اللّباس في حمأة الصراع الاجتماعي


فئة :  مقالات

اللّباس في حمأة الصراع الاجتماعي

اللّباس في حمأة الصراع الاجتماعي[1]

تفتقر المكتبة العربية لدراسات وبحوثٌ في اللّباس، تتطرق لتاريخِه والموادِ التي يُصنع منها، وأنواعِه، وأوقات وضعه وخلعِه، والقيم والدلالات التي يعبر عنها.

صحيحٌ أن اللباس هو رمز لإنسانية الإنسان وعلامة على كرامته، فحين وضعَ الإنسانُ الأول على جسده أوراق الشجر تميّز عن الحيوان، وسلك طريقا مختلفا سيكونُ للرموز والطقوس فيه حضورٌ مركزيّ؛ فالحيوانُ يولد لابسًا "ثيابه" (صوف، قوقعة..). أما الإنسانُ، فقد وجدَ جسَدَه محتاجا ليصنع لباسه وأرديتَه.

ولكنّ اللباسَ لم يبق، في تاريخ الإنسان، مقتصرًا على هذه الوظيفة الأولى أيْ الحماية، لقد أضيفت إليه وظائفُ أخرى، كالإخفاء أو الستر والزينة، ووظيفة التعبير عن الانتماء.

لقد كان اللباسُ في البداية إعلانا عن الدّخول إلى حالة الثقافة (مقابل حالة الطبيعة..). لذلك، فهو رمزٌ للإنسانية. واللباسُ من هذه الجهة شبيهٌ باللغة، رغم أنه قد يكون أسبق منها، بل هو لغة بالمعنى السيميائي.

إنّ قِدَم ظاهرةِ اللباس واقترانَها بالإنسان وأهميته ليست موضعَ جدل أو خلافٍ، وقد وضّحت دراساتُ المؤرخين والأنثروبولوجيين وعلماءُ الاجتماع ذلك. ولكنَّ اللباسَ عبر تاريخ الإنسان عرف تنوعًا شديدا في أشكاله ومواده وكيفيات ارتدائه ومناسباتِ وضعه وخلعه وفي رمزياته. فصارَ بذلك موضوعًا متجدّدا، وظل راهنيّا في القلب من النقاش السياسي والثقافي والاقتصاديّ. ولذلك، فإنّه من المهمّ أنْ يتساءل المرءُ: ماذا ألبس؟ ولماذا؟ ومتى؟ ولماذا يلبس الآخرون على هذا النحو أو ذاك؟

وصار من المهمّ أيضًا في دراسة المجتمع وفهم الصراع الاجتماعيِّ أن يهتم الباحثُ باللباسِ، باعتباره أحدَ تجليات الأفكار والمشاعر والاختيارات الإيديولوجية، وأحدَ أهم التعبيراتِ الرمزية عن الموقف من الذات ومن الآخرين.

فإذا كان اللباسُ مدخلا لفهم تاريخ المجتمع وواقعه، فهو بالضرورة مدخلٌ مهمٌّ لفهم القوى والحركات الاجتماعيةِ ولفهم إيديولوجياتها ورؤاها للعالم وتمثلاتها لذاتها وللآخرين.

وبالإضافة إلى ارتباط اللباسِ الوثيق بعناصرَ مادية وفكرية أخرى كثيرة كالمواد التي منها يصنعُ (قماش، جلد، قطن...) ومفهوم الجمال وطبيعة المناخ والوضع الاقتصادي، فإنه شديدُ الارتباط برؤية المجتمع (الجماعة، الفرد) للجسد وموقفه منه وتعامله معه، انطلاقا من علاقة الجسد باللباس. فاللباسُ هو للجسدِ، والعريُ الكليّ استثناءٌ وليس ظاهرة إنسانية شائعة أو شاملة.

يقودنا إذن التفكيرُ في اللباس إلى ثنائيات مثل: الجسد واللباس، العري والإخفاء..

إن اللباسَ جسد ثان[2]. يخضعُ للجسد ويخضِعه. ولقد أشارت النصوصُ الدينية وتفسيراتها إلى قصة آدم وشجرة التوت. ففي سفر التكوين، نجد مثلا أن آدم وحواء أكلا من الشجرة المحرمة وحين انفتحت أعينُهم علِمَا أنهما عريانان فخاطا أوراق تينٍ وصنعا لأنفسهما مآزرَ. وفي القرآن الكريم نقرأ: "فأكلا منها فبدت سوأتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة".

لا شك في أن لهذه القصص أبعادًا رمزية؛ إذ تشيرُ إلى موضوع المعرفة، ولكنها قصصٌ مفيدةٌ في ما نحن بصددِه؛ لأنها تكشفُ عن تحول في وظيفة اللباس من حماية الجسد ووقايته من الطبيعة إلى وظيفة "ستر العورة"، وهي وظيفة لا معنى لها إلاّ باستحضار الرؤية الأخلاقية في الموقف من الجسد الذي اعتبرت بعضُ مواطنه مجالا حميميا لا يجبُ كشفه أو انتهاكه.

على هذا النحو كان ارتبط اللباس بالأخلاق والقيم موضوعًا قديمًا، وكانت اختياراتُ الملابسِ والأردية مادةً وشكلاً ووقتًا ليس تحقيقا للوظيفة الأولى الأصلية وهي الحماية، وإنما أيضًا لتحقيق وظائف جديدة وإشباع حاجات طارئة وفق منظومات رمزية كالأخلاق والدينِ والاقتصاد...

إن وظيفة الحماية أو الوقاية تختلف في رأينا عن وظيفة الإخفاء. فإذا كانتْ الأولى وظيفة أولية أو أصليةً من درجة صفر، إن صحت العبارة؛ أيْ إنها تكتفي بالدلالة على الحالة الإنسانية، فإن الثانية وظيفة علامية مركبة أو متجاوزة للدرجة الصفر معبرة عن معان ثوان علامية جديدة.

في هذه الحالة، تصبح الألبسة علاماتٍ سيميائية مركبة ومعقدة دالة على معنى "الهوية الجديدة" التي تضاف إلى الهوية الإنسانية الأصلية؛ أي على الجنس أو المهنة أو الطبقة أو الجماعة الثقافية أو المؤسسة أو الدين أو العصر ... إلخ.

يمكن أنْ نستحضر على سبيل المثال أزياءَ الأطباء والقضاة وملابس الفقراء وزي رجل الدين وأزياء جهة جغرافية ما أو الزيّ الخاص بشعب من الشعوب والأزياء الرسمية واليومية، والملابس الداخلية والخارجية، والرجالية والنسائية والشتوية والصيفية والأزياء التراثية أو التقليدية والعصرية والحديثة إلى غير ذلك من التصنيفات والتنويعات... المشبعة دالة ورمزية.

هكذا إذنْ، يصبح اللباسُ نصّا دالاًّ على وضعٍ أو هوية أو على موقفٍ أو إحساسٍ وحاجة، وليس فقط على وظيفة حماية الجسد ووقايته من الحرّ والبرد...

ولمّا صارت الأزياءُ نصوصًا حاملة لأكثر من رسالة احتاجت بالضرورة إلى قارئ يفهمُ محتوى الرسالة. ومثلما يحسنُ القارئُ قراءة الرسالة قد يسيءُ الفهم والتأويلَ..

وإنّ قراءة نصّ الزيّ لا تكون في حضوره فحسبُ، بل أيضا في غيابِه. فالتعري سواء كان جزئيّا أو كليّا دالٌ هو الآخرُ على تمثل مخصوصٍ للباس وعلى موقف من الجسد ومن الذات والعالمِ.

قد يكونُ التعريّ انتصارًا للجسد وسماحا له بفسحة أكبر من الحرية أو العودة إلى الحالة الطبيعية على حساب المصنوع الثقافي. وقد يكون من اشتراطات اللقاءات الحميمية أو في وضع العزلة، وقد يكون تعبيرًا عن التجرد من الدنيا والزهد فيها، أو ضرورة يفرضها المقامُ (في البحر، عند الطبيب ...) أو بسبب فقر أو علامة على الاحتجاج (الحركة النسوية ...)

غير أنّ تشبيه اللباس بالجسِد أو باللغة، لا يعني تطابقهما كليّا؛ فهي وإن اشتركت كلها في كونها أنظمة سيميائية تواصلية، إلاّ أنّ لكل نظام خصوصيتَه المتأتية من طبيعة عناصره وكيفية انعقاد العلاقاتِ بينها. ولذلك، فإنّ قراءة اللباسِ تحتاج إلى مهارات وأدواتٍ ليست هي ذاتُها ما يحتاجه قارئُ النّصوص اللغوية أو الرسوم أو الصور الفوتوغرافية...ولكن ذلك لا ينفي وجود مظاهرَ تشابه من ذلك إنّ قراءة اللباس، كقراءة الجملة في اللغة، نوعان: قراءة سطحية حرفية، وأخرى حافة وتأويلية.

تقف القراءةُ الأولى عند المعنى الأوّلي والمباشر، وتغوصُ الثانية بحثًا في المعاني المختفية والمتوارية. ولذلك، اعتبرنا من المهم جدّا في فهم قوى المجتمع وحركاته وديناميكيته، وما ينشأ بين فئاته وطبقاتِه من صراع أنْ نهتمّ باللباس الذي تحمله الأجسادُ خاصة في الفضاءِ العام.

فالوصولُ إلى فهم الجسد (الذي هو في آن عقل وروحٌ ...) يمرّ بالضرورة بما يحجبُه عنّا؛ أي باللباسِ الذي يوضع عليه. فأنْ يختار شخصٌ مَا قميصًا أبيض طويلا فضفاضا في الفضاء العام ليس كمن يختار أنْ يرتدي الدجينز الأزرق، ومن يضع المظلة المصنوعة من سعف النخيل ليس كمن اختار أن يضع "الطاقية"، وأن ترتدي امرأة ثيابا تكشف عن كتفيها أو نهديْها ليس كمن تضعُ ثيابا تغطي كلّ جسمها (النقاب..)

إنّ اختيارَ الملابس والأزياء إذنْ يخضعُ إلى رؤى جمالية وثقافية وإلى قناعات دينية ومواقف سياسية قد تكون صارمة وقد تكون مرنة. فالأزياءُ النظامية (زيّ الشرطة، الجيش، والأطباء الجراحون، بعض الفرق الدينية ..) عادةً ما تكون صارمة، فلا يسمح للأجساد أنْ تلبسَ كما تشاء وقت ما تشاء. ولا يعتبرُ الالتزام بالزيّ الموحد علامة انتماء أو هوية فحسبُ، بل علامة امتثال وانضباط، وكلّ مخالفة لذلك تترتبُ عنها عقوباتٌ.

كذلك يبدو الأمرُ عند بعض الفرقِ والحركاتِ أو التيارات الدينية التي تعبّر عن هويتها المتميزة بلباسٍ خاص، وتمنع المنتمين إليها من الاختيار ومن التنوع.

ففي حين نرى أنّ بعض المؤسسات أو الجماعات تتساهل في موضوع وحدة الزيّ وتبدي موقفا مرنًا (العائلة، المدرسة، الأحزاب المدنية...)، تبدو الحركات العقائدية، والتي تبشر بمشروع مجتمعيّ جديد كلّيا، متشددة في اختيار اللباس، تفرض على المنتمين إليها ضربا من الأزياء، شكلا ولونا، لاعتبارات تزعم أنها دينية.

وبسبب هذا الالتزامِ وبفعل التكرارِ في الزمن، يتحوّلُ هذا اللباسُ إلى علامة مميّزة توحّدُ وتميّزُ، فتهدّدُ التنوع لأنها تصنف المختلفَ ضمن دائرة المخالف أو المكروه والمحرم الذي يجب رفضه ومقاومته، والحال أنه غير مكروه ولا محرم في تفسيرات أخرى لنفس المنطلق أو السند الشرعيّ.

إنّ الفرقَ والجماعات الدينية العقائدية لا تهتمّ باللباس التقليدي والتراثي المحليِّ، وما يرتديه الناسُ عامّة وتدعو إلى آخر، في كثير من التضييق، بدعوى أنّ هذا الصنفَ من اللباس على هذه الهيئة هُوَ "اللباسُ الشرعي" الذي يجبُ الالتزام به. ومكمن الخطورة في هذه الظاهرة ليس في اللباس في حدّ ذاته، بل في تحوّله إلى علامة على هوية إيديولوجية وسياسية تقوم على التصنيف.

إن الهيئة اللبسيّة عند المتشددين أقربَ إلى الثبات، رغم أنّ الذوقَ العام والمناخ والمناسبة وعمر الشخص وجنسه، كل ذلك من مكيّفات الأزياء والملابس ومن العوامل المحددة في اختيارها. ولذلك، كان اللباسُ كما ذكرنا سابقا أحدَ التمظهرات السياسية في الفضاء العام لهذه القوى والاتجاهات الدينية اليوم، والتي انطلاقا من مبررات إيديولوجية وتأويلات للتجربة التاريخية وللنصّ الديني، اختارت هيئات في اللباس تُميّز المنتمين إليها من غيرهم.

إنَّ اللباسَ الذي اختارته هذه الحركات للمنتمين إليها من الرجال والنساء والأطفال يعدّ في رأيها "اللباس الشرعي" الذي يسترُ العورة ويخفي تفاصيلَ الجسد وتعرجاته ويمنعُ إثارة الشهوة. وبالتالي، فهو لباس محكومٌ بالأساسِ بهذه الفكرة أو المبدأ؛ أي مبدأ ستر العورة ومنع الفتنة.

فالجسدُ أو لنقلْ: إنّ تمثلاً معينا للجسد هو الذي يتحكّمُ في اختيار هذه الهيئة، سواء من حيث المادة أو الحجمِ أو الشكل واللّون.

والعورةُ، كما هو معلوم، لغةً: الخللُ والنقصان. وعوراءُ؛ بمعنى قبيحة. والعورة هي ما يُستقبح كشفُه وإبرازُه كالأعضاء التناسلية، ولذلك يُطلب سترُها.

ولقد أجمع أغلبُ الفقهاء في التاريخ الإسلامي على أنَّ عورة الرجل من الركبة إلى السرة. أما المرأة، فاعتبرت عورتُها جميع جسدِها إلاّ الوجه والكفين.

وبناءً على هذا الفهم أو التأويل، والذي هو محلُّ نقاشٍ وجدل في كثير من الدراسات الحديثة، صار ارتداءُ ما يُخفي هذه الأجزاء المحدّدة هو "اللباس الشرعي". وكلُّ زيٍّ لا يُغطي هذه المساحة ولا يخفي تفاصيلها هو من المكروه أو المحرّم.

وعليه وقع التفريق بين لباس شرعيٍّ وألبسة أخرى غير شرعية مخالفة للدين وللسّنة، وهو ما يدفع المنتمين إلى هذه الجماعات المتشددة إلى نشر وتعميم هذا "اللباس الشرعي" على أفراد المجتمع، لا فرقَ في ذلك بين هذه الدعوة وممارسات أخرى في كيفيات التعبّد أو في الحياة اليومية فرحا وترحًا.

لقد صار اللباس بسبب اندراجه ضمن هذه الرؤية المتشددة هيئة واحدة وموحدة مثل زيّ المؤسسات النظامية أو عمال المصانع، وهو ما يمثّل تحدّيا اجتماعيّا وأخلاقيا لفكرة التنوع وحق الاختلاف؛ لأن الأصل في اللباس هو الحرية والتنوع؛ ولأنّ كل محاولة لفرض هيئة متماثلة وواحدة يفضي إلى تنميط السلوك وإفراغ المجتمع من عوامل حيويته وأسباب تقدّمه..

يترتب على هذا الالتزام فقدان المنتمين والمريدين حرية اختيار كسائهم أولا. وتحويل الفضاء العام، ثانيا، إلى ساحة صراع حول نوع اللباس وشكله، مثلمَا هو ساحة نقاشٍ وصراع حول اختيارات وأطروحات أخرى في مجال التربية والتعليم والاقتصاد وكيفية إدارة الشأن العام..

بالزيّ إذنْ تتميّز بعض الجماعات من غيرها، فيصبحُ وسيلة تتعرّفُ من خلالها على نفسها ووسيلة يتعرّف من خلالها الآخرون عليها.

وانطلاقا من مقارناتٍ بسيطة بين لباس بعض الجماعات المتدينة (الإسلامية وغير الإسلامية) ولباس الناس عامّة سواء التقليدي أو الحديث، يمكنُ أنْ نتبيّنَ فروقاتٍ كثيرةً تطرح على الباحث عددا من الأسئلة، عن سبب الاختيار ودلالاته، وعن مفاهيم يبدو أنها ضبابية وغير دقيقة مثل الأصالة والشرعية والعصرية لذلك هي تحتاج إلى إعادة رسم وتدقيق. فما يعدّ اليوم من الألبسة شرعيا في الفضاء العمومي ليس بالضرورة هو التقليديّ أو الأصيل. وبالمقابل ليس كل جديد وعصري هو بالضرورة مخالف لضوابط الشّرع. ومن الألبسة التي تعدّ شرعية ألبسة تبدو غريبة عن تقاليد المجتمع ومقتضيات العصر.

ولذلك، فإنّ كل لباسٍ يحتاج في رأينا إلى أنْ يُنظر إليه من جهتين: من جهة ما يقولُ أو يقصِدُ هو أن يقولَ، ومن جهة ما يَقرأُ فيه الآخرُ أو المتلقّي.

وبالتالي، فإنّ ما يضفيه مثلا المتديّنون على لباسهم من معاني ودلالات أهمّها "الشرعية الدينية" لا يعني ضرورة أنّ الأمر كذلك من منظور آخرٍ.

إنّ الشرعية كما هو معلومٌ لا تعني "القانونية" بالمعنى السياسي والمدني الوضعي (العلوم السياسية والقانونية...) بل هي نسبة إلى الشّرع وإلى الشريعة. وعلى الرغم من أنّ المسلمين بين مضيّق للشريعة وموسّع، فإنّهم مجمعون على مبادئ كلّية في الحكم على هيئة لبسية معينة بأنها شرعية أو غير شرعية.

والناظر في نصّ القرآن يلاحظ أيضًا أنّ الأحكامَ المتعلقة باللباس والزينة قليلة وعامة، أهمّها:

1- أنّ الأصل في الأشياء هو الإباحة،

2- الطهارة،

3- مبدأ ستر الأعضاء التناسلية..

ولعلّ عودة سريعة إلى ما تعلق بمسألة الحجاب من نقاشات قديما وحديثا تثبت أهمية الوعي بسياقات التشريع والأحكام والفرق بين الشمولي والخاص، والمطلق والظرفيّ.

ونحن إذا ما نظرنا إلى اللباس في كتب السيرة وفي المدونة الفقهية، لاحظنا توسّعا وتفصيلا في الموضوع نشأ عنه ما اصطلح عليه: "فقه اللباس"؛ أي مجموع الأحكام التي تتعلق باللباس في أوقات الصلاة وخارجها وفي الفضاء العمومي والفضاء الخاص، وبأنواع الألبسة والمواد التي تُصنع منها ومتانتها وشفافيتها، وأحكام التشبه في اللباس وصبغها والتزين بالحليّ إلى غير ذلك من القضايا والمسائل الأخرى.

والغالبُ على هذه المدوناتِ، التشدّدُ خاصة فيما يتعلق بلباس المرأة بسببِ أنّ الأحكام قامت على موقف يعتبر جسدها كله عورة باستثناء الوجه والكفيّن.

ومن سمات هذه المدونات نزوعها إلى توحيد الألبسة في علاقة بفكرة وحدة "الأمة"؛ فوحدة اللباس مظهر ودليل على وحدة الأمة. (كوحدة الراية والعملة ..)

إذن، وبسبب ارتباط اللباس بالأخلاق وبتمثل مخصوص للجسد، وبسبب تحوله إلى علامة هووية تمييزية (انظر مثلا لباس الذمّي في الفضاء الإسلامي، وما اشترطه الفقهاء على المختلفين مذهبا أو عقيدة ..) ظل إلى اليوم أحدَ مواضيع الصراع وأحد مجالاته، بين القوى والتيارات الدينية وفئات واسعة من المجتمع السياسي والمدني.

ولقد أشارت تقاريرُ صحافية حديثة كثيرة انجزت حول المناطق التي بسطت فيها هذه بعض التيارات المتشددة نفوذها، أشارت إلى الصراع حول اللباس وإلى حجم رهان هذه الجماعات على رموز التدين وأشكاله.

ومثلما يستند دعاةُ "اللباس الشّرعي" إلى النص ومدونة الفقه يحتجون بحجج أخرى من قبيل أنّ الحجاب مانع للتحرش؛ لأنه "ساتر للبدن"، وبالتالي فهو يحولُ دون وقوع الفتنة التي سببها الإغراء، غير أنّ خصومهم يرون خلاف ذلك، فالدراساتُ النفسية والاجتماعية أثبتت أيضا أن التحرش ليس مردّه الأساسيّ اللباس العصري أو الجديد، أضف إلى ذلك أنه ليس سلوكا رجاليا فحسب.

وممّا يؤكدُ ارتباط اللباس بمفهوم العورة النقاشُ الذي يجري اليوم حول "المايوه الإسلامي" أو "البيكني". فسياقُ الاستحمام والاصطياف (الحرّ، البحر، التنزه ..) يبدو أنه لم يقدرْ على أن يكيّف اللباسَ ويحدّد ملامحَه، فظلّ المعيارُ الأكثر حضورًا في مناقشة موضوع لباسِ السباحة هو مفهوم العورة أيضا. ولذلك، رغم الرقبة العاليةِ والأكمامِ الطويلة للبيكيني إلاّ أنّ كثيرا من الفقهاء والمتشددين اعتبروه غير شرعي بسبب أنه إذا ابتل، كما قالوا، بالماء التصقَ بالجسم وكشف "العورة"، بلْ منهم منْ حرّم سباحة النساء.

إنّ اللباسَ مثل كلّ الطقوس والشعائر والرموز ظاهرةٌ ثقافية واجتماعية، رغم عناصر الصمود فيها إلاّ أنها معرّضة للتغيّر بسبب ارتباطها باعتبارات المكانِ والزمان وبالتطورات العلمية والتحولات في الوعي وفي أدوات الفهم وآليات التفسير.

وعلى الرغم من عمليات "المقاومة" التي تكون عادة مدعومة، بشكل أو بآخر، من قبل المؤسساتِ الدينية والسياسية، إلاّ أنّ واقع اللباسِ اليوم يؤكد أنه ينزعُ إلى التنوعِ وإلى التغيّر السريع، وأن اختياراتِ الناس لما يرتدون ليست رهينة عامل واحدٍ، سواء كان المناخ أو التأويل الديني أو الوضع المادي.. وإنما هي واقعةٌ تحتَ تأثيرات الحاجة أيضا وفعل التثاقف والإعلام والتطورات العلمية السريعة ومقتضيات العمل.

ومن الأدلة على هذه المرونة ما نلاحظُ من "خلط" مثير للحيرة، أحيانا، في لباس المتدينين أنفسهم؛ إذ يضعون سترة جلدية على قميص طويل وينتعلون حذاء رياضيا من موديل عصري، وهي تركيبة أو هيئة في اللباس لم تكن لتثيرَ أي ملاحظة إذا لم يكن صاحبُها من الداعين إلى "اللباس الشرعي".

وبغضّ النظر عن كل دعوى، فإنّ الهيئاتِ اللبسية دليلٌ على أن اللباس محكوم بالعصر وبالتثاقف وبشعور اللابس بأنه سعيد في ما يلبس.

إنّ منظومة اللباس كانت ولا تزال في حمأة الصراع الثقافي بين الشعوب والتنافس على السلطة بين القوى والتيارات المختلفة. ولذلك كانت ولا تزال موضوع نقاش ومجال فرض وإكراه بمبررات شتّى أخلاقية ودينية وسياسية، وهو ما يتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان.

وإذا كانَ من الطبيعيّ أنْ تشكل الشعوبُ والجماعات عبر تاريخها طرزَها الخاصة في اللباس مظهرًا من مظاهر خصوصيتها الثقافية، فإنّ ما يميّز رؤية المتشددين في أية ثقافة من الثقافات هو ارتهانهم في الموقف من اللباس إلى نموذج تاريخيّ كثيرا ما يتعارض مع المناخ أو مع عادات شعوبهم ومقتضيات عصرهم.

والذي يميز الموقف المتشدد ارتهانهم إلى موقف حسّي شهوانيّ من الجسدِ يراه موطنا للشهوة وللإغراء أي للشرّ، ولذلك وجب اخفاؤه ومنعُ النظر إليه. والحقيقة إنّ وجودَ الشرّ في الوعي والثقافة وليست في الجسد.

وبعيدًا عن المناقشات الفلسفية في كيفية التوفيق بين الإرادة الإلهية الخيرة من جهة ووجود الشرّ من جهة ثانية، فإن اعتبار الجسدِ موطنَ الشرور هو أحدُ مظاهر التفكير القديم والوسيط الذي تشكلت ضمنه أحكام ومواقف يرى البعض أنها "اسلامية" ترى الجسد سببا في الخطيئة ورمزا للفتنة، وهو ما انعكس على الموقف من اللباس مادةً وشكلاً وحجمًا ولونا، والحقيقة إنّ اعتبار الجسدِ بؤرة شرورٍ ورذائلَ ليس أمرًا خاصا بالمسلمين، بل هو شائعٌ في ثقافاتٍ ومجتمعات كثيرة تدين بالمسيحية أو اليهودية أو بعقائد وفلسفات وضعية، بما أنها ثقافاتٌ ثنوية تقيم تناقضًا صارخًا بين الجسد والروح، وبين الحسّ والعقل..

إن "اللباس الدينيّ" اليومَ موضوع نقاش وصراع عالمي بين التيارات والأيديولوجيات العلمانية والمدنية من جهة والدينية والمتدينة من جهة أخرى، وهو موضوعُ تفكير في الدراسات السوسيولوجية والأنثروبولوجية والسياسية لارتباط اللباس كما ذكرنا بمفهوم الهوية والسلطة والجمال والحق. ولقد وضحت إيليزابت كيهنس Elizabeth Kuhns في دراستها [3] علاقة اللباس الدينيّ بالجنس والهوية وبمَا يعْقدُ عليه لابسُوه من وظائفَ، وبيّنت كيفَ أنه موضوعٌ جداليٌّ بيْن منْ يعتبره رمزًا للقهر ومن يعتبره رمزا للكرامة والجمالِ.

ختامًا إذا كان التنوعُ والتعدد هو الأصل، وإذا كانت الحرية غاية الوجود وإذا كانت العلمنة شرط المساواة والعدالة، فكيف يمكن، وإلى أي حدّ يكون من المشروع قانونا وأخلاقا منعُ الناس من ارتداء ما يرونه مناسبا لهم ولائقا بهم؟ وإلى أي حدّ يكون من المشروع أن تتميّز جماعة بزيّ يميزها من سائر أفراد مجتمعها، وتراه كافيا للحكم على من لا يرتديه بأنه في طريق الضلال؟؟

[1]- ذوات العدد46

[2]- توفيق قريرة: اللباس جسدا ثانيا. 17 أكتوبر 2017

http://www.alquds.co.uk/?p=809720

[3]- Elizabeth Kuhns, The Habit: A History of the Clothing of Catholic Nuns, Doubleday 2003