الصوت والطرس الإلهي


فئة :  مقالات

الصوت والطرس الإلهي

مدخل:

لنبدأ بنصين قصيرين؛ أولهما يبدو بخط بارز على الصحيفة، وثانيهما، لا يكاد يبين من شدة ما كُتب من فوقه، إلا أنه وبإنعام النظر لن تملك إلا أن تراه:

غليانو، كتاب المعانقات: "مؤسف أن آدم كان غبيا هكذا. مؤسف أن حواء كانت صمّاء هكذا. مؤسف أنني لم أعرف كيف أجعل نفسي مفهوما (...) حسنا ربما لم أكن جاهزا للكلام. قبل آدم وحواء، لم أتحدث مطلقا مع أي شخص. لقد لفظت عبارات مهيبة مثل: ليكن هناك ضوء، ولكن دائما وأنا وحيد. وهكذا في اليوم الذي التقيت به بآدم وحواء في برودة المساء، لم أكن فصيحا جدا. افتقدت للممارسة."[1]

سفر التكوين: "وسمعا صوت الرب الإله ماشيا في الجنة عند هبوب ريح النهار، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة. فنادى الرب الإله آدم وقال له: "أين أنت؟". فقال: "سمعت صوتك في الجنة فخشيت، لأني عريان فاختبأت"."[2]

إن الاختلاف واضح بين النصين، وإن كانا يعرضان لنفس الحدث، ذلك أن أولاهما –لحداثته زمنيا ولكونه من بين آخر ما نقش على طرس الصوت- يعرض الإله ذاتا عاجزة عن الكلام، ينطق بضمير الأنا المحدودة في الزمان والمكان والمدركة لحدود معرفتها وضعف صوتها "المفتقد للممارسة". أما الثانية فتصوره جبارا، ذا صوت يرعب الخاطئَيْن ويدفعهما للاختفاء بين الأشجار. لقد اختل ميزان القوى بين الشخوص الثلاثة، وأصبحنا مع الكتابة الجديدة، مدركين أن الإله الجبار قبل أن ينادي آدم المختبئ كان هو نفسه مرتعبا، متهدج الصوت، لا يعرف كيف يخاطب عبديه. ولكن، قبل تتبع مسار الصوت الإلهي والهوان الذي صار إليه بانتقاله من الحديث من قلب نصوصه السماوية ليصبح شخصية متخيلة في نص بشري، لا بد أولا من الوقوف عند مفهوم الطرس وتبين علاقته بالصوت.

قد يبدو للوهلة الأولى، أن الصوت والطرس متعارضان، إذ الأول يحيل على الشفاهي، بينما الثاني على المسطور والكتابة، ولكنني أعني بالطرس هنا الكتابات التي تناولت الصوت أولا، في محاولة لتتبع جينيالوجيا الصوت والتحولات التي اتخذها هذا المفهوم زمنيا ودلاليا. ولكن الأهم من هذا، أن الصوت بالنسبة إليّ لا ينفصل عن الكتابة والطروس، بل لولا وجود الأطراس بما تتيحه من بياضات وهوامش وثغرات ومسافة مع المتلقي لما كان للصوت أن ينطق ولا أن يعبر عن ذاته. صحيح أن الكتابة لم تستطع يوما أن تقبض على جوهر الصوت ولا أن تمثله على حقيقته كما يوجد هناك في الساحة وخارج الأسوار، ولكنها على الأقل استطاعت أن تقترب منه وتحرره من تحديقة المتلقي التي تشل الألسنة، بل وأكثر من ذلك أن تضفي عليه شيئا من الشرعية، إذ وحده المكتوب يبقى، ويظل شاهدا يمكن المحاججة به.

الطرس ليس كتابة فوق كتابة فحسب، بل هو كذلك مكان للصراع على السلطة، أو على الأقل البقاء داخلها

الطروس المتصادية:

الطرس كما جاء في لسان العرب هو "الصحيفة التي محيت ثم كتبت أو الكتاب الممحو الذي يستطاع أن تعاد عليه الكتابة"[3]، كما يعني في الآن ذاته المحو والكتابة، إذ إن "طرست الصحيفة إذا أنعمت محوها. وطرس الكتاب: سوّده"[4]. لا تقف مفارقات هذا المدخل المعجمي هنا، ذلك أنه إذا بحثنا عنه في معجم محيط المحيط، نجده يتموقع بين المدخلين المعجميين: طرز وطرش[5]. وبما أن الطرز يحيل على النسج والحياكة والأهم من ذلك "النص"، والطرش يحيل على فقدان القدرة على السماع (ومن ثمة يقترن بالصمت، أو لنقل إن الطرش هو "سماع الصمت")، فإن اللفظتين المؤطرتين للطرس وإن معجميا، تعودان بنا مرة أخرى، لدلالتي الكتابة والمحو، فالنص هو كل كتابة جديدة على الطرس، والطرش هو مصير كل ما محي في سبيل كتابة جديدة.

كما أن هناك مدخلا ثانيا لتبين دلالة الطرس، باعتباره واحدا من تقليبات الجذر "س.ط.ر" الذي يدل في آن على الخط والنظام (صف من الكتاب والشجر والنخل) والقطع (سطر فلانا فلانا بالسيف إذا قطعه) والخطأ (أسطر فلان إذا أخطأ) والباطل (في الإحالة على الأساطير)[6]، والكتابة بدورها، ولكن ليست أية كتابة، بل ما يكتبه الملائكة، إذ يؤول ابن منظور الآية القرآنية: "ن والقلم وما يسطرون"، بقوله: "أي وما تكتب الملائكة"[7]. ولكن الأهم من كل هذا، أن من أبرز اشتقاقات سطر هو فعل سيطر الذي يعرفه المعجم على النحو الآتي "المصيطر: المسلط على الشيء ليشرف عليه ويتعهد أحواله ويكتب عمله (..) وقال الزجاج: المسيطرون الأرباب المسلطون"[8]، ومن ثم فارتباط التسطير والكتابة بهذا الاشتقاق الأخير، يغير الكثير في طريقة تمثل الكتابة، وخاصة الكتابة فوق الكتابة أي الطرس، إذ يبدو حتى قبل البدء في تصنيف الأطراس إلى طرس إلهي وأطراس أخرى إنسانية على درجات من التأثر بالطرس الأول، أن الإله والسيطرة والسلطة والرقابة كلها معان كامنة أصلا في الطرس حتى قبل أن تحدده السياقات اللغوية أو الفلسفية أو غيرها.

إن الطرس إذن، ليس كتابة فوق كتابة فحسب، بل هو كذلك مكان للصراع على السلطة، أو على الأقل البقاء داخل السلطة ولو مقموعا، إذ إن المحو لا يعني فقط إخلاء المكان لكتابة جديدة، بل يعني كذلك أن الكتابة الأولى قد فقدت قدرتها على الاحتفاظ بميدانها Territory، ولكنها مع ذلك لم تختف تماما، فهناك دائما شيء من بقايا الكتابة الأولى لا تنجح الكتابة الثانية في محوه فتحتويه كارهة، وإن ظلت مصرة على إنكار وجوده أو على الأقل التعامي عنه. ومن ثمة، تصبح العلاقة بين كل كتابتين، أو بالأحرى بين كل كتابة جديدة وكل الكتابات التي سبقتها على الطرس، علاقة تصاد وترجيع، وإن لم يكن ترجيعا كاملا، بل ناقصا في كل مرة، وفي سبيل تغطية النقص -أو بعبارة أخرى في سبيل مساعدة الصدى على بلوغ السامع- تكتب بقية الكتابة. على أي، يظل كل صدى ترجيعا ناقصا بالضرورة، ذاك أن إيكو[9] نفسها، ربة الصدى لم تكن تكرر إلا أواخر عبارات نرسيس، ولكنها كانت تكررها في كل مرة بنبرتها الخاصة، فتصنع من نفس كلماته معنى جديدا يتناسب مع شعورها هي في تلك اللحظة. وبذلك، لا عجب من أن الطرس يدل على الكتابة والمحو في آن، رغم تناقضهما، ذاك أن الطرس بالضبط هو الأرضية التي يتخذها كل مخالف لينطق بصوته مستعملا لغة من يخالفهم بالضبط. ولقد كانت هذه هي استراتيجية الصوت وسبب بقائه إلى اليوم، رغم كل "السيطرة" التي سُطّرت حتى تخرسه.

إلا أن الأمور لا تتم في اتجاه واحد فحسب، ذاك أن القامع بدوره يرد بنفس اللغة ومن نفس الطرس، وإلا لما كان خطابه حاضرا إلى اليوم بدوره. وربما سنلاحظ هذا في نهاية الفصل، ذلك أنه إذا كنا سنبدأ بالطرس الإلهي كأقدم كتابة نقشت على الطرس، وننتهي إلى الصمت كغلالة ينطق بياضها بكل الأصوات التي لم تستطع أن تدون صوتها، فسنلاحظ كذلك أن هيمنة الطرس الأول قد امتدت حتى للصمت، ليفسر حتى صمت الجوامد بأنه تسبيح بلغة لا يدركها البشر، وهو ما أكده الجاحظ بقوله: "الدلالة التي في الموات الجامد، كالدلالة التي في الحيوان الناطق. فالصامت ناطق من جهة الدلالة، والعجماء معربة من جهة البرهان. ولذلك قال الأول: "سل الأرض فقل: من شق أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى أثمارك؟ فإن لم تجبك حوارا، أجابتك اعتبارا"[10]. ومن ثمة، فإن فضل الإله لم يكن تعليم "البيان" للإنسان فحسب، ذاك أنه علم حتى الجوامد الخرس، وكان الاثنان من ثمة –أي اللغة والصمت- دليلا على وجوده وسيطرته.

الطرس الإلهي:

إن تصور الإله مقترن بالصوت، ذاك أننا نتصوره يأمر الملائكة بالسجود لآدم ويتكلم مع إبراهيم وينادي على موسى، ولكننا لا نتصوره أبدا كاتبا، ذاك أن الكتابة عملية تالية، تتولها الملائكة المكلفون باللوح المحفوظ، أو الكتاب السر الذي خطت عليه حكاية الكون ومصائره. ومن ثمة كان الكون في التوراة نتاج كلمة من الإله، أما القرآن فقد عرّف نفسه بكونه كلام الله. ولكن المثير في الأمر، أن الكلمة والكلام في العربية من الكَلَم أي الجرح، وهو جرح قد نعود به إلى خطيئة آدم، التي أورثت بنيه من بعده شقا في ألسنتهم، لا يؤلم وإن ظل كإمارة تذكر بجزاء من يعض اليد التي امتدت إليه وعلمته الأسماء كلها.

من سوء حظ موسى أنه بالإضافة إلى الوصمة التي تشاركها البشر جميعا أنه أضاف إليها لثغة في لسانه، أو كما وصف نفسه "أنا أغلف الشفتين"[11]، وقد كانت هذه السمة بالضبط هي ما جعل الإله يختاره كليما ونبيا إلى بني إسرائيل، ربما لأن "عاهة موسى" المضاعفة تكريس لقدرة الإله، ومناسبة ليتوجه إلى موسى قائلا: "من صنع للإنسان فما؟ أو من يصنع أخرس أو أصم أو بصيرا أو أعمى؟ أما هو أنا الرب؟ فالآن اذهب وأنا أكون مع فمك وأعلمك ما تتكلم به". وبذلك يتضح أن لثغة موسى كانت سببا، ليتسلم الإله القياد ويحتفظ موسى بدور الوسيط بينه وبين الشعب. ولكن لمّا كان موسى من العجز بمكان، فقد احتاج بدوره لمن يتحدث عنه، هكذا اختار له الإله هارون، وأمره: "تكلمه وتضع الكلمات في فمه، وأنا أكون مع فمك ومع فمه، وأعلمكما ماذا تصنعان. وهو يكلم الشعب عنك، وهو يكون لك فما، وأنت تكون له إلها".[12]

لماذا هذه السلسة؛ من الإله لموسى، ومن موسى الألثغ لهارون، ومن هارون -الذي لم تقف أي من النصوص السماوية على كيفية قبوله، لأن يكون فما لفمين؛ أحدهما متعال والثاني ألثغ- إلى فرعون وبني إسرائيل؟ ألا يمكن أن نذهب إلى أن الإله في الحقيقة كان لا يريد أن يُفهم، كان يريد أن يظل سرا غامضا تتبارى العقول على محاولة فهمه؛ ربما لأنه ما كان يريد لكلمته أن تمنح لأي كان. مما يذكرنا بشخصية أخرى كانت لها نفس الميول للتلبيس واللبس، وهي شخصية أبو العبر الذي كان يضع راويته في قاع بئر، ويقعد هو على أعلى سلم، بالإضافة إلى ثلاثة يدقون بالهواوين حول البئر، بينما هو يلقي شعره وراويته يدون من باطن الجب[13]. ربما، كان التشبيه مبالغا فيه، ولكن يمكن كذلك أن نرى في أبي العبر محاكاة بارودية لعلاقة اللاتفاهم الرابطة بين الناسوت واللاهوت، وإلا لماذا كان أبو العبر يرتقي سلما، ولماذا كان يضع مخاطبه في أسفل موضع ممكن. مما يوضح أن كلمة الإله –على الأقل في الطرس الأول- ما كان لها أن تقدم نفسها إلا على أنها سر، ذاك أنها كلما زادت غموضا ازداد انشغال الناس بها في محاولة لتفسيرها، وربما كان أبرز مثال لذلك، المؤلفات التي سودت في بحث عن معاني الحروف المقطعة في فواتح السور، أو ما سماه ابن عربي بـ"العالم المختص، وهو عالم أوائل السور المجهولة"[14]. هذه الحروف التي تذكرنا في إلغازها بجانب آخر في سيرة أبي العبر، ذلك أنه عندما بلغ الخمسين وقرر أن يكتب شعرا ماجنا بما أن الشعر الجدّي لم يعد يجد سوقا، غيّر اسمه وبدأ كل سنة يضيف إليه حرفا، ولم يمت إلا واسمه قد صار "أبو العبر طرد طيل طيري بك بك بك"[15].

بعودتنا لموسى وقومه، نجد أن سفر الخروج قد أكد مرارا على حقيقة واحدة، لا موسى ولا قومه كان يريدان صوت الإله. فإذا بدأنا بموسى، نجده يخاطب الإله عندما يبشره بالنبوة قائلا: "اسمع أيها السيد لست أنا صاحب كلام منذ أمس ولا أول من أمس، ولا من حين كلمت عبدك، بل أنا ثقيل الفم واللسان"[16]. وإذا كان لنا أن نفسر هذه العبارة بشدة وقع مفاجأة النبوة عليه، فكيف يمكننا أن نفسر طلبه من الإله أن يخاطب غيره: "لماذا أسأت إلى عبدك؟ ولماذا لم أجد نعمة في عينيك، حتى أنك وضعت ثقل جميع هذا الشعب علي؟ أ لعلي حبلت بجميع هذا الشعب؟ أو لعلي ولدته (...) لا أقدر أنا وحدي أن أحمل جميع هذا الشعب لأنه ثقيل عليّ. فإن كنت تفعل بي هكذا فاقتلني قتلا"[17]. أما بنو إسرائيل، فلم يطلبوا الموت حتى ينفكوا من ثقل صوت الإله، بل رأوا في هذا الصوت مصدر الموت نفسه، ذاك أنهم بمجرد ما سمعوا صوت البوق ورأوا الرعود توجهوا إلى موسى قائلين: "تكلم أنت معنا فنسمع، ولا يتكلم معنا الله لئلا نموت".[18]

تأتلف حكايتا آدم وموسى إذن، لترسم الإله مصدرا للغة، إلا أنها لغة تحمل من الأعباء بقدر ما تحمل من الغموض، إلا أنها وبالرغم غموضها مكمن كل العلوم، أو بتعبير بن عربي "ما من علم إلا وهو مخبوء في كتاب الله تعالى، ولا يحاط به إلا بما شاء مما يؤتيه من فهمه وعلمه"[19]. مما يجعل الإنسان محض تابع لطرس لا يملك شفرته. ولكن، تبقى اللحظة الأساسية في بداية التخلص من هيمنة الكلمة الإلهية وبداية محوها لإفساح بياض لكتابة جديدة هي لحظة طرح سؤال: هل اللغة إلهام أم اصطلاح؟

الطرس اللغوي:

بدأت الخيوط تنفلت من النسيج الإلهي، في لحظة طرح هذا السؤال، ذاك أن موقع الإله فجأة كمصدر للغة أصبح مهددا. لم يعد هو من يعلم الأسماء والبيان، بل اكتشف فجأة أن لكل أمة نظاما تتفق وتتواضع عليه. لا يعني هذا أن الجواب عن سؤال اللغة إلهام أم اصطلاح، انتصر مباشرة للجواب الثاني، ذاك أن هناك من احتمى بكونها إلهاما (وهذا علامة على كمون بواق من الطرس الأول في الثاني)، ولكن السؤال في حد ذاته دليل على بدء الوعي باللغة ومساءلتها كموضوع إنساني، وليس كهبة نزلت من السماء. ورغم أن الجاحظ انتصر لكون اللغة إلهاما ومن عند الله، إلا أنه من المثير أن نقف عند كتابه البيان والتبيين ككتاب تناول مفهوم الصوت.

1- الجاحظ:

هناك الكثير مما يثير في هذا المؤلف، أهمها ربما، أنه كمؤلف يحيل منذ عنوانه على الآية القرآنية التي ترد مرارا في الكتاب "خلق الإنسان علمه البيان"[20]، ومن ثمة على فضل الخالق وكمال قدرته على خلق "البيان"، يتناول ومنذ أول باب فيه عيوب البيان بما يتجاوز الخمسين صفحة، في حين أن باب البيان لا يكاد يبلغ العشر صفحات، مما يعود بنا إلى اقتران اللغة بعيب أصلي كامن في اللسان، ولم يوفر الجاحظ جهدا في تعداد هذه العيوب، فذكر "اللجلاج والتمتام، والألثغ والفأفاء، وذو الحبسة والحكلة والرتة وذو اللفف.."[21]، إلا أنه وحتى في تركيزه على هذه العيوب لم يكن يمثّل لها من العامة، بل من البلغاء والشعراء، بل وحتى أرسطو وصفه بقوله: "كان صاحب المنطق نفسه بكيء اللسان غير موصوف بالبيان مع علمه بتمييز الكلام وتفصيله.."[22]. على أي لم يكن له إلا أن يتناول هذه الفئة النخبوية دون غيرها، ذاك أنه كتب الجزء الأول من الكتاب تحت طلب قاض معتزلي، بل ونال من ورائه جائزة تبلغ خمسة آلاف دينار، ولكنه ما لبث بعد أن طعن في السن وقرر أن يتم كتابه، في أن ينتقل باهتمامه إلى كل أولئك الذين غض النظر عن أصواتهم في الجزء الأول، هكذا نجد في الجزء الرابع ذكرا لكلام النوكى والموسوسين والجفاة، بالإضافة إلى المجانين.

ما يهمني في هذا الكتاب، هو أن الجاحظ في وصفه للعيوب التي تلحق النطق، استطاع أن يقترب من مفهوم الصوت، وإن كان لم ير فيه سوى مظهره المادي فحسب، ولكنه يبقى نقطة مبدئية لتتبع التراكمات الدلالية التي اقترن بها الصوت في كل طرس، فهو إذا كان لارتباطه بالسماء في الطرس الأول صوتا ملغزا وجارحا، فإنه في هذا الطرس الجديد أصبح متربطا بالإنسان، بل وأكثر من ذلك أصبح يحدد انطلاقا من متن خطابي وشعري (من ثمة فقد فارق النص الديني شيئا ما) حلله الجاحظ ودرسه، ليخلص إلى كيف يجب أن يكون الصوت حتى يحقق التأثير المرجو في المتلقي، ولكن لنتذكر أن الجاحظ كان يكتب كتابه في عصر علم الكلام والجدل المحتدم بين الأشاعرة والمعتزلة، ومن ثمة فلم ير من الصوت إلا جانبه الإجرائي المتحقق، الذي قد يتيح للمتكلم أن يفحم خصمه. هكذا، نجده يعرف الصوت بأنه: "آلة اللفظ، والجوهر الذي يقوم به التقطيع، وبه يوجد التأليف. ولن تكون حركات اللسان لفظا ولا كلاما موزونا ولا منثورا إلا بظهور الصوت، ولا تكون الحروف كلاما إلا بالتقطيع والتأليف"[23]. ومن ثمة، فقد حدد الصوت في كونه آلية ووسيطا ينقل المعنى من نفس صاحبه ويجعله ظاهرا ومسموعا للجميع، وهو في ذلك عنده لا يختلف عن الحرف أي الصوت المكتوب، إذ كلاهما يقطع معاني في جوهرها كاملة أثناء كمونها في داخل صاحبها، ولكنه يعيد تأليفها إن نثرا أو شعرا. ولكنه ما يلبث بعد هذه المقارنة أن ينتصر للكتابة على حساب الصوت، "لكون الكتاب يقرأ بكل مكان، ويدرس في كل زمان، واللسان لا يعدو سامعه، ولا يتجاوزه إلى غيره"[24]. ومن ثمة يكون الحرف عابرا لحدود الزمان والمكان، بينما الصوت فان متبخر، يزول في لحظة النطق به. هذا التأكيد على فناء الصوت وسرعة زواله، سمة كرستها العديد من الكتابات في العصر العباسي، حين احتدم الصراع بين الشعراء والكتاب، هؤلاء الكتاب الذين أصبحت لهم مكانة سياسية ومقربين من السلطة بينما طرد الشعراء من سابق مجدهم وارتبطوا بالكدية. ولكن لنتذكر أنه لفترة قريبة، شهد الجاحظ نفسه نهايته، كانت هناك حركة لتدوين اللغة والاستشهاد بالضبط بالأعراب الذين لا يعرفون غير الشفاهة، مما يؤكد أن السمة التي كان يركز عليها في كل مرة أثناء تناول مفهوم الصوت والكتابة كانت سياقية أكثر من كونها خاصية متأصلة أو جوهرية سواء في الصوت أو الكتابة.

2- ابن جني:

كان لابن جني تصور مختلف للصوت، وذاك لأنه انطلق من التأكيد على أن اللغة اصطلاح يتفق عليه الناس، من ثمة عرفها بقوله: "أما حدها فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم"[25]، ليضيف بعدها "أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات، كدوي الريح، وحنين الرعد وخرير الماء.. ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد"[26]. ومن ثمة، فالصوت عنده لم يعد آلية تعبيرية فحسب، بل أصبح وظيفيا، لم يعد شيئا تنعم به السماء، بل اختراعا اقتضته ضرورة وحاجة، ولكنه في سبيل شرح آلية التوصل إلى الصوت والوعي به، ربطه بالطبيعة، ذاك أن الإنسان حين رأى أن لكل شيء صوتا حتى الجوامد، قلّد بدوره ما سمعه، وانطلق منه حتى وجد صوته الخاص، دون أن يكون للإله يد أو وظيفة تعليمية، إلا أن الذهاب في آن إلى أن اللغة اصطلاح ثم ربطها بالطبيعة، يحصر كثيرا من اعتباطية اللغة، ويومئ إلا أن في كل صوت محاكاة لشيء موجود في الواقع، مما يؤكد التناسب بين الاثنين. مما يبين أن ابن جني وان كان قد قطع علاقة الصوت بالسماء، إلا أنه لم يتحرر من حاجة في نفسه لإيجاد تفسير خارجي للصوت، لا يرتبط بحاجة الإنسان للتعبير، بقدر ما هو تأثر ناتج عن وجوده في العالم.

هكذا، وإذا كان الجاحظ قد وقف عند حدود تحديد عيوب النطق، حتى يعرف بواسطة النفي ما يجب أن يكون عليه الصوت المبين، فإن ابن جني قد وقف عند الصوت في حد ذاته وحدد له مجموعة من السمات، كل سمة تصنع فرقا دلاليا، هكذا نجده في الفرق بين الخاء والقاف يقول: "فاختاروا الخاء لرخاوتها للرطب، والقاف لصلابتها لليابس، حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث"[27]. ومن ثمة، فقد كان الصوت لدى ابن جني انعكاسا للمعنى، ذاك أننا لا نختار الأصوات، بل المعاني هل تفرض أي الأصوات أجدر بنقلها، ومن ثمة فهو وإن كان قد اعترف بأن الناس هم من يصطلحون على الأصوات، إلا أنه ما لبث أن سحب منهم هذه القدرة ليسندها للمعنى، دون أن يحدد أصل المعاني هل هي من الله أم من الإنسان. عموما، فقد كان ابن جني حائرا بين الاثنين، إذ ختم "باب القول على أصل اللغة إلهام أم اصطلاح"، بقوله: "وانضاف إلى ذلك وارد الأخبار المأثورة بأنها من عند الله جل وعز؛ فقوى في نفسي اعتقاد كونها توفيقا من الله سبحانه، وأنها وحي. ثم أقول ضد هذا (..) كذلك لا ننكر أن يكون الله تعالى قد خلق من قبلنا –وإن بعد مداه عنا- من كان ألطف منا أذهانا، وأسرع خواطرا وأجرأ جنانا."[28]

وعلى الرغم من أن ابن جني لم يستطع أن يبت في مسألة الاصطلاح والإلهام، إلا أن انشغاله بالسمات الدلالية الكامنة في كل صوت وعدم اعتباطية الأصوات، هو ما أنتج فيما بعد كتابات من نوع نصوص ابن عربي، هذا المتصوف الذي التصق بالطرس السماوي، ولكن أبى إلا أن يفجره ويبحث في حروفه حرفا حرفا.

كان ابن عربي رغم انغماسه في الطرس الإلهي، بوابة للخروج باللغة من طرس الإله إلى طرس الفلسفة

الطرس الصوفي

جاء في رسالة ابن عربي المعنونة بـحرف الكلمات وصرف الصلوات، أن "الاسم والحرف واسطة نزول الله تعالى من علوه وفوقيته إلى تحت الأشياء وسفلها"[29]. أما في المبادئ والغايات، فيبين أن "العلم بمعاني الحروف، ومواقعها من الوجود من النوافل التي غايتها المحبة من الله تعالى إلى ما وراء ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى"[30]. وبذلك، ترتسم دائرة بدايتها اتخاذ الحروف وسيلة لنزول الإله إلى عالم الناسوت، وتنتهي بمحاولة تعلم الإنسان للحروف في سبيل الاقتراب من الإله والحصول على محبته. يدفع ابن عربي تأويله للحروف إلى أبعد من ذلك ليصنفها في مراتب أربع، أولها للإله، وثانيها للإنسان، وثالثها من حظ الجن والبقية للملائكة[31]. ولعل أهم ما يهمنا من هذه الحروف، هي حروف الإنسان التي تضم النون والصاد والضاد، ويكفي أن نقف عند تأويله لحرف الصاد، هذا الحرف الذي يفتتح كل من الصوت والصمت والصدى.

إذا عدنا لنصوص ابن عربي نجد أن الصاد عنده، يتخذ دلالات متعددة، إذ في كل نص على تأويل جديد، ففي تفسيره للقرآن وأثناء تفسيره للآية "آلمص"، نجده يعرف الصاد على النحو الآتي: "الصورة المحمدية التي هي جسده وظاهره وعن ابن العباس أنه قال: ص جبل بمكة كان عليه عرش الرحمن"[32]. أما في الفتوحات، فيعرفه بقوله: "الصاد من علم الغيب والجبروت.. سلطانه في البهائم، طبعه الحرارة والرطوبة.. سر هذه الصاد لا ينال إلا في النوم.. الصاد حرف من حروف الصدق والصون والصورة، وهو كري الشكل قابل لجميع الأشكال، فيه أسرار عجيبة"[33]. أما في المبادئ والغايات، فيصفه بقوله: "اعلم أن هذه الحروف لما كانت فيها جوامع تتطابق ظاهر الباطن وكان منها حروف تختص بتفاضل، وكان ما يعبر عن مطابقة بعض لبعض ظاهر الباطن لمجرى يقع، وانتفاع هو حرف الصاد"[34]. إلا أن اختلاف هذه الدلالات لا يمنع مبدئيا من تحديد الصاد مبدئيا نقطة التقاء الظاهر بالباطن، ذاك أنه ليس فقط سرا غيبيا لا يظهر إلا في الحلم، بل هو كذلك صورة وجسد محسوس، وهي دلالات تحيلنا مرة أخرى إلى الطرس القائم أبدا بين الكتابة والمحو، وبين الصوت والصمت. وإذا كان ابن عربي قد ارتبط بالطرس الإلهي، ورأى فيه لغزا يؤدي كشفه إلى الاقتراب من الإله، فيكفي أنه في تأويله لهذه الحروف قد اقتص للإنسان منها نصيبه، وجعل الحضور الإنساني شرطا في اكتمال النص الديني، الذي سيظل ملغزا إذا لم يتدخل من يؤوله ويحاول فهمه.

خاتمة:

لعل الخاصية المشتركة بين الأطروحات الثلاث في هذا المحور هي التصاقها بالمصدر الإلهي، فهي وإن ساءلته واشتبكت معه في محاولة لتأويله وإنطاق أسراره، إلا أنها ظلت تنصّبه نقطة الوصول والاكتمال. وربما كان ابن عربي رغم انغماسه في الطرس الإلهي، بوابة للخروج باللغة من طرس الإله إلى طرس الفلسفة، ذاك أنه أبى إلا أن يجعل من كل حرف مادة للمساءلة والتأمل، حتى وإن كان لم ينته في النهاية إلا لتكريس وتأكيد سلطة الإله، ولكنه على الأقل رفع المؤَوِل أو الرائي إلى درجة قريبة من صاحب اللغز.

[1] إدواردو غاليانو، كتاب المعانقات، ترجمة: أسامة اسبر (دمشق: دار الطليعة، 2002)، ص 43

[2] سفر التكوين، الإصحاح: 3، ضمن: الكتاب المقدس، الإصدار السابع، الطبعة الثانية (القاهرة، دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، 2007)

[3] ابن منظور، لسان العرب، تحقيق: عامر أحمد حيدر، المجلد السادس (بيروت: دار الكتب العلمية، 2009)، ص 146

[4] نفسه، ص 146

[5] بطرس البستاني: محيط المحيط، المجلد الخامس (بيروت: دار الكتب العلمية، 2009)، 457-458

[6] لسان العرب، المجلد الرابع، ص ص 419-420

[7] نفسه، ص 420

[8] نفسه، ص ص 420-421

[9] إيكو: ربة الصدى، بحسب الميثولوجيا الإغريقية القديمة، حورية جبلية تنتمي إلى جبل كيثايرون، وكانت تُلهي هيرا عن مراقبة زوجها بالحديث المتواصل معها، ليتمكن زيوس بذلك من ملاحقة النساء والحوريات بحرية تامة. وعند اكتشاف هيرا لهذا الأمر، عاقبت إيكو من خلال حرمانها من القدرة على التكلم. وبعد أن تتعود إيكو على أن تكون مجرد صدى لكلام الآخرين، تقع في حب نرسيس، ويصبح عليها أن تجد حيلة لتكلمه، وتكون هذه الحيلة هي في إعادة نهايات جمله حتى تخبره بحبها.

[10] الجاحظ، البيان والتبيين، المجلد الأول (بيروت: دار الهلال، 2012)، ص 86

[11] سفر الخروج، الإصحاح 6

[12] سفر الخروج، الإصحاح 4

[13] الأصفهاني: الأغاني، ورد لدى: كيليطو: الحكاية والتأويل؛ دراسة في السرد العربي (الدار البيضاء، دار توبقال، 1988)، ص ص 50-51

[14] ابن عربي، الفتوحات المكية، تحقيق: أحمد شمس الدين (بيروت: دار الكتب العلمية، 2006)، ص 96

[15] نفسه، ص 45

[16] سفر الخروج، الإصحاح 4

[17] سفر الخروج، الإصحاح 11

[18] سفر الخروج، الإصحاح 20

[19] ابن عربي، المبادئ والغايات، ص 40

[20] سورة الرحمن، الآية 3-4

[21] البيان والتبيين، م1، ص 35

[22] البيان والتبيين، ص 9

[23] نفسه، ص 84

[24] نفسه، ص 85

[25] ابن جني، الخصائص، تحقيق: عبد الحميد هنداوي، المجلد الأول (بيروت: دار الكتب العلمية، 2008)، ص 87

[26] نفسه، ص 98-99

[27] نفسه، ص21

[28] ابن جني، الخصائص، ص 99

[29] ابن عربي، "رسالة حرف الكلمات وصرف الصلوات"، في: مخطوط نادر من رسائل ابن عربي، تحقيق: سعيد عبد الفتاح (القاهرة: المكتبة الأزهرية للتراث، 2004)، ص 44

[30] ابن عربي، المبادئ والغايات، ص 40-41

[31] ابن عربي، الفتوحات المكية، ص 87

[32] ابن عربي، تفسير القرآن، المجلد الأول (بيروت: دار صادر، 2002)، ص 192

[33] ابن عربي، الفتوحات، ص 113 ص 114

[34] ابن عربي، المبادئ والغايات، ص 68