا المخطط الاستعماري المحبوك بإعلان وعد بلفور سنة 1917، الذي دق إسفين الكيان الصهيوني في هذا المجال المعد للتفتيت، كخلية سرطانية تمعن في نخره باستمرار. ثم اكتملت الحلقة بإعلان الرئيس الأمريكي توماس وودرو ويلسون مبادئه الأربعة عشر سنة 1918، التي أرادها أن تشكل خارطة طريق لإقرار نوع من السلم العالمي وفض النزاعات الدولية. فكان أن أنضجت فكرة إنشاء عصبة للأمم، وكان من مكر التاريخ أن لا تنضم إليها بلاده.

بعد الحرب العالمية الثانية، بدأ جني ثمار ما جرى زرعه إبان الحرب الكونية الأولى، وتحولت صيغة العصبة المقترحة سنة 1918 إلى ما عرف بهيئة الأمم المتحدة سنة 1945، ووعد سنة 1917 تُرجم إلى إعلان قيام دولة إسرائيل سنة 1948، بعد أن هيأ الانتداب البريطاني شروط زرع شوكتها على أرض فلسطين. لتتولى بعد ذلك الولايات المتحدة الامريكية رعاية هذا المولود الاصطناعي، حيث حركت أحد أساطيلها نحو المنطقة لحمايته، في إطار توازنات وتجاذبات الحرب الباردة. ويمكن اعتبار نظرية السد التي أتى بها الرئيس الأمريكي ترومان أول خطوة أمريكية لإيجاد موطئ قدم للولايات المتحدة الأمريكية في البحر الأبيض المتوسط؛ ففي عز الحرب الأهلية باليونان، استغل سنة 1947 عجز الإنجليز عن التصدي للضغط الذي كان يمارسه السوفيات على اليونان وتركيا، ليغرق هاذين البلدين بالمساعدات الاقتصادية والعسكرية لاستمالتهما في سياق التهافت على كسب حلفاء جدد إبان الحرب الباردة. وقد تعزز هذا الوجود بدخول الأسطول السادس الأمريكي إلى المياه المتوسطية منذ 1949، كما أن فشل القوات الفرنسية والبريطانية في عملية قناة السويس سنة 1956، كان إيذانا بتراجع الدور الأوروبي التقليدي بالبحر المتوسط، لصالح القوة الأمريكية التي أضحت أكثر فاعلية وتأثير.

ظهرت تباشير هذا التحول الجيوستراتيجي في لعبة تبادل الأدوار، وتعاقب دورات الريادة والهيمنة، منذ ان قدم كاتب الدولة الأمريكي الجنرال جورج مارشال سنة 1947 بجامعة هارفارد عرضا في شكل مخطط حمل اسمه، ظاهره بلسمة جراح أوروبا المثخنة بآلام الحرب العالمية الثانية، وباطنه تسلم زمام الهيمنة على العالم، من إمبراطورية استعمارية قيل إنها لم تكن تغيب عنها الشمس.

كانت المنطقة العربية، زمن هذا التحول الدولي، تمني النفس بخلق تكتل إقليمي لاحم وجامع لمكوناتها، ينطلق من القواسم المشتركة لرص الصفوف والتموقع بشكل فاعل في خريطة التوازنات الدولية، فجرى تأسيس إطار حمل اسم جامعة الدول العربية منذ سنة 1945. وتوالى حصول ما كان مستعمرا من البلدان العربية على استقلاله. وتوالى معه مسلسل الخيبات، سواء على مستوى عدم القدرة على قطع الحبل السري مع الدول المستعمِرة، والتي لم تعرف كيف تضمن وتحمي مصالحها في البلدان التي كانت خاضعة لها فقط، بل جعلتها تدور في فلكها، دائمة التبعية لها، أو على مستوى السياسيات العمومية المتبعة فيها، المعبرة عن اختيارات استراتيجية للدول الوطنية، الناشئة لحظة الاستقلال؛ إذ أقصت الاستثمار في الانسان من سلم أولويتها، فجاءت مؤشرات الفقر ونسب الأمية معبرة عن الخيبات والاحباطات. فيما عكست المواقف على مستوى القضايا الاقليمية والدولية عجزا رهيبا عن حماية الذات من التهديدات الخارجية، بدءا بالموقف مما حصل في العراق وليس انتهاء بما حل بليبيا. فتراكب الغبن الذي أتى من مصدرين: داخلي؛ زرع اليأس والإحباط وأنتج إنسانا قابلا لأن يكون وقودا لأي نار تعرفها المنطقة. وخارجي؛ في صورة شرعية دولية على المقاس تكيل بالمكيالين، وتقسو على شعوب منطقة أخطأت دولها الموعد مع التموقع القوي في الساحة الكونية منذ أن أنشأت إطارها التنظيمي سنة 1945 تحت مسمى الجامعة العربية، لتحكم عليها التوازنات الدولية بتوصيف جديد في الخريطة العالمية، بعد أزيد من ربع قرن، إذ أضحت تُعرف بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا. صار جزء من أبنائها فاقدا للبوصلة، باحثا في الماضي عن الخلاص، قابلا للتوظيف، دون وعي، في إعادة إنتاج إخضاعه، ضمن لعبة أمم كبرى قُدر له أن يكون فيها الضحية ودافع الفاتورة في نفس الآن.

توالي الخيبات وتعاقب هويات

سبق للباحث المصري رفعت السعيد أن كتب دراسة عنونها بـ "الإسلام السياسي من التطرف إلى مزيد من التطرف"، استهل خاتمتها بالقول: "والآن (...) لابد أن سؤالا يثور في ذهن القارئ: أما من نهاية لهذا التطرف، وإلى متى ستظل جماعات الاسلام السياسي مؤهلة لأن تزداد تطرفا؟ والجواب (...) وفق معطيات هذه الدراسة سيظل التطرف في ازدياد (...) طالما ظلت هذه الجماعة عاجزة عن تقبل الواقع، رافضة له، وطالما أن الواقع يظل عاجزا عن مواجهتها والتصدي لها، فكريا وإعلاميا وسياسيا واجتماعيا"[15]. بعد مرور أزيد من ربع قرن على صدور هذه الدراسة، التي نبهت إلى أنه كلما راكم الغرب الانفتاح والإبداع زاد منسوب الغلو في فكر هذه الجماعات، يأبى الواقع إلا أن يؤكد ما ذهب إليه رفعت السعيد.

لقد انتمى المسلمون إلى ثقافة الأمة والخلافة، لفترة طويلة، وأسسوا لأنفسهم مجالهم الخاص، الذي ميزهم عن الآخر. وكانت لحظة الاصطدام والمواجهة مع هذا الآخر فرصة لتقوية اللحمة وتكريس الانتماء إلى هذا المشترك، من فقدان الأندلس إلى الاستعمار الحديث، مرورا بالحروب الصليبية وغزوات المغول والتتار. كان هذا المجال يسمى إما دار السلم في مواجهة دار الحرب، أو دار الإسلام مقابل دار الكفر، أو بلاد المسلمين نقيضا لبر النصارى أو الفرنجة. واستمر هذا الوعاء، ولو هشا، في زمن حكم آل عثمان، إذ ظل محكوما برابط الانتماء إلى وطن روحي عاصمته مكة. وجرى استدعاء قاموس جهادي في مواجهة المستعمر، الذي قدم نفسه بديلا "حضاريا" عن خلافة عثمانية رآها جاثمة بسلبية على رقاب العرب، رغم أن محمد علي سعى إلى تحويل "العمامة العثمانية الفاخرة إلى رأس حقيقي"، على حد تعبير كارل ماركس.[16] فكان للاستعمار منطقه الذي نحت به قرارا دوليا، جعله في نظر البعض "يلبس العرب العمامة الفاخرة، ولكن على رؤوس فارغة"[17]. خاصة بعد أن توفرت البيئة الحاضنة لتفسخ القديم بأسماله البالية، نتيجة التعالي العثماني الذي وصل أحيانا حد التنكيل بالعنصر العربي، الذي تراكمت انتفاضاته وتزايدت حركاته الاجتماعية والسياسية والمذهبية، فانصهرت في بوتقة قومية عروبية وفرت وقود ومبرر ما عُرف بالثورة العربية الكبرى.

هكذا بدأ يتشكل تدريجيا وطن ترابي لكيانات قطرية، منتمية لهذه الأمة أو هذا الوطن الروحي المسمى عالما إسلاميا، وبدأت الحمية القومية/الوطنية تسمو تدريجيا على الحمية الدينية، دون أن تلغيها أو تتعارض معها، بل كانت تمتح منها أحيانا أساليب وشعارات للحشد والتعبئة، ولو تحت مسميات الحركات الوطنية والاستقلالية. وبعد حصول البلدان العربية، بتسمياتها الجديدة على الاستقلال، وبعد تكسير أفق انتظار غالبية أبنائها من ثمرات هذه الاستقلالات العجفاء، بدأ الشعور الوطني في التراجع، طالما أن الأوطان التي جرت التضحية من أجلها لم تجُد بالخير العميم المأمول. هكذا ولًد النكوص وخيبة الأمل، من الاختيارات الأولى لبناء الدولة الوطنية، شعورا هوياتيا بدأ قوميا زمن المد الناصري والبعثي، فمحليا اثنيا في إطار ردود الفعل على الغاء كيانات متعددة، ثم دينيا ساد وهيمن بالتدريج وأنتج مفاهيم من قبيل "الجاهلية" و"الحاكمية لله"، في إحالة إلى وطن جديد خارج دائرة "الجاهلية"، يكون فيه الحاكم أو الإمام خليفة لله في أرضه. خاصة أن المرحلة كانت حبلى بصراع الأيديولوجيات والاختيارات الفكرية والنماذج الاقتصادية من ليبرالية واشتراكية، ظلت التيارات الاسلامية تتصيد أخطائها وتستفيد من تناقضاتها، لتوسيع قاعدتها الجماهيرية، متقمصة في نفس الوقت دور الضحية و"المنقذ من الضلال".

بعد الهويات القومية والاثنية والدينية حل زمن الهوية الافتراضية، في إحالة على تشظي هوياتي في زمن العولمة، يُطل فيه الأفراد مواربة حينا واندفاعا أحيانا أخرى، من وراء حجاب أزرق في الغالب الأعم، باحثين عن مشترك جامع يتكتلون حوله، يمتحون من مختلف الهويات المتنافرة السابقة، فيتوزعون داخل نفس الهوية الافتراضية ومن داخل نفس الفضاء إلى شعوب وقبائل، يفجرون لواعجهم ويعبرون عن آلامهم وآمالهم عبر تدوينات وتعليقات، لشحذ الهمم في أفق ترجمة الافتراضي إلى واقعي في الساحات والفضاءات العامة.

أنظمة تعليمية تلغي العقل والنقد

أقصد هنا النظام التعليمي في البلاد العربية، والتوصيف هنا نسبي، وبدرجات متفاوتة بين بلاد وأخرى.

داخل بنية ذهنية تؤثث الحقل الدلالي للغتها عبارات من قبيل "دانت له الرقاب"، لكي لا يرى "رؤوسا قد أينعت وحان وقت قطافها"، استل السيف وجف القلم. وعوض الايمان بمقولة: "الثقافة سلاح فلنسلح الشعوب"، جرت عملية تجهيل وتكليس لعقول أجيال متعاقبة، منذ حصول البلاد العربية على استقلالها، مع اختلاف فقط في نسبة الأمية، ومستوى شحن المقررات الدراسية بمناهج تعليمية معاكسة للعقل والعلم وروح التطور. فهيمنت نماذج تعليمية أقصت العقل وألغت النقد، فاسحة المجال للحفظ، وأعادت إنتاج ثنائية العالم والمتعلم في جبة الشيخ والمريد داخل المنظومة التعليمية التربوية. أزاحت سيبنوزا وعقلانيته وديكارت وشكه وأينشتاين ونسبيته، فهيمن الدجل والوثوقية والمطلق، وجرى الانتصار لمركزية هوية ضيقة على المقاس، على حساب مركزية العلم وسلطة المعرفة. النتيجة متعلمون دون فكر نقدي، وأشباه متعلمين بفكر تبسيطي، يرتاح لمعالم في الطريق[18]، لكي لا يحزن[19]، أكثر مما يطمح لسبر أغوار سيرورة تطور العالم بين تفاحتي آدم ونيوتن. والحصيلة أن هذه المناهج التعليمية أنتجت مواطنا قابلا للتوجيه والاستيعاب لصالح تيارات متطرفة، استغلت المؤسسات الدينية المختلفة لتعميق ما بدى أنه مجرد رؤوس أقلام في المقررات الدراسية.

إسلام العقيدة أم إسلام التاريخ؟

ضاعت البوصلة زمن الالتباس بين الاسلام كدين والاسلام كتاريخ، فصار المسلم مكبلا بثقل التراث واجتهاد البشر، وأصبحت أراء وتأويلات الغزالي والأشعري وابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم مرجعا ملزما وحجابا مانعا عن أي مرور مباشر للقرآن والسنة.

تماهى هذا الالتباس وتعقد أكثر حين تراكب مع تداخل بين الإسلام كدين والإسلام كحكم وسلطة (خلافة، إمامة، مهدوية، إمارة، مشيخة...). حصل هذا في زمن كان فيه الغرب يؤسس نظمه ومؤسساته على أساس تراكم مبدع، في ظل تفاعل منتج بين الإنسان وبيئته وسياق إنتاج فكره. فحلم أفلاطون بمدينة فاضلة يسوسها الحكماء (الفلاسفة)، وانتبه بعده أرسطو إلى واقع المدن الدول وما يقتضيه نظام حكمها، وظهر طوما الإكويوني مجددا في الفكر اللاهوتي المسيحي، قبل أن يعلن ميكافيلي مبدأ البرغماتية في الحكم. وتبدأ عملية شد الحبل لإزاحة الكهنوت من كرسي حكم البشر باسم الله، فجاءت أعمال طوماس هوبز وجون لوك وجون جاك روسو لتنظم شكل الحكم على نمط من التعاقد، فيما اتجه مونتسكيو إلى وضع روح للقوانين. ترافق ذلك مع نهضة متكاملة؛ علمية، وإن بتضحيات (كاليلي)، واقتصادية (البورجوازية)، وفكرية (الأنوار). وكانت النتيجة أن أبدع الغرب حداثته، وأنجز ثورته، وأعلن مبادئ حقوق البشر، بعد أن قطع مع مركزية الكنيسة في حياته، باسم الله، لفائدة مركزية الفرد والعقل والعلم. في ظل هذا المخاض العسير، وبينما كان العرب والمسلمون يغطون في سبات خلافة آل عثمان، بعد قوس الريادة وبيت الحكمة، انتقلت نخبة من هذا الغرب إلى عالم نعتوه بالجديد، وهو في الواقع، غرب الغرب وسيده. خرج من رحمه، وأسس كيانا قويا يسمى الولايات المتحدة الأمريكية، التي هيكلت الذات قبل أن تفرض وجودها على العالم. وفي زمن الحرب الباردة، تم نحت مفهوم الإرهاب، وجرى التحالف، لاحقا، مع طائفة من أهل الشرق، التبس عليهم أمر دينهم ودنياهم، فتم توظيفهم لجهاد العدو الكافر في أفغانستان. وانتهى الأمر بصورة كاريكاتورية، ظهر فيها المجاهدون يجاهدون في المجاهدين، ثم سرعان ما تحول حليف الأمس إلى العدو رقم واحد عالميا بعد أحداث 11 شتنبر 2001. وأعيد نفس السيناريو، بإخراج جديد وأسوأ مع داعش وجبهة النصرة وأخواتهما من فيالق للقتل، جرى تقديمها في بعض وسائل الإعلام في حلة ثورية نقية مباركة. ترافق ذلك مع تأجيج أوار حرب مذهبية، نفخت بعض وسائل الإعلام نارها. والنتيجة عودة المجاهدين للجهاد في المجاهدين، لكن هذه المرة في طبعة جديدة ومزيدة وغير منقحة.

إعلام الفتنة وجهاد النكاح

جرى الانتقال، وفي زمن قياسي، من قنوات الإعلام الرسمي فقط إلى فيض تليفزيوني طافح، يستدعي السؤال عن سياقه وأسبابه وخلفياته وأغراضه. وفي غياب أجوبة دقيقة ومقنعة، يمكن البحث في هذا الإعلام عن طبيعة برامجه، والحيز المخصص فيه للتثقيف وبرامج الفكر والعقل والعلم والمعرفة. والحال أن نتيجة البحث ستكون محبطة ومخيبة في القنوات الموسومة بتنوع برامجها، وسوداوية حد القتامة في قنوات أخرى بوصلة خطها التحريري موجهة صوب الفتاوى الغريبة والعلاجات العجيبة، أو نحو التعصب والتحريض والتجييش المذهبي. ولنا أن نسأل عن قيمة الإنسان في هذا المنتوج الإعلامي، الذي تحول إلى شاهد زور على ما يجري. فصار آلية للتدمير والتخريب بتقارير أحيانا مغلوطة ومشاهد مفبركة و"خبراء ومحللين" على المقاس، يُعِزون ويُذِلون تحت الطلب، ويساهمون في صناعة فرجة درامية، واجهتها المناداة بالديمقراطية، جوهرها صراع مصالح وحرب مواقع، ضحاياها البسطاء والبؤساء والتعساء.

هكذا أسهم هذا الإعلام المحتضن لمشايخ و"مثقفين"، أو خبراء كما يحلو له تسميتهم، في إضفاء الشرعية على القتل والعنف والتعصب، عوض دعوة العلماء المستنيرين والمفكرين والباحثين للانخراط في اجتهاد جدي وجريء مؤطر بهاجس الأنسنة، يجعل الفرد والعقل والعلم والتطور أوائل على سلم أولوياته، ويطرد الخرافة والجهل والتعصب والتحريض على القتل من برامجه. لا أن يحفز على القتال، ويعد "المجاهدين" بحور العين في الدنيا قبل الآخرة.

على سبيل الختم:

حصل الانزياح لأن الطبيعة تأبى الفراغ، ولأن أية ثورة أو تغيير مأمول من المفترض أن يكون محمولا بفكرة أو مشروع مجتمعي متكامل، وربما بقائد ملهم.

انتفت هذه الشروط للأسباب الآنفة الذكر، فجرى الاستثمار في البؤس بشقيه المادي والفكري لجماهير غاضبة ناقمة منفعلة، اعتقدت نفسها في البداية ثائرة فاعلة، قبل أن ينقشع نقع الغبار المتناثر، ويسفر صبح هذه الرجة العميقة عن عاصفة جرى زرع رياحها أو قواها العميقة منذ زمن بعيد.

قد تجري عملية إعادة الإعمار وبناء المنشئات والبنايات التي تم تدميرها وتخريبها، وقد تظهر مدن جديدة على أنقاض خراب القديمة، وربما في حلة أبهى، لكن رونق الحجر لن يستطيع أن يحجب حقيقة إعادة إنتاج السيطرة على بني البشر. وكم كان الباحث المغربي أحمد المعتصم عميقا، وهو يتحدث قبل أكثر من عشر سنوات عن أسباب ضعف الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، إذ اختصرها في ثلاث: هوة الانحطاط وندوب الاستعمار ومهانة الهزيمة.[20]

[1]- أستاذ التاريخ المعاصر والراهن، كلية الآداب والعلوم الانسانية عين الشق بالدار البيضاء.

[2]- حصل ذلك يوم 26 نونبر 2015، فيما أحرق البوعزيزي نفسه يوم 17 دجنبر 2010

[3]- Pierre Renouvin et Jean-Baptiste Duroselle, Introduction à l'histoire des relations internationales,, Armand Colin,1964

[4]- Marc Bloch, Apologie pour l’Histoire ou métier d’Historien, édition critique préparée par Etienne Bloch, Armand Colin, Paris, 1993, p. 81

[5]- Ibid., p. 83

[6]- Ibid., p. 84

[7]- Ibid., p. 85.

[8]- Ibid., pp.166-167

[9]- Ibid., p.24

[10]- Le Roy Ladurie, Emmanuel, Le territoire de l’historien, éditions Gallimard, Paris 1973

[11]- Marc Bloch, Apologie, op. cit, p.109

[12]- محمود إسماعيل، فصل المقال فيما بين الإسلامويين ونبوءة الدجال من اتصال، القاهرة، رؤية للنشر، 2015

[13]- فتحي ليسير، "محاذير توظيف المرجع الشفوي في كتابة تاريخ الزمن الراهن: شهادات فاعلين في الثورة التونسية"، ضمن: التاريخ الشفوي: المجلد الثالث: مقاربات في الحقل السياسي العربي، بيروت/الدوحة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015

[14]- إبراهيم القادري بوتشيش، "الربيع العربي حلقة جديدة في التحقيب التاريخي، الإرهاصات التأسيسية لكتابة تاريخ غير مدوّن"، صمن: التأريخ العربي وتاريخ العرب، كيف كُتب وكيف يُكتب؟ الإجابات المكنة، بيروت/الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017

[15]- رفعت السعيد، "الإسلام السياسي من التطرف إلى مزيد من التطرف"، ضمن كتاب الإسلام السياسي، إشراف محمود أمين العالم، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 1991، ص.12- 30

[16]- انظر إدوار حشوة، في: السفير 11/5/1993، ص.13، نقلا عن هاني الهندي، الحركة القومية العربية في القرن العشرين (دراسة سياسية)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الثانية، 2015، ص. 172

[17]- نفسه، نفس الصفحة.

[18]- سيد قطب، معالم في الطريق، دار الشروق، بيروت، 1983

[19]- عائض القرني، لا تحزن، مكتبة العبيكان، السعودية، 2002. وهو من الكتب الأكثر انتشارا ومبيعا في العالم العربي.

[20]- Ahmed Moatassime, Le Maghreb face aux enjeux culturels euro-méditerranéens, langage et éducation à l’épreuve d’une nouvelle donne, wallada, Casablanca, 2008, pp.25-30