الفلسفة من التمركز الإنساني إلى التمركز البيئي: أسس الفلسفة البيئية


فئة :  أبحاث محكمة

الفلسفة من التمركز الإنساني إلى التمركز البيئي:  أسس الفلسفة البيئية

الفلسفة من التمركز الإنساني إلى التمركز البيئي:

أسس الفلسفة البيئية

الملخص:

يهدف هذا البحث إلى رصد الأسس العلمية والفلسفية والتاريخية التي قامت عليها الفلسفة البيئية. شكل مفهوم البيئية بشكل خاص، وقضايا البيئة بشكل عام، القضية الأكبر والأبرز في الفترة المعاصرة، وهذا ليس فقط بالنسبة إلى مبحث الفلسفة، ولكن بالنسبة إلى جميع المباحث والميادين كالاقتصاد والسياسة والعلم والدين والأخلاق... غير أن الدراسة الفلسفية لهذه القضية المستجدة تسعى لتكوين نظرة سيروراتية لها؛ لأن الاهتمام بالبيئة وكل القضايا والمشكلات التي تطرحها شكلت محط نقاش فلسفي كبير خلال القرن 20، حاول من خلاله الفلاسفة نقد الأسس الفلسفة التي قامت عليها النزعة الذاتية التي ميزت لفترة الحديثة، وخاصة الأساسين الأخلاقي والمعرفي اللذين من خلالهما تم الترويج لفكر أن الإنسان هو من الناحية الأخلاقية الكائن الأهم في الكون، وأنه مركز كل معرفة بالعالم، وهو ما يعني أن النزعة البيئية في الفلسفة جاءت نقيضا للنزعة الذاتية؛ لأن النزعة البيئية تنظر إليه كجزء فقط من منظومة بيئية كبيرة. لهذا يسعى هذا العمل البحثي إلى رصد هذا التحول في الفلسفة من الفترة الحديثة إلى الفترة المعاصرة، باعتبار أن الفلسفة البيئية إحدى أبرز نتائج ذلك التحول. لهذا أوسمنا هذا التحول بأنه انتقال من التمركز الذاتي (الذي يحيل إلى الفلسفة الحديثة) إلى التمركز البيئي (الذي يشير إلى الفلسفة المعاصرة). ويرتكز هذا العمل في الأساس على منهجية تأصيلية تسعى لتحديد الأسباب والعوامل الذي أدت إلى حدوث ذلك التحول، والتي يمكن توزيعها على ثلاثة حقول معرفية أساسية مهدت لظهور النزعة البيئية، هي العلم والفلسفة والثقافة/الحضارة.

تقديم:

إن ما نقصده بالفلسفة البيئية في هذا العمل هو ذلك النمط من التفكير الذي أصبح يعتبر قضية البيئة هي قضيته الأولى، وقد يشير إلى الأعمال الفردية للفلاسفة والعلماء كما قد يشير إلى الوثائق الرسمية للمؤسسات حول البيئة مثل مؤسسة الأمم المتحدة. وسننطلق في هذا العمل من تسويغ فكرة أن فهم ظهور الفلسفة البيئية غير ممكن إلا عبر هدم المقولات التي تأسست عليها الفلسفة الحديثة بما هي قائمة على النزعة الذاتية. فإذا كان التمركز البيئي يبني أدبياته على فكرة أن الإنسان هو، فقط، جزء من منظومة بيئية شاملة تضم الملايين من الكائنات الحية في إطار ما يسمى في الدراسات البيئية بالتوازن الطبيعي، فإن هذه الفكرة لم تكن ممكنة إلا بعد هدم فكرة أن الإنسان هو مركز الكون كما كانت تعتبر الفلسفة الحديثة. وهكذا سيتضح لنا أن ظهور الفلسفة البيئية هو، من زاوية معينة، تحول في الفكر الفلسفي له أسبابه وعوامله التي أدت إليه، هي موضوع هذا العمل البحثي.

لقد ركز العمل الفلسفي في الفترة الحديثة على تحديد معالم الوعي والهوية الإنسانية، من أجل بيان تميز الإنسان مقارنة مع باقي الكائنات. لقد مثل كانط أوج النزعة الذاتية؛ لأنه أكبر فيلسوف حاول الولوج إلى أعماق الذات الإنسانية، فتطويره لمفهوم العقل الخالص وللمنهج الترنسندنتالي جعلاه يكون أول من يتم توجيه سهام النقد لهم عند نقد النزعة الذاتية؛ لأن فلسفته هي التي غذت بشكل كبير الثنائية التي قامت عليها النزعة الذاتية (ذات/موضوع- تجربة/عقل – فكر/واقع). لهذا، فالفلاسفة المعاصرون الذين رفضوا بشدة تلك الثنائية يتجهون إلى كانط وليس إلى ديكارت، مثل الفيلسوف الأمريكي جيمس الذي طور مفهوما مضادا تماما للعقل الخالص، وهو التجربة الخالصة التي يقصد بها البيئة كوسط تعيش فيه الكائنات بما فيها الإنسان.

في النظرية الأخلاقية، تم في الفترة الحديثة الترويج لفكرة أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمتلك الكرامة ويستحق الاحترام إذا ما تمت مقارنته مع باقي الكائنات؛ فكانط عبر عن هذا بشكل واضح في كتبه مثل نقد العقل العملي وتأسيس ميتافيزيقا الأخلاق. صحيح أن هذا الاعتبار الأخلاقي لكانط كانت له دواعيه التاريخية التي يمكن إرجاعها إلى أن كانط ومعظم الفلاسفة أصحاب النزعة الذاتية، قد سعوا إلى تحرير الإنسان من قبضة اللاهوت الكنيسي الذي يقدم الإنسان على أنه مجرد خطيئة وغير قادر[1]؛ وذلك من خلال القول بحرية الإنسان وقدرته على المبادرة والقيام بالسلوك الفاضل، إلا أن هذه النظرة أدت إلى نتائج لم يتقبلها الفلاسفة المعاصرين، أهمها النظرة الذرية للإنسان كأنه جزء مفكر ومعزول، فهو في نظر المعاصرين كائن تابع لسياق اجتماعي وطبيعي لا يمكن فصله عنه. لهذا، فالنظريات الأخلاقية المعاصرة قامت على الفكرة السياقية للإنسان؛ أي إنه يستمد القيم من بيئته وليس من ذاته.

أما في المجال العلمي، فقد قام العلم الطبيعي الحديث على فكرة المرجع الذي يشكل الأساس المتين للعلم ألا وهو الذات الإنسانية. فديكارت، باعتباره أب الفلسفة الحديثة، وضع قوام الفيزياء الحديث الذي يعتبر المعرفة بالذات هي أصل المعرفة بالعالم، غير أن فكرة ديكارت هذه قد جاءت في ظل سياق كبير اتجه لإعطاء الأهمية للذات في عمليات المعرفة. والمقصود هنا الثورة الكبرنيكية في علم الفلك (من مركزية الأرض إلى مركزية الشمس) التي بينت أن الراصد يلعب دورا حاسما في تحديد وتفسير حركات الكواكب. لهذا انكب علماء الفترة الحديثة إلى تبرير أهمية العلوم التجريدية في فهم قوانين الطبيعة، وإلى بيان أن هذه القوانين لا يمكن تمثلها إلا على شكل قوى وأشكال هندسية وأعداد، وهو ما حصل مع غاليلي ونيوتن وغيرهما، غير أن النظرة العلمية الحديثة للعالم القائمة على اعتبار الذات مركز العلم انتهت إلى النزعة الميكانيكية التي لا تكترث بالطبيعة، باعتبارها حياة. فالطبيعة حسب معظم علماء الفترة الحديثة هي علاقات ميكانيكية يمكن تفسيرها بالقوى، وهو ما يعني أن الطبيعة ميتة ولا تحس. وهذا ما لم يقبله العلم الطبيعي خلال القرن 19م؛ إذ حول دحض هذه النظرة الميكانيكية معوضا إياها بالنظرة العضوية للعالم، باعتباره خلية حيوية هائلة، وخاصة مع التطورية في إنجلترا والكيمياء والفيزياء وفلسفة-الطبيعة naturephiloophie في ألمانيا. وقد كان هذا التحول العلمي أحد أساس ظهور الفلسفة البيئية.

انطلاقا من هذا الاعتبارات، وإضافة إلى الأحداث التاريخية التي ميزت مطلق القرن 20 سنحاول رصد أسباب ظهور الفلسفة البيئية، باعتبارها فكرا ميز الفترة المعاصرة، خاصة وأن قضية البيئة الآن أصبحت هي قضية القضايا؛ لأنها تطرح على المحك الوجود البشري ووجود كل الكائنات على كوكب الأرض.

للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا

[1] يمكن النظر إلى الفلسفة الحديثة على أنها انخراط في نقاش الاستطاعة والجبر (الحرية والضرورة) الذي بدأ في اللاهوت الوسيطي، سواء في السياق المسيحي أو السياق الإسلامي. ومن المعلوم أن الكثير من اللاهوتيين من دعم فكرة أن الإنسان يختار أفعاله، غير أن هناك مدارس كبرى دعمت فكرة أن أفعال الإنسان مكتوبة ولا اختيار له فيها. ونظرا للنهايات المأزقية لهذا الموقف فيما يتعلق بمسألة السلوك والمسئولية، فقد ذب مجموعة من الفلاسفة في الفترة الحديثة مثل كانط إلى تبرير حرية الإنسان واختياره لأفعاله.