الرحم والقبر: التاريخ الوجودي للهشاشة الإنسانية


فئة :  مقالات

الرحم والقبر: التاريخ الوجودي للهشاشة الإنسانية

زالت المجتمعات الإنسانية تفرح بحدث الولادة وتحزن لحدث الموت، على اعتبار أنَّ الولادة هي لحظة (إضاءة)، في حين أنَّ الموت هو لحظة (انطفاء).

الإشهار الأول (= الولادة) للإنسان – كوجودٍ مُـتعيّن – هو خروج من ظلمة الرَّحِم، لذا ثمة احتفال بهذا الإشهار وفرحٌ بمآلات الخروج من هذا القبر الصغير؛ فالجسد يتمرد على منظومة الرَّحِم الجوّانية، ويشقُّ طريقاً له للخروج من هذه العتمة البديعة [بداعتها آتية من احتمالات التشكّل بها، والمآلات البَعْدية لها]!

الإشهار الثاني (= الموت) – إيذاناً بانتهاء الوجود المُـعيَّن – هو دخول في ظلمة القبر؛ فالجسد يتمرد على منظومته البرَّانية، ويشقُّ طريقاً له ناحية ظلمته، للتشكِّل من جديد والتحضّر لمآلٍ جديد! لذا ثمة حزن وتأسٍّ بمآلات الدخول في هذا القبر الصغير أيضاً؛ فالجسد الذي تمردَّ في الحالة الأولى وخرج من قبر الرَّحِم، ها هو يخرُّ راكعاً، فَرُكب وجوده لم تَعد تحتمل هذا الضغط الكبير، لذا تركع مرة واحدة وإلى الأبد، ويصير القبر ملاذاً أخيراً، مُعْتِمَاً للذات المُتوحّدة!

إنَّ مُلابسات والتباسات الرَّحِم والقبر، (بصفتهما مكانين وزمانين)، تفتحان الأفق على سلسلة من الاستحقاقات الوجودية العميقة، سأعمل على الاجتهاد في تبيانها.

الرَّحِم والقبر: المكان الأنطولوجي

ليس ثمة مكان أفضل للجسد الهشّ، الضعيف، من الرَّحِم والقبر؛ فنظام الحماية الداخلي لكليهما نظام مُتكامل. فالكهف الغائر في العُمق، (عمق الجسد وعمق الأرض)(1)، كهف أيقوني، أمثولي، لا مثيل له لحماية الكمون الإرهاصي للجسد المُمَسْرِح للوجود المُتعيَّن. فالانبثاقة البَعْدية للجسد الضعيف، الهشّ، تتطلب حماية فائقة قبل التجلّي البَعْدي؛ فذاك الجسد، الخائر القوى، يتوارى عن الأنظار داخل جُبّ عميق. وإذا كان المكان الأول (= الرَّحِم) مُجهزاً بعناصر الحياة، فهو جزء من كيان الأمّ الحيَّة؛ وهذا العالَم امتداد لهذه الأمّ، فهي تمنح جنينها جزءاً من حيواتها أثناء فترة الحمل، وتمدّه بالعناصر التي تُبقيه على قيد الحياة. إذا كان الرَّحِم كذلك، فإنَّ المكان الثاني (= القبر) ليس أرضاً قفراء معزولة لا حياة فيها، بل ثمة حضور طاغٍ لكل مظاهر الحياة. فقد عنيت الحضارات الإنسانية أيما اعتناء بقبورها(2)؛ فقبر الإنسان المُسلم على سبيل المثال، مُزوّد بنظامٍ غذائي (= غذاء التقوى)، يحميه من تبعات العالَم الآخر واستحقاقاته المريرة، إضافة إلى غسل جسد الميت، وتطييبه بعطرٍ فاخر، وإلباسه ملابس بيضاء دلالة على الطُهر والبراءة. وفي الحضارة الصينية القديمة، كان قبر الميت يُزود بالنقود والحلي، وما إلى ذلك، لحمايته من الأرواح الشريرة والقوى الغامضة التي يمكن أن تستهدف الميت، نظراً لضعفه الجسماني وعدم قدرته على الدفاع عن نفسه؛ لذا تأتي هذه المُعزّزات كآليات دفاعية استباقية عن الشخص الميت. أما الحضارة الفرعونية، فقد احتفت –كما لم تحتفِ أية حضارة أخرى- أيما احتفاء بالأموات، واعتنت اعتناءً فائقاً بقبورهم، لا سيما إذا كانوا من الطبقة الشريفة في المجتمع.

وعليه، فالقبر مكان أنطولوجي بالدرجة الأولى؛ فالذات المُتموضعة به، هي ذاتٌ إنابية، بديلة عن ذواتٍ لا حصر لها، ما زالت على قيد الحياة، تسعى إلى تحويط القبر بما يليق من وسائل حماية، وقفاً لذاتٍ يُمكن أن تموت في أي وقت، وتطمح من ضمن ما تطمح إليه إلى حماية ما، لكي لا تبقى سائبةً ومعزولةً في هذا العراء الوجودي.

كذا الرَّحِم، مكان أنطولوجي بالدرجة الأولى؛ فالذات المتموضعة فيه، هي ذات إنابية، بديلة عن ذواتٍ لا حصر لها، هي الآن على قيد الحياة، وتطمح إلى إخراج الذات المتموضعة داخل الرَّحِم من هذا الكهف الغائر، لأنها بصدد منحه الحياة وعدم إبقائه في حالةِ عدم تجلِّي. فالفناء قيمة مُرعبة بالنسبة للكائن الإنساني، لذا ثمة كفاح مُبطَّن – أثناء التعامل مع مكانين كالقبر والرَّحِم – من أجل الذات بحدِّ ذاتها؛ فهي ذات مُهدّدة بالفناء (سواء بالبقاء والفناء داخل الرَّحِم، بما يحتمل ذلك من عدم مُعاينة الوجود حياتياً، وما يحملهُ ذلك التموضع من إحساس إنساني عميق بالإمكان العدَمي والتفسّخ النهائي، أو بالبقاء والفناء النهائي داخل القبر، مع ما يحتمله ذلك من إمكان استحالي لعدم التمظهر وجودياً ثانية) والتفسّخ والعدَم. وعليه، فثمة استماتة إنسية للقتال على جبهتي الرَّحِم والقبر، بصفتهما مكانين وجوديين، والمعركة القائمة على أرضهما هي معركة ذات قداسة أنطولوجية، والقتال الجاري هناك هو قتال استبسالي، انتحاري، ينطبع بانطباع إنسي شجي، وعاطفي جيّاش، حتى وإنْ كان ثمة حزن في طقس الموت، وفرح في طقس الولادة، فهذا الحزن أو الفرح شيء واحد، غير مفصول عن سياقاته الوجودية، فيما يتعلق بالوجود الأُسِّي للذات الإنسانية والإمكان الأنطولوجي بوجودٍ غير مُتناهٍ طرًّا!

القبر والرَّحم: الزمن العابر للأجساد

المكانان الأنطولوجيان (= الرَحِم والقبر) لا يمكن فصلهما عن سياقهما الزماني، بصفتهما لحظتين زمانيتين، مُتعالقتين مع المكان الذي انوجدت فيه الذات. فالزمن داخل الرَّحِم، منظوراً إليه من الخارج، هو زمن تتابعي، تراكمي، انبنائي، دفقي، استمراري، لمدة تقلُّ أو تزيد قليلاً عن التسعة أشهر (فترة الحمل). كذا الزمن داخل القبر، منظوراً إليه من الخارج، هو زمن سياقي، تتابعي...إلخ. فالذات الميتة متموضعة داخل القبر اعتباراً من تاريخ الموت، حيث إن التأريخ القبري يبدأ من لحظة الموت. لكن ثمة نقطة حاسمة في منظومتي الرَّحِم والقبر، يتم عندها تجاوز هذا التأطير البرَّاني إلى ما يمكنني اعتباره الإرهاص الكامن باحتمالية تكوّن زمنين؛ أحدهما مُتناهٍ، وثانيهما غير مُتناهٍ. فالمُعاينة البرَّانية، وإنْ كانت خارج السياق الجوَّاني، إلا أنها تندرج ضمن سياق إنساني كُلِّي، لناحية استشعار (وفي مرحلة لاحقة؛ مُعاينة) قيمتي الفناء والبقاء بالنسبة للمتموضعين داخل الأرحام أو داخل القبور. فالاحتفال الإنساني بالمولود الجديد هو نوع من الهروب الانتحاري ناحية فرح مُفْتعَل لفناء آتٍ لا محالة، والحزن الإنساني على الميت هو نوع –أيضاً- من الهروب الاحتفالي بحزنٍ مُفْتَعَل ببقاء دائم، بصرف النظر عن طبيعة هذا البقاء(3)؛ فالخوف السابق بفناءٍ إنسي لحظة الولادة، يُرافقه شعور مُضمَر ببقاء دائم لحظة الموت، لذا ثمة اعتناء فائق بالأموات، بصفتهم تجسيداً لمجموع إنسي يطمح إلى التأبّد والبقاء إلى ما لا نهاية، والاعتناء بهم جزء من ميراث إنساني مشترك بين ذوات بعضها مات لكنه كان قبل ذلك على قيد الحياة، وبعضها سيموت لكنه الآن على قيد الحياة.

إذاً، يُشكِّل الرَّحِم -على اعتبار زمانيته- نقطة حاسمة في فضِّ الإشكال الزماني من ناحيةٍ أنطولوجية؛ فهو إرهاص لمرحلةِ فناء كامنة في الجسد المتموضع فيه، وعلى وشك الانبثاق، وشقّ الشرنقة الضيقة، ومعاينة الحياة وجوداً حقيقياً وفاعلاً. ويشكّل القبر (على اعتبار زمانيته) نقطة حاسمة – هو الآخر – في التعقيب إيجاباً على مقولة الفناء الإنساني، لناحية احتمالية البقاء إلى ما لا نهاية، ضمن طور جديد من أطوار الوجود البشري.

وهكذا، تتواشج العلاقة الزمكانية في الرَّحِم والقبر، وتأخذ بُعْداً وجودياً في انوجاداتها العلائقية. وعليه، فالاحتفال الفرائحي أو الجنائزي بحدثي الولادة أو الموت هو حدث أنطولوجي بالدرجة الأولى، وإنْ أخذَ طابعاً اجتماعياً عادياً؛ فسواء تمَّ الاحتفال بحدث الولادة من قبل شخص واحد أو من قبل حضارة بكاملها؛ فالنتيجة واحدة؛ ألا وهي الإنابة عن المجموع الكلّي للجنس البشري في هذا الحدث العظيم. كذا الأمر مع التفجّعات على حدث الموت، فسواء أَتَمَّ تأبين الميت في جبال التبت أو في مدنية صفاقص التونسية، فإِنَّ المغزى الأنطولوجي هو ذاته، لناحية الإنابة عن الجنس البشري كاملاً في استشراف الإمكان الإنساني، بالعودة ثانية والتموضع حياة – بعيداً عن قيمتي العدَم والفناء – إلى ما لا نهاية.

الجسد الضعيف والتموضع في زمنين ومكانين:

بطريقةٍ أو بأخرى، الجسد هو الوجود الأكبر للكائن الإنساني في هذا العالَم؛ فبدون هذا الجسد يصيرُ العدَم سيد الموقف، فهو – أي الجسد – الآلة العظيمة التي تتموضع بداخلها الشفرات الوجودية قاطبة، ابتداءً من عالَم ما تحت الذرة، إلى عالم ما فوق المجرة. وإرهاصات التكوّن الجسدي تتمّ في الرَّحِم، إذ يأخذ الجنين بالنمو شيئاً فشيئاً، حتى يكتمل جسمانياً في الداخل، لذا يصيرُ لِزاماً عليه الخروج (مثل اليراعة) من شرنقته(4)، لأنَّ الثمرة تكون قد نضجت وآنَ قطافها.

إنَّ إيذاناً وجودياً بالشروع في عمليات الوجود العياني، يأخذ شرعيته مع أول إطلالة للجسد الغضّ الطري إلى هذا العالَم؛ فقد آنَ أوان حياة ظاهرة، بعد توارٍ وتخفٍّ دام لتسعة أشهر داخل الرَّحِم. فالتموضع الأول –في هذا الوجود وإنْ أخذ طابعاً باطنياً لا يمكن مُعاينته والاطمئنان عليه، لا سيما في عصرنا الحالي إلا بالأشعة وأجهزة الكشف الإلكتروني- هو تموضع داخل الرَّحِم. وكما أسلفت فالرَّحِم مكان مَحْمِيّ، سواء طبيعياً فهو في منطقة حصينة من جسد المرأة، أو اصطناعياً، فثمة مجموعة من الوسائل المُتبعّة لتحصين الجنين طيلة فترة الحمل(5)، فالجسد في واحدة من أضعف حالاته الوجودية، ومسألة بقائه على قيد الحياة رَهن بالآخرين أكثر مما هي متعلقة بإجراءات ذاتية. والقبر محميّ(6) في تجويف غائر بأطنانٍ من التُّراب، إلى حدّ حماية الجسد الضعيف من أية قوة يُمكن أن تأتي على هذا الجسد. والسؤال المطروح هَهُنا هو: هل تدفق الحس الإنساني لناحية الاعتناء بالجسد الضعيف، سواء أتموضع هذا الجسد في الرَّحِم أم في القبر، دلالة على حسٍّ إنساني عالٍ ونبل عاطفي عظيم لدى الذات الإنسانية، أم إن الأمر ينطوي على مفارقة ما؟!

قد يكون للحس الإنساني والعاطفة الجيّاشة حضوراً واضحاً في أوقات كهذه، لا سيما إذا كان الموجود داخل الرَّحِم أو داخل القبر أحد الأحباب أو الأصدقاء. لكني أرى أنَّ مسألة حماية الجسد داخل هذين المكانين(7)، تتجاوز الأُطُر العاطفية إلى منطقة الخيارات الأنطولوجية؛ فحماية الجسد داخل الرَّحم أو القبر هي حماية للجسد الإنساني على إطلاقه، والقيمة الانوجادية في هذا العالَم، إذ تستشعر الذات الإنسانية – سواء أكانت ذاتاً فردية أم ذاتاً جماعية – خطر الفناء والعدَم والنهاية، فتعمل جاهدةً على حماية هذا الجسد الضعيف. فالفناء المُتحقّق لذات إنسانية متموضعة – بكامل ضعفها – داخل الرَّحم أو القبر، هو فناء للجنس البشري -بطريقة أو بأخرى- والاحتفاء بالجسد – حزناً أو فرحاً – داخل الرحم أو داخل القبر هو احتفاء ذاتوي إلى حدّ بعيد؛ فالذات تستشعر عبر ذات أخرى مآلات الخيار الإنساني فيما يتعلق بمنظومتي البقاء والفناء، لذا يُحمى الجسد وتُقام لأجله الطقوس، ويتحول حدث (الولادة/ الموت) إلى حدث شعائري، لاهوتي، ميتافيزيقي، تجاوزي، يخرق الإحداث الإنسي الزمكاني إلى عالَم إمكاني يحتمل وجوداً لا نهائيا للذات المولودة أو الميتة؛ ففي النهاية، الموت والميلاد هما ذات الشيء، مع اختلاف التقديرات في قياس هذين الحدثين الجليلين!

الضوء والعتمة واحتمالات الــ (ما بعد):

وعليه، فقد اقترن التنوير العرفاني، الاستبصاري، بالجسد الضعيف والكيان المُتهالِك، حتى أنَّ الروايات المنقولة عن النبي محمد صلى الله عليه وسلَّم، تُشير إلى حالة الوجد التي رافقت الجسد المُتْعَب، المُرْهَق ساعة نزول الوحي؛ فتجاوز الواقع واستشراف معالِم اللامرئي تطلّبت ضعفاً جسمانياً لاستبصار ما وراء الجسد. وفي المرويات عن "بوذا" أنَّه بَرَكَ تحت شجرة التين واستشعرَ لذة الغبطة اللاهوتية، حتى أنّ جسده لم يقوَ على القيام إلا بعد أن تلاشت تلك اللذة الغاشمة.(8)

وفي الخوارقية التي يستحضرها الصوفي ساعة الانتشاء بعالَم غير مرئي، فإنَّ جسده يصير وكأنه بدون عِظام؛ فالقوة القادمة من الداخل تسحق الجسد البرَّاني الصابر على البلاء المُبارَك. وفي حلقات الذِّكر – إذ تُردّد كلمة ذات إرث هائل في المخيال الإنساني، مثل كلمة الله – يتحوّل الجسد إلى كيان خفيف، لديه القدرة على الطيران والانفصال عن قانون الجاذبية الأرضية. فالعقل الدائر في دوائر يسحق الجسد ويحوّله إلى كيانٍ هشٍّ، يمكن لفراشة صغيرة أن تُميته وتُحيله إلى العدَم. وأثناء ممارسة الجنس –وإنْ كان الجسد هو الأرض المُباركة التي تُخاض عليها الحرب المُقدّسة – يصير الجسد خفيفاً مثل مارج من نار، حيث لا يعود ثمة إمكان إلى الإمساك بإحداثيته والسيطرة عليها لحظتذاك، فالاندفاعة العاتية للدورة الدموية تحوّل الدماغ إلى كتلة مُلتهبة، وتصير الاستنارة العظيمة رهناً بقدرة هذا الدماغ على تحويل الجسد إلى كيان هشّ، ضعيف؛ فالقوة الفوقية تقترن – إذ ذاك – بضعف القوة التحتية، وتصير الظلمة (ظلمة التلقيح والتلاقح- سهبًا مفتوحًا على استنارة عظيمة.

الجسد الضعيف في الرَّحِم، يُمارِس إمكاناً إنسياً هائلاً، لناحية استبصار المآلات الوجودية. فتلك الكتلة اللحمية الهشّة المُـتوارية في عتمةٍ مُظلمة، تُضيء الأفق على احتمالٍ انوجادي لهذا التكتّل شبه المعدوم؛ فالانتقال من طور العدَم إلى طور الوجود، هو ضمن الإمكان الإنسي، وثقافة النور هي من ضمن احتمالات العتمة الساحقة؛ فالتموضع في الجُبّ المظلم لا يعني بحالٍ من الأحوال عدم معاينة النور (= الوجود) والبقاء في العتمة (= العدَم)، فالإمكان على الانوجاد بقوةٍ هو أحد تجليات الهشاشة والضعف والعتمة والظلام الدامس.

وذلك الجسد المسلوب الإرادة والقوة في القبر، ينطوي على إمكان وجودي ثانٍ، عبر ذوات تستلهم حالة الدفق العدَمي بين جنبيه، وتمنحه أفقاً استبصارياً لذلك الانوجاد، عبر تغسيله وتعطيره، وإلباسه لباساً فاخراً، ومنحه أفقاً عابراً للزمن، وذلك بتحنيطه وإبقائه على وضعيته التي مات عليها لآلاف السنين. فالحنين الإنسي للبقاء والخلود والتأبُّد، والعبور إلى حيوات وأزمان لا نهائية، جعلته يتطلّع (وهو في أضعف حالاته وأكثرها هشاشة وتحطمَّاً وفنائيةً) إلى ما هو غير خاضع لشرط التلاشي والانعدام الموضوعي، فالجسد الهشّ يسعى، من ضمن ما يسعى إليه، إلى خرق شرط ضعفه (وإنْ أتى التعبير عن ذلك عبر ذوات أخرى، فمما لا شكّ فيه أن الذات الميتة كانت قد مارست ذات الفعل الذي مُورِسَ بحقها وهي ميتة، ومما لا شكّ فيه أيضا أنها كانت قد استشعرت القيمة اللانهائية للجسد الميت، الآفل)والعبور إلى أبدٍ مُطْلَق.


(1)ثمة علاقة تشابكية بين الجسد الأنثوي والأرض، ضمن إحداثيات النسق الثقافي للحضارات المختلفة، فقد حوت النصوص الثقافية لكثير من الحضارات علاقة وطيدة بين جسد الأنثى والأرض بصفتها جسداً هي الأخرى، لناحية الإمكان التلقيحي والحرثي، وشقِّ التُربة وتلقيحها ببذرة الحياة. وقد حوت النصوص السومرية متونًا تستنطق ضرورة حرث –كما تُحرث الأرض البِكر لغايات تلقيحا بالبذور وزراعتها، ومن ثمَّ إنتاج الغذاء- الفرج (فرج المرأة) وتلقيحه بماء الرجل، لغاية –إضافة إلى تحقيق اللذة- للحفاظ على النسل البشري من الاندثار والفناء. وفي النص القرآني دلالة على مفردة الحرث (والدلالة على العلاقة بين جسد الأنثى والجسد الأرضي)، وذلك باقتران الجسد الأنثوي بعملية الحرث والحياة.

(2)بعض المقابر أخذت طابعاً يحمل بين طياته دلالات حضارية عميقة، مثل المقابر الفرعونية في الحضارة المصرية القديمة، أو مقابر الأسلاف في الحضارة الصينية، أو مقبرة البقيع في الحضارة الإسلامية، أو مقابر الجنود الذين خاضوا واقعة النورماندي إبَّان الحرب العالمية الثانية.

(3)ثمة استفاضة من قبل كثير من الأديان، حول المآلات المُنتظرَة للإنسان –بعد عبوره هذا العالَم إلى العالَم الأخروي- وإخضاعه لجزاءٍ أو عقابٍ منصوص عليها، بناء على ما اقترفت يداه في هذا العالَم.

(4)إنَّ مسألة النضج، وقطف الثمرة في وقتها، جزء لا يتجزأ من نواميس هذا الوجود، فقد أشار "نيكوس كازانزاكزي" في روايته المشهورة (زوربا) إلى أنَّ أحد أبطال روايته قد حاول –في إحدى المرات- أن يُساعد يراعة كانت تشقّ طريقها للخروج من شرنقتها، إذ عمل على شقّ الشرنقة ليُخفّف (ما اعتبره ألماً) عن اليراعة. وبالفعل، فقد خرجت اليراعة من الشرنقة، ولكن بمجرد أن خرجت حلّقت، ومن ثمّ تهاوت، لأنه تدخل فيما لا يعنيه. وهكذا صدح "كازانتزاكزي" في رواية بما نصّه: "إنّ اغتصاب القوانين الكبرى خطيئة مميتة، يجب ألا نستعجل، ألا نفقد الصبر، وأنْ نتّبع بثقة النسق الأدبي".

(5)تشمل وسائل الحماية للمرأة الحامل قائمة كاملة من الموانع، ودائماً –لغاية حماية وسلامة الجنين- تحت إشراف طبي صارم.

(6)ثمة نزوع إنساني إلى العناية بالمقابر عموماً، والقبور على نحو الخصوص، ابتداءً بتسوير المقابر وحمايتها من الاعتداءات، وليس انتهاء بأكاليل الورد على القبور.

(7)بإزاء ذلك، هناك إهانات جمّة تُوجَّه للجنين في الرَّحِم، وذلك بالاعتداء عليه عبر عمليات الإجهاض؛ وللميت في القبر، وذلك من خلال التنكيل بالجثث والعبث بالأجساد الميتة.

(8)هناك بيت شِعر لـِــــ "أبي العلاء المعرّي" ينمّ عن ذوق باذخ واستبصار ثاقب، يقول فيه:

جسدي خِرقة تُخاط إلى الأرض

فَيَا خائط الخلائق خِطْنِي.