السنة والإصلاح


فئة :  قراءات في كتب

السنة والإصلاح

الكتاب للمفكر المغربي العروي عبد الله، بعنوان "السنة والإصلاح" صدر عن المركز الثقافي العربي الدار البيضاء المغرب ط I، 2008. وهو عبارة عن مراسلة وأجوبة عن تساؤلات سيدة أجنبية مسلمة متخصصة في البيولوجيا البحرية، مطلقة من رجل شرقي حسب تعريفها له، تعيش في محيط جد مختلط وتقضي نصف السنة على ظهر سفينة مختبر بحري فحوصا وتجارب دقيقة في عمق جنوب المحيط الهادي في مختبر. والغرض من هذه المراسلة التي أعطاها الكاتب ما تستحق من الوقت والاهتمام، هو أن تستعد سائلته لقراءة كتابنا العزيز- القرآن- قراءة متمعنة، ويلح عليها المؤلف بقوله: "لا بد أن تستعدي بعناية تليق بما استغرق من وقت تنزيله و جمعه".[1] وبما أن الغرض الأساسي من هذا الكتاب هو الدعوة إلى قراءة ـ القرآن- قراءة متمعنة تليق بمقامه، فهذا يعني أن المؤلف من خلال أسئلة الكتاب وأجوبته قد صال و جال بشكل منهجي حول ما نسج حول النص -القرآن- من علم الحديث. السنة- وما انبنى حوله من العلوم كعلم الكلام والفلسفة... ولم يغفل تلك الصلة التي تربط القرآن بما قبله من الكتب. فما هي الصورة التي رسمها الكاتب في ذهن سائلته عن القرآن، وعن الإسلام، وعن السنة؟ و كيف ندخل إلى الإصلاح؟ هل من باب السنة أم من باب القرآن؟

"من لم يحيه القرآن فهو إلى الأبد ميت".[2]

لم يخلص الكاتب إلى هذه النتيجة إلا بعد أعوام طوال من البحث والنظر، والمقارنة بين وضع التوراة والإنجيل من جهة، ووضع القرآن من جهة ثانية، "إذ خرج القرآن من المقارنة أقوى تأثيرا وأكبر قيمة".[3] ولكن ما هو السر في كون القرآن أقوى تأثيرا على نفس وذهن المؤلف من غيره من النصوص؟ يرى العروي بأن القرآن، في منحاه العام، ترجيعة متجددة، متسارعة، متنامية لنغمة واحدة، ردة عنيفة على صدمة مروعة، وكشف مذهل.الكشف عن إخفاق الإنسان.الصدمة عن عقوق الإنسان وعناده الردة على أنانية الإنسان وغروره.[4] فالقرآن مرتبط بالكون وبوجود الإنسان وبماهيته، ومن قرأه قراءة معزولة ومقطوعة عن الكون والإنسان فقد ضيع غائيته ومقصده، ولأن "ما نقرأ وإذ نقرأ هو علة الكون. تسلسل القرآن (القول) هو تسلسل الكون".[5] وفي نظر المؤلف بأن القرآن اليوم لم يقرأ كما يجب، فإذا كان "اليهود والنصارى، بفعل الزمن وحده، لم يعودوا يقرؤون كتابهم المقدس كما كان يفعل أجدادهم"[6] واكتفوا بالقراءة الحمارية التي يحضر فيها حمل الكتاب بدل تدبره وتلاوته، تلاوة وقراءة يحضر فيها القلب والعقل، بدل التقليد والاتباع والخرافة والوهم. وقد حذرالقرآن من هذه القراءة البئيسة قال تعالى:"مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظالمين" (الجمعة،الآية 5.). والذي نأسف له هو"أن المسلمين المعاصرين يعيشون التجربة نفسها، سيما غير الناطقين بالعربية".[7] فالقرآن في المتداول، كتاب بين دفتين- لكن لا أحد يقرأه كما يقرأ غيره من الكتب كمقالة فلسفية، كمؤلف أخباري كملحمة أو رواية، يبدأ بمقدمة وينتهي إلى خلاصة.[8] "علينا أن نقرأ ولا نكتفي بالتلاوة. نقرأ النص الموجود بين أيدينا. نقرأه بلا واسطة، بلا فكرة مسبقة، بلا عدة خفية، نقرأه في الأصل إن أمكن أو في ترجمات مختلفة تصحح الواحدة بالأخرى".[9] ويطمئن عبد الله العروي سائلته بقوله: "إذن توقعي الأفضل، أيتها السائلة وانغمسي كليا في الكتاب".[10] "باجتهادك هذا قد تقعين على معان لم ينتبه لها المفسرون المعتمدون".[11] والجميل هنا أن الكاتب لم يترك سائلته دون أن يحدد لها معالم المنهج الذي يقربها إلى القرآن، وهو البحث في مفرداته، وعلاقة بعضها بالبعض الآخر وبهذا الصدد يقول: "فمن هذا المنطق يمكنك، أيتها السائلة، أن تركبي بنفسك ولنفسك منظومة القرآن دون لجوء إلى مفسر أو مؤول، سيري على النهج وستجدين أن ما يتبادر إلى ذهنك يثبته اشتقاق الألفاظ وتفصيل المفاهيم، خذي مثلا الجذر، ح،س،ب، وانظري كم تتفرع عنه من المفاهيم، وكيف ينطبق بالتساوي على الرب وعلى الإنسان. خذي لفظ، د،ي،ن، واستحضري معانيه من منظور العابد، ثم من منظور المعبود".[12] بهذه الإشارات الدقيقة والسريعة جعل العروي من كتابنا العزيز الأصل الأول والأخير الذي ينبغي العودة إليه، عودة يحضر فيها القلب و العقل، بدل النقل وهو يذكر سائلته، بقوله: "لا تنسي أن الأمر باتباع العقل و العدل. وأنت التي تعيشين في محيط آخر، بل في زمن آخر، تحت شرع آخر، لا تخشي أي التباس إذ القرآن كتاب مبين".[13] الآية قال تعالى: "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ." (الآية، النحل 89).

· الإسـلام

"الإسلام، إسلام عندما يتوخى بصدق وصراحة إحياء تجربة إبراهيم من خلال محنة محمد أثناء الأمد المقرر".[14] شكلت تجربة إبراهيم حدثا مفصليا في تاريخ البشرية ككل، فإبراهيم خاض وحده تجربة فريدة لم يخضها أحد قبله من الأنبياء، وفحوى هذه التجربة هو أن إبراهيم سلك (الطريق) إلى الحق (الله) من خلال قراءة الخلق(الكون) والقرآن لم يخبرنا كم كلفت إبراهيم هذه التجربة الفريدة من الوقت والجهد، والقوة في طرح السؤال، واستخلاص النتائج. إلا أن تجربة كهذه قد تتطلب من صاحبنا يقينا وعزيمة وإرادة قوية، وذهنا متسعا وقلبا سليما، وبهذا استحق ابراهيم أن يصبح أمة وحده، قال تعالى: "إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (النحل، الآية 120) وخلاصة تجربة إبراهيم هي أن "الواحد الدائم، رب السماوات والأرض، يسمع ويجيب، هذه تجربة إبراهيم وهي خاتمة، يختزل بها كل شيء، الزمن والمكان في نقطة واحدة. وانطلاقا من هذه النقطة يعاد بناء كل شيء ما يرى يعرف يتخيل، الكون، الحياة، الإنسان، الشعور إلخ. لا ماضي غير ما حصل لحظة الكشف ولا مستقبل سوى ما حصل فيها".[15] ولحظة الكشف هذه لا تتأتى إلا بتفعيل ملكة السمع والبصر والفؤاد،[16] التي بواسطتها نلخص الماضي ونحتويه بدل أن يحتوينا، ونقبض عليه بدل أن يقبض علينا، وننظر إليه من خارجه بدل أن نكتفي بالنظر إليه من داخله، "على غرار إبراهيم وعلى أثره يختزل الإسلام الماضي بهدف نفيه، تجاوزه مع الحفاظ عليه كمرحلة، كخطوة تمهيدية، كغواية تقود إلى الهداية"،[17] وبهذا فالإسلام يحيي فينا تجربة إبراهيم.

· السـنـة

"السنة اختزال مستمر، اختزال الوحي في الشرع، ثم اختزال الشرع في عمل مجموعة محدودة من الأفراد. فتأتي القاعدة الصارمة: الطريق السوي هو تقليد هذه الجماعة، في الكبيرة والصغيرة، والمداومة على التقليد (العض عليه بالنواجذ) جيلا بعد جيل دون ميل أو حيد".[18] لكن من حقنا أن نتساءل "بناء على وضعنا الحالي و انطلاقا من معارفنا و حاجاتنا من معتقداتنا ...عما يلي: كيف تكونت السنة؟ من قام بذلك العمل و لأي هدف؟"[19] قبل أن يجيب العروي سائلته عن هذه الأسئلة التي طرحتها يذكرها بتلك الأجوبة الجاهزة التي توارثناها جيلا بعد جيل، ويفترض في سائلته أنها لا ترضى بتلك الرواية الرسمية، بقوله: "أنت أيتها السائلة، مع ذهنيتك العلمية ونشأتك في مجتمع يعيد النظر باستمرار في كل ما يفعل ويقول، هل ترضين بتلك الرواية وتوصدين باب النقاش".[20] من البدهي في زمن النبوة سواء بمكة أو بالمدينة، أنه ليس هناك إلا نص واحد وهو نص القرآن الذي كان يتلقاه الرسول بشوق، ويبلغه إلى من حوله بصدق وأمانة، وبعد التحاق الرسول بالرفيق الأعلى، في زمن الخلافة في عهد أبي بكر و عمر و عثمان وعلي، لا يرى الناس إلا أصلا واحدا هو القرآن، فهو النص الوحيد الذي كان يقرأ زمن النبوة وزمن الخلافة أي أن الرسول لا يعلم ولا يقر بشيء اسمه السنة. النص والاصطلاح الذي تشكل بعد رحيله ورحيل أصحابه، أي أن الرسول وأصحابه كانوا يعودون في أمور القضاء و الحكم إلى نص القرآن. "بدأ الفقه مع أبي حنيفة...فكان على فقيه العراق أن يحل مشكلات جد معقدة، ناتجة عن تأثير تقاليد كثيرة سابقة على الإسلام و غالبة في دولة الخلافة المتعددة الأجناس... ولهذا السبب بالذات كان من الطبيعي أن يترك للقاضي مجالا واسعا للاجتهاد والابتكار".[21] "هذه الصلاحية الواسعة المخولة للقاضي هي التي أغضبت مالك بن أنس الذي سمي بحق إمام المدينة، قام في كتاب الموطأ بتدوين ما يعمل به، تواترا في مهد الدولة الإسلامية. وبذلك وضع حدا لمبادرة القاضي... لم يتراجع الشافعي عن هذا الموقف، بل أصله إذ وضعه كمبدأ لا رجعة فيه أن القرآن لا يفهم مقصده، بالنسبة لنا إلا على ضوء السنة"[22]. هذا الهم الكبير بضرورة تأسيس كل حكم على السنة أو "على القرآن المفهوم على ضوء السنة هو ما دعا ابن حنبل إلى توسيع نطاق هذه الأخيرة... كتاب ابن حنبل مسند، إذ يتوخى أو يأمل إسناد كل الأحكام الفقهية على سوابق. فيجعل القاضي تحت إمرة المحدث ويبعده عن تأثير المتكلم. من مئات ننتقل إلى آلاف الأحاديث، متفاوتة الصحة، لأننا بحاجة إلى أن تطال السنة كل حوادث الحياة البشرية العامة والخاصة".[23] فحجة "أنصار السنة عبر الأجيال... بعد قرون من التمحيص والتدقيق توصل هؤلاء النظار إلى المبادئ التالية:

القرآن وحده على ما يريد الله منا و لنا...

النبي وحده يعلم معناه الجلي الواضح، هو وحده الترجمان و الوسيلة بيننا و بين الله.

الصحابة المقربون وحدهم مؤهلون لإبلاغنا هذه التوضيحات.

أصحاب لغة القرآن، العرب وحدهم يدركون تلقائيا معنى الكلمات...

هذه هي الصيغة الأكثر تحيزا ووضوحا للموقف التقليدي السني"[24] إن "كل ما نقوله عن التراث السني، سلبا أو إيجابا، ينسحب على مقابله الشيعي، إذ الأصول واحدة، والمنهج واحد، والمصطلح واحد".[25] من خلال هذه النصوص وغيرها، يربط الاستاذ عبد الله العروي السنة بالظرف التاريخي والسياسي الذي كان من وراء ظهورها كنص موازي للقرآن، والسؤال الذي نحن بصدده من خلال النصوص السالفة الذكر، هل السنة وحي منزل أم هي صياغة و نظم بشري؟ الكاتب أكثر وضوحا منهجيا فقد خلص إلى أن السنة تؤسس "بالرفض والإقصاء وتنتعش وتنمو بالانتقاء والتزكية"،[26] وهذا يستحيل وقوعه مع الوحي المنزل، تعالى كتاب الله عما يصفون. جاء الوحي مؤسسا لمنهج الإصلاح، إلا أن السنة حملت لواءه، وهي من السباقين لاغتياله، "النتيجة واضحة وهي أن منهج السنة، اعتماد الاتباع ونبذ الابتداع، ويؤدي حتما بوعي وبغير وعي، إلى ثقافة سمع ولسان، في تعارض بارز مع ثقافة عين ويد التي قوامها الملاحظة والممارسة".[27] أليست هذه هي مشكلة العالم الإسلامي زمن انحطاطه حتى اليوم؟ منذ أن "تراجع الرأي لصالح الحديث... وتراجع العقل لصالح النقل... وتراجع الباطن لصالح الظاهر"،[28] "فالمذهب الظاهري هو التنظير الأقوى والأمتن لموقف السنة".[29] فمع ابن حزم "نرى الثقافة تدعو إلى الأمية، الذكاء يدعو إلى البلادة، الطموح يدعو إلى الخمول، التفنن يدعو إلى البساطة، النباهة تدعو إلى الغفلة، اليقظة تدعو إلى السهو إلخ..."،[30] وأي إصلاح هذا يمكن تصوره مع السنة؟ إذا أردنا الإصلاح و النهضة فعلينا أن نعي جيدا وبدقة ما يقوم به "رجال السنة، أنصار التقليد ودعاة الاتباع، بعملية زبر وتشذيب وترتيب كل ما علا وظهر، أو فاق وفاض، كل تجاوز وتعد، وكل ما لم يقف عند حد معلوم وجب التخلص منه، والحد المعلوم ما هو؟ في جملة واحدة هو تأويل سادة مدينة الرسول لسيرته الدنيوية).[31] بفعل هذا التشذيب الذي لحق تاريخنا الطويل جاءت النتيجة، في الفقه "نبدأ مع أبي حنيفة وتنتهي بابن حنبل. في الكلام نبدأ مع المعتزلة وننتهي بمذهب الظاهر. في الماورائيات نبدأ بالفلسفة وننتهي مع التصوف النظري".[32] نحن اليوم في مفترق طرق إما الإصلاح، وإما أن نستسلم للتقليد والاتباع، أي للحنبلية والظاهرية التي تلاحقنا اليوم في كل ما أقبلنا عليه، مع الإصلاح نجد ذواتنا مع العقل والرأي...


[1]. العروي عبد الله، السنة و الإصلاح، المركز الثقافي العربي الدار البيضاء المغرب ط I، 2008 نفسه ص 89..

[2]. نفسه ص 115..

[3] . نفسه ص 78.

[4]. نفسه ص 104/105.

[5] . نفسه ص 61.

[6]. نفسه ص 87.

[7] . نفسه ص 87.

[8]. نفسه ص 103.

[9]. نفسه ص 103.

[10] . نفسه ص 104.

[11]. نفسه ص 107.

[12] . نفسه ص 107.

[13]. نفسه 125.

[14]. نفسه ص 72.

[15] . نفسه ص 65.

[16] . قال تعالى: "وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً " ( الاسراء، الآية، 36 ) قال تغالى: "قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌلَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ " ( سبأ، الآية، 46 )، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ". (البقرة، الآية، 104).

[17] . نفسه ص 71.

[18] . نفسه ص 71.

[19] . نفسه ص 129.

[20] . نفسه ص 128.

[21] . نفسه ص140.

[22] . نفسه ص 141.

[23] . نفسه ص 141.

[24]. نفسه ص 132.

[25] . نفسه ص 168.

[26] . نفسه ص 148.

[27]. نفسه ص 143.

[28]. نفسه ص 160.

[29]. نفسه ص 146.

[30] . نفسه ص 146.

[31] . نفسه ص 149.

[32] . نفسه ص 157.