الفارابي والتعليم الفلسفي


فئة :  ترجمات

الفارابي والتعليم الفلسفي

الفارابي والتعليم الفلسفي

تقف فلسفة الفارابي (ت 339/ 950 - 1) في تمايز ملحوظ أمام فلسفة الكندي، لكنها ليست أقل منها تمثيلاً للتيارات الفكرية الأساسية التي حملها تراث الفلسفة في الإسلام. وقد أقام مذهبه على نحو واعٍ باستمراره في الأرسطية الجديدة التي مثَّلتها مدرسة الإسكندرية، عاملاً على تجديدها وجَعْلها مناسبة للسياق الثقافي الجديد للشرق الأدنى. ويتضح العنصر الأفلاطوني المحدث عند الفارابي في رؤيته الفيضية للكون، والتي تُشكِّل عصب نظريته الكوزمولوجية، لكنها تتميز عن المذاهب الأفلاطونية المحدثة الأقدم في إدماجها لنظام بطليموس الفلكي. ويتضح من نظريته في العقل اعتمادها على دراسة دقيقة للإسكندر الأفروديسي، وتطور مفهوم العقل الفعال الذي يقف مفارقاً للعقل الإنساني. ويمثل تراث الفارابي الفلسفي بالنسبة إلى المفكرين اللاحقين فلسفة راقية جداً في العقل، موضوعة داخل تعليم دقيق في المنطق الأرسطي. لقد كان الفارابي في الأساس فيلسوفاً نسقياً وتوليفياً؛ وباعتباره هكذا؛ مثَّل مذهبه نقطة انطلاق لكل قضايا الفلسفة الكبرى في العالم الإسلامي من بعده.

وعلى الرغم من أهمية تراث الفارابي الفكري؛ إلا أننا لا نستطيع التَّيَقُّن من سيرته. وباستثناء القليل من الوقائع المؤكَّدة؛ فلا يمكننا معرفة أي شيء عن ظروفه الشخصية وخلفيته العائلية([1]). وما وصلنا من أخبار خرافية وطرائف عن حياته هو نتاج رؤى متعارضة لسيرته كُتِبت بعد وفاته بثلاثة قرون. أما الشواهد النصيَّة من ملاحظات وأقوال تخص حياته كتبها بنفسه في مؤلفاته، فهي أقوى دليل يمكن الاعتماد عليه في معرفة أي شيء عنه.

تجمع أكثر المصادر الموثوقة على أن اسمه هو «أبو نصر محمَّد بن محمَّد»*. ويُذكر أن عائلته ترجع إلى فاراب، أو خراسان أو فرياب بتركستان. ويخبرنا الفارابي نفسه أنه تلقَّى المنطق، خاصة أورجانون أرسطو حتى التحليلات الثانية، من رجل الدين المسيحي يوحنا بن حَيلان ببغداد، حيث قضى الفارابي الجانب الأكبر من حياته ووضع أغلب مؤلفاته. وكان التلميذ الأساسي للفارابي هو يحيى بن عدي، المسيحي، كما كتب الفارابي رسالة في التنجيم لمسيحيٍّ آخَر هو أبو إسحق إبراهيم البغدادي. هذه العلاقة الوثيقة مع دوائر التعليم المسيحية في بغداد تَشِي بارتباط الفارابي بالتراث السرياني الأرسطي الجديد؛ الذي كان بدوره وريثاً للتعليم الفلسفي السكندري في القرون السابقة للإسلام. والظاهر أن الفارابي كان على صلة بشخصيات في البلاط العباسي؛ إذ أهدى كتابه الكبير في الموسيقى لأبي جعفر الكرخي (ت 343هـ)؛ وزير الخليفة الراضي (323 - 329/ 934 - 940).

كما نعرف من تفاصيل كَتَبَها ليوضح ظروف تأليفه لكتابه «مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة»؛ أن الفارابي ترك بغداد سنة 942 وتوجه لدمشق، حيث أكمل الكتاب، كما أنه قضى بعض الوقت في حلب، وقد كانت مقام الأمير الحمداني سيف الدولة. وحول 336 - 337/ 948 - 949؛ زار الفارابي مصر التي كانت تحت الحكم الفاطمي. ويبدو أنه عاد إلى دمشق بعد فترة قصيرة، حيث نعلم أنه تُوفِّيَ هناك حوالي 339/ 950 - 951، في عهد سيف الدولة([2]).

هذه الوقائع من سيرته قليلة متواضعة للغاية، لكن يجب علينا مقاومة إغراء تلميعها بقصص خرافية، كما فعل كُتَّاب السِّيَر القدماء، أو التَّورُّط في تخمينات حول الانتماء العِرقي أو الديني للفارابي على أساس تفسير غير موثوق لأعماله، كما فعل الكثير من الباحثين المحدثين. إن تواضع القَدْرِ الذي وصلنا من سيرته في الفترة التالية مباشرة على وفاته يشير إلى أن أيَّ تأثير فكري له أثناء حياته كان ضعيفاً للغاية، حيث يكاد لا يُذكر، لكن لا يعني هذا أن برنامج الدراسة الفلسفية الذي وضعه في مؤلفاته، والإسهامات الأصيلة التي أدلى بها؛ ليست على قدر كبير من الأهمية في فهم تطور الفلسفة في العالم الإسلامي من بعده. وسوف يعمل ابن سينا بعد وفاة الفارابي بنصف قرن على استعادته ووضعه في صدارة المشهد الفلسفي، إذ كان للفارابي أبلغ الأثر في فهم ابن سينا لأرسطو. وقد اتَّبَعت مدرسة بغداد الفلسفية منهج الفارابي في التعليم الفلسفي، وتولى هذه المهمة تلميذه يحيى بن عدي. وأخيراً مثَّلَت فلسفة الفارابي نقطة انطلاق عدد من فلاسفة الأندلس، خاصة ابن باجة، وابن رشد في شبابه. وكما أشرنا في السابق، فقد قضى الفارابي حياته دون أن يلاحظه أحد([3])؛ وبالتالي فيجب التركيز على ما تركه لنا من فلسفة.

=

  يمكن توزيع أعمال الفارابي على ثلاثة أقسام([4]):

1) مداخل لدراسة الفلسفة، تتضمَّن «أخلاق ما قبل الفلسفة» *pre-philosophical ethics([5])، والمداخل الأساسية لدراسة المنطق وأعمال أفلاطون وأرسطو. ويشمل هذا القسم ثلاثية الأخلاق التعليمية: «تحصيل السعادة» و«فلسفة أفلاطون» و«فلسفة أرسطوطاليس» (بالإضافة إلى ما يتبعهما، وهو «الجمع بين رأيَي الحكيمين أفلاطون وأرسطو»)، والثلاثية المنطقية «التنبيه على سبيل السعادة» و«الألفاظ المستعمَلة في المنطق»، و«شرح كتاب المقولات»؛ بالإضافة إلى «ما ينبغي أن يُقدَّم قبل تعلُّم فلسفة أرسطو». ويرجع هذا النوع من الكتابة الفلسفية إلى تراث مدرسة الإسكندرية في تعليم الفلسفة. فعلى سبيل المثال: نجد في كتابه «ما ينبغي أن يُقدَّم قبل تعلُّم فلسفة أرسطو» تسع نقاط من العشرة التي حددتها مدرسة الإسكندرية، باعتبارها تعليماً أوَّليَّاً قبل أي دراسة جادة للفلسفة([6])، كما يُعَدُّ «إحصاء العلوم» في غاية الأهمية، وهو الذي سيحظى بمكانة عالية في العالمين الإسلامي والمسيحي بعد الفارابي.

2) شروح وتلخيصات لكتاب «الأخلاق النيقوماخيَّة» ولكل من أورجانون أرسطو، كما لإيساغوجي فرفوريوس الذي كان في غاية الشهرة آنذاك؛ إذ شرحه الفارابي بطرق عديدة. والملمَح المهم في هذا القسم هو توسيع الفارابي لقائمة الكتب المنطقية إلى ما بعد النهاية التي كان مُتعارَفاً عليها قبله في مدرسة الإسكندرية المتأخرة واستمر لدى المناطقة المسيحيين؛ أي: في منتصف «التحليلات الأولى».

3) أعمال أصيلة عمل فيها الفارابي على التَّوليف بين اتجاهات عديدة؛ لإنتاج عرض شامل موحَّد لكل جوانب الفلسفة، مصحوباً كذلك بمدخل مثالي في كيفية تَعَلُّمها. وأشهر هذه الأعمال هو «مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة» و«مبادئ الموجودات» المسمَّى أيضاً بـ«السياسة المدنية».

توجِّه أعمال الفارابي وبقصد واضح أهدافاً عديدة مشتركة، وهي استعادة الدراسة الاحترافية للفلسفة التي مارستها مدرسة الإسكندرية ذات التوجُّه الأرسطي الجديد، ثم تَبْيِئَة هذه الدراسة [داخل الوسط الفكري والعلمي العربي]. ومن هذه الجهة، فمن الصحيح تماماً أن يسمَّى «المعلم الثاني» (بعد أرسطو المعلم الأول)، وقد أعلن الفارابي بنفسه أنه وريث هذا التقليد الفلسفي، كما تحتوي أعماله على تفصيل دقيق لكيفية وضع التعليم الفلسفي داخل السياق الثقافي الجديد للإمبراطورية الإسلامية. ونجد معالجة الفارابي لكيفية وراثته للتعليم الفلسفي السَّكندري في رواية «طريفة» عن انتقال هذا التعليم إلى محطته الثقافية الجديدة [في بغداد]، يقول لنا الفارابي في «ظهور الفلسفة»:

إن أمر الفلسفة قد اشتهر في أيام الملوك اليونانيين، وبعد وفاة أرسطوطاليس بالإسكندرية إلى آخِر أيام المرأة [كليوباترا]. وإنه لما تُوفِّيَ؛ بقي التعليم فيها على حاله؛ إلى أن ملك ثلاثة عشر ملِكاً... وجرى الأمر على ذلك إلى أن دخلت النصرانية، فبَطُل التعليم من رومية وبقي بالإسكندرية، إلى أن نظر ملك النصرانية في ذلك، واجتمعت الأساقفة ونظروا فيما يُترك من هذا التعليم وما يُبطل. فرأوا أن يُعلَّم من كتب المنطق إلى آخِر الأشكال الوجودية، ولا يُعلَّم ما بعده؛ لأنهم رأوا أن في ذلك ضرراً على النصرانية... فبقي... ما يُنظر فيه من الباقي مستوراً إلى أن كان الإسلام بعده بمدة طويلة، فانتقل التعليم من الإسكندرية إلى أنطاكية، وبقي بها زمناً طويلاً، إلى أن بقي معلِّم واحد؛ فتعلَّم منه رجلان وخرجا ومعهما الكتب، فكان أحدهما من أهل حرَّان والآخَر من أهل مَرو. فأما الذي من أهل مرو؛ فتعلَّم منه رجلان، أحدهما إبراهيم المروزي والآخَر يوحنَّا بن حيلان. (وقال أبو نصر الفارابي عن نفسه إنَّه تعلَّم من يوحنا بن حيلان إلى آخر كتاب البرهان)([7]).

في هذا النص عدد من النقاط المهمة التي يجب إبرازها، والتي تُقدِّم لنا أساساً لدراسة شيِّقة لتاريخ الفلسفة في العصور الوسطى المبكرة. وبالتركيز على أهدافنا؛ يمكننا أولاً ملاحظة أن الفارابي لا يشير أبداً إلى الكندي السابق عليه (إذ توفِّي 256/873)، ولا إلى معاصره الأكبر سنَّاً منه؛ وهو أبو بكر الرازي (توفِّي حوالي 311/ 923). والواضح أن الفارابي لم ينظر إلى مقاربتهما للفلسفة على أنها نافعة أو دقيقة. ونلاحظ ثانياً تصويراً واعياً لإعادة الفارابي إحياء التعليم الفلسفي مرَّةً أخرى، بعد القيود التي فرضها المسيحيون على تعلم المنطق؛ ففي العالم الإسلامي تمكَّن الفارابي من امتلاك المنطق الأرسطي فيما بعد التحليلات الأولى، بفضل معلِّمه يوحنا بن حيلان الذي تعلم منه القياس البرهاني من كتاب «البرهان». وكما سنرى؛ فإن تقييم الفارابي العالي للمنهج البرهاني وأهميته للفلسفة ملمَحٌ مهم في فكره. وأخيراً يهدف الفارابي من معالجته إلى ربط أعماله بالتاريخ الطويل لتعلم الفلسفة؛ مُضفياً بذلك نَسَباً تاريخياً على التعليم الفلسفي الجديد الذي ارتآه مناسباً لكل دارسي الفلسفة تحت الحكم الإسلامي.

الميتافيزيقا والكوزمولوجيا

وتبقى مهمة القيام بتقديم معالجة موجزة ودقيقة لفلسفة الفارابي إشكالية لعدة أسباب؛ أوَّلها أن الكثير من أعماله لم يُنشَر نشرات نقدية مُحقَّقة، ولم يُدرَس ويُناقَش بجدية من الباحثين إلا في العقود الثلاثة الأخيرة، ولا يزال الكثير منها في انتظار التحقيق والدراسة، وثانيها أن الفارابي يقدِّم فلسفته على أنها معالجة شاملة لكل الواقع، بما فيه جوانبه الأنطولوجية والإبستيمولوجية والكوزمولوجية التي تتآلف معاً في مقاربة مثالية وقِيَميَّة للكون كله. أما الدراسات الجزئية التي تُركِّز على أجزاء صغيرة مبعثَرة من فلسفته، فلا يمكنها الإحاطة بمشروعه التوليفي الضخم. وسوف أحاول فيما يلي معالجة هذا المشروع بصفة عامة، بالإشارة إلى بعضٍ من أهم الدراسات في العقود الأخيرة، مُتَّبِعاً كتابه «مبادئ الموجودات»([8]).

=

  تعمل كوزمولوجيا الفارابي على إدماج ميتافيزيقا أرسطية حول السَّببيَّة، مع صيغة متطوِّرة للغاية من نظرية الفيض الأفلوطينية، داخل نظام فلكيٍّ يرجع إلى بطليموس([9]). ولا يظهر الجمع بين [ميتافيزيقا أرسطو ونظرية الفيض الأفلوطينية] على أنه أمر غريب بالنظر إلى التطور السابق على الفارابي، لكن ربما يكون إسهام الفارابي الأهم هو [إدماج الأرسطية والأفلوطينية في] إطار نظام بطليموس الفلكي الذي وضعه في كتابه *Planetary Hypotheses؛ على الرغم من أن هذا الإسهام قد يكون تخميناً نظراً لغياب أي مصدر سابق على الفارابي قد يكون اعتمد عليه. يُقدِّم الفاربي ستة مبادئ للوجود في مذهبه: 1) السبب الأول؛ 2) الأسباب الثواني؛ أي: العقول المفارِقة؛ 3) العقل الفعَّال المدبِّر لعالم ما تحت فلك القمر [العالم الأرضي]؛ 4) النفس؛ 5) الصورة؛ 6) المادة. والمخطط الفيضي الذي يُقدِّمه الفارابي هو هبوط متسلسِل من السبب الأول بتوسُّط الأسباب الثواني أو العقول المفارِقة المتصلة بالأفلاك السماوية التسعة، إلى العقل العاشر الأخير الذي يدبِّر عالم ما تحت فلك القمر.

في مذهب الفارابي تتطور نظرية أرسطو من سببيَّة فيزيائية في حركة الأفلاك، إلى سببيَّة [أنطولوجية] في وجود ومعقولية هذه الحركة، حيث يمنح كل مستوى للذي يليه الوجود والعقل، وفقاً لهيراركيَّة هابطة من أفعال التَّعقُّل. إن السبب الأول (الذي يرى الفارابي أنه هو الله) هي المحرك الأول المفارق، حيث تتحرك الأفلاك السماوية عشقاً إليه. فالسبب الأول عندما يعقل ذاته؛ يصدر عنه وجود مفارق لعقل أول. وعندما يعقل هذا العقل الأول ذاته ويعقل السبب الأول في الوقت نفسه؛ فإن هذه التعددية في فعل التَّعقُّل يصدر عنها العقل الثاني، وهذا العقل الثاني عندما يعقل ذاته والعقل الأول؛ يصدر عنه كيان متجوهِر هو نفس وجسم للمستوى التالي. وتتسلسَل هذه العملية من صدور العقول هبوطاً مع العقول التسعة للأفلاك التسعة. ويتصل العقل الأول بالسماء الأولى؛ الموصوفة على أنها الفلك الأقصى للكون، وهي تدور في حركة يومية وتحرك الأفلاك الأخرى التي في نطاقها. ويتصل العقل الثاني بفلك النجوم الثابتة، والتي في دورانها ينتج عنها الاعتدالات الربيعية والخريفية equinoxes*. وكل العقول الأخرى تتصل بفلك أحد الكواكب المعروفة أيام الفارابي: زُحل، المشتري، المريخ، الشمس، الزُهرة، والقمر. أما العقل الأخير وهو العقل الفعَّال؛ فيدبر عالم الكون والفساد؛ أي: عالم العناصر الأربعة (الأرض والهواء والنار والماء)، والمعادن والنباتات، والحيوان غير العاقل والعاقل (البشر)([10]).

تبدو الرؤية السابقة على أنها مذهب غريب، لكن تَعَقُّدها الدقيق يجمع كل عناصر فلسفة الفارابي ويدمج معها المعرفة الفلكية في عصره. وبوضعه للمخطط الصدوري داخل نظرية بطليموس الفلكية؛ يتمكن الفارابي من تجنُّب فوضى النظرية الميتافيزيقية الأرسطية التي تجاوزت فيها العقول المفارقة المحركة للأفلاك الخمسة والخمسين عقلاً. يتمكن الفارابي بوضع مخطط صدوري للوجود والتعقُّل من معالجة التدرُّج العقلي والمادي للوجود بطريقة متَّسِقة منطقياً، وتستطيع فوق ذلك تفسير ظهور العقل الإنساني. والعنصر الحاسم في هذا المخطَّط بالنظر إلى [فعل التعقُّل الإنساني] هو حضور العقل الفعَّال مدبِّراً للعالم، والذي سوف نقول عنه المزيد تباعاً. وهناك تفسيرات أخرى لتبنِّى الفارابي لتصوُّر صدوري للكون مع علمه بأنه غير أرسطي([11])، لكن من الواضح [لديَّ] أن الفارابي قد شعر أنه بدون هذا المخطط الصدوري لن يتمكن من تفسير كيفية معرفة البشر لله، على الرغم من المسافة الطويلة الفاصلة بينهما، كما لن يتمكن معالجة تعدُّد فهم البشر للكون. والطريف في نظرية الفارابي؛ عدم إغفالها السياق الديني التوحيدي الذي تعمل فيه؛ إذ لم يتردَّد في الربط بين العقول المفارقة فوق فلك القمر والدين؛ فعلى سبيل المثال: اقترحَ أن نسمِّي هذه العقول المفارقة «أرواحاً» و«ملائكةً»، وأن نسمِّي العقل الفعال «الروح القدس»؛ أي: ملاك الوحي. وهذه بلاغة عبقرية من الفارابي، قصد منها أن يقبل الموحدون في عصره، مسلمون وغيرهم، نظام تعدُّد الآلهة* اليوناني([12]).

ومن المهم إبراز بعض حجج الفارابي الخاصة بالسبب الأول، بما أنها تمدُّنا بِتَبَصُّرات شيِّقة عن الطريقة التي اندمجَت فيها الميتافيزيقا والإبستيمولوجيا في فكره؛ ففي «كتاب مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة»؛ يقول الفارابي [عن السبب الأول]:

وأيضاً، فإنه غير منقسِم بالقول إلى أشياء بها تجوهره؛ وذلك لأنه لا يمكن أن يكون القول الذي يشرح معناه يدلُّ كلُّ جزء من أجزائه على جزء مِمَّا يتجوهر به. فإنه إذا كان كذلك؛ كانت الأجزاء التي بها تجوهِرُه أسباباً لوجوده على جهة ما تكون المعاني التي تدل عليه أجزاء حدِّ الشيء أسباباً لوجود المحدود، وعلى جهة ما يكون المادة والصورة أسباباً لوجود المتركِّب منهما؛ وذلك غير ممكن فيه، إذ كان أولاً وكان لا سبب لوجوده أصلاً([13]).

=

  لقد أقام الفارابي لاهوته النافي negative theology في مقاربة منه للسبب الأول، وأنشأه بطريقة تبرهن على أنه لا يمكن معرفة هذا السبب الأول بالإجراء الجدلي المنطقي القديم المعروف بالقسمة (diairesis) والتعريف (horismos)، وبالتالي؛ لا يمكن معرفته مباشرة بالعقل البشري**. إن الأشياء التي تقال في تعريف موجود ما؛ تشكِّل بالفعل ماهيَّته. وهذا توجُّهٌ واقعيٌ لدى الفارابي يمكن تتبُّعه إلى «إيساغوجي» فرفوريوس، وعمل على تشكيل الجدل الذي استمر قروناً حول دور المقولات المنطقية الأرسطية في مبحث الميتافيزيقا. في الاستشهاد السابق؛ يقتصر الفارابي على تقديم أمثلة على السببيَّة من الأسباب المادية والصورية الأرسطية وحسب، لكنه في مواضع أخرى من الكتاب نفسه يعتمد على «شجرة» فرفوريوس المكوَّنة من الأجناس والأنواع:

وهو مُباين بجوهره لكل ما سواه، ولا يمكن أن يكون الوجود الذي له لشيء آخر سواه؛ لأن كل ما وجود هذا الوجود لا يمكن أن يكون بينه وبين شيء آخر له أيضاً هذا الوجود؛ مُباينةٌ أصلاً، ولا تغايُر أصلاً؛ فلا يكون اثنان، بل يكون هناك ذات واحدة فقط؛ لأنه إذا كانت بينهما مُبايَنةٌ؛ كان الذي تباينَا به غير الذي اشتركا فيه، فيكون الشيء الذي باين كلُّ واحد منهما الآخَر؛ جزءاً ممَّا به قوام وجودهما، والذي اشتركا فيه هو الجزء الآخر. فيكون كل واحد منهما منقسماً بالقول. ويكون كل واحد من جزئيه سبباً لقوام ذاته. فلا يكون أولاً، بل يكون هناك موجود آخَر أقدم منه هو سبب لوجود، وهذا محال([14]).

يبرهن الفارابي في هذا النص على أن أجزاء الحد، وهي جنس وفصل شيء ما، بغير نفع في تعريف السبب الأول، لكننا نرى لديه في الوقت نفسه رؤية واضحة للغاية في أن عناصر الحد هذه؛ لا تُمكِّننا من معرفة الأشياء وحسب (دون السبب الأول)، بل كذلك من معرفة حقيقتها الأنطولوجية. وعلاوة على ذلك؛ فإن الفكرة القائلة إن جنس وفصل شيء ما يسبقان الشيء الـمُعرَّف (لا بالزمان بل بالمعلولية)؛ هي تحويل للمرتبة المنطقية للأسباب الأرسطية (أي: المادة والصورة في الاستشهاد الأول)، إلى محمولات أنطولوجية كما تظهر في «إيساغوجي» فرفوريوس.

ويمكننا تحليل كل الهيكل التراتبي لصدور الوجود والعقل عند الفارابي على خلفية ذلك المنهج في التصنيف بالقسمة إلى أجناس وأنواع. وبصرف النظر عن السبب الأول، الذي يتَّصف وحده بالوحدانية، فإن الكثرة والنقص يميزان كلَّ المستويات الهابطة من الجواهر. صحيح أن العقول المفارقة (العقول المحركة للأفلاك)، لا تفتقر إلى قوام كي تتجوهَر؛ إلا أنها ناقصة من حيث إن وجودها يرجع إلى شيء أكثر كمالاً منها (أي: السبب الأول). وعلاوة على ذلك؛ فإن فيها كثرة في فعل تَعَقُّلها: فهي لا تعقل ذاتها وحسب مثل السبب الأول، بل تعقل ذاتها والعقل الذي يسبقها، لكن هذه العقول أكثر كمالاً من العقل الإنساني، أولاً لأنها في حالة تَعَقُّل دائم*، وثانياً لأن موضوع تَعَقُّلها هو معقول خالص مفارِق للمادة دوماً**. إن نفوس الأفلاك، التي هي صورها، لا تحوز إلا على ملَكة التعقُّل، التي بها تشتاق للتشبُّه بالنفوس الأسبق منها؛ ذلك الشوق الذي يجعل كل نفس تُحرِّك الفلك المتصلة به. لكن تحدث فجوة عند الوصول لمستوى العقل الفعال الذي يدبِّر عالم ما تحت القمر. ففي حين يصدر عن كل عقل سابق عقلاً يليه ونفساً، وفلكاً متَّصلاً بهذه النفس؛ فإن العقل الفعال لا يصدر عنه سوى العقل الإنساني في العالم الأرضي. أما المادة والصورة في هذا العالم الأرضي؛ فهما يَنْتُجَان عن الحركات المختلفة للأفلاك السماوية([15]).

وفي عالم الكون والفساد، العالم الأرضي؛ فإن التَّعقُّد هو السمة السائدة لكل أجناس الموجودات. وتكون الصورة والمادة المبادئ الدنيا للوجود، ويُكوِّنان معاً الجواهر الجسمية؛ إذ لا يفترقان وليس لأحدهما قوام دون الآخر. والمادة هي الإمكان المحض على أن تكون شيئاً ما. والصورة هي التي تجعل من هذا الإمكان المحض متحقِّقاً في شيء ما. ويستخدم الفارابي مثالين شهيرين: فالخشب للسَّرير هو المادة، وصورة السَّرير هي التي تعطي للخشب هويته باعتباره سريراً، وفي حالة البصر؛ فالعين هي المادة والرؤية هي الصورة. وتُشكِّل صور العناصر الأربعة (الأرض والهواء والنار والماء)، نوعاً واحداً؛ لأنها تتحول إلى بعضها البعض*. واختلاط العناصر يُوَلِّد تراتباً للجواهر الجسمية: المعادن، والنباتات، والحيوانات غير العاقلة، والحيوان العاقل.

السيكولوجيا** والنفس

تعتمد معالجة الفارابي للنفس البدنية وملكاتها أو قواها؛ على وجيز أرسطيٍّ أساسي [في كتاب النفس لأرسطو]، لكنها موجَّهة بتراث الشروح على أرسطو (خاصة الإسكندر الأفروديسي المنحول وأفلوطين) والواقعة بينه وبين المعلِّم الأول. وعند الفارابي تتكون النفس الإنسانية من عدد من القوى الأساسية: القوة الشهوانية [وهي قوة اشتهاء الحواس لشيء حسِّي]***، والقوة الحاسَّة (التي بها نحسُّ بالأشياء وندركها بالحواس)، والقوة المتخيِّلة (التي تحتفظ بصور الموضوعات الحسِّية بعد غيابها عن الحواس، وتجمع هذه الصور وتفرقها بطُرُق ولأهداف متنوعة)، والقوة العاقلة([16]). وتحتفظ المستويات المتعاقبة من النفوس، من النباتية إلى الحيوانية وحتى الإنسانية، بقوة التَّعقُّل([17]) للنفس الإنسانية؛ أي: القدرة على التفكير، تلك النفس التي تظهر بها القوى الأخرى كذلك. وهذه القوة، التي تسمَّى أيضاً بالنفس العاقلة، تبقى بعد موت البدن.

إن نظرة الفارابي للعالم من حوله معقَّدة، لكنها مُرَتَّبة؛ إذ تنتظم الأشياء في بناء منطقي، والكلُّ يحكمه مبدأ غائيٌّ؛ وكل مستوى في الوجود يتميز بسعيه نحو الكمال المناسب له، وهو الكمال الذي يعكس كمال السبب الأول بالتشبه به. لكن؛ ما الذي يُشَكِّل الكمال الإنسانيَّ؟ بما أن غاية الكائنات العاقلة هي التَّعقُّل المستمر والدائم، وبما أن الإنسان يمتلك العقل؛ فإن غاية الإنسان، أو سعادته، هي فعل التَّعقُّل المستمر والدائم.

إن دمج الفارابي بين الميتافيزيقا ومذهبه في العقل يَعِدُ البشرَ بإمكان معرفتهم ببنية الكون وبالمبادئ الحاكمة لهذه البنية([18])، لكن هناك اعتباران لاكتمال هذه الرؤية؛ الأوَّل: أن الشخص الإنساني لا يولد بعقل فعال، بل يجب أن يتطور عقله بطريقة معيَّنة إلى درجة يصل عندها لكماله الخاص. والثاني: أن الفروقات التي وجدناها في درجات التَّعقُّل بين المستويات المختلفة من الهرم الفيضيِّ؛ تتكرَّر على المستوى الرأسي: إذ لا يستطيع كل البشر تطوير عقلهم بالطريقة نفسها أو بالدرجة نفسها.

فَلِأنَّ العقل الإنساني مُتَّصل بالبدن؛ فهو لا يمثِّل سوى إمكان أوَّليٍّ لتحقُّق الكمال الخاص به. ويعمل العقل الفعال على تفعيل هذه العملية التي يصل بها العقل الإنساني إلى كماله، يقول الفارابي: «والعقل الفعَّال فعله العناية بالحيوان الناطق، والتماس تبليغه أقصى مراتب الكمال الذي للإنسان أن يبلغه، وهو السعادة القصوى؛ وهو أن يصير الإنسان في مرتبة العقل الفعَّال»([19]).

يُعرِّف الفارابي العقل الفعَّال المفارِق على أنه الذي ينقل العقل الإنساني الهيولاني من القوة إلى الفعل؛ أي: هو الذي يسبِّب التفكير لدى البشر([20]). وتعد هذه الفكرة تلخيصاً مركَّزاً للغاية للنظرية الأرسطية في سبب التفكير البشري، والتي تطوَّرت في القرون السابقة على الفارابي من داخل تراث الشروحات على الجزء الثالث من كتاب «النفس» لأرسطو De Anima (III.5). وبالإضافة إلى وضعه للعقل الفعَّال خارج العقل البشري؛ فإن الفارابي يستخدم مثال الضوء لشرح [صلة العقل الفعَّال بالعقل البشري]، ويقول في ذلك:

ومنزلة العقل الفعَّال من الإنسان؛ منزلةُ الشمس من البصر، فكما أن الشمس تعطي البصر الضوء، فيصير البصر بالضوء الذي استفاده من الشمس مبصِراً بالفعل بعد أن كان مبصراً بالقوة، وبذلك الضوء يبصر الشمس نفسها التي هي السبب في أن أبصر بالفعل. وبالضوء أيضاً تصير الألوان التي هي مرئية بالقوة مرئية بالفعل، ويصير البصر الذي هو بالقوة بصراً بالفعل. كذلك العقل الفعال يفيد الإنسان شيئاً يرسمه في قوَّته الناطقة، منزلة ذلك الشيء من النفس الناطقة؛ منزلة الضوء من البصر. فبذلك الشيء تعقل النفس الناطقة العقل الفعَّال، وبه تصير الأشياء التي هي معقولة بالقوة معقولة بالفعل. وبه يصير الإنسان الذي هو عقل بالقوة عقلاً بالفعل. والكمال إلى أن يصير في قرب من رتبة العقل الفعَّال، فيصير عقلاً بذاته بعد أن لم يكن كذلك، ومعقولاً بذاته بعد أن لم يكن كذلك، ويصير إلهيَّاً بعد أن كان هيولانياً. فهذا هو فعل العقل الفعَّال، ولهذا سُمِّي العقل الفعَّال([21]).

يقدِّم هذا النص بما يحويه من صورة مجازية موجزاً لعملية تحقُّق العقل الإنساني، والتي يطوِّرها الفارابي بعد ذلك بالتفصيل. يبدأ العقل الإنساني «هيولانياً»؛ أي: مادياً، فالبشر يحوزون ابتداءً على مجرَّد إمكان للتفكير، لكنهم في الوقت نفسه يحوزون على الحواس وعلى القدرة على استحضار موضوعات الحس بالمخيِّلة. والفعل الأول للبشر هو الإحساس بموضوعات العالم والاحتفاظ بصورها، لكن تتطلب عملية التفكير القدرة على تحويل هذه الصور المادية المحسوسة إلى معقولات كليَّة؛ وذلك كي يتمكن المرء من تطوير الصلات التي تشكِّل أساس العمليات المنطقية مثل تعريف وتنظيم أشياء العالم. وهذا التحويل يُفعِّله فاعل خارجي يُعرَف على أنه العقل الفعَّال مدبِّر عالم ما تحت فلك القمر.

لكن؛ ما هي طبيعة هذا التحوُّل الذي يصير فيه العقل الهيولاني المادي عقلاً بالفعل؟ يبدو أن الفارابي لم يجد إلا مثال فعل ضوء الشمس على البصر لتقريب هذه العملية([22]). يُحدِث العقل الفعَّال تغييراً في العقل المادي للإنسان، وبه تتخلص المحسوسات الجزئية من خواصها المادية وتصير معقولات خالصة من المادة. ويعطي الفارابي أمثلة على هذه المعقولات الأولى: المبدأ القائل إن الكلَّ أكبر من الجزء؛ والمبدأ القائل إن المساويين لثالث متساويان. وبتعقُّل هذه المعقولات الأولى؛ يصير العقل الإنساني عقلاً بالفعل([23]). وعلاوة على ذلك، وكما نرى في الفقرة السابقة، ففي هذه المرحلة يعقل العقل الإنساني العقل الفعَّال. فعن طريق تعقُّل معقولٍ ما؛ يصير العقل هذا المعقول، وفق الصيغة الأرسطية الشهيرة([24]). وما يبقى محلَّ جدل هو ما إذا كان هذا التنظيم النسقي الجديد لإبستيمولوجيا أرسطو، والذي يجمع بين السببيَّة والهوية، هو إسهام أصيل للفارابي أم إنه مُستقى من تراث الشروح السابق عليه.

وفي حين يمكَّن أن تظهر عملية تحقُّق العقل الإنساني بصورة آليَّة في مراحلها المبكرة؛ إلا أن الفارابي يلتزم بنظرة طوعية في المرحلة التالية من هذه العملية؛ أي: مرحلة تحقق العقل المستفاد، وكما يشرح لنا الفارابي في فهمه لأرسطو: «فإن الإنسان من الموجودات التي لم تُعطَ كمالها من أول الأمر، بل من التي إنما تُعطى أنقص كمالاتها، وتُعطى مع ذلك مبادئ يُسعَى بها، إما بالطبع وإما بالإرادة والاختيار، نحو الكمال»([25])، لكن حتَّى في أفعال الحس والخيال التي يشترك فيها الإنسان مع الحيوان؛ فإن الفارابي يعطي للإنسان فيها دوراً إرادياً، حتَّى ولو كان في مستوياته الدنيا القاصرة على الاشتهاء والخوف. أما نوع الإرادة الخاص بالعقل بالفعل، فيُسمِّيه الفارابي «الاختيار»، حيث يختار الإنسان سلوكاً أخلاقياً أو غير أخلاقي، وانطلاقاً منه إما يسعى أو لا يسعى للسعادة.

وعند هذه المرحلة من برنامجه التعليمي الفلسفي، خاصة في مؤلَّفاته في «أخلاق ما قبل الفلسفة»([26])، يظهر موضوع إعداد الفيلسوف نفسه. في هذه المؤلَّفات يتبع الفارابي الخطوط العامة لأعمال أرسطو في الأخلاق (خاصة «الأخلاق النيقوماخية»)، ويتولى تعريف السعادة من خلال فحص جدلي للآراء المتناقضة فيها، والتي تختلف حول طبيعة السعادة وسبل الوصول إليها. [يذهب الفارابي إلى أن] الخير الذي يؤدي إلى السعادة يتحقق إما بالطبع وإما بالإرادة. وفي حالة الطبع؛ فإن الفارابي يرى تأثيراً ضرورياً للأجرام السماوية لتسهيل أو إعاقة التحصل على الخير، يقول في ذلك: «... أشخاص الإنسان تحدث بالطبع على قوى متفاضلة وعلى توطئات مفاوتة»([27]). أما الاختيار الإرادي للخير والشر، فهو ينتمي لمجال الإرادة الإنسانية حصراً، والواضح أن التعليم ضروري مما يقوله الفارابي:

فليس في فطرة كل إنسان أن يعلم من تلقاء نفسه السعادة، ولا الأشياء التي ينبغي أن يعملها [لبلوغها]، بل يحتاج في ذلك إلى معلم ومرشد. فبعضهم يحتاج إلى إرشاد يسير، وبعضهم إلى إرشاد كثير. ولا أيضاً إذا أرشد إلى هذين [أي: السعادة وطرق بلوغها]، فهو لا محالة يعمل ما قد علم وأرشد إليه دون باعث عليه من خارج ومنهض نحوه. وعلى هذا أكثر الناس. فلذلك يحتاجون إلى من يُعَرِّفهم جميع ذلك وينهضهم نحو فعلها([28]).

في هذا المستوى العملي من الإلزام الأخلاقي باختيار الخير؛ يُفَعِّل العقل الإنساني العملية التي يصير بها «مثل» العقل الفعَّال. وبتطبيع أنفسهم على الأفعال الفاضلة (وهي مثل الوسط الأخلاقي الأرسطي)، وبالأسلوب الصحيح لتدبير السبيل للأفعال الخيِّرة؛ يطوِّر البشر الملكة العقلية التي توجِّههم عملياً، والتي يسمِّيها «القوة العقلية العملية»؛ أي: القوة عل فعل شيء ما أو إحداث حدث ما([29]). ويتمثل جانب آخَر من القوة العاقلة في قوة أخرى تسمَّى «القوة العقلية العلمية». وعادة ما يُعرِّفها الفارابي بالنفسي على أنها ملَكة معرفة الأشياء التي لا يستطيع الإنسان التأثير عليها أو صنعها([30]). والواضح أن الفارابي يقصد بها القوة الناطقة، والتي لا تتوجَّه وحسب نحو النافع والفاضل في سلوك الفرد والمجتمع، بل نحو ما يشكل السعادة الحقَّة؛ أي: الفلسفة، أو معرفة الموجودات التي من طبيعتها أن تكون معقولة.

كان الفصل الواسع بين الفلسفة العملية والفلسفة النظرية مستقرَّاً للغاية في المدوَّنة الفلسفية في عصر الفارابي؛ إذ كانت العلوم العملية تشمل الأخلاق، وفن تدبير المنزل (الاقتصاد)، و«تدبير المدن» (السياسة)، وكلُّها تساعد في الحصول على السعادة في مجالات الفعل الفردي والتفاعل الاجتماعي. أما العلوم النظرية؛ فتشمل الرياضيات (أي: الرُّباعي؛ علم العدد والهندسة والموسيقى والفلك أو علم الهيئة)، والعلم الطبيعي (أي: دراسة العالم وأجزائه، بما فيه النفس الإنسانية، أو علم النفس)، وأخيراً العلم الأعلى الذي يتضمن مبادئ كل العلوم الأخرى؛ أي: الميتافيزيقا. وتَعَلُّم العلوم النظرية هو السبيل إلى السعادة النهائية القصوى، وهي كمال النفس الإنسانية. ومن الدَّالِّ في هذا الشأن أن التعليم الفلسفي [لدى الفارابي وقبله عند تراث شراح أرسطو] كان منتظماً على أساس نوعَي المعرفة [النظري والعملي] والذي توجِّهه الرؤية [الفلسفية] للكون. فعلى أساس التقسيم بين موضوعَي المعرفة النظري والعملي؛ وضع الفارابي مخططاً لمستويين من الإبستيمولوجيا (وفق النموذج الأرسطي في تقسيم العلوم العملية والنظرية)، ويربطه بوعي كامل بنظريته في الوجود (وهذه العلوم تتضمن ما هو حق بالفعل)، وأخيراً ينظِّمها في رؤية تطوُّرية للفكر الإنساني، على المستويين التاريخي (باعتباره تتابعاً زمنياً لمراحل من المعرفة الإنسانية)، والفردي (وهذه هي الطريقة التي يتعلَّم بها البشرُ التفكيرَ)*.

المنطق وتربية الفيلسوف

في كلا نوعَي العلوم، النظرية والعملية، شدَّد الفارابي على ضرورة دراسة المنطق؛ الذي هو الأداة الأساسية في البحث العلمي، والوسيلة الوحيدة التي يستطيع بها البشر الوصول إلى كمال قدرتهم على التعامل جيداً مع كل موضوعات الفكر، وفوق كل ذلك؛ الطريقة الوحيدة لحماية العقل من الخطأ. ويتمثل الجانب الأكبر من أعمال الفارابي التي وصلتنا في مؤلَّفات تخص كافة أنواع البحث المنطقي. وهذا متوقَّع؛ نظراً للمكانة المركزية التي احتلَّها المنطق الأرسطي في تراث الشروح السكندرية، وكذلك في مدرسة بغداد الأرسطية التي أسسها معلِّمو الفارابي([31]).

تُشكِّل شروح وتلخيصات الفارابي لمنطق أرسطو كل الأورجانون الأرسطي (المقولات، العبارة، القياس، البرهان، الجدل، السفسطة، الخطابة، الشِّعر)، مع كتاب «إيساغوجي» لفرفوريوس الذي كان المدخل المعتاد لكل المنطق، وأخيراً أعمال أصيلة تركِّز على علاقة المنطق باللغة([32]). ويمثِّل هذا الشمول في التعامل مع المنطق مرحلة مُتمِّمة لعملية تطور البحث المنطقي التي كانت تحدث في السياق الفكري المسيحي السرياني. وفي حين توقَّف دارسو المنطق قبل الفارابي عند مبحث القياس أو كتاب «التحليلات الأولى»؛ وَسَّع الفارابي من المنظومة المنطقية، وضمَّ إليها كل الفنون المنطقية البرهانية واللابرهانية [مثل الجدل والخطابة والشِّعر والسفسطة]، بتشديد خاص على القياس البرهاني باعتباره طريق الوصول إلى الحق.

لم تُنشر مؤلَّفات الفارابي المنطقية [في طبعات علمية محقَّقة] إلا حديثاً، ولذلك فهي تنتظر دراسة متكاملة للكشف عن إسهامه الحقيقي في هذا المجال، لكن عملَ البحثُ الحديث مؤخراً على إبراز جانبين من فكر الفارابي المنطقي: أولهما هو معالجته للعلاقة بين المنطق والنحو؛ وثانيهما تصوُّره لما يشكل اليقين في الفكر الإنساني، وعلاقة ذلك بكيفية ترتيبه لمستويات الخطاب المنطقي([33]).

=

  كان انتباه الفارابي للأهمية التي يتمتع بها كلٌّ من المنطق والنحو بالنسبة إلى بعضهما البعض هو نتاج وراثته للتراث الأرسطي في تعليم الفلسفة، والذي تمَّ فيه الجمع بينهما([34])، كما اقترح البعض أن اهتمام الفارابي بالنحو عائد إلى جدل معاصر له حول أفضلية النحو العربي على المنطق [اليوناني]. وقد ظهر هذا الجدل بصورة أدبية على أنه حوار خَطابي بين المنطقي أبي بشر متَّى بن يونس (ت 328هـ، 939م)، الذي دافع عن كليَّة المنطق وشمول تطبيقاته باعتباره متجاوزاً للغات، والنحوي أبي سعيد السيرافي (ت 368هـ، 978م)، الذي ازدرى علم المنطق باعتباره دخيلاً؛ ذاهباً إلى أن النحو العربي هو الذي يحمي متكلِّمي العربية من الوقوع في الخطأ، حتى ولو كان خطأً فكرياً([35]). وقد تنامت الأبحاث الحديثة حول هذه المسألة في الآونة الأخيرة. أما السؤال المتعلق بما إذا كان الفارابي قد قصد أن يجعل المنطق الأرسطي نحواً كليَّاً Universal grammar، فيبقى محل خلاف. لكن في كل الأحوال؛ فالظاهر أن الفارابي كان يحاول تَبْيِئَةَ منطق أرسطو داخل اللغة العربية، بشرح مصطلحاته الفنية في اللغة الفصيحة لعصره. ففي كل أعماله التمهيدية في المنطق؛ يشرح الفارابي كيفية انتقال الكلمات من استعمالها في لغة الحياة اليومية إلى استعمالها المصطلحي المطلوب في المنطق. وعلاوة على ذلك، فهو يقول: «فَنِسبة علم النحو إلى اللسان والألفاظ كَنِسبة علم المنطق إلى العقل والمعقولات»([36]). ومثال آخَر على تَبْيِئَةِ الفارابي للمنطق؛ هو شرحه لقياس المماثلة الذي يستخدمه فقهاء ومُتكلِّمو عصره بتوظيف منطق الخَطَابة الأرسطي([37]).

=

  ويمكننا إبراز أهمية منطق الفارابي بتوضيح نظريته في اليقين، ومستويات الاستدلال المختلفة في قيمتها في الوصول إلى اليقين العلمي، وشرح هذه المستويات بالنظر إلى اختلاف استعدادات الناس المعرفية. في المستوى الابتدائي، يُحدِّد الفارابي فعلَين للعقل: التصوُّر والتصديق([38]). يأتي التصوُّر للعقل عندما يدرك تصورات بسيطة يحاول تعريف ماهيَّتها. ويتعلق التصديق بتصورات مركَّبة (مثل المقدمات في القضية)، ويتعامل معها إما بالصدق أو الكذب. والتصديق التام هو الحكم العقلي الذي يُنتج يقيناً كاملاً، حول الشيء موضوع المعرفة وكذلك حول صدق معرفتنا عنه، وأنه لا يمكن أن يكون خلاف ذلك([39]). ونرى هنا مرة أخرى كيف يضم الفارابي الإبستيمولوجيا إلى الأنطولوجيا: فاليقين عنده يضمن لنا أن معرفتنا بشيء ما؛ هي هذا الشيء نفسه. وبالطبع فلا تؤدي كل أنواع التصورات والتصديقات إلى هذا النوع من اليقين، وهنا تؤدي نظرية السياق عند الفارابي دوراً مهماً([40]). يقسم الفارابي كتب الأورجانون وفق موضوعاتها. تنطبق كتب «المقولات» و«العبارة» و«القياس» (أو التحليلات الأولى Prior Analytics) على كل أنواع الخطاب. أما الكتب التالية التي تتعامل مع الأقيِسَة بترتيب هذه الكتب، فهي تغطي كل مجالات التصديق والتفسير اللفظي: القياس البرهاني (التحليلات الثانيةPosterior Analytics)، و«الجدلي» (أو الأمكنة المغلطة Topics) والخَطَابي rhetorical والسوفسطائي sophistic والشِّعري poetic. ومع الفارابي يتحول التصنيف الوصفي للمنطق، والموروث من التيار الأرسطي الجديد [لدى مدرسة الإسكندرية]، إلى حقيقة إبستيمولوجية: بمعنى أن هذه هي أنماط القياس التي يفكِّر بها العقل البشري([41]). وقد عمل الفارابي على ردِّ هذا التقسيم الإبستيمولوجي للمنطق إلى علم النفس، خاصة إلى قوَّتَي النفس العاقلة والمتخيِّلة، كما حوَّل هذا التقسيم إلى تصنيف أنطولوجي: إذ توازي موضوعات هذه الأنماط من التفكير تراتب الموجودات [في نظرية الفيض].

إن المنطق عند الفارابي هو المنهج الوحيد الذي يكمن تحت كل تقسيمات العلوم، والقياس البرهاني هو الوسيلة الوحيدة للوصول إلى «التصديق التام»، أو اليقين الكامل. أما أنواع القياس الأخرى، فهي تُدرِّب العقل على القياس البرهاني، أو تُشكِّل وسيلة للحماية من الخطأ؛ سواء في تفكير المرء مع ذاته أو مع الآخرين. يثير هذا التقييم العالي للبرهان سؤالاً هاماً: إذا كان الفلاسفة الكاملون هم الذين يستطيعون الوصول إلى الحق؛ فما حال باقي الناس الذين لا يستطيعون أو لا يرغبون في السير في «سبيل السعادة»؟ وهنا يستمر الفارابي في تَبْيِئَةِ المنطق الأرسطي في بيئته التوحيدية الإسلامية. [إذ يذهب إلى أن] الفلاسفة يستعملون القياس البرهاني، إذ يستقبلون مقدِّماته باعتبارها «معقولات ثواني» من العقل الفعَّال، في سياق الرحلة التي يتحصَّلون فيها على العقل المستفاد الإنساني؛ الذي هو السعادة القصوى للبشر. أما بالنسبة إلى الآخرين؛ فإن النبوة، في كلا وظيفتيها الدينية والاجتماعية، تُحوِّل الحقيقة البرهانية إلى تعبير خطابي يفهمه العامَّة.

في سياق هذه النظرية في الوظيفة الاجتماعية للفنون المنطقية ووصف الفارابي للمستويات المختلفة من الحقيقة (ومن الوجود بالتبعية)، التي تقدمها الأنواع المختلفة من القياس، نستطيع تفهُّم ما قدَّمه الباحثون على أنه فلسفته «السياسية». في أكثر أعمال الفارابي أصالةً؛ مارس فيها درجة عالية من الجمع التلفيقي [لتيارات فلسفية مختلفة]؛ أي: «مبادئ الموجودات» و«مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة»، يتبع الفارابي عرضه لنظريته في الكوزمولوجيا والسيكولوجيا بنقاش حول أنماط المجتمع المختلفة التي يعيش فيها البشر. وفي تقديمه لأشكال المجتمع المختلفة وأجزائها؛ يقدِّم الفارابي تدرُّجاً للمجتمع الإنساني، من الأكثر كمالاً، الذي يناظر المستوى الكوني الأعلى في تصوُّره الفيضي، إلى الأنقص، والذي تسوده الفوضى المادية والمناظر للمستوى الكوني الأدنى. لا يُخصِّص الفارابي مبحثاً للفلسفة السياسية في هذه المناقشات([42]). إنه بالأحرى يحاول معالجة كل مستويات الواقع الناتجة عن كل أشكال التفكير الصحيحة والخاطئة؛ أي: العوالم المختلفة الناتجة عن أنواع التفكير البرهاني والجدلي والخطابي والسوفسطائي والشِّعري. هناك معنيان لهذه المعالجة التي يقدِّمها الفارابي. أمَّا الأول، فأنه يتناول تعدُّديَّة العوالم البشرية وفق نسق فلسفي منظَّم. وأمَّا الثاني، فهو أن معالجته للأنظمة الاجتماعية المختلفة والمرتبة هيراركياً تعدُّ خَطَابيَّة في الأساس، هدفها إقناع الذين لا يطيقون تعلُّم الفلسفة: فالحقائق البرهانية الخاصة بالترتيب الحق للوجود؛ يقدِّمها الفارابي بطريقة مناسبة للعامَّة. لكن ما يسيطر على فلسفة الفارابي هو نزوعها النسقي الصارم؛ إذ يضع المجتمع الإنساني داخل النظام الكوني الشامل، ويقدم برنامجاً للتعليم الفلسفي يتشبَّه بنظام الكون، ويقدِّم الحقيقة المطلقة بأسلوب مجازي يمكن أن يفهمه من ليس بقادر أو مريد للسعي في الطريق الشاق للسعادة من خلال تطوير الفكر الصادق.

لقد قدَّم الفارابي أكثر فلسفة منضبِطة نسقياً من بين الأعمال الفلسفية العربية المبكِّرة، ولا تتشابه عبقريته مع النزعة التوليفية الراديكالية للرازي، ولا مع ألمعيَّة ابن سينا، لكنها تتمثل في إحياء التيارات الفكرية الكثيرة السابقة عليه، وفي تنظيمه النسقي الواعي لعناصر فلسفية كانت مُشتَّتة من قبله وتحويلها إلى مذهب فلسفي متَّسق ومتكامل، وفوق كل ذلك؛ في صياغته التفصيلية المستغرقة في التفكير [التأملية]، واللحوحة، في الوقت نفسه، على سبيل السعادة:

فإذا كان الإنسان جزءاً من العالم، و[إن] أردنا أن نقف منه على الغرض وعلى فعله ومنفعته ورتبته؛ فمن اللازم أن نعرف أولاً الغرض من كل العالم ليتبيَّن لنا الغرض من الإنسان، ويتبيَّن لنا أن الإنسان يلزم أن يكون جزءاً من العالم ضرورياً في أن يحصل بالغرض منه الغرض الأقصى من كل العالم. فلذلك يلزم -إن أردنا أن نعلم الشيء الذي له ينبغي أن نسعى- أن نعرف الغرض من الإنسان والكمال الإنساني الذي لأجله ينبغي أن نسعى([43]).

([1]) تحاول المعالجة القصيرة التي قدَّمتُها لحياته هنا تجنُّب التخييلات الأدبية التي لُصِقَت بسيرته، متَّبعاً في ذلك، D. Gutas, “Biography,” in Yarshater [78], 208–13

* اسمه كما أورده ابن أبي أصيبعة هو «أبو نصر محمَّد بن محمَّد بن أوزلغ بن طرخان»، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، شرح وتحقيق د. نزار رضا، دار مكتبة الحياة، بيروت، 1956، ص603

([2]) Ibid., 210b

([3]) Ibid., 212b

([4]) لترجمات إنجليزية لبعض أعمال الفارابي، انظر، Letter Concerning the Intellect,” inA. Hyman and James J.Walsh (eds.), Philosophy in the Middle Ages (Indianapolis: 1973), 215–21; M. Mahdi, Alfarabi’s Philosophy of Plato and Aristotle (Ithaca, N.Y.: 1969); F. Najjar, “Alfarabi: The Political Regime,” in Lerner and Mahdi [189], 31–57; Walzer [77]; Zimmermann [79].. أما لترجمات لأعماله الصغرى، فانظر هامش رقم 32

* يقصد المؤلِّف بهذا المصطلح؛ أعمال الفارابي الأخلاقية مثل «تحصيل السعادة» و«التنبيه على سبيل السعادة»، وهي أعمال إعدادية لدراسة الفلسفة، تهيِّئ المتعلم لهذه الدراسة بتوضيح أهمية الفضيلة العقلية وأهمية البحث الفلسفي في الوصول للسعادة العقلية والخير الأسمى وهو تعقُّل المعقولات الأزلية. وهو يميزها عن «الأخلاق الفلسفية» بالمعنى المذهبي، مثل كتاب أرسطو «الأخلاق إلى نيقوماخوس».

([5]) قمتُ هنا بتوظيف مصطلح مورو P. Moraux: vorphilosophische Sittlichkeit كما ناقشه غوتاس Gutas [76].

([6]) Gutas [76], 115–16

([7]) قمتُ بالتصرف في الترجمة المنشورة في Gutas [57].

[ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، شرح وتحقيق نزار رضا، دار مكتبة الحياة، بيروت (بدون تاريخ)، ص604 – 605. المترجم].

([8]) وبالتالي فإن ما يلي هو تلخيص لكتابه السياسة المدنية، إلا في استثناءات سوف أشير إليها.

[الفارابي، كتاب السياسة المدنية، الملقب بمبادئ الموجودات. حققه وقدم له وعلق عليه د. فوزي متري نجار. دار المشرق، بيروت. الطبعة الثانية 1993].

([9]) أدى حضور المذهب الفيضي في فكر الفارابي إلى جدل واسع بين الجيل الأقدم من الدارسين؛ انظر التحليلات المصحِّحة لهذا الجدل في Druart [74], Druart [75], andT.-A.Druart, “Metaphysics,” inYarshater [78], 216–19. إنني لا أقتنع على نحو تام بتفسير دروارت لحضور أو غياب نظرية الفيض في كل عمل للفارابي (ذلك التفسير الذي انحصر في إشكالية ولاء الفارابي أو عدم ولائه للأرسطية). وأرى أن التمييز في أعمال الفارابي بين تلك المخصَّصة للتعليم والتي يعرض فيها رؤية تاريخية عامة للفلسفة، والأخرى التي يعرض فيها مذهبه هو، والتي يعمل فيها على التوليف بين اتجاهات فلسفية قديمة؛ هو طريقة أفضل في البحث. ويبقى اهتمام دروارت بالتسلسل الزمني لنوعي الأعمال السابقة مفيداً للبحث.

* انظر الترجمة العربية القديمة، «كتاب بطليموس في الهيئة، المسمى بالاقتصاص»، منشور في Goldstein, Bernard R. “The Arabic Version of Ptolemy's Planetary Hypotheses.” Transactions of the American Philosophical Society, vol. 57, no. 4, 1967, pp. 3–55.

* الاعتدال الربيعي الخريفي هو وصول الليل والنهار إلى نسبة متساوية مرتين في العام، في 21 مارس و23 سبتمبر.

([10]) انظر معالجة موسعة للموضوع في، Davidson, H. A. Alfarabi, Avicenna, and Averroes on Intellect (Oxford: 1992).

([11]) انظر دراسات دروارت المذكورة في الهامش رقم 9

* عملت الأفلاطونية المحدثة على تفسير نظام تعدُّد الآلهة لدى اليونان بنظريتها في العقول المفارقة، إذ اعتبرت أن هذه العقول هي الآلهة لدى العامة وأديان اليونان القديمة، لكن في التراث الإسلامي تحولت الآلهة إلى ملائكة. ويذهب الفارابي إلى أن ما تدركه الفلسفة على أنها عقول مفارقة؛ يدركه الدين على أنه ملائكة. هذا التوازي بين العقول والملائكة هو من أهم عناصر منهج الفارابي في التوفيق بين الفلسفة والدين.

([12]) انظر في ذلك، Walzer [77], notes to part III, 3.

([13]) الفارابي، كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة. قدم له وعلق عليه د. ألبير نصري نادر. دار المشرق، بيروت، الطبعة الثامنة، 2002، ص44.

** هو منهج «الحد بالقسمة»، وهو منهج أدخله أفلاطون وطَوَّره أرسطو في استخراج تعريف للشيء، أو حدٍّ له، بتقسيم الأجناس والأنواع التي ينتمي إليها؛ فعلى سبيل المثال: الحيوان جنس، أنواعه العاقل وغير العاقل، والإنسان هو الحيوان العاقل، وصفة العقل هي الفصل الذي يفصله عن الحيوانات الأخرى. هكذا نصل لتعريف أو «حد» للإنسان بأنه حيوان عاقل باستنباط التعريف عن طريق القسمة، نكشف منه عن الجنس والنوع والفصل، لكن تشير مناقشة الفارابي لتعريف السبب الأول إلى أنه لا يستخدم هذا المنهج في استنباط الحدِّ بالقسمة؛ لأنه يعتمد على التقسيم إلى جنس ونوع وفصل، والسبب الأول لا ينتمي إلى هذه المقولات، بل هو خارجها بالمطلق. حول معالجة أرسطو لما سمَّاه «الحد بالقسمة» انظر، عبد الرحمن بدوي، منطق أرسطو، الجزء الثاني، ص448 (أ 97)، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1949

([14]) الفارابي، كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة، ص39

* أو عاقلة بالفعل كما في التعبير العربي.

** في حين أن التعقل الإنساني هو لمعقول مُخالط للمادة دوماً.

([15]) Druart, T.-A. “Al-Fārābī’s Causation of the Heavenly Bodies,” in Morewedge, P. (ed.) Islamic Philosophy and Mysticism (Delmar, NY: 1981).

[انظر أيضاً، Janos, Damien, Method, Structure, and Development in al-Fārābī’s Cosmology. (BRILL, 2012). المترجم].

* أي: إنَّ الهواء عندما يتكثف؛ يصير بخاراً، والبخار يتكثف فيصير ماءً، والماء يتجمد فيصير أرضاً، والهواء يتخلخل فيصير ناراً، وهكذا تتحول العناصر الأربعة إلى بعضها البعض؛ ما يدل على أنها «نوع» واحد.

** آثرتُ الاحتفاظَ بالتعريب الشهير لكلمة psychology لأنها هي التي استخدمها المؤلِّف، على الرغم من أنها تشير إلى علم النفس الحديث ولم تكن مستخدمة في التراث اليوناني أو الإسلامي؛ الكلمة الظاهرة في التراث الإسلامي هي «علم النفس».

*** أخطأ المؤلف عندما عرَّف أوَّل قوة بأنها «الشهوانية» appetitive؛ لأنها هي عند الفارابي القوة الغاذِيَة؛ المسؤولة عن التغذية. وقد ترجمت عبارته الخاطئة كما هي ولم أصحِّحْها في المتن وصحَّحْتُها هنا.

([16]) تختلف درجات التعقيد الوظيفي لكل قوة حسب تنوع عرض الفارابي لها في كل عمل له، وكلها يعتمد على علم التشريح عند جالينوس. لمعالجة أخرى انظر Alon, I. Al-Fārābī’s Philosophical Lexicon, 2 vols. (Warminster: 2002), vol. II, “Faculty”.

([17]) «التعقل» هو المصطلح العربي الذي يشير إلى فعل التفكير بالعقل، وهو مقابل to intellect الذي سوف يُستخدم في الكتاب كله للإشارة إلى مقابله العربي.

([18]) اعتمدتُ في المعالجة التالية على ديفيدسون: Davidson,H. A. Alfarabi, Avicenna, and Averroes on Intellect (Oxford: 1992), ch. 3

([19]) [الفارابي، كتاب السياسة المدنية، الملقب بمبادئ الموجودات. حققه وقدم له وعلق عليه د. فوزي متري نجار. دار المشرق، بيروت. الطبعة الثانية، 1993، ص32]. ركز العديد من الباحثين اهتمامهم على ما يمكن أن تعنيه هذه الفكرة تحديداً، خاصة في علاقتها بمسألة الخلود الإنساني، وما إذا كان الفارابي يقر بإمكان الاتصال بين العقل الإنساني والعقل الفعال. وقد ناقشوا هذه المسائل في ارتباطها بما قاله ابن باجة وابن رشد عن رأي الفارابي فيها، انظر، S. Pines, “The Limitations of Human Knowledge according to Al-Fārābī, Ibn Bajja, and Maimonides,” reprinted in The Collected Works of Shlomo Pines, vol. V, ed. W. Z. Harvey and M. Idel (Jerusalem: 1997), 404–31; and Davidson [208], 70–3

([20]) لمعرفة التاريخ السابق لهذه الفكرة في الشروح على كتاب «النفس» لأرسطو، انظر، Davidson [208], ch. 2. وتدَّعي دراسة حديثة أن الفارابي لم يقرأ كتاب «النفس» واقتصر على قراءة الشروحات عليه وطوَّر منها وحدها نظريته في العقل: M. Geoffrey, “La Tradition arabe du Peri nou d'Alexandre d'Aphrodise et les origines de la théorie farabienne des quatre degrés de l'intellect,” in Aristotele e Alessandro di Afrodisia nella tradizione araba, ed. C. D’Ancona and G. Serra (Padova: 2002), 191–231

[لا أتَّفقُ مع هذه الدراسة المذكورة في ذهابها إلى أن الفارابي لم يقرأ كتاب النفس لأرسطو. فالباحث جوفري أسس حجَّته الغريبة على واقعة قائمة بالفعل، لكنه استنتج منها استنتاجاً خاطئاً. هذه الواقعة هي أن كتاب النفس لأرسطو لا يتضمن تفصيلاً يخص طبيعة العقل الفعال وطبيعة علاقته بالعقل الإنساني، وكل ما نقرأه في هذا الخصوص في كتاب أرسطو هو مجرَّد عبارات سريعة مقتضبة للغاية وفي غاية الاختصار، وهذا ما دفع الشُّرَّاح بعد ذلك للإسهاب والتفصيل فيما تركه أرسطو غامضاً. إن خلوَّ كتاب أرسطو من النظرية المعقَّدة والتفصيلية في العقل الفعَّال وعلاقته بالعقل البشري التي نجدها لدى الشُّراح لا يعني أن الفارابي لم يقرأ كتاب أرسطو، وإن كان يعني أنه اعتمد في تأسيس نظريته الخاصة على هذه الشروح. المترجم].

([21]) الفارابي، السياسة المدنية، ص ص35 – 36

([22]) في مواضع أخرى يستخدم الفارابي مثال الختم والشمع، انظر في ذلك.A. Hyman, “The Letter Concerning the Intellect,” in A. Hyman and James J.Walsh (eds.), Philosophy in the Middle Ages (Indianapolis: 1973), 215–21

([23]) المعقولات الأولى بديهيات غير مبرهَن عليها لأنها واضحة بذاتها، أما المعقولات الثواني فهي قائمة على موضوعات الحواس لكن متخلصة من جانبها المادي.

([24]) De Anima, 430a20. انظر ديفيدسون، الذي يعتقد أن العقل الإنساني لا يتأثر أو يحدث له أي تحول من جراء عقله للمعقولات: Davidson,H. A. Alfarabi, Avicenna, and Averroes on Intellect, p. 19

([25]) “Philosophy of Aristotle,” in Mahdi, Alfarabi’s Philosophy of Plato and Aristotle, 76

[الفارابي، «فلسفة أرسطوطاليس، وأجزاء فلسفته، ومراتب أجزائها، والموضع الذي منه ابتدأ وإليه انتهى». حققه وقدم له وعلق عليه محسن مهدي، لجنة إحياء التراث الفلسفي العربي، دار مجلة شعر، بيروت، 1961، ص64].

([26]) أخصُّ بالذكر هنا، «رسالة في التنبيه على سبيل السعادة».

([27]) الفارابي، السياسة المدنية، ص74

([28]) المرجع السابق، ص78

([29]) لمعرفة الصيغ المختلفة التي يعبِّر بها الفارابي عن هذه القوة، انظر Alon, I.Al-Fārābī’s Philosophical Lexicon, vol. II, 604f.

([30]) Alon, vol. II, 606

* هذه الفقرة مُركَّزة للغاية على نحو أخل بمعناها وبمقصود المؤلِّف منها، لكنها تركيز شديد لنظرية الفارابي في إحصاء العلوم وفي نشأة العلوم لدى الأمم؛ والتي وضعها في كتابه «الحروف»، الباب الثاني «حدوث الألفاظ والفلسفة والملَّة». للمزيد حول هذا الموضوع؛ انظر دراستي: النشأة التاريخية للدين عند الفارابي وابن رشد. الفكر العربي المعاصر، العدد 166/ 167، شتاء 2015

([31]) وقد لوحظ أن للفارابي فضلاً كبيراً في النظر إلى المنطق على أنه أداة البحث الفلسفي الأساسية؛ ذلك لأن التراث السكندري السابق عليه كان يربط المنطق بالعلوم الطبية. انظر في ذلك: Gutas [57], 174.

([32]) ترجم دنلوب العديد من مؤلفات الفارابي في المنطق: D. M. Dunlop: “Al-Fārābī’s Introductory Sections on Logic,” Islamic Quarterly 2 (1955), 264–82; “Al-Fārābī’s Eisagoge,” Islamic Quarterly 3 (1956), 117–38; “Al-Fārābī’s IntroductoryRisalah on Logic,” Islamic Quarterly 3 (1956), 224–35; “Al-Fārābī’s Paraphrase of the Categories of Aristotle,” Islamic Quarterly 4–5 (1957), 168–97, 21–54. Fritz Zimmermann has translated al-Fārābī’s texts on Aristotle’s De Interpretatione, in Zimmermann [79].

([33]) تتبع معالجتي للخطوط العامة لمنطق الفارابي دراسة ديبورا بلاك: Black, “Logic,” in Yarshater, E. (ed.) “Al- Fārābī,” in Encyclopaedia Iranica (New York: 1999), vol. IX, fasc. 2, 208–29.

([34]) اتَّبع الفارابي في ذلك، بولس الفارسي: (see Gutas [56], 248) وسرجيوس الرأس عيني H. Gatje, “Die Gliederung der sprachlichen Zeichen nach Al-Fārābī,” Der Islam 47 (1971), 1–24. وكانت الأهمية التاريخية والفكرية لمعالجة الفارابي للعلاقة بين المنطق والنحو محل جدل حامٍ. وتلخص الدراسة التالية الرؤى المختلفة حول الموضوع بطريقة طريفة: P. E. Eskenasy, “Al-Fārābī’s Classification of the Parts of Speech,” Jerusalem Studies in Arabic and Islam 11 (1988), 55–82

([35]) من أجل ملخص لهذا النزاع ودلالته بالنسبة للفارابي؛ انظر Street, T.“Arabic Logic,” in J. Woods and D. Gabbay (eds.), Handbook of the History and Philosophy of Logic, vol. I: Greek, Arabic and Indian Logic (Amsterdam: 2004), 523–96

([36]) Introductory Treatise on Logic, translation from Street [182], 23

[الفارابي، «التوطئة»، في، رفيق العجم (تحقيق وتقديم وتعليق)، المنطق عند الفارابي. الجزء الأول، دار المشرق، بيروت 1985، ص55. المترجم].

([37]) See Lameer [175].

([38]) حول هذين المصطلحَين المشتقَّين من أرسطو Aristotle, De Anima, III.6، انظر، H. A.Wolfson, “The Terms Tasawwur and Tasdiq in Arabic Philosophy and their Greek, Latin and Hebrew Equivalents,” The Moslem World 33 (1943), 114–28, and “The Internal Senses in Latin, Arabic and Hebrew Philosophic Texts,” Harvard Theological Review 28 (1935), 69–133

([39]) See Black’s remarks at Yarshater [78], 214–15

([40]) Street [182], 23–4

([41]) Gutas [56], 257

([42]) حول سوء الفهم العالق بما يسمَّى فلسفة الفارابي السياسية؛ انظر D. Gutas, “The Study of Arabic Philosophy in the Twentieth Century,” British Journal of Middle Eastern Studies 29 (2002), 5–25, esp. 19–25

[الترجمة العربية: ديمتري غوتاس، «دراسة الفلسفة العربية في القرن العشرين. محاولة في إسطغرافية الفلسفة العربية»، ترجمة سعيد البوسكلاوي، الفكر العربي المعاصر، عدد 158 – 159، 2012، ص103 – 119. المترجم].

([43]) الفارابي، «فلسفة أرسطوطاليس»، مرجع سابق، ص ص68 – 69