الماركيز دو ساد وإنعاش أهواء العنف


فئة :  مقالات

الماركيز دو ساد وإنعاش أهواء العنف

مثّل الماركيز "دو ساد" مرحلة متقدّمة من مراحل تمثيل أهواء العنف في الآداب السردية فاقت ما سبقته من تمثيلات وقفتْ عليه، باعتباره سلوكا عارضا تقتضيه أعراف الكتابة، ومواقف الشخصيات، والحبكات السردية. أما هو، فاقترح مدخلا جعل فيه انعاش المتعة الجنسية مرتبطا بالإمعان في ممارسة العنف، وبه ولج عالم الكتابة السردية، فأمست الكتابة عنده محفلا للأهواء التي تحفّز المرء لإلحاق الأذى بسواه من غير شعور بالرأفة، فكأنّ الحافز لممارسة العنف رغبة بهيمية في الإذلال يقع الاستمتاع بها كلّما أسرف بها صاحبها ضد غيره، فلفتت الانتباه إليه، وسرعان ما أصبحت نزعته العدوانية موضوعا لعلم النفس، واقترنت باسمه، وفحواها الإثارة وما يتصل بها من استمتاع جنسي يبعثه العنف. وقد عدّ فرويد السادية ونقيضتها المازوخية ضروبا من الانحراف الجنسي؛ فالساديون "لا يعرفون من لذّة سوى إنزال الألم والعذاب بموضوعهم بدءا من الإذلال البسيط وانتهاء بالأضرار الجسمانية الفادحة". أما المازوخيون، فلا "لذّة لهم إلا في أن ينالهم من الموضوع المحبوب شتّى صنوف الإذلال، وضروب التعذيب، سواء أفي شكل رمزي أو واقعي"، ثم عاد فرويد وأوضح الأمر بطريقة أوفى فيما يخص الاستمتاع بإرسال الأذى أو استقباله، وربط ذلك بالذكورة والأنوثة. فالسادية قرينة الإشباع الجنسي "المرتهن بتألّم الموضوع الجنسي" فيما تقترن المازوخية بالإشباع المرهون "بألم الشخص نفسه، وترضّخه، وعذابه". ورجّح أنّ "السادية ذات ارتباط وثيق بالذكورة، وأن المازوخية مرتبطة بالأنوثة". وأيّد "إريك فروم" ما رجّحه فرويد من أن الانحراف السادي موجود بين الرجال، فيما يكون للمازوخي حضور بين النساء.

أصبحت نزعة الماركيز "دو ساد" العدوانية موضوعا لعلم النفس، واقترنت باسمه، وفحواها الإثارة وما يتصل بها من استمتاع جنسي يبعثه العنف

تعارض السادية الجنسية نقيضتها المازوخية الجنسية من ناحية المظهر لكنهما تؤدّيان، عند المصابين بهما، الوظيفة ذاتها من ناحية الجوهر، وهي الإثارة، والاستمتاع، والانتشاء، وأخذ دو ساد بالوجه الأول من ذلك الانحراف، وجعله ركيزة أساسية من ركائز أعماله الأدبية، وقد أصاب "جورج بتاي" في كشف جذر العنف في شخصية دو ساد، الجذر الذي أثمر في سلوك شخصيات رواياته "بعزله لنفسه عن بقيّة البشر، لم يكن لدى ساد، طيلة عمره المديد، سوى انشغال واحد، ظلّ مرتبطا به لسوء الحظّ؛ أي الانشغال حتى الانهماك بحساب إمكانيات تحطيم الكائنات الإنسانية، تدميرها، والتمتّع بفكرة موتها وعذابها"؛ فلا عجب أن صرّح "موريس بلانشو" في إحدى شذراته بأنّ ساد "لا يُحَبُّ ولا يُطاق".

اعتاد الماركيز دوساد على ممارسة العنف، وبالغ فيه، وجعله موضوعا لمؤلّفاته، وقد عوقب؛ لأنه اشتطّ في ذلك متّبعا شتى الطرق التي ألحقت ضررا جسديا ونفسيا بضحاياه، فلم يرفق بهم، بل كان يلتذّ بما يؤديه العنف من أذى لهم، وثبت جرمه باعتباره مجبولا على العنف ضد الآخرين، فأمضى طرفا طويلا من عمره رهين الاعتقال في السجون، وتوفي في إحدى المصحّات التي أودع فيها للحيلولة دون مزيد من العنف الذي ولغ فيه، وتبع ذلك أن حُظرت معظم مؤلّفاته مدة طويلة؛ لأنها جعلت من العنف وسيلة للاستمتاع، وتعبيرا عن الأهواء الشاذة التي لا تخطر على بال الأسوياء من البشر، ومنح اسمه لسلوك غريب تستجلب فيه اللذة من تعذيب الآخرين، وهي "الساديّة" التي تخطّت موضوع الأدب، وأصبحت جزءا مهما من عالم النفس، وما عادت سلوكا فرديا يأخذ به أفراد مرضى يبحثون عن متعهم في تعذيب الآخرين، بل سلوكا جمعيا تلوذ به الجماعات الدينية أو القومية أو المذهبية أو القبلية أو السياسية لإلحاق أضرار بالغة بالآخرين، ويحتمل أن تنتهي بإبادتهم. كانت علاقة دو ساد مرتبكة بالعالم المحيط به، فارتاب به، واستخلص متعته من شطط العنف الذي سلّطه على الآخرين، وترجّح المصادر أنه جعل من مؤلّفاته في التمرّس بالعنف نظيرا لما كان يقوم به في حياته الشخصية مع ما يترتب على الأمر من تكييف، وتغيير، يطابق فيه أو يخالف أفعاله الحقيقية.

اخترت رواية "جوستين" للماركيز دو ساد مثالا للكيفية التي انخرط فيها السرد في تمثيل طرائق شديدة الغرابة من ضروب العنف الذي لا ينفك يشتدّ بزيادة المتعة التي يبعثها في نفس المُعنِّف من غير اهتمام بحال المُعنَّف، ولم تكن مزاولته معزولة عن فرضية ترى فيه هوى طبيعيا في نفس الإنسان، ولذلك "عامت أحداث الرواية على ضروب من المتعة المدمّرة كان الألم مادّة لها، وهي رواية أفكار تقوم على عرض مبادئ الأهواء والرذائل، وأثرها في محو الفضائل والإجهاز عليها" وفيها رُسمت "الهوّة العميقة بين ذات إنسانيّة بريئة، وعالم كامل مملوء برجال همج يبرّرون انغماسهم بالأهواء على أنّه من سُنن الطبيعة".

قامت أحداث رواية جوستين- التي نُشرت في عام 1799م، وكان الماركيز قد كتبها في سجن الباستيل، حيث كان معتقلا قبل الثورة الفرنسية- على افتراض غريزي يقول بالتعارض بين الفضائل والرذائل، ورفعته إلى مستوى التناقض العقلي المطلق الذي لا سبيل لتسويته في الحياة البشرية، وجعلته حافزا دفع إلى اختلاق أحداث تقشعرّ لها الأبدان، وفيها كلها تنتصر الرذائل الخشنة على الفضائل الناعمة، في متوالية لا تكاد تنتهي، تتقهقر فيها الفضائل، وتنكفئ، فيما تظفر الرذائل، وتنتصر من دون ارتواء، وقد تركت الضحايا حُطاما؛ وفيها ينتهي البريء فريسة من حيث يسعى لأن يتجنّب الافتراس، فيما يتحيّن الرذلاء الفرص للإيقاع بالأبرياء من حيث لا ذنب لهم؛ فممارسة العنف ليست وسيلة عقاب عن خطيئة بل استمتاع جامح، والبراءة وحدها تكون سببا كافيا لبعث الرغبة في الأذى، فلا عجب أن تكون جوستين ضحية وشاهدة على الضحايا الذين يصبحون موضوعا للفتك في أقسى ضروبه، فمع الاحتفاء بالفضيلة، وتوقيرها، فإن موضوعها، وهي شخصية الفتاة جوستين تتعرّض للأذى من طرف أشخاص غريبي الأطوار؛ لأنهم بذلك الإجراء العنيف يستجلبون شعورا عارما من المتعة؛ فالفضيلة تخسر رهانها في صون صاحبها، وتلحق به ضررا بالغا، فيما الرذيلة تصونه، وتدفع به لترقية أحواله الاجتماعية، وتجعل منه شخصية مرموقة. وقد وصف كلّ من هوركهايمر وأدرنو، "جوستين" بأنها "شهيدة القانون الأخلاقي".

وقع تمثيل للصراع بين الفضيلة والرذيلة بالشقيقتين جوستين وجوليت، وأطلقهما دوساد في وسط اجتماعي مزعزع لا يعرف الشفقة، بل الجور - وهي ثنائية دافع عنها- وارتقى بها إلى مستوى النوازع النفسية الثابتة التي تصطرع في منوال لا نهاية له، وذلك توتّر نفسي أريد به فضح الطبائع الإنسانية المتضاربة في ميولها، وشهواتها، وأهوائها، وقصد به كون الفضيلة طبع أصلي، وهبة بريئة، فيما الرذيلة سلوك مستحدث يكتسبه المرء من البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها، وهي تترسخ بالمعاشرة، والمخالطة، والمصاحبة، ويجد حاملها متعته في الأذى الذي يلحقه بذوي الفضائل، وسيكون لها الظفر في اتباع الأساليب العنيفة للقضاء على الطرف الآخر، إلا إذا أبدلت الفضيلة جوهرها وأصبحت رذيلة، وهذا متعذّر؛ فالدنيا لا تتيح الخيار نفسه للجميع في ذلك؛ فهي تتغذّى من الفجور، ولا مكان فيها للخصال الحميدة.

تعارض السادية الجنسية نقيضتها المازوخية الجنسية من ناحية المظهر لكنهما تؤدّيان، عند المصابين بهما، الوظيفة ذاتها من ناحية الجوهر، وهي الإثارة، والاستمتاع، والانتشاء

وكان ينبغي ابتكار حبكة سردية تحكم صراع الرذائل والفضائل لتسويغ التناقض الجوهري بينهما، ولهذا رسم السرد تناقضا بين الاختين جوستين وجوليت في الطبع، وفي السلوك، وانتهى بأن كشف عن انحطاط حال الأولى، وارتقاء حال الثانية. ارتقت جوليت السلم الاجتماعي، وحظيت بالثروة، والرعاية، والاهتمام؛ لأنها جُبلت على سلوك شائن عماده الابتذال، والتهتك، وهذا مكفول في عالم تشكّل هذه المخازي قوامه المتين. أما جوستين، فتنزلق إلى تجارب شاقة، حيث تُهان، وتُذلّ، وتعذّب، فلا تفتكّ نفسها من الأشرار إلا وقد شارفت على الموت. وتتواتر عليها تجارب الأذى، مرة بعد أخرى، إلى أن تقضي عليها في نهاية الأمر، وقبل احتضارها تهتك عذريتها من غير أن تفلح في الخلاص من هذه الحلقة المفرغة من الشدائد، فلا تفرغ من تجربة إلا وتسقط في غيرها؛ ولكي ينجو الإنسان من ذلك المصير ينبغي أن يجعل من الرذيلة هاديا له، وهو ما تطلبه "مدام ديبو" من جوستين، بعد أن تتولّى تهريبها من السجن الذي زُجّت فيه بتهمة ملفقة "تخلّي عمّا تسمّيه الفضيلة، فلن توصلك كما ترين لأيّ شيء. ستوصلك النوايا الشريفة للحضيض. أمّا الجريمة، فستنقذك منه".

كشفت اللوحات السردية التي تألّفت منها رواية "جوستين" عن نسق تكراري لممارسة العنف ضدّ فتاة فاضلة لا غاية لها في حياتها إلا صون عفافها، فيما كان شغل الآخرين هو النيل منها، سواء كانوا من قطّاع الطرق، أو الأثرياء، أو النبلاء، أو رجال الدين، أو الأطباء، الذين يمارسون طقوسهم الشاذّة، حيثما كانوا من غير رادع يردعهم عن أفعالهم الشائنة، فهم يعبرون عن سلوك عدواني لا سبيل لكبحه يجد ضالّته في إيذاء الآخرين، وحينما ينتهي الأمر بجوستين في عرين للشواذ المتعهّرين، يبلغها أحدهم، ويدعى "دوم كلمن" عن فلسفة الاستمتاع التي تتبطّن العنف، وقد سوّغ لنفسه الافصاح عن أهوائه بأسلوب صريح "أكبر سخف في العالم أن يجاهد المرء أهواءه. كما يبدو مُضحكا أن نلومه أو نعاقبه أو نكبحه، أو لا نعمل على وفق فكرتنا عن الأشياء. ما لا يفهمه الناس هو أنّ الأهواء، سواء غريبة أو إجراميّة، تعتمد على طبيعتنا؛ وقد ولدنا بها هكذا. إنّها فينا...ولا يريد أحد منّا تغييرها إلى نحو غير طبيعيّ"، ثم يمضي في تفسير ذلك "ماذا يبغي المرء من المتعة؟ أليس ليمنح حسّه المثيرات التي هو عرضة لها، حتى تصل رعدته الأخيرة أفضل وأسرع؟ الرعدة، تلك هي المسألة! وتكون جيّدة أكثر أو أقلّ وفقا لما تجد نفسها فيه من فعاليّة أكبر أو أدنى"، وينتهي بأن يجعل المرأة موضوعا لمتعته "الأصل أن يتمتّع الرجل على حساب المرأة، ناهلا من كلّ شيء بغضّ النظر عن المرأة. وما دامت الأنانية أوّل قوانين الطبيعة، فعلينا أن نغترف منها بملذّات العواطف! مع المرأة يجب ألاّ تعني الرجل غير بهجته. وخارجها لا علاقة بينهما على الإطلاق؛ فالمرأة شيء مجرّد، جُبل على خدمته".

لم يبخل الماركيز دو ساد في تمثيل هذه الطريقة المريعة في الاستئثار بالمتعة المشتقة من العنف، فقد كان سخيّا في رصف مشاهد برهنت على فرضية اللذة التي يكون مصدرها الأذى، وجاءت فصول الرواية تعبيرا عن هذه الفرضية، فما أن تنجو جوستين من مأزق حتى تقع في غيره، وهي مآزق متماثلة في الهدف، ولكنها مختلفة في الأساليب، ومن ذلك فقد وقعت ضحية ثري يستمتع بالجَلِد، وفصد الدماء، وحاول أن يشرب من دمها، وما أن هربت منه حتى وقعت فريسة لطبيب أسوأ منه في سوء المعاملة، ثم قادها حظها العاثر إلى مزوّر يدعى "رولان" فبدأ في تعذيبها في حفرة عميقة، ولما سألت عن الغاية من ذلك، أجابها "أجد في الشرّ جاذبيّة دائمة؛ فالجريمة تضرم لذّتين، والأكثر رعبا منها يستزيد إثارتي. أستمتع بارتكابه كما يستمتع الناس بتذوّق المعتاد في امرأة. أرتكب ما أرتكب لأذكي لهيبي. كلّما كانت الجريمة أفدح أثارتني أكثر. نعم، الجريمة وحدها متعة".

بعد جولات كثيرة من العذاب تُرسل جوستين مخفورة إلى باريس لإعدامها، وفي طريقها إلى المدينة تلتقي بأختها جوليت التي حازت الشهرة بعلاقاتها المتهتّكة بالرجال، وورثت المال عن زوج قتلته، واقترفت من الآثام أعظمها من غير واعز من ضمير؛ لأنها جعلت من الرذائل هدفا تسعى إليه مهما كان الثمن، فهي التي تقيها شرور الآخرين، وقد أصبحت خليلة لرجل شهير، وعد جوستين بإطلاق سراحها، بنيّة استغلالها في متعه الشاذّة، وحالما تصل إلى باريس، وتحتجز في أحد الأماكن حتى تموت بصاعقة. وبذلك يكون مآل الفضيلة الاحتراق، فيما يُحتفى بالرذيلة التي تستغرق بها أختها من غير شعور بالذنب. وعلى الرغم مما تعرضت له جوستين من أذى، فقد كانت الفاضلة في مجتمع بسط الأشرار نفوذهم عليه، وأحالوه إلى مرتع لرذائلهم، وفي نهاية الأمر تدخّلت الطبيعة فأحالت الفضيلة إلى رماد.