العنف والريوع والتنمية الاقتصادية : "في ظل العنف"


فئة :  قراءات في كتب

العنف والريوع والتنمية الاقتصادية : "في ظل العنف"

"في ظل العنف: السياسة والاقتصاد ومشكلات التنمية"، كتاب جماعي شارك في تحريره وتأليفه عدد من الباحثين المتخصّصين في الاقتصاد والشؤون المالية والعلوم السياسية؛ أمثال دوغلاس نورث، وجون جوزيف واليس، وستيفن ويب، وباري وينغاست، وألبرتو دياز، وبرايان ليفي، وباتريشيو نافيا... يشتغلون في جامعات ومؤسّسات في عدد من الدول كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والشيلي والفلبين.. صدرت طبعته الإنجليزية عام 2013، وصدرت ترجمته العربية التي أنجزها كمال المصري في فبراير 2016 ضمن إصدارات سلسلة عالم المعرفة. ويقع الكتاب في 488 صفحة.

أوّلا: الأطروحة المركزية للكتاب

يهدف الكتاب إلى تطوير إطار بديل متميّز لفهم التفاعل بين القوى السياسيّة والاقتصادية والاجتماعية في البلدان النامية، انطلاقا من الإطار الذي وضعه لأوّل مرّة كل من "نورت" (North)، و"واليس" (Wallis)، و"وينغاس" (Weingast).

ويتمثّل هذا المنظور النظري في أنّ في معظم البلدان النامية، يتواجد أفراد وتنظيمات يستخدمون العنف، أو يهدّدون باستخدامه من أجل جمع الثروات والموارد. وأنّ كبح العنف ضروري لتحقيق التنمية. ذلك أنّ في كثير من المجتمعات تظل إمكانية العنف خامدة، إذ تمتنع المنظمات عن اللجوء إلى العنف، غير أنّها في بعض الأحيان تلجأ إلى العنف لتحقيق غاياتها؛ فهذه المجتمعات هي المجتمعات التي تعيش في ظلّ العنف.

وفي هذه المجتمعات تلعب الترتيبات الاجتماعية دورا أساسيا لتجنّب استخدام العنف، من خلال خلق حوافز لمن يمتلكون القوة لجعلهم يرجّحون التنسيق فيما بينهم على استخدام العنف فيما بينهم.

ويعتمد هذا الإطار التحليلي على نتائج جملة من أعمال الاقتصاد السياسي للتنمية، وتطويرها، وخلاصات بعض علماء السياسة: أمثال هنتغتون وكولييه (Collier).

إنّ الكتاب يركّز على مدخل العنف لتحليل تفاعل السلوك الاقتصادي والسياسي بالتركيز على طبيعة التنظيمات والعلاقات بين النخبة، ويذهب طرحه الرئيس إلى أنّ صفقات النخبة تعدّ جزءا جوهريا في المجتمعات النامية. لذلك، يسعى المؤلّفون إلى معرفة ماهية أنماط صفقات النخبة المساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية الإيجابية، وماهية الأنماط غير المساهمة في ذلك.

ثانيا: ما هو النظام المقيّد؟

النظام المقيّد، هو أسلوب في تنظيم المجتمع قائم على ترتيبات اجتماعية - سياسية واقتصادية، لا تشجّع المؤسسات على استخدام العنف. وذلك من خلال توظيف النظام السياسي للمصالح الاقتصادية والتلاعب بها، من أجل خلق ريوع تستفيد منها مراكز القوى من الجماعات والأفراد، وتجعلها تدرك أنّ من مصلحتها الامتناع عن استخدام العنف.

فالأهمّية هنا للتنظيمات، كوسيلة للتنسيق بين الأفراد، وكوسيلة لمختلف الريوع التي تؤدي إلى الإحساس بالثقة في سلمية التعامل، إذ إنّ التنظيمات في ظلّ النظام المقيّد، لا تشكّل فقط قنوات لتوزيع الغنائم، بل أيضا مؤسّسات لازمة لتحقيق التعاون الذي يجنّب العنف بين المنظّمات التي لها قدرة على العنف.

كما أنّ الريوع تشكّل جوهر النظام المقيّد، إذ إنّ الائتلاف المهيمن أو النخب المهيمنة المتمثّلة في القادة السياسيّين والدينيّين والتعليميّين، بحكم موقعهم يضمنون ريوعا، تضمن تعاونهم، وتنشئ تنظيمات تسمح بحشد وتوزيع السلع والخدمات. كما تضمن فرض ترتيبات داخل التنظيمات، تمكّن من تماسك الاتفاقات بينها. وهذه الريوع التي تستفيد منها النخبة والائتلافات المهيمنة تجعل سلوكيات البشر أكثر قابلية للتنبّؤ، حيث تعدّ مسألة حاسمة للتنسيق بين الأعضاء الأقوياء، وللحدّ من العنف داخل الائتلاف المهيمن.

ومادامت الريوع لا تحدّ جميعها من العنف، فإنّ منطق الاقتصاد المقيّد يركّز على نوع من الأنشطة الريعية التي تتأثر بالعنف، بحيث يسخّر إنتاج الريع في الأنظمة المقيّدة كوسيلة لتحقيق الاستقرار. لكن هذا لا يعني أنّ مجتمعات الاقتصاد المقيّد تتميز بزيادة في الاستقرار أو الإنتاجية، بل تمرّ بفترات نموّ سريع وفترات ركود أو انهيار.

لذلك، فالأنظمة المقيّدة ليست جامدة، إذ عندما تضرب المجتمع المقيّد أزمة، فإنّ ديناميات الائتلاف المهيمن تقود المجتمع إلى تعبئة الريوع القديمة والجديدة بشكل يعزّز التنسيق بينها، ويحدّ من العنف.

ويذهب الإطار النظري المطروح إلى أنّ حلّ مشكلة العنف قد يصبح عقبة في طريق التنمية الاقتصادية، إذ إنّ محدودية الوصول إلى التنظيمات والحقوق الاقتصادية تؤدي بالضرورة إلى الحدّ من المنافسة والإنتاجية الاقتصادية.

إنّ الأنظمة المقيّدة تحدّ من العنف عبر الريوع، حيث إنّ الأفراد والجماعات القوية تدرك أنّ ريوعهم ستنخفض إذا ما نشب العنف، لذلك لا تجنح إلى العنف؛ وتعمل على "تقييد قدرة الجماعات على تشكيل التنظيمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية وغيرها من التنظيمات للانخراط في الأنشطة الاجتماعية"[1].

هذه القيود المفروضة على الفرص تنتج عنها ريوعا، تعدّ بمثابة حوافز للسيطرة على العنف. والقيود المفروضة على تشكيل التنظيمات، والمنتجة لامتيازات متعددة وريوع تعني بالضرورة قيودا سياسية واسعة النطاق على الاقتصاد، إذ إنّ هذه القيود تعيق الأسواق التنافسية، والنمو الاقتصادي طويل المدى لتصبح بذلك جزءا من مشكلة التنمية.

وفي كلّ الأنظمة المقيّدة يوجد ائتلاف مهيمن، يتمثّل في تنظيم توجده المصالح المشتركة بين أعضائه، يمنح لأعضاء الائتلاف المهيمن امتياز توفير خدمات محايدة حصرية لتنفيذ الترتيبات بين التنظيمات والأعضاء في الائتلاف وداخلها.

ثالثا: أنواع الأنظمة المقيّدة

يذهب المؤلّفون إلى أنّ الأنظمة المقيّدة ليست على درجة واحدة من التنظيم والتنمية، إذ هناك فارق كبير في مستويات تدخّل الفرد فيها، بالرغم من أنّ جميع الدول المقيّدة منخفضة ومتوسطة الدخل، كما أنّ هناك اختلافات كبيرة في نوعية المؤسسات. تبعا لذلك، فإنّهم يقسّمون الأنظمة المقيّدة إلى ثلاثة أنواع إضافة إلى الأنظمة المفتوحة، تعتبر بمثابة وجوه ثلاثة مختلفة لنمط مثالي هو النظام المقيّد، وهي كالتالي:

1- الأنظمة المقيّدة الهشة:

تتميز هذه الأنظمة بغياب أيّ تمييز واضح بين المؤسسات الاقتصادية والمؤسسات السياسية، وأيّ تمييز واضح بين ما هو مدني وما هو عسكري، وبوجود هياكل مؤسساتية بسيطة للحكومة، وبصعوبة استمرار المنظمات التي يتحدد أغلبها تبعا لشخصية قيادتها المرتبطة بشكل رسمي بالائتلاف المهيمن. كما تتميّز بصعوبة الحدّ من العنف، وعدم احتكار الدولة له، حيث بإمكان أيّ فصيل من فصائل الائتلاف المهيمن الوصول إلى العنف. لذلك، تعدّ القدرة على العنف المحدّد الأساسي لتوزيع الريع والموارد بين فصائل الائتلاف، كما هو الشأن في أفغانستان وهايتي والعراق، ويركّز الكتاب على نموذجين هما: بنغلاديش، وجمهورية الكونغو الديمقراطية.

2- الأنظمة المقيّدة الأساسية:

وتتميّز بارتباط جميع المؤسسات الاقتصادية العامة أو "الخاصة" بالائتلاف المهيمن، وبعضها مرتبط كذلك بالشركات المتعدّدة الجنسيات، وبخضوع معظم المؤسسات السياسية لسيطرة الدولة، التي تكون في الغالب خاضعة لسيطرة الحزب الواحد، أو النظام الدكتاتوري، وتكون فيها أحزاب المعارضة تحت التهديد. وتتميّز على مستوى الحكومة بتشكّلها من العديد من المؤسسات التي تتملك القدرة على العنف، غير أنّ جزءا كبيرا من التنظيمات خارج الحكومة يمتلك القدرة على العنف.

فهذه الأنظمة تعرف تجسّد الحكومة في مجموعة من المؤسسات الحكومية الرسمية المستقرة والمستمرة إلى حد ما، على عكس الأنظمة المقيّدة الهشة التي لا تعرف مثل هذا الاستقرار والاستمرارية.

وإذا كانت هذه الأنظمة تستطيع ضمان مزيد من الأشكال التنظيمية للمواطنين، إلاّ أنّ ذلك يتمّ غالبا ضمن المدار المباشر للائتلاف المهيمن. ومن ثمّ، لا تدعم هذه الأنظمة منظّمات خارج مدار الائتلاف المهيمن نفسه، باعتبار أنّ المنظّمات المستقلة قد تشكّل تهديدا محتملا للائتلاف المهيمن.

والقدرة على العنف في الأنظمة المقيّدة الأساسية موزّعة بين المنظّمات الحكومية، مثل الشرطة، والقوات المسلحة، والمخابرات، وكل منظّمة من هذه المنظّمات تتبع طريقتها في الحصول على الامتيازات والريوع من خلال الفساد أو الاحتكارات.

بالرغم من أنّ كلّ منظمة في النظام المقيّد الأساسي لا تمتلك القدرة على العنف، فإنّ تلك التي تتمكّن من البقاء تكون مرتبطة ببعض المنظّمات القادرة على ممارسة العنف. ومن بين الدول المصنّفة ضمن هذا الإطار، نجد الاتحاد السوفياتي سابقا، والمملكة العربية السعودية. ويتطرّق الكتاب إلى زامبيا وموزمبيق، والفليبّين والمكسيك، كنماذج عن الأنظمة المقيّدة الأساسية.

3- الأنظمة المقيّدة الناضجة:

تتميّز هذه الأنظمة على المستوى الاقتصادي بتواجد العديد من الشركات الخاصة، وبعض الشركات متعدّدة الجنسيات، غير أنّ فرص الدخول تكون محدودة جدا، إذ إنّ الأمر يتطلّب علاقات واتصالات سياسية. أمّا على المستوى السياسي فتتميّز بتوفّر مؤسّسات سياسية متعدّدة، ولكن تعتمد على اعتراف السلطة المركزية وتصريحها. وإن وجدت العملية الديمقراطية، فإنّها لا تستطيع تحدّي القوى الاقتصادية. كما تتميز بسيطرة الحكومة على معظم التنظيمات التي تمتلك القدرة على العنف.

وفي هذه الأنظمة، يدعم الائتلاف المهيمن مجموعة كبيرة ومتنوّعة من المنظّمات خارج الحكومة وداخلها؛ لكن النظام يقف حائلا دون الوصول إلى المنظّمات الخاصة التي تسمح بها الحكومة وتدعمها، مما يسمح للائتلاف المهيمن بالحدّ من المنافسة وخلق الريوع من أجل المحافظة على نفسه ومنع العنف. ويتطرّق الكتاب إلى المكسيك منذ سبعينيات القرن الماضي والهند والشيلي، وكوريا الجنوبية.

وتعتبر الأنظمة المقيّدة الناضجة أكثر قدرة على تحمّل الصدمات من الأنظمة المقيّدة الأخرى، ومؤسساتها العامة تكون أكثر قدرة على البقاء عبر جملة من الظروف المتغيّرة، وعبر التحوّلات في بنية الائتلاف المهيمن.

ويسجّل المؤلّفون أنّ بعض المجتمعات المقيّدة قد تحمل مزيجا من الأنواع، إذ يمكن أن تكون نظاما مقيّدا ناضجا في أقاليم، وتظهر نظاما مقيّدا هشّا في مناطق أخرى. كما أنّ بعض الدول قد تتراجع من نظام مقيّد ناضج إلى نظام مقيّد أساسي أو هشّ. فعلى سبيل المثال تراجعت ألمانيا في العشرينيات والثلاثينيات من نظام مقيّد ناضج جدّا عام 1913 إلى نظام مقيّد أساسي في عهد النازيين.

رابعا: شروط الانتقال إلى النظام المفتوح

مقابل هذه الأنظمة المقيّدة توجد أنظمة مفتوحة أكثر تقدّما تمثلها أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية وكندا واليابان. تتميّز على المستوى الاقتصادي بسيادة المؤسسات الاقتصادية للقطاع الخاص، وانتشار قواعد غير تمييزية تسمح للمواطن بتأسيس مؤسّسة اقتصادية، والحصول على الدعم القانوني للحكومة. كما تتميّز على المستوى السياسي بسيادة قواعد غير تمييزية بشأن تأسيس أو انضمام أي مواطن إلى تنظيم سياسي. إضافة إلى تميّزها بسيطرة الحكومة المدنية على جميع التنظيمات التي تمتلك القدرة على العنف.

فهذه الأنظمة تتميز بانتشار المؤسسات المدعّمة للانفتاح والمنافسة، سواء تعلّق الأمر بالمنافسة الاقتصادية للحفاظ على الانفتاح في الاقتصاد، أو تعلّق الأمر بالمنافسة الاقتصادية للحفاظ على الانفتاح في نظام الحكم. كما تتميّز باحتكار الحكومة للعنف المنظّم، سواء كان فعليا أو محتملا، معزّزا بالقوّات العسكرية والشرطة، التي يسيطر عليها النظام السياسي.

إنّ الأنظمة المفتوحة تعزّز الجماعات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المستقلّة عن السلطة، التي تستطيع تنظيم وإعادة تنظيم أنفسها بإرادتها للدفاع عن مصالحها، بحيث إنّ الانفتاح المستدام يقاس بمدى استمرارية الولوج إلى الأنشطة الاقتصادية والسياسية والدينية والتعليمية بشكل مفتوح أمام جميع المواطنين المستوفين للمعايير اللاشخصية القانونية، والذي يتطلّب دعم الحكومة للمنظّمات لكي تصبح مفتوحة أمام جميع المواطنين، وفرضها سيادة القانون دون تمييز.

إذا كانت الأنظمة المقيّدة ليست جامدة، إذ يمكن أن تعرف تقدّما من نظام مقيّد هشّ إلى نظام مقيّد أساسي، أو من نظام مقيّد أساسي إلى نظام مقيّد ناضج. وبالرغم من أنّ أغلب الأنظمة المقيّدة تصاب بالتراجع بسبب تعرّضها للصدمات الداخلية، وتغيّرات في البيئة المحيطة بها التي تؤثّر في السلطة النسبية للنخب، فإنّ الانتقال من النظام المقيّد الناضج إلى النظام المفتوح يتطلّب شروطا أساسية يحدّدها المؤلّفون في ثلاثة، وهي:

- سيادة القانون بالنسبة إلى النُخَب.

- تقديم الدعم للمنظّمات النخبوية.

- السيطرة السياسية المنظّمة على المنظّمات ذات القدرة على العنف بما فيها قوّات الجيش والشرطة.

ويؤكّد المؤلّفون على نموذجين حقّقا تقدّما وانتقالا من النظام المقيّد الناضج إلى النظام المفتوح هما، الشيلي وكوريا الجنوبية.

خامسا: خلاصات انطلاقا من نماذج واقعية

حاول المؤلفون تطبيق الإطار النظري المتعلّق بالأنظمة المقيّدة وخصائصها على تسعة أقطار تمثّل نماذج عن الأنظمة المقيّدة، وهي: بنغلاديش، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وزامبيا، والموزمبيق، والفلبّين، والهند، والمكسيك، والشيلي، وكوريا الجنوبية. وقد خلص المؤلّفون إلى جملة من النتائج، أهمّها:

- ثبات العلاقة بين العنف والريوع: إنّ العنف الذي شهدته أغلب الأنظمة المدروسة خلال فترات معينة أثّرت على ذاكرة الناس، بشكل يجعل المؤسّسات التي أنشؤوها في خدمة الريوع والامتيازات والوصول المحدود بهدف الحدّ من العنف، وذلك من خلال منح الغنائم والمزايا للأفراد والمجموعات التي يمكنها ممارسة العنف، وخلق حوافز مادية واقتصادية وسياسية للتعاون بدل الاقتتال.

- عدم ثبات الأنظمة المقيّدة، وسرعة تغيرها نتيجة لعوامل داخلية وخارجية، لكنّها تظلّ أنظمة اقتصادية مقيّدة، باعتبارها أنظمة هشّة.

- تحوير مؤسّسات نمط النظام المفتوح: إنّ الدول المقيّدة في الغالب تقوم باستنساخ مؤسّسات الأنظمة المفتوحة، وحتّى المؤسّسات الدولية والدول المانحة تشجّع هذه الدول على ذلك كجزء من طريق الإصلاح. لكنّ الواقع يثبت أنّ هذه المؤسّسات تعمل بشكل مختلف في نسق الأنظمة المقيّدة، وتكون آثارها مختلفة عما تنتجه في أنظمتها الأصلية المفتوحة؛ فالبنوك وأسواق الأسهم في الأنظمة المقيّدة فشلت في أن تصبح أداة للاستثمار وتجميع المدّخرات، وفتح فرص الأعمال أمام جميع المواطنين.

- اعتماد الدول المقيّدة على مؤسّسات دول أنظمة الاقتصاد المفتوح، كالمنظّمات المتعدّدة الأطراف والمنظّمات المانحة الثنائية، والبنوك الدولية، لفرض الإصلاح الخارجي من خلال تدخّلاتها المباشرة الاقتصادية والسياسية، وحتّى العسكرية.

- أهمية المنظّمات في الأنظمة المقيّدة: إنّ تحديد أنواع الأنظمة المقيّدة يتمّ بالنظر إلى طبيعة المنظّمات داخل المجتمع، وجميع المنظّمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والعسكرية والتعليمية داخل هذه الدول لها أهميتها.

ففي الدول المقيّدة الهشة ترتبط المنظمات بالهويات الشخصية بشكل كبير، وترتبط قياداتها بالتحالف المهيمن بشكل مباشر. ومن خلال النماذج المدروسة، خاصة جمهورية الكونغو الديمقراطية وبنغلاديش والفلبّين في عهد ماركوس وزامبيا بين عامي 1964-1991 يتّضح أهمية المنظّمات المعتمدة على الشخصية في تحقيق الاستقرار والتوازن بين المصالح. وتذهب خلاصة المؤلفين إلى أنّ قيمة المنظّمات ودورها في تحسين الاقتصاد للأنظمة المقيّدة تعتمد على ظروف كلّ دولة.

وفي الدول المقيّدة الأساسية، تكون المنظّمات أكثر استدامة، حيث يعيش البعض منها فترة أطول من قادتها، وتشكّل إطارا للعلاقات الطويلة الأمد. وتلعب دورا مهمّا في تحقيق توازن المصالح، بالرغم من أنّ بعضها يبقى مرتبطا بالشخصيّات الفردية.

وتشكّل المنظّمات في الدول المقيّدة الناضجة إطارا للعلاقات الطويلة الأمد، وإطارا ثابتا للتفاعل السياسي والاقتصادي. وترتبط هذه المنظمات بشكل وثيق بالحكومة وتوازن المصالح في المجتمع. ومن ثمّ، فإنّ تزايد استقلالية المنظّمات عن الحكومة، وتزايد المنظّمات المستمرة طويلة الأمد، وانتشار اعتمادها على القانون عوض الأشخاص والريوع... تعتبر مبادئ أساسية للانتقال من الشكل المقيّد الأساسي إلى الشكل المقيّد الناضج.

- الانتخابات في الأنظمة المقيّدة: إنّ دراسة الانتخابات في الأنظمة المقيّدة تؤدي إلى استنتاجين أساسيين: أوّلهما أنّ عقد الانتخابات في هذه الأنظمة يختلف بشكل كبير عن الديمقراطية في الأنظمة المفتوحة، إذ إنّ التحرّك السريع نحو الديمقراطية قد يقوّض الاستقرار؛ وثانيهما أنّ الانتخابات في الأنظمة المقيّدة، حتى وإن لم تكن حرّة، فإنّها تخدم أحيانا أهدافا مقيّدة، حيث يمكن أن تشكّل طقوسا مفيدة على الاستقرار. لكن يفشل هذا النوع من الانتخابات في تحقيق الديمقراطية.

- العنف، بعيد عن النموذج الفيبري: إنّ في معظم الأنظمة المقيّدة تشكّل قوّات الجيش والشرطة جزءا من مجموعة واسعة من المنظّمات القادرة على العنف، فالحكومة لا تحتكر العنف المنظّم كما قدّمه ماكس فيبر إذ هناك قوى أخرى تملك القدرة على ممارسة العنف كالميلشيات والشرطة الإقليمية في جمهورية الكونغو الديمقراطية، والنقابات في زامبيا، والأحزاب السياسية في الهند وبنغلاديش، والشرطة المحلّية والنقابات في المكسيك.

لذلك، فالأنظمة المقيّدة الناجحة تحدّ من العنف عن طريق خلق ريوع وامتيازات للمنظّمات بهدف صرفها عن استخدام العنف، وهذه الحوافز المدعّمة للاستقرار نادرا ما تتضمّن احتكار الدولة لممارسة العنف.

سادسا: ملاحظات

بالرغم من أهمية المؤلَّف لفهم الاقتصاد السياسي للدول النامية، وظاهرة العنف والريوع فيها، وبالرغم من أهمّية تجريب إطار نظري جديد من طرف عدد من الباحثين المختصين، الذين راكموا خبرات طويلة في الدول المدروسة، إلاّ أنّه يمكن تسجيل جملة من الملاحظات، يمكن التشديد من بينها على ما يلي:

- إيلاء أهمّية ضئيلة للعوامل السياسية والسوسيولوجية في تفسير العديد من الظواهر والقرارات، والتركيز على العنف من خلال تناول الائتلافات المهيمنة والريوع.

- إغفال التنظير الديمقراطي في الإطار المدروس، المركّز على أهمية العوامل السياسية في تحقيق التنمية الاقتصادية.

- تجاهل الباحثين للتراث النظري للتنمية السياسية، لاسيما تلك الأطروحات المركّزة على العلاقة المتشابكة والمعقّدة بين النسقين الاقتصادي والسياسي، وصعوبة الحسم في أولوية التنمية الاقتصادية أو التنمية السياسية.

- عدم تناول الدول التي حقّقت انتقالا ديمقراطيا ناجحا ورفاها اقتصاديا مهمّا، كإسبانيا والبرتغال، وعدد من دول المعسكر الاشتراكي السابق في أوروبا الشرقية، ومدى قدرة الإطار النظري المطروح على تفسير التحوّلات التي عرفتها.

- حضور التبريرية السلبية بالنسبة إلى شروط الديمقراطية والانتخابات وأهميتها في الدول المقيّدة، إذ يذهب المؤلّفون إلى أنّ الأخذ بالشروط الديمقراطية الغربية يمكن أن يؤدّي إلى عدم الاستقرار، وكأنّنّا بالمؤلّفين، ههنا، يفضّلون الاستقرار على ترسيخ قواعد الديمقراطية.

وتبدو هذه الخلاصة متماشية مع طرق المؤسّسات والبنوك المالية الدولية؛ "إنّ الالتزام الثابت بالانتخابات الحرّة والنزيهة وفقا للشروط الغربية يمكن أن يقوض دور الانتخابات في النظام المقيد. فالانتخابات التي تحدث، عندما تكون قواعد القيام بالانتخابات كامنة في النظام، أو عندما تسفر عن نتائج غير مقبولة بالنسبة إلى التقسيم القائم للقوة الاقتصادية، وبذلك تسبّب فترات عدم استقرار وعنف"[2].


[1]ـ دوغلاس سي. نورث وآخرون، في ظل العنف. السياسة والاقتصاد ومشكلات التنمية، ترجمة كمال المصري، سلسلة عالم المعرفة، عدد 433، فبراير 2016، ص 20

[2]ـ في ظلّ العنف، مرجع مذكور، ص 422