الهويَّة المؤجّلة السياسة والمواطنة "الخارجة" عند أرسطو


فئة :  مقالات

الهويَّة المؤجّلة السياسة والمواطنة "الخارجة" عند أرسطو

الهويَّة المؤجّلة

السياسة والمواطنة "الخارجة" عند أرسطو([1])


"كان أرسطو يعرض أشياء عديدة وباستفاضة كبيرة، أشياء سيطول عليّ شرحها، إذ أنَّه كان رجلاً شديد الذكاء والاجتهاد". ديوجين اللّايرسي

"ـ يا ابن بيليوس، لنُشهد الآلهة (...) أنّي لن أمثّل بك إذا ما شاء لي زيوس أن أبرُز عليك (...)، وأنّك ستلتزم معي بالعهد نفسه.

ـ أي هيكتوريوس، أيُّها البربري، لا تعاهدني على أيّ شيء، فلا عهد يمكن أن يُعقد بين الأسود وبني البشر (...)، كذلك لن يكون بيننا قسَم ولا صداقة". الإلياذة، النشيد الثاني والعشرون

"إنَّ معايير العدالة المؤسّسة على المواثيق أو المصالح، هي أشبه ما يكون بالمكاييل، فما نكيل به الزرع ونقيس به النبيذ لا يكون واحداً في كلّ مكان". أرسطو

عتبة عامَّة:

نشأ بُعيد نهاية الحرب العالميّة الثانية في أوروبا، وفي ألمانيا تحديداً، نقاش حول مفهوم "الهويَّة"، وحول الأسس التي يمكن أن يستند إليها شعب، هو الألماني هنا، في التأسيس لهويّته، خصوصاً بعد الخيبات بل الأهوال التي عاشها هذا الشعب، نتيجة افتتانه في لحظة بخطاب "الهويَّة العرقيَّة" ومرجعيَّة "الدم والأرض" النازيَّة (Blut und Boden). في هذا السياق الفلسفي والفقهي، اشتهر على الخصوص موقف الفيلسوف يورغن هابرماس[2]، الذي دافع عن مبدأ مفاده ألّا إمكان لاتقاء مثل هذه الشرور وما ينتج عنها من مآسٍ، إلّا بالتخلي عن مفاهيم الأصل والعرق وما إليها في تحديد معنى المواطنة، إذ أنَّ المرجع الوحيد الذي يمكن الركون إليه لاتقاء كلّ هذا هو "الدستور"، فوحدها "المواطنة الدستوريَّة" تعصمنا من الأوهام التي تخلقها هذه المفاهيم الملتبسة. والحقيقة أنَّ هذا الموقف بدا مثيراً، وذلك لاعتبارات عديدة، لعلَّ أهمَّها كونه يتعارض مع واحدة من القناعات المركزيَّة التي تأسَّست عليها الدولة في أوروبا المعاصرة، وهي فكرة "الدولة القوميَّة" كما صيغت في القرن التاسع عشر خصوصاً مع أناس مثل هيردر الألماني (Volksgeist) ورينان الفرنسي (la nation)[3].

المدن عند أرسطو أنواع، لكنَّها كلّها تلتقي في غاية واحدة هي محاولة "تدبير التعدّد"، أي تدبير الاختلافات، بل والتناقضات

على أنَّ هذا الموقف وهذا النقاش في عمومهما، وعلى الرّغم من أهميتهما، ليسا جديدين البتة، في نظرنا، بل هما قديمان، أقدم من هابرماس ومن مجموع النظر الفلسفي والفقهي الوضعي (أوستين، هارت، كيلسين...)، وهو النظر الذي يردّ بعض الدارسين موقف هابرماس إليه، إنَّه تصوُّر يجد أصوله، من منظورنا، في بدايات النظر الفلسفي السياسي، بل في التصوُّر الذي يقدَّم، وفي أحايين كثيرة، باعتباره النقيض التام للتصوُّر "الوضعي"؛ إنَّه تصوُّر يوناني أرسطي خالص، أو على الأقل هو كذلك في العنصر المتعلق بالدفاع عن أولويَّة الدستور وأسبقيته، في التأسيس للفعل السياسي وللمدينة على مفاهيم العرق والأصل، وهذا ما سنسعى لبيانه في هذا البحث، وباعتماد النص الأرسطي نفسه[4].

عتبة خاصَّة:

تثير الناظر في أعمال أرسطو المتعلقة بمبحث البراكسيس (πραξις) عموماً، والسياسة تحديداً[5]، مفارقة تطبع منهجه في عرض تصوُّراته، فبقدر ما نشعر بأنَّ هذا الرجل دقيق و"تفصيلي" في بسط فلسفته "العمليَّة"، بقدر ما نجد أنَّ الأفكار والحدوس الكبرى لا تأتي عنده إلّا بشكل "برقي" وخاطف، وكأنَّنا بالرجل كان يستقصد إضمارها، أو هكذا يبدو للقارئ على الأقل. ينضاف إلى هذه الملاحظة واحدة أخرى لا تقلّ أهميَّة، وهي أنَّنا عندما "نخرج" من مجموع النصّ لننظر إليه من خارجه، أي في تركيبه الجامع، نجد أنَّه يحضر في صورة أشبه ما تكون بنسق أو معماريَّة "تقابليَّة"، معماريَّة يعكس البعض منها الآخر بشكل تناظري، كالمرايا ترتدّ على ذاتها "داخليّاً"، وهو ما يعطي شعور الحيرة الذي قد يحضر القارئ الذي يبحث عن "الأسس الأولى" التي يقف عليها هذا المبحث في مجموعه، إذ يبدو كأنَّنا أمام أسس تدور على نفسها، أسس تحيل على بعضها بعضاً بشكل لا ينقطع، فالأخلاق تستند إلى السياسة حتى تتحقق عمليَّاً، لكنَّ الأخلاق هي نفسها تستند إلى السياسة حتى تكتسب حجيَّة وجودها ابتداء، تماماً كما أنَّ الجماعة ترتدّ إلى المواطن نزولاً، لكنَّها هي ما يستند إليه هذا المواطن نفسه حتى يتحقق صعوداً؛ وكلّ هذا يجتمع في المدينة التي هي في الآن نفسه الأساس والغاية، أي ما يحدّد معنى الفضيلة ويستند إليها في تحققها في الآن نفسه، وكأنَّنا بالأولى تصنع الثانية، حين تعمل الثانية على أن تصنعها.

على أنَّ القارئ إن كان لا ينتهي إلى حدّ "أوّل" أو ترتيب أخير في سؤال الأسس هذا، فلأنَّ هناك سبباً قويّاً هو المفتاح، في نظرنا، لهذا الأمر كله عند أرسطو، وهو أنَّ نظره السياسي ونظريته في المدينة، كأمور عديدة أخرى في فلسفته، هو نظر "أفقي" علائقي، يسعى لقياس ممكنات التوافق بين قوى متحرّكة "فيزيائيّاً"، وليس تأمّلاً تراتبيّاً "عموديّاً" يعمل على تصوير نماذج متناظرة "هندسيّاً" (الجمهوريَّة وعالم المثل عند أفلاطون مثلاً)، والحال أنَّ النماذج الساكنة هي دائماً أيسر في الضبط وأسهل في التمثل من العلاقات المتحرّكة التي ما تفتأ تنشأ وتنحلّ. وإن كان هناك من مفهوم يظهر فيه هذا التعالق الأفقي، والتوافق الحركي، بشكل جلي وواضح، فهو ترابط الإنسان-المدينة، أو قلْ المواطن-المدينة، بما أنَّ الإنسانيَّة والمواطنة عند الفيلسوف يمكن أن تُستعملا على سبيل الترادف، كما سنتبينه الآن.

1- من "المدينة الفاضلة إلى الفضيلة المدنيَّة:

لعلَّ من أشهر "المسكوكات" الفلسفيَّة تعريف أرسطو للإنسان بكونه الحيوان المدني، فإنسانيَّة الإنسان عند الفيلسوف تبقى مرهونة بانتمائه للمدينة، أي بمدى قدرته على الانخراط في "قدر" جماعي، لهذا كان ذلك الذي يعجز عن العيش في الجماعة، أو الذي يكون في غنية عنها، بسبب من اكتفائه بذاته، لا ينتمي للمدينة، فهو إمّا وحش (الحالة الأولى)، أو إله (الحالة الثانية)[6]، أي إمَّا أنَّه تحت كلّ الناس أو فوق كلّ الناس، لكنَّه ليس بحالٍ من الناس، إذ لا بدَّ لأيّ فرد رغب في أن يُعدّ في الناس من أن يكون قادراً على الانخراط في همومهم، وأن يحتكم لمقاييسهم وقيمهم. غير أنَّ هذا التعريف، وعلى عكس ما قد يُتصوَّر، لا يحمل أيّ بُعد "استعاري"، بل على العكس تماماً، إنَّه تعريف ينبغي أن نفهمه في أقصى دلالته الحرفيَّة، حتى يصحّ أن نحوّر فيه فيصير: الإنسان هو الحيوان "المديني"، أي الحيّ الذي لا يحتاج كي يتحقق للسياسة فقط، بل ولمدينة ونظام بعينهما. ولعل وعي أرسطو بهذا البُعد "الملموس" للمسألة، أي وعيه بأنَّ السياسة مسألة مدن مخصوصة، هو ما دفعه إلى أن يقضي سنيناً من حياته في تدبُّر معنى المدينة بنفس "بوليتولوجي"، قوامه فحص دساتير أكثر من مئة وثمانية وخمسين كياناً سياسيَّاً في عصره، فالنظر الفلسفي في السياسة عند أرسطو، نظر في الدساتير القائمة بالضرورة، إذ أنَّ الدساتير هي "فلسفات" في فعل، بل هي الفلسفات الوحيدة الممكنة ربَّما، بما أنَّ العملي في السياسة يسبق النظري دائماً.

ما الذي يعنيه أرسطو بالمدينة؟

إنَّها ابتداء تجمّع بين أفراد، أو قلْ بلغة اليونان القدامى: هي تجمّع "أصدقاء فضلاء"، وهو تجمُّع محكوم بـ"التكامل" و"وحدة المصير"، وهذا ما يجعل هؤلاء الأصدقاء في هذه المدينة أشبه ببحّارة في سفينة، من حيث إنَّ السفينة هي ما لا يمكن تجزيئه بين الأفراد، أي ما لا يمكن أن "يقتطع" فيه الأفراد، إن شئنا الإبقاء على هذا التشبيه نفسه، دون أن "يغرق الجميع". ولا ينبغي لنا هنا أن نفهم عبارة الفضيلة أو الصداقة (φιλία) اللتين في هذا التعريف وفق أيّ تصوُر "مشاعري"، فالصداقة هنا هي "علاقة" بين "أنداد" يتكاملون، أي بين القادرين على إلحاق "قدر الأذى نفسه" ببعضهم بعضاً؛ إنَّها صداقة تكاد تكون مخضّبة بالدم، صداقة شبيهة بتلك التي نجدها تنشأ بين "الجنود" والأبطال الذين صوَّرتهم لنا التراجيديّات، الصداقة هنا ينبغي أن نأخذها بالمعنى التراجيدي، من حيث إنَّ خاصيَّة التراجيدي قائمة في كونه شيئاً ينكسر في عمق "الفيليا"، شيئاً لا يكون إلّا بشرط القرابة أو صلة الدم أو "الصداقة"[7]. وهكذا فما ينبغي الإلحاح عليه هنا هو أنَّ الحديث عن الصداقة في السياسة (وعن الفضيلة عموماً كما سنرى)، ليس الباعث عليه سذاجة تجهل حقيقة العالم القبيح، بل هو تعبير عن "وعي مضاعف" بهذا القبح الأصلي؛ وعي ينتهي لأن يفهم أنَّ هذا القبح لا حلَّ له إلّا باختراع "توافق" معيّن، وإن كان ظرفيّاً، فلأنَّ الوضع الطبيعي هو "العداء"، ولأنَّ الحرب هي "أمّ الجميع" كما قرَّر هيراقليط، وجب اختراع شيء يعطّل هذه الحرب. وفي هذه النقطة بالذات، أي ربط السياسة بالقيم، ينبغي أن نفهم، في نظرنا، كلّ الترابطات القويَّة التي يقيمها من نَسِمُهم بـ"المثاليين" بين السياسة والأخلاق، فعبارة روسو "إنَّ من يفصل السياسة عن الأخلاق، لم يفهم أيَّ واحدة منهما"، ليس الأصل فيها أيّة نزعة رومانسيَّة، بل الحسّ "التراجيدي" الخالص والوعي الحاد بالاستحالة العمليَّة للخروج من حالة حرب الجميع ضدَّ الجميع (بلغة الفيلسوف الآخر هوبس) دون أساس أخلاقي أوَّل، قد نسمّيه الثقة أو المصلحة، مهما يكن، فإنَّه سيكون دائماً أساساً "أخلاقيّاً".

والمدن عند أرسطو أنواع، لكنَّها كلّها تلتقي في غاية واحدة هي محاولة "تدبير التعدّد"، أي تدبير الاختلافات، بل والتناقضات، لهذا فالمدينة عند أرسطو، هي، بلغة معاصرة، أقرب إلى البنية منها إلى الوحدة.

ونحن يمكننا، إن اعتمدنا معيار نظم الحكم القائمة، أن نحصي مع أرسطو ثلاثة أنواع من النظم: أوَّلها الملكيَّة "وحيدة المرجع والسلطة"، وثانيها الأرستقراطيَّة التي يهيمن عليها "حكم الأفاضل"، وثالثها "المدينيَّة" التي تحكمها الأغلبيَّة العدديَّة باعتماد مبدأ التمثيليَّة. على أنَّ التاريخ يعلّمنا أنَّ هذه المدن إن كانت قادرة على التحقق والاستمرار فعلاً، فإنَّها أيضاً تبقى مهدَّدة بأن تمرض وتتفسَّخ، وعلّة مرضها هذا تأتيها من عنصر واحد، وهو عجزها عن حفظ "التوافق" بين تناقضاتها، وبالتالي عجزها عن الوفاء بشرائط المرجع الذي اعتمدته أساساً لها، فتتحوّل بذلك إلى مدن يطغى فيها الفرد الواحد (في النموذج الأوَّل) أو تستبدّ بها الجماعة الواحدة (في النموذج الثاني)، أو تهيمن عليها الطباع البهيميَّة للحشود (في النموذج الثالث)[8]. بيد أنَّ هذه المدن تظلّ كلها، من حيث المبدأ، حائزة للشرعيَّة إن استطاعت أن تحفظ عافيتها، وهي لن تستطيع حفظ هذه العافية إلّا متى حققت شروطاً ورفعت موانع، وهي شروط وموانع منها ما هو موضوعي يمسّ الأصل والإمكان (وجود دستور وتعاقد عاصم من الفوضى)، ومنها ما هو وليد حسن التدبير والفطنة، (الاهتداء إلى الأخيار في القيادة)، وهذا أمر أساسي في السياسة، إذ لكي تستمرّ المدينة ينبغي على من يقود أن يكون محققاً لقدر من النبالة السياسيَّة والفكريَّة، وفق تصوُّر الفضيلة الذي سقناه أعلاه.

غير أنَّ ما ينبغي التنبيه إليه هنا هو أنَّ الفضيلة ἀρετή)) المقصودة هنا هي فضيلة بشرط المدينة، فضيلة تتحدّد بمعيار الجماعة وفي إطارها، إنَّها فضيلة "وظيفيَّة"[9]؛ فضيلة لا تُقاس إلّا على نمط الفعل في المدينة. وهكذا فإلحاح أرسطو على كون الفرد لا يكون مواطناً إلّا حين يكون "فاضلاً" هو حديث عن شيء "عضوي"، شيء أشبه ما يكون بما نراه في التصوُّر القانوني اليوم عند حديثه عن المواطن "الفاعل"، المواطن الذي بمقدوره أن يملأ واجبه "القانوني"، وينهض بـ"مهمَّته على السفينة" بما يتناسب والتزامه تجاه الباقين، من حيث إنَّ هذه السفينة هي دائماً كيان مهدَّد بأن ينكسر على صخرة الزمن وأنوائه، ومن هنا نفهم إلحاح الفيلسوف، مراراً، على ضرورة الانخراط والمشاركة في همّ المدينة كشرط للمواطنة.

والفضيلة إن كانت لا تتعلق بشيء يفارق المدينة من حيث المعيار، فهي لا تتعلق بشيء يفارقها من حيث الأصل، إذ هي من صنع المدينة عينها، لأنَّها مسألة دربة وتعوُّد، أو لنقلْ، بلغة معاصرة، مسألة تربية ليس إلّا[10]. صحيح أنَّ الطبيعة تعطينا الاستعداد للنبل والفضيلة، لكنَّ الممارسة هي التي تحققهما فينا بعديَّاً، هكذا يكون الأصل في كلّ القيم، كما في كلّ فعل إنساني وضمنه الأخلاقي ـوعلى النقيض من الفعل الطبيعي- علّتين هما الطبع والدربة، أو قلْ الإقدار الطبعي والرياضة العمليَّة[11]. يعني هذا الأمر شيئاً مهمّاً جدّاً، وهو أنَّ الفضيلة قابلة لأن "تُصنع"، وبالتالي يصير بمكنتنا أن نصنع هؤلاء المواطنين الفضلاء، بل وأن نصنع القادة السياسيين الذين يؤهلون المدينة، وما ذلك كذلك إلّا لأنَّ الناس يملكون القدرات نفسها، لولا أنَّها قدرات قد تظلّ كامنة بـ"القوَّة" ولا تخرج إلى "الفعل" ما لم نتعهدها بالتلقين، ومن هنا أهميّة التربية في فلسفة أرسطو السياسيَّة كما أسلفنا، وأسبقيتها على غيرها، من حيث إنَّ التلقين أقوى أثراً من غيره، بما فيه الفهم، أو على الأقل إنَّه سابق عليه[12].

هل نحن هنا أمام تصوُّر أخلاقي عن الإنسان والمدينة؟

نعم، شريطة أن نفهم أنَّها أخلاق في إطار رؤية متواطئة من كلّ الجهات، فإذا كانت المدينة هي ما يحدّد إنسانيَّة الإنسان، فإنَّ هذه المدينة لا ترتدّ، حين نحللها، إلّا إلى وحدة أخيرة هي هذا الإنسان عينه، أي المواطن، إذ لا وجود لأيّ معيار "فوق" إنساني يمكن الاستناد إليه في تحديد معنى أيّ منهما. في هذا السياق وحده، ووفق هذا التصوُّر حصراً، ينبغي أن نفسّر ارتباط السياسة بالأخلاق عند أرسطو، وأسبقيَّة "الأخلاق النيقوماخيَّة" و"الأوديميَّة" على كتاب السياسة ودساتير اليونان عنده. صحيح أنَّ الغاية الأخيرة للرجل تبقى هي البحث عن "التوافق"، وربَّما "التناغم"، لكنَّه توافق بين اختلافات كما أسلفنا؛ توافق يحيل على مكوّناته في ترابطها، بعيداً عن كلّ تصوُّر كوسمولوجي، إنَّه توافق لقاء و"تشارط" يتحقّق بين مدينة ومواطنين لا يكونان إلّا ببعضهما بعضاً.

على أنَّ هناك سؤالاً يبقى، وهو: ما المستند الذي يمكنه أن يضمن استمرار هذا اللقاء "المحايث" الهشّ الذي لا يتطلع إلى أيّ "مثال" في السماء يمنحه الضمانة والشرعيَّة؟ إنَّه الدستور (πολιτεία)، بل وحده الدستور.

2- الدستور و"عدالة الأرض":

ليس هناك أيّ إمكان لـ "تدبير المتوحّد" عند أرسطو كما تقدَّم، فالإنسان من حيث هو الكائن الناطق الحر المدني، هو بالضرورة كائن نشأ في المدينة، إذ لا إمكان للحديث مطلقاً عن أيَّة هويَّة أُولى في الإنسان، تكون سابقة في الاعتبار على المدينة. ولأنَّ المدينة سابقة على الفرد، حتى يتوطّن، زمانيّاً واعتباريّاً، فمن العبث البحث عن السعادة بعيداً عنها، أي بعيداً عن المواطنة، فالإنسان السعيد هو بالضرورة مواطن[13]. على أنَّ أرسطو لا يعطي لمفهوم المواطنة هذا أيَّة خاصيَّة "جوهريَّة" داخليَّة، هكذا فهو يقرّر، بوضوح تام، أنَّ المواطن "هو وظيفته في الجماعة"، وحدود ارتباطه بالمدينة، هي حدود وظيفته.

بمَ تتمايز المدن، وبالتالي المواطنون؟

بقدرتهم على تحقيق العدالة (δίκη) بينهم، وفي هذا لا يمثل أرسطو استثناء، من حيث المبدأ، من بين الأقدمين. غير أنَّنا عندما ننتبه لمتضمّنات هذا المفهوم العمليَّة عند الفيلسوف، نجد أنَّه مفهوم أبعد ما يكون عن التحديد الأفلاطوني مثلاً، فتحديده لها، وهنا أيضاً، يكاد يتطابق مع أشدّ التصوُّرات المعاصرة وضعيَّة، حتى إنَّه يمكننا الحديث مع أرسطو عن عدالة "مواضعاتيَّة".

تصير المواطنة شيئاً يُقاس على "التعاقد" الدستوري وحده، فما يحدّد الفرد ويحدّد هويَّة مجموعة سياسيَّة ما، لن يكون غير "توافقاتهم" العمليَّة الظرفيَّة

تأخذ العدالة عند المعلم الأوَّل معنيين: فهي إمَّا عدالة مشروعيَّة، أو عدالة مساواة، حدّ الأولى كونها الفعل بحسب ما يتوافق مع القانون، وحدّ الثانية كونها التوزيع العادل، بين الناس، لما نعتزم توزيعه، بغضّ النظر عن طبيعة هذا الذي نعتزم توزيعه[14]. والحقيقة أنَّ ما كان يهمُّ أرسطو أكثر، في هذا الأمر، هو هذه الثانية، وهي تأتي على ضربين: إمَّا توزيعيَّة ابتداء، وإمَّا تقويميَّة تسدّد ما اعوجَّ عند التوزيع استئنافاً. ولا يخفى أنَّ الرجل كان أميل إلى فهم التساوي بالمعنى التوزيعي، (التساوي بين ما هو مساوٍ لبعضه في القيمة، لكن ليس بين ما ليس متساوياً في القيمة). مهما يكن من أمر، الأهمّ هو أنَّ الفهم المعتمد لمعنى العدالة، كان عند الرجل هو الفيصل في تحديده طبائع النظم، إذ باعتماد هذا المعيار، تصير الخاصيَّة المميّزة للنظام الديمقراطي عنده مثلاً، قائمة في كونه يتأسَّس على افتراضات "في التوزيع" تتعلق بالواجبات والمسؤوليَّة، من حيث إنَّ الديمقراطيَّة هي النزوع إلى المساواة بين كلّ من يملك حريَّة، على عكس الأوليغارشيَّة التي تصير خاصيّتها المميزة هي اعتمادها المساواة، في هذا الأمر، بين من يملك الثروة والعرق نفسهما حصراً، وهذا ما يجعلهما معاً مختلفين عن الأرستقراطيَّة التي تقيم هذا التساوي بين من يملك الفضائل والقيم نفسها، وهكذا بين باقي النظم، سليمها وسقيمها[15].

على أنَّ أرسطو يزكّي هذا التقسيم بأمر آخر غاية في الخطورة في نظرنا، وهو أنَّه يقرّر بألّا وجود لما هو العادل بـ"إطلاق"، إذ ينبغي علينا ألّا نصدّق أيّ دستور يقدّم نفسه باعتباره "عادلاً" في ذاته، بل إنَّه لا يمكننا حتى أن نفاضل "أخلاقيّاً" بين الدساتير، في مجموعها، فكلها تملك حجيَّة قياساً إلى مسلّماتها، غاية ما قد نبلغه هو أن نفاضل بينها في مدى قدرتها على تحقيق "أكبر قدر ممكن من الخير والصالح العام"، لهذا كانت الدساتير متعدّدة، وكانت المدن متعدّدة بتعدُّد الدساتير، وكان النظر في السياسة يقتضي النظر في هذه الدساتير عينها لتصنيفها وترتيبها، وفي سياق هذا التصوُّر فقط يمكن أن نتحدَّث عن "العدالة"[16].

نحن هنا أمام نوع من التصوُّر الأكسيومي عن العدالة وعن السياسة معاً، نوع من المحايثة التشريعيَّة ومن التصوُّر "الخارجي" عن كلّ ما يتعلق بهما، وهذا التصوُّر لا يضعف حتى حين يعلن أرسطو، في بعض نصوصه، تفضيله للأرستقراطيَّة على غيرها من النظم، إذ أنَّ المعيار عنده في تحديد ماهيَّة الأرستقراطيَّة يبقى "خارجيّاً" دائماً (نجاعتها العمليَّة)، بل إنَّ مفهوم الأرستقراطي نفسه لا يتحدَّد عنده خارجيَّاً، فالأفضلَّية المقصودة هنا ليست أفضليَّة بالعرق، بل بالنباهة والحذق، أي بالفعل، وهذا يعني أنَّنا لا نكون أرستقراطيين إلّا حين نكون "فرديّاً"، وبشكل عملي "نعاينه"، الأفضل.

يفتحنا هذا الأمر على مسألة أعم، وهي كون هذا التصوُّر ينتهي لأن يصير "نزعة دستوريَّة"، إذ إنَّ إقرار هذه الأمور معناه أنَّه لا يبقى عندنا من معيار نقيس به المواطنة إلّا الدستور ومواضعاته، فوحدها الدساتير تحدّد معايير المواطنة "العمليَّة"، فضلاً عن معايير العدالة عينها كما قلنا، وهذا هو عينه الأمر الذي أشرنا إليه ابتداء عند حديثنا عن هابرماس، حيث زعمنا أنَّ حديث الفيلسوف المعاصر عن هويَّة دستوريَّة، هو حديث يمتح أصوله من النصّ السياسي القديم، ومن نصّ أرسطو تحديداً، بل إنَّه يكاد يمتح منه بعض تفاصيله، إذ ها هو ذا أرسطو يقرّر أنَّ الدستور أولى من حقّ الأرض نفسه[17]، وهذا معناه أنَّ المواطنة تصير شيئاً يُقاس على "التعاقد" الدستوري وحده، فما يحدّد الفرد ويحدّد هويَّة مجموعة سياسيَّة ما، لن يكون غير "توافقاتهم" العمليَّة الظرفيَّة هذه، "المقيّدة خارجيَّاً". وإن كان هذا الدستور هو ما يحدّد الهويَّة، فهذا سينتج عنه أمر آخر لا يقلّ أهميَّة، وهو أنَّه سيصير هو ما يحدّد "الغيريَّة" ضرورة، فاختلاف الدساتير بين المدن والناس هو وحده ما يحدّد تغايرهم، وهو أنَّ الغيريَّة تصير سياسيَّة لا عرقيَّة ولا ثقافيَّة. والحقيقة إنَّنا، ولولا خشية بعض المبالغة، لقلنا إنَّ هذا المعيار في تمييز الأغيار "داخليَّاً"، هو ما يسوّغ موقف أرسطو "خارجيّاً" من الغرباء، فالغرباء ليسوا أغياراً إلّا لأنَّهم يقعون خارج كلّ تعاقد دستوري معلوم، لا لأنَّهم "عرقيَّاً" أحطّ معدناً، خصوصاً وأنَّ أرسطو عينه، كان "غريباً" آفاقيّاً (βάρβαρος)، نسبيّاً، قياساً للأثينيين الخلّص، وكانت غرابته النسبيَّة هذه، علّة في تعييره واتهامه بـ"السوقيَّة" في السلوك والهيئة قيد حياته، وكانت علّة لتخوينه ومطاردته عند موته.

استدراك على ما تقدَّم

كان "لاكان" قد قال مرَّة: إنَّ حروب الإسكندر ما هي إلّا التتمَّة العمليَّة لمنطق معلّمه أرسطو، ولفلسفته عموماً[18]. يستند مثل هذا الموقف على عناصر ليس من السهل التغافل عنها، منها بعض النصوص التي قد يكون أشهرها نص "عن العالم" المنسوب إلى الفيلسوف، والممهور بإهدائه إلى القائد المقدوني الكبير[19]. هكذا يصير النصّ الأرسطي، من منظور لاكان، البذرة التي وجدت تحققها الفعلي في النزوع "الاستعماري" الإسكندري، ويصير أرسطو المسؤول "أخلاقيّاً" عن الأفعال الدمويَّة التي وسمت سياسة تلميذه، وهو ما من شأنه أن يقلل من قيمة كلّ جهد يسعى لإيجاد عناصر "إنسيَّة" في نصّ الرجل.

كيف العمل مع مثل هذه النصوص؟

قد نتلفّع "بنسبيَّة" التاريخ، ونقول: إنَّ هذه حدود موضوعيَّة لفكر الرجل، وهي لا تنفي رؤيته العامَّة التي تظلّ متناسبة مع نوع القراءة التي قدَّمنا، وهذا أمر لن يشكّل أيّ حرج، إذ هو عينه ما يدفع به كثير من "الأرسطيين" اليوم اعتراضات الناس على أحكام كثيرة في فلسفة المعلّم، من مثل تلك المتعلقة بالنساء والرّق، فالتاريخ هو الفرش الأخير الذي يجعل كلّ خطاب ممكناً أصلاً، كما قد نفزع إلى "السياق"، ونذكر كيف أنَّ الرجل عاش في فترة اشتهرت بالحروب الشرسة بين القوميّتين اليونانيَّة والفارسيَّة، وأنَّ ظهور فاتح مقدوني من بني جلدته، هو الإسكندر، على الفُرس، وردّه بعض الاعتبار لأهله، ومنهم أرسطو، قد يبرّر هذا، لكنَّنا مع ذلك نرى أنَّ الأمر يمكن دفعه فلسفيّاً، وحجاجيَّاً أيضاً، وليس سياقيَّاً فقط، على أن نفهم الحجاج الذي سنورد هنا داخليَّاً، أي قياساً إلى "نيَّة" أرسطو، وليس قياساً إلى حكمنا المعرفي نحن اليوم. إنَّ ما يسوّغ، من داخل نصّ أرسطو، انتصاره المزعوم للقوميَّة اليونانيَّة، ولحروب الإسكندر، هو مسألة "عمليَّة" خالصة، أو لنقل هو دليل "محايث" كليَّة: "الوضع الجغرافي"؛ فكون اليونان قد قطنوا أرضاً "وسطاً" بين الشرق والغرب، وكون الحظّ شاء لهم أن "يعتدلوا" بين الأطراف، جعلهم ينجحون في جمع حسنات الجهتين. إنَّها "الأرض" إذن ما يبرّر "خيريَّة" هؤلاء القوم عند أرسطو، وليس أيّ تفوق "عرقي" أو إلهام سماوي، أو قلْ على الأقل إنَّ العلّة في هذا التفوُّق القومي أصلها "حسّي"، وليس أيَّة هويَّة كامنة قبليَّاً، وهكذا فحتّى حين "يتعصَّب" أرسطو، يظلُّ المعيار عنده، وكما في كلّ الأمور الأخرى التي بسطنا، عمليَّاً "جغرافيَّاً" "خارجيَّاً" يتحقّق على الأرض وبين أهلها[20]، وهذا يبدو لنا هو التأويل السياسي الأمثل لإشارة سبَّابة الفيلسوف في لوحة رافاييل الشهيرة.


[1]- نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون، الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 12

[2]- تعرَّض هابرماس لهذا الأمر في مواضع عدّة من نصوصه المتأخّرة التي تعلقت بفلسفة القانون والفقه الدستوري، انظر مثلاً:

J. Habermas, «Citoyenneté et identité nationale. Réflexions sur l’avenir de l’Europe»; Identité et démocratie, Esprit, Paris, 1992 p. 22.

انظر كذلك: J. Habermas, L’intégration républicaine, Paris, Fayard, 1998, pp. 71-72.

[3]ـ تعود فكرة الدولة القوميّة الحديثة إلى القرن الثامن عشر، وقد انعكست بوضوح في عدد من النصوص منها نص فولتير: رسالة في الأخلاق وروح الأمم، (Essai sur les mœurs et l’esprit des nations) الصادر سنة 1756م. على أنَّ هذه الفكرة لم تجد صياغتها الأوضح إلّا في القرن التاسع عشر، ولعلّ أشهر صياغة هي تلك التي قدّمها إرنيست رينان، في محاضرة ألقاها سنة 1882م، ستنشر بعدها تحت عنوان هو: "ما هي الأمَّة"؟ أو "ما معنى أمَّة؟" (qu’est ce qu’une nation ?). في هذا النص ستتحدّد القوميّة باعتبارها "روحاً" تنعكس في اللغة والدين والمصالح المشتركة والقناعات والقيم، وسيتحدّد دور المنتمين لهذه الأمَّة في الحفاظ على هذه "الروح". ونحن نعلم أنَّ هذا التعريف كان محكوماً بشروط الزمن الذي عاش فيه رينان، أي بشروط صراعات فرنسا وحروبها مع ألمانيا، وهذا ما يفسّر في جزء منه بعض سمات التطرّف القومي التي تشوبه.

[4]ـ نعي تماماً أنَّ هناك نصوصاً صريحة قد تتعارض مع مثل هذا التأويل الذي سنقدّم (أولويَّة الهويَّة الدستوريَّة)، أو على الأٌقل لا تستقيم معه، لكنَّها نصوص، في اعتقادنا، قابلة لأن تحتوى في إطاره، لأنَّها كلها، وفي حدود ما طالعناه، تظلّ متعلقة بالتفصيلي الذي لا ينسف الكل، وهذا هو الشأن مثلاً مع حديث أرسطو في الكتاب الأوّل، الفصل الأوّل، من كتاب السياسة عن وجود من هم بالطبع منذورون للعبوديّة، ومن هم مخصوصون بالقيادة، فحديث الفيلسوف هنا يبقى متعلقاً بـ"العائلة". كذلك الأمر في كثير من الأمور الأخرى. مهما يكن من أمر، وحتى إن لم يحصل إجماع على هذا، فقناعتنا هي أنَّ كلّ قراءة، ومهما فعلنا، هي دائما تأويل، بالمعنى الحرفي، أي مسألة تقديم لشيء على أشياء أخرى في الفهم.

[5]ـ يتعلق مبحث "البراكسيس"، كما هو معلوم، بمبحثي السياسة والأخلاق تحديداً، وقد ألّف الرجل في هذا الباب نصوصاً عديدة منها، على الأقل، نصَّان في السياسة وأربعة في الأخلاق، وهذه النصوص هي على التوالي: الأخلاق إلى نيكوماخوس (ἠθικὰ Νικομάχεια)، أو الأخلاق النيكوماخيَّة، الأخلاق إلى أوديموس (Ἠθικὰ Εὐδήμεια) أو الأخلاق الأوديميَّة، إضافة إلى نصّي الأخلاق الكبرى، ودعوة إلى الفلسفة. أمَّا في السياسة، فكتاباه الشهيران: دساتير الأثينيين، (Ἀθηναίων πολιτεία)، والسياسة (πολιτικά).

[6]ـ انظر هذا التعريف في السياسة، الكتاب الأوَّل، الفصل الثالث (لتسهيل الإحالة لن نعتمد الترقيم الدولي المتعارف عليه في الدراسات الأرسطيَّة، الكتاب، ثمَّ الباب، الفصل، ثمَّ الفقرة التي تكون على عمودين أ وب، مثال ذلك Politique, I, 3, 1252b 271 253a 29 في هذه الإحالة، بل سنقتصر على الإشارة إلى الفقرة والفصل والباب أو الكتاب من النص)، وسنرمز لكتاب السياسة بـ: س، وبعدها الكتاب ثمَّ الفصل، والأخلاق النيكوماخيَّة بالحرف: ن، وبعدها الكتاب ثمَّ الفصل، ولن نحيل على الفقرات إلّا عند اللزوم، لقصر الفصول.

[7]ـ انظر مثلاً س، السابع، الثالث عشر، انظر كذلك ن، الثامن، الثاني. وانظر حول مسألة التوافق والتكامل ن، التاسع، السادس. أمَّا بخصوص الصداقة والتراجيديا فانظر: س، الرابع، الحادي عشر، و: ن، الثامن، الأوَّل.

انظر كذلك دراسة إيستير روغان:

Esther Rogan, «Rationalité tragique et politique aristotélicienne: Les conflictualités civiles (stáseis) chez Aristote, moment d’élaboration d’une «rationalité tragique»», in Rationalité tragique, Zetesis - Actes des colloques de l’association ; n° 1, 2010,

ويمكن مراجعتها إلكترونيّاً على هذا الرابط: http://www.zetesis.fr

- نشير إلى أنَّ هذا العنصر أساسي في فهم معنى الصداقة كما يتناولها اليوم عدد من الدارسين المعاصرين الفلاسفة والأدباء، مثل كليمون روسي وجيل دولوز وموريس بلانشو، فحديث هؤلاء كلّهم عن الصداقة محكوم بالخلفيّة التراثيّة التراجيديّة لمعنى الصداقة، وهي الخلفيّة التي تأسّست مع أوَّل نصٍّ تراجيدي غربي وهو الإلياذة، وتجسَّدت في نموذج النبالة (καλὸς κἀγαθός) (كالوس غاكاتوس)، الذي مثله البطلان أخيليوس وهيكتوريوس.

[8]ـ حول طبائع المدن، انظر: س، الكتاب الثالث (الفصل التاسع والعاشر مثلاً)، وحول فساد المدن، انظر الكتاب الثامن من النصّ نفسه.

[9]ـ ينبغي أن نذكر هنا أنَّ الفضيلة (ἀρετή)عند أرسطو، وعند اليونان عموماً، تأخذ معنى "عمليّاً" خالصاً، فالفاضل في عرف أرسطو هو: ما ومن يؤدّي مهمّته على أفضل وجه، ومن هنا حديثه الذي يبدو لنا عجيباً عن "الفرس الفاضل" و"العين الفاضلة"، فالمقصود بهذا أنَّه فرس وأنّها عين تؤديان ما وجدا لأجله بأفضل ما يكون. انظر تفصيل معنى الفضيلة في: ن، الثاني، السادس؛ كذلك الأخلاق إلى أوديموس، الثاني، الثالث.

[10]ـ انظر حول مسألة التربية الفصول الأخيرة من الكتاب الرابع، والكتاب الخامس كاملاً، (السياسة).

[11]ـ انظر: ن، الثاني، الأوَّل. وينبغي أن نشير إلى أنَّ أرسطو يلتقي في هذه النقطة مع أفلاطون بشكل كبير، كما نشير أيضاً إلى أنَّنا نجد أنَّ هذه الفكرة بالذات هي ما سيكرّره كانط، فيما بعد، عند حديثه في نقد العقل العملي عن المبدأ التجريبي وعلاقته بالقوانين الأخلاقيَّة.

[12]ـ انظر بهذا الصدد: س، الثالث، الخامس عشر، ثمَّ الثالث، الخامس عشر، وهذه النقطة غاية في الأهميَّة، إذ أنَّها تعني أنَّ كلَّ الناس قادرون، مبدئيّاً، على "الحكم"، بما أنَّ الفضيلة مسألة دربة والقيادة مسألة اجتهاد (فرونيزس)، وليست مسألة إلهام أو اصطفاء.

[13]ـ يبدو واضحاً أنَّ الأصل في حديث حنا أرندت عن ارتباط الحريَّة بالسياسة وعن استحالة تحقق الحريَّة خارجها وخارج التعاقد الأخلاقي، عائد لهذا الأصل الأرسطي، انظر بخصوص أرندت كتاب: (Between Past and Future) الصادر سنة 1961م، وهو الكتاب الذي ستتمّ ترجمته إلى الفرنسيّة بـأزمة الثقافة، المقال الخامس، المعنون بـ"ما الحريَّة"؟

وانظر بخصوص هذه المسألة عند أرسطو: س، الكتاب الثالث، الفصل الخامس، الفقرة 14.

[14]ـ بخصوص العدالة ومعانيها عند أرسطو، انظر: ن، الخامس، الثالث، ثمَّ الخامس، العاشر، حيث نجد عبارات بديعة مثل "العدالة الكاملة المطلقة هي العدالة السياسيَّة".

[15]ـ انظر: ن، الخامس، العاشر.

[16]ـ بخصوص قضيَّة غياب العدالة المطلقة وكون كلّ المدن تتساوى مبدئيّاً قياساً لمرجعياتها، انظر: س الفصل الأوَّل، الكتاب الأوَّل.

[17]ـ انظر: س، الثالث، الخامس عشر.

[18]- انظر العدد الرابع من مجلة (Scilicet)، الصادر سنة 1973، ص 25، ثمَّ هذه الرؤية بصيغة أخرى في محاضرته حول الفيلسوف سنة 1978م، بمناسبة: (Colloque pour le 23e centenaire d’Aristote, Unesco Sycomore), 1978, pp. 2324

[19]ـ المقصود هو نص (Περὶ Κόσμου)وترجمتها الحرفيَّة "عن العالم"، "بيري كوسمو"، والمقصود بها الرسالة الشهيرة التي يقال إنَّ أرسطو كتبها للإسكندر حوالي سنة 330 قبل الميلاد، يلخّص فيها أرسطو عناصر فلسفته وتصوّره والعالم وأنحائه ونظامه الفيزيائي والأخلاقي.

[20]- انظر بهذا الصدد الفصل السابع من الكتاب السابع من نصّ السياسة، حيث يقرّر أرسطو أنَّ أولويَّة اليونان وأحقيَّتهم في الحكم تأتي لاعتبارات جغرافيَّة ومناخيَّة، جعلتهم الأكثر اعتدالاً في طباعهم وأمزجتهم. وما يهمُّنا في هذا القول، كما قلنا، ليس هو مضمون هذا الحكم ومنطوقه في حقيقته "العلميَّة"، بقدر ما يهمّنا طبيعة الدليل الذي يستند إليه.