الرمز والوعي الجمعي: دراسات في سوسيولوجيا الأديان للدكتور أشرف منصور


فئة :  قراءات في كتب

الرمز والوعي الجمعي: دراسات في سوسيولوجيا الأديان للدكتور أشرف منصور

صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة، سنة 2018، كتاب بعنوان "الرمز والوعي الجمعي: دراسات في سوسيولوجيا الأديان" للباحث المصري أشرف منصور، أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، والذي صدرت له مجموعة من المؤلفات المهمة، منها "نظرية المعرفة بين كانط وهوسرل"، "العقل والوحي: منهج التأويل بين ابن رشد وموسى بن ميمون وسبينوزا"، و"الليبرالية الجديدة: جذورها الفكرية وأبعادها الاقتصادية".

يناقش أشرف منصور في هذا الكتاب الذي يمتد على 125 صفحة، بعض القضايا المرتبطة بالأديان السماوية التوحيدية الثلاثة، اليهودية، والمسيحية، والإسلام، وذلك من خلال قراءات نقدية لأطروحات بعض من كبار المفكرين والباحثين، من أمثال كل من هيغل وسبينوزا وأرنولد توينبي.

سوسيولوجيا الأديان

يعدّ مصطلح سوسيولوجيا الأديان، واحدا من المصطلحات المُحاطة بالكثير من الغموض والالتباس، والتي يصعب فهمها بشكل صريح وواضح من جانب قطاع واسع من المتخصصين والدارسين للعلوم الإنسانية بشكل عام.

في بداية دراسته القيمة، يضع المؤلف الدكتور أشرف منصور، تعريفاً واضحاً لما يقصده بمصطلح سوسيولوجيا الأديان، حيث يعرفه بأنه "الدراسة الاجتماعية للأديان، والتي ترد الظاهرة الدينية إلى أُسسها الاجتماعية، فالدين ظاهرة اجتماعية، والمؤسسات الدينية جزء من المجتمع، والدين ينبع من المجتمع، والمجتمع يفرز الدين..."[1].

هذا التعريف السابق، قد يمهد الطريق للقول بأن سوسيولوجيا الأديان تنكر المصدر الإلهي للدين، وأنها لا تعترف بالعلاقة الوطيدة بين الأرض والسماء، ولكن المؤلف يعترض على ذلك، فيقول "إن سوسيولوجيا الأديان تعترف بالوحي والكتب المقدسة والنبوة، ولكنها في نفس الوقت تهدف للبحث في التأثير الذي يحدثه الدين في المجتمع، والمجتمع في الدين، والظروف التي تمكن ديناً من الانتشار في مجتمع ما، والتي تجعل ديناً آخر لا ينتشر"[2].

كيف فسر سبينوزا وهيغل تطور اليهودية؟

من المشهور، أن الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا قد قام في كتابه المعروف "رسالة في اللاهوت والسياسة"، بنقد أسفار العهد القديم، بشكل تاريخي دقيق، مما جعل من كتابه هذا، باكورة لاتجاه جديد في علم النقد التاريخي للكتب المقدسة وللأديان بوجه عام.

أما الفيلسوف الألماني الأشهر جورج فيلهلم فريدريش هيغل، فقد تعرض لنقد وقراءة الدين اليهودي في أكثر من مناسبة، ومن أهم تلك المناسبات، مناقشته لليهودية، باعتبارها الحاضنة الأولى للمسيحية في كتابه المهم "فينومينولوجيا الروح".

بحسب ما يذكر المؤلف، فإن القراءة النقدية التي قام بها كل من سبينوزا وهيغل، تأتي في سياق تكاملي، حيث يتفق الطرحان مع بعضهما البعض بشكل كبير، فسبينوزا يوضح كيف تحولت اليهودية إلى "دين وضعي يؤمن بأن اليهود شعب الله المختار، ويؤمن بقداسة النصوص ويخضع لمؤسسة كهنوتية"[3]، وهو الأمر ذاته الذي يقوم به هيغل، وإن كان الأخير قد قام بخطوة أبعد، عندما درس المسيحية هي الأخرى، وأوضح أنها قد تحولت إلى نوع آخر من اليهودية، حيث صارت ديناً وضعياً "تتحكم فيه مؤسسة كهنوتية بعد أن كانت في بدايتها تحارب الكهنوت اليهودي"[4].

من أهم المباحث التي اهتم بها هيغل أثناء دراسته للدين اليهودي، كان ذلك المبحث الذي ربط فيه اليهودية بفكرة الوعي الشقي، وذلك في كتابه "فينومينولوجيا الروح".

الوعي الشقي بحسب ما يعرفه الدكتور أشرف منصور، هو "حضور ازدواجية السيد والعبد في وعي واحد، فهو ببساطة العبد. أما السيد فهو الإله، ولا ينجح الوعي الشقي في الشعور بذاته إلا باعتباره معتمداً على هذا الوعي الآخر الإلهي، ومن هنا يظل شقياً، فلا هو ينجح في إدراك ماهيته الحقة في استقلال عن ماهية الإله، ولا هو ينجح في الذوبان والفناء في ماهية الإله، وبذلك تحط اليهودية من الوعي الإنساني وتُعلي من شأن الوعي الإلهي وتتسامى به، ويكون هذا التسامي على حساب الوعي الإنساني، فالإله في الوعي اليهودي الشقي ينزل منزلة السيد والرب المطلق القدرة. أما الإنسان، فهو العبد والشيء العارض الذي لا يستطيع التفكير في نفسه دون إنكارها"[5].

بحسب قراءة منصور لهيغل، فإن الفيلسوف الألماني قد اعتقد بأن الطريق الوحيد المناسب للخروج من ازدواجية الوعي الشقي في الحالة اليهودية، كان هو الذي يتمثل في الإيمان بضرورة تجسد الإله في صورة إنسان، ومن هنا ظهر الدين المسيحي "كضرورة منطقية ناتجة عن شقاء الوعي اليهودي"[6].

ولكن هل استراح اليهود بذلك من شقائهم الأبدي؟

في الحقيقة، فإن هيغل يؤكد أن فكرة تجسد الإله في صورة إنسان، لم تمثل الحل المناسب للوعي اليهودي؛ ذلك أن "الوعي يظل شقياً بعد التجسد، فالتجسد ليس إلا تعبيراً عن بؤس الوعي لا خروجاً عنه، فهو يلحق ماهية الإنسان بكائن نصفه إنسان ونصفه إله، صحيح أن الإله المتجسد في صورة إنسان قد عمل على تقريب المسافة بينهما، إلا أن الوعي يظل بائساً، لأن هذا الاقتراب كان فعلاً إلهياً. أما الإنسان نفسه، فلم يقترب، بل ظل في شقائه السابق"[7].

في السياق نفسه، فإن هيغل في كتابه "روح المسيحية ومصيرها"، قد عمل على تحليل الرواية الكتابية لسيرة النبي إبراهيم، وخلص من ذلك بأن سيرة هذا الرجل، بما تضمنته من طول ترحال وتنقل وغربة، تأت كتعبير صادق عن إشكالية الوعي الشقي في العقل اليهودي.

ترك إبراهيم، قومه ومدينته الأم، وظل غريباً طوال حياته، وتجول لفترات طويلة في أنحاء شتى من منطقة الهلال الخصيب، وبحسب هيغل، فإن إبراهيم قد تصور أن تقواه وعبادته للإله الجبار والمسيطر على تلك الطبيعة الموحشة "سوف تؤهله لأن يكون وارثاً هو وذريته لنفس هذه المناطق التي تجول وهام فيها مغترباً، ومن هنا تظهر فكرة أرض الميعاد، ولأن إبراهيم هو الذي عرف هذا الإله الواحد، بنفسه وبقوة فكره الذاتية، فقد تصور أن رحمة هذا الإله وفضله وعطاءه سيكون له هو ولذريته فقط، مكافأة لهم على عبادتهم، ومن هنا يصبح شعبه مختاراً"[8].

تفسيرات سبينوزا وهيغل لليهودية لم تقف عند حدود الإطار العام فحسب، بل إن الدكتور أشرف منصور، يعمل بعد ذلك في إسقاط نظرية الوعي الشقي الهيغلية على الممارسات القانونية والسياسية اليهودية، في محاولة لتوضيح مواطن التفاعل والتأثير.

يذكر هيغل أن اليهود لما كانوا سلبيين بسبب خضوعهم لنظرية الوعي الشقي، فإن تحريرهم من فرعون لم يأت نابعاً من ذواتهم، بل كان أمراً إلهياً، وكذلك لم يستطع اليهود أن يمدوا أنفسهم بقوانين، وظلوا يعتمدون على النبي موسى بشكل كامل في تنظيم شؤونهم، ومن هنا أتاهم موسى بالشريعة الإلهية.

ويذهب هيغل إلى أنه لما كان تشريع الدولة لدى اليهود هو مجموع أوامر الله، فإن "القانون المدني والدين أصبحا شيئاً واحداً عندهم، وأصبحت عقائد الدين ومضمونه الأخلاقي مجموعة من القوانين والأوامر، وبذلك أصبح الدين والسياسة شيئاً واحداً، فمن ترك الدين لا يعود مواطناً وإنكار وجود الله أو الشرك به يعد عصياناً وخيانة للدولة في الوقت نفسه"[9].

من ذلك المنطلق، يبين هيغل أن القيم عند اليهود كانت مختلفة بشكل كبير عن مثيلتها المنتشرة في باقي أنحاء العالم، فقيمة المساواة كانت مختلفة بشكل كبير بين اليهود واليونانيين، فاليونانيين مثلاً "كانوا متساويين، لأنهم كانوا أحرارا وقادرين على تسيير شؤون حياتهم ووضع قوانينهم بأنفسهم. أما اليهود، فكانوا متساويين لأنهم كانوا كلهم عبيداً لإلههم ومعتمدين عليه وعلى قضائه وقدره ورحمته وغضبه".[10]

ويبين المؤلف أن الظروف السائدة في المجتمع اليهودي على مرّ التاريخ قد تسببت في تحريف وتبديل الكثير من الظواهر الدينية، فمثلاً يذكر الدكتور أشرف منصور، أن مضمون رسالة السيد المسيح كان مضموناً خلقياً بالمقام الأول، إلا أن ظروف المجتمع اليهودي قد أجبرته على التبدل، ليتحول إلى صورة دينية قحة "فلم يكن أمام المسيح إلا أن يقدم تعاليمه الأخلاقية، باعتبارها رسالة من عند الرب ومُكملة لشريعتهم لا ناقضة لها، ومن هنا فقد كان مجبراً على تقديم هذه التعاليم في صورة دينية، لأن اليهود لن يقبلوا أي شيء إلا بهذه الصورة"[11].

من هنا يمكن فهم السبب الذي وضع المسيح نفسه في بؤرة التقديس والعبادة؛ فالوعي اليهودي الشقي لم يستطع أن يفهم الروح الحرة للمسيح، ولم يتقبلها كروح إنسانية بشرية عادية، فنظر لها على كونها روحاً إلهية، ذلك أن اليهود لديهم تصورين لا ثالث لهما "فإما أن يكون المرء عبداً للإله، أو أن يكون هو نفسه إلهاً"[12].

هذا التغيير والتبديل للمفاهيم المسيحية الروحية، سرعان ما امتد ليصل إلى مجموعة من الأمور المرتبطة بها؛ فقد تحولت المبادئ والتعاليم الأخلاقية التي بشر بها المسيح إلى دين وضعي ولاهوت وعقيدة جامدة، كما تحولت المسيحية إلى فرقة دينية تم تنظيمها وفق محددات كهنوتية تراتبية تشبه تلك التي كانت موجودة وقائمة في النموذج اليهودي الذي قام المسيح بانتقاده.

توينبي وتفسير ظهور الدين الإسلامي

من الدراسات السوسيولوجية المهمة التي ضمنها الكتاب، تلك التي تناول فيها المؤلف تفسير ظهور الإسلام وعلاقة ذلك بالعوامل الاجتماعية والتاريخية، وذلك من خلال الكتاب المهم" دراسة التاريخ" للمؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي.

يرى منصور أن توينبي، هو واحد من بين أبرز المؤرخين الغربيين "الذين قدموا صورة عن الإسلام لا تنطلق من المركزية الأوروبية، بل من نظرة يمكن أن نطلق عليها التعددية الحضارية"[13].

السؤال الأول الذي حاول توينبي الإجابة عليه في معرض دراسته الموضوعية للإسلام، كان هو ذلك الذي تساءل فيه عن سبب الاندهاش المعتاد من قبل المؤرخين الغربيين من ظهور الإسلام.

من أهم النماذج المعبرة للرأي الغربي التقليدي في تلك المسألة، قول كرويبر: "إن الإسلام لم يمر بمرحلة طفولة ولا بمرحلة نمو حقيقي، لكنه انبثق مرة واحدة، كامل النضج في حياة إنسان واحد"[14].

يعترف توينبي بأن ظاهرة انبثاق الإسلام قد وقعت بشكل يختلف كثيراً عن مثيلاتها في حالات الأديان الكبرى، مثل المسيحية أو البوذية، ولكنه يلفت النظر إلى أن هناك الكثير من الأسباب التي قد تساهم مع بعضها في فهم الطريقة المعيبة التي جرى اللجوء إليها لتفسير ظهور الإسلام عند المؤرخين الغربيين.

السبب الأول، هو التحيز اللغوي للمؤرخ الغربي، فالسجلات والمدونات التاريخية، التي تتعرض لسرد سيرة النبي محمد، كلها مكتوبة باللغة العربية "وهذا ما يكبح جماح المؤرخ الغربي الذي كان يتتبع تاريخ جنوب غرب آسيا ومصر بالمصادر اليونانية واللاتينية لمدة ١٢٠٠ سنة"[15].

من هنا، فإن توينبي يؤكد على المشكلة التي واجهت المؤرخ الغربي الذي تصدى لتحليل التاريخ الإسلامي، فهذا المؤرخ الغارق حتى أذنيه في الثقافة الهلينية، وجد أن جميع أدواته لا تمكنه من فهم اللحظة التاريخية التي تزامنت مع ظهور الإسلام، ومن ثم فقد بدأ تحليله لتلك اللحظة بتحيز مسبق ضد اللغة العربية والثقافة السائدة في شبه الجزيرة العربية، وأوصله ذلك لتحيز معلن ضد الإسلام نفسه.

السبب الثاني الذي يستعرضه المؤلف، أن المؤرخ الغربي قد تجاهل السوابق التاريخية، التي لعبت دورا مهماً في التمهيد لظهور الإسلام.

مثلاً، حركة الفتوحات والهجرة العربية التي تزامنت مع ظهور الدين الإسلامي في النصف الأول من القرن السابع الميلادي، لم تكن هي الأولى من نوعها، بل سبقتها حركتان معروفتان؛ الأولى في القرن الثاني قبل الميلاد، والثانية في القرن السابع قبل الميلاد.

أيضا تكوين إمبراطورية عربية، لم يحدث في عهد الإسلام فقط، بل سبقته بعض النماذج المشابهة، مثل ما وقع في دول البتراء وتدمر في عهد زنوبيا.

في السياق نفسه، فإن الاعتماد على الموارد الهائلة للعراق، لم يحدث للمرة الأولى مع الإسلام، حيث يذكر توينبي أسماء الكثير من الحضارات التي اعتمدت على العراق، ومنها البابلية والفارسية والسلوقية والبارثية والساسانية.

حتى علاقة الإسلام المضطربة مع الثقافة الهيلينية، كان هناك سوابق تاريخية لها، فقد كانت هناك علاقة عداء معروفة بين النسطورية والمينوفيزيتية من جانب، والهيلينية من جانب آخر.

وهكذا يؤكد توينبي أن "الملامح المختلفة لظاهرة انبثاق الإسلام ولتاريخه المبكر، كانت لها أشباه سابقة ولاحقة مثل أية ظاهرة أخرى"[16]، ولذلك يعتبر المؤرخ الإنجليزي أن الرسالة المحمدية كانت نتاج تطوري لتراكمات تاريخية مختلفة داخل حدود شبه الجزيرة العربية، ويؤكد على ذلك بقوله، إنه وقبل ظهور الرسول" كان هناك إحساس عام بأنه قد حان الوقت للعرب ليكونوا أهل كتاب مثلما كان اليهود والمسيحيون"[17].

كيف حلل توينبي سوسيولوجيا التاريخ الإسلامي؟

إذا كان المؤلف قد وضح في المحور السابق من كتابه، كيف فسر توينبي اندهاش المؤرخ الغربي من ظهور الإسلام في بدايات القرن السابع الهجري، فإنه -أي المؤلف- قد أفرد في كتابه محوراً كاملاً لتبيان تحليل توينبي لمظاهر سوسيولوجيا التاريخ الإسلامي.

القاعدة الأولى التي يلتفت إليها توينبي في دراسته المعمقة للتاريخ الإسلامي، أن "السقوط يسبق الاضمحلال"، حيث يرى أن الحضارات لا تنهار في لحظة سقوطها، بل إن الحضارة تسقط أولاً، ثم تبدأ مؤسساتها الثقافية والاجتماعية والإدارية في التحلل بالتدريج شيئاً فشيئاً، ويرى توينبي أن الحضارة الإسلامية قد سقطت في فترة ما في القرن الحادي عشر الميلادي مع ضعف الخلافة العباسية، وأن البُنى الحضارية الإسلامية قد استمرت في التحلل حتى اللحظة الحالية.

النقطة الثانية، أن الفتوحات الإسلامية التي قام بها العرب المسلمون في القرن السابع الميلادي، كانت في حقيقتها تمثل نوعاً من النجاح للشعوب البدوية الجوالة، والمُمثلة في القبائل العربية، في اختراق السياج الأمني القوي الذي لطالما أحاطت به الشعوب الزراعية القائمة في الشرق الأوسط نفسها، وهذه الفتوحات كانت من وجهة نظر توينبي موجات تتابعية للحركات التي قامت بها الشعوب البدوية الجوالة، سواء في فرعيها الإسرائيلي أو الإسماعيلي؛ فالفتوحات الإسلامية بحسب توصيف المؤرخ الإنجليزي "هي فتح لأراضي الحضارات الزراعية التي كانت مغلقة أمام القبائل البدوية الجوالة"[18].

وفي النقطة الثالثة من هذا المحور، يوضح منصور الكيفية التي فسر بها توينبي نمو الحضارة الإسلامية، فيقول إن المؤرخ الإنجليزي قد ذهب إلى أن الحضارة باعتبارها الإطار الثقافي الذي يضم في داخله مجتمعات عديدة، تشهد نشوءاً يتمثل في نجاح المجتمع في الاستجابة لتحدٍّ يواجهه، ويعمل هذا التحدي على خلق المجتمع لنظم ومؤسسات تتعامل معه بنجاح.

الفكرة الأساسية في تحليلات توينبي أن الحضارة لا تنهار لأسباب خارجية أبداً، بل لأسباب داخلية ذات طابع اجتماعي واضح، وإذا انهارت الحضارة نتيجة غزو خارجي مثلاً، فلا يجب أن تشتت هذه الواقعة انتباهنا على أن الغزو لم يكن ليحطم حضارة ما لم تكن قد ضعفت من الداخل.

يرى توينبي أن نمو الحضارة يقع عندما تزداد السيطرة على البيئة الطبيعية والبيئة البشرية، ولو طبقنا تلك القاعدة في حالة التاريخ الإسلامي، لوجدنا أنه قد تجسد نمو الحضارة في نجاح الدولة الإسلامية الناشئة في بلاد العرب في إحكام سيطرتها العسكرية على الأقاليم الزراعية المتاخمة لها في العراق وبلاد الشام وبلاد فارس ومصر، حيث تحققت بذلك السيطرة على البيئة الطبيعية. أما السيطرة على البيئة البشرية، فقد تتحقق في توحيد القبائل العربية في وحدة سياسية واحدة، حيث خضعت جميعها لسلطة واحدة، وتمت الاستفادة من قدراتها الحربية في مشروع إمبريالي ضخم، وحل هذا المشروع محل الحروب الصغيرة والمتكررة التي كانت تندلع بين تلك القبائل وبعضها البعض حيناً بعد آخر.

أما في النقطة الرابعة من بحثه، فإن المؤلف يلتفت إلى المقارنة الممتازة التي عقدها توينبي، بين الفرق الدينية في الإسلام والفرق الدينية في اليهودية، والتي اكتشف من خلالها عمق التأثير المتبادل بين الجانبين.

فيما يخص اليهودية، يرى توينبي أنها قد ظهرت باعتبارها ديانة كتابية، وواجهت تحديات مختلفة ومتنوعة، وكان عليها أن تختار طريقاً واحداً من بين طريقين؛ الأول، وهو أن تتمسك بالفهم الحرفي للنصوص المقدسة، والثاني، وهو أن تحاول أن تكيف تلك النصوص مع التنوع الثقافي والمعرفي المحيط بها، ومن هنا فقد ظهرت الفرق الدينية اليهودية الشهيرة مثل الصدوقيين والفريسيين والأسينيين.

يرى توينبي أن الإشكال المتعلق بكيفية التعاطي مع النص المقدس في اليهودية، قد ظهر بنفس الطريقة في الحالة الإسلامية، ومما يلفت النظر أن الفرق الدينية الإسلامية قد تشابهت كثيراً مع مثيلاتها اليهودية، فمثلاً الصدوقيون هم أشاعرة اليهود، لأنهم يلتزمون بحرفية النصوص ويتمسكون بالشعائر، والفريسيون هم معتزلة اليهود، فكلمة فريسي تعني المنعزل أو المنفصل، وهم "أصحاب الاجتهاد العقلي والتعامل الحر مع النصوص بتأويلها"[19]. أما الأسينيون فهم متصوفة اليهودية، "إذ يتبنون أخلاقاً تطهرية، وأسلوباً متقشفاً في الحياة"[20].

ويعتقد توينبي أن السبب في تشابه ردود الأفعال من جانب الفرق الدينية في الديانتين، هو التشابه في الظروف الاجتماعية والتاريخية لليهودية في القرنين السابقين على الميلاد والقرن التالي له، وللإسلام ابتداءً من القرن الثاني الهجري.

ومن النقاط التي يبرزها توينبي، أن كلاًّ من الديانتين قد واجهت تحدّياً من الثقافة الهيلينية، وأن هناك مجموعة من الفلاسفة اليهود والمسلمين الذين حاولوا أن يوفقوا بين المنهجين في كل حالة، على سبيل المثال نجد الفيلسوف اليهودي فيلون السكندري يعمل على التوفيق بين اليهودية والفلسفة اليونانية. أما في الحالة الإسلامية، فنجد الفارابي وابن سينا وابن رشد الذين بذلوا جهوداً ضخمة في سبيل التوفيق بين الدين الإسلامي والفلسفة اليونانية.

ويرى توينبي أن الكثير من الإشكاليات الفكرية والعقائدية قد ظهرت في الوسطين اليهودي والإسلامي بالشكل ذاته، ومن أهم تلك الإشكاليات، مسألة التشبيه والتجسيم والتنزيه، والتي ذهب فيها الصدوقيون والأشاعرة إلى القول بالتمسك الحرفي بالنص حتى لو نتج عن ذلك القول بتشبيه الإله بالبشر في بعض الصفات. أما الفريسيين والمعتزلة، فقد ذهبوا إلى التنزيه المطلق لله، حتى لو استدعى ذلك تأويل بعض النصوص أو تهميشها.

عقيدة المخلص أيضاً تظهر في الحالتين؛ فبعض الفرق اليهودية تؤمن بالمسيا الموعود، كما أن أغلب فرق الشيعة والسنة تؤمن هي الأخرى بالمهدي المنتظر الذي يظهر في آخر الزمان، فيقضي على الجور والظلم ويقيم دولة الحق والعدل الإلهي على الأرض.

هناك أيضاً ثنائية النص الأصلي والنص الشارح، فسلطة وتأثير الكتاب أو النص الموحى به في الديانتين (الكتاب المقدس والقرآن الكريم)، تقف في مواجهة سلطة النص الشارح (التلمود والهالاخاه في اليهودية، والأحاديث النبوية في الإسلام)، وجميع تلك القرائن والشواهد السابقة دفعت العديد من الباحثين للقول بأن "الإسلام هو إعادة إنتاج لليهودية".

من النقاط المهمة أيضاً التي استحوذت على مساحة واسعة في دراسة توينبي للحضارة الإسلامية، تلك التي تفسر حالة الانقسام في المجتمع الإسلامي.

بحسب توينبي، فإن الحضارة التي تمر بمرحلة اضمحلال تشهد نوعين من الانقسام، الأول، هو انقسام أفقي على مستوى المجتمع، والثاني هو انقسام رأسي على المستوى السيكولوجي للأفراد، الانقسام الأفقي يظهر في تشكل البروليتاريا الداخلية من الفقراء والمعدمين، وفي بروليتاريا خارجية من القبائل البربرية أو الرعوية التي تعيش على أطراف الحضارة المزدهرة، والذين يقومون بغزو تلك الحضارة على مرّ السنين.

نظرية توينبي تذهب إلى أن البروليتاريا الداخلية هي التي تنشئ الدين العالمي، بينما تعمل البروليتاريا الخارجية على تأسيس الإمبراطورية، ومن هنا يمكن تفسير ظهور الإمبراطورية الإسلامية في لحظة تاريخية مقاربة من لحظة ظهور الدين الإسلامي.

ويلاحظ توينبي أن المجتمع يتكون من أقلية مبدعة وأغلبية مقلدة، وفي مرحلة الاضمحلال تتحول الأقلية المبدعة إلى أقلية مسيطرة مستبدة، وهو الأمر الذي حدث في الحضارة الإسلامية، عندما تحولت طبقة الفقهاء من أقلية مبدعة تعمل على "إبداع هياكل تشريعية تناسب تنوع المجتمعات الإسلامية"[21]، إلى أقلية مسيطرة تعمل على "فرض تماسك اجتماعي عن طريق الالتزام برؤية سلفية للشريعة والتزام حرفي بالشعائر ومحاولة الوقوف أمام التطورات الاجتماعية الجديدة في المجتمعات الإسلامية بالحكم عليها بأنها بدع وضلالات"[22].

وتتزامن مع تلك النزعة التسلطية، ظاهرة أخرى يسميها توينبي بآلية المحاكاة، ويقصد بها أن المجتمع في أوقات اضمحلاله، يلجأ إلى القيام بمجموعة من الأفعال التي مارسها من قبل في أوقات النمو والازدهار، وذلك بطريقة آلية "معتقداً أن تكراره لهذا الفعل والتزامه بأدائه بحرفية سوف يساعده على البقاء وعلى تجاوز أزماته الحالية"[23]، ومن هنا يصبح النص أو الطقس الديني بمثابة الصنم الذي يتخذه البشر وسيطاً بينهم وبين الواقع.

ملاحظات المؤرخ الإنجليزي على حالة التدهور المجتمعي لا تقتصر على الانقسامات الطبقية فحسب، بل إنها تمتد كذلك لتميز الانقسامات الأخرى الموجودة في النفس البشرية، حيث يحدد توينبي مجموعة من مظاهر هذا الانقسام، ومن أهمها "نزعة الاستشهاد" التي تدفع الفرد للانفصال عن مجتمعه، حيث تسيطر عليه رغبة غير عقلانية تدفعه للتضحية بنفسه، و"نزعة التمركز حول الذات"، والتي تذهب إلى أن الأمة الإسلامية هي الأفضل بين الأمم، ويرتبط بها تمجيد مجموعة معينة من الأشخاص وتحويلهم إلى رموز تعبر عن المجد الغابر، وهي النزعة التي يعلق عليها المؤلف بقوله: "إن نزعة تمجيد الأشخاص تكشف عن عدم القدرة على إدراك أن المبادئ والقيم يمكن أن تتحقق في المجتمع وفي نظمه ومؤسساته ولا تقتصر على الأشخاص، بحيث تكون مؤسسات المجتمع ضامنة لصلاح الأفراد."[24]

ومن المظاهر الأخرى المميزة لتردي المجتمعات الإسلامية، "نزعة الشعور بالانسياق"، وهي التي تتضح في الإحساس التام بالجبر، وبأن هناك قوة أعلى تتحكم في المجتمع كله، وأن الفرد ليس إلا كمّاً مهملاً عاجزاً عن إحداث التغيير، ولا تستطيع إرادته الحرة أن تواجه ما يدور من حوله.

أيضاً توجد "نزعة الشعور بالخطيئة"، والتي تتمثل في إحساس الفرد بخطئه، وبعظم جرمه، مما يجعله دائماً يطلب المغفرة من الذنب، وهناك صورة أخرى لتلك النزعة، وهي التي يعتقد فيها الفرد بأن المجتمع الذي يحيط به كله مذنب وكافر، مما ينتج عنه تنامي ظاهرة الإرهاب.

يرتبط الشعور بالخطيئة، بنزعة أخرى، وهي تلك التي يسميها المؤرخ الإنجليزي "بنزعة الشعور بالاتحاد"، وهو الاعتقاد بأن هناك جماعة واحدة صحيحة وأن باقي الجماعات منحرفة، ويظهر ذلك في التاريخ الإسلامي في صورة الفرقة الناجية.

وختاماً، يمكن القول إنه وعلى الرغم من صغر حجم الكتاب وسهولة أسلوبه، إلا أن المؤلف قد تمكن -ببراعة- من إثارة مجموعة من النقاط المهمة التي تتصل اتصالاً وثيقاً بموضوع سوسيولوجيا الأديان، ويُحسب للمؤلف أنه قد عرض وجهة نظره الخاصة فيما طرحه من نظريات وآراء سوسيولوجية لمجموعة من كبار المفكرين، من أمثال هيجل وسبينوزا وتوينبي، وهو الأمر الذي ضاعف من قيمة هذا الكتاب، إذ يمكن اعتباره ذا طبيعة مزدوجة، فهو من جهة، يُعّد مدخلاً قيماً للتعرف على أهم نظريات سوسيولوجيا الدين، ومن جهة أخرى، يُعّد مفتاحاً لا غنى عنه لنقد تلك النظريات وتبيان أوجه تميزها وضعفها.


[1] أشرف منصور، الرمز والوعي الجمعي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، الطبعة الأولى 2018، القاهرة، ص5

[2] المرجع نفسه، ص5

[3] المرجع نفسه، ص10

[4] المرجع نفسه، ص10

[5] المرجع نفسه، ص11

[6] المرجع نفسه، ص12

[7] المرجع نفسه، ص12

[8] المرجع نفسه، ص13

[9] المرجع نفسه، ص14

[10] المرجع نفسه، ص15

[11] المرجع نفسه، ص17

[12] المرجع نفسه، ص18

[13] المرجع نفسه، ص25

[14] المرجع نفسه، ص27

[15] المرجع نفسه، ص29

[16] المرجع نفسه، ص35

[17] المرجع نفسه، ص35

[18] المرجع نفسه، ص51

[19] المرجع نفسه، ص55

[20] المرجع نفسه، ص55

[21] المرجع نفسه، 60

[22] المرجع نفسه، ص60

[23] المرجع نفسه، ص66

[24] المرجع نفسه، ص72