الوصول إلى ما وراء الغرب


فئة :  ترجمات

الوصول إلى ما وراء الغرب

الوصول إلى ما وراء الغرب

إن السانياسين كائن في العالم، ولكنه ليس من هذا العالم([1])

غاندي - Gandhi

حوالي نهاية القرن التاسع عشر، تم إثراء الانشغال الأوروبي بالثقافات الأخرى فجأة بعنصر حاسم: من أجل إجابة هذا الآخر بنفسه، وكما رأينا في مثال رينان والأفغاني، فإن هذا الحوار يتم في إطار نظام معرفة أوروبية، في سياق أوروبي تقدمه اللغة -وبالتالي الجمهور- لا تجري النقاشات الأوروبية غير الأوروبية باللغات العربية أو الهندية أو التركية أو الصينية أو اليابانية، بل بالفرنسية والإنجليزية وأحياناً باللغات الغربية الأخرى.

ليتخيل المرء لو أن الصين كانت قد استعمرت أوروبا، ولكي تجعل صوتها مسموعاً، سيكون على الأوروبيين تقديم حججهم باللغة الصينية، ليتذكر المرء ما حدث عندما تم تبني البوذية في الصين، للشعور بما كان يجب أن يضيع، وما يجب على المرء أن يتخلّى عنه حتى يُسمع ويُصغى إليه. وقد تكون أصوات المثقفين الأوروبيين تتلاءم مع الظروف الصينية. وفي خطوة ثانية، سيتم تحويل التعبيرات الأوروبية أيضاً، في سياقها الأوروبي الأصلي، إلى تعابير صينية. سنتبع مثلا بشكل متزايد بناء الجملة الصيني، ودمج أكثر وأكثر الكلمات الصينية في لغتنا، وفي نفس الوقت نفكر بطريقة صينية، حتى وإن كنا نكتب بشكل أساسي باللغة الألمانية أو الإنجليزية. سنبدأ في إعلان القيم الصينية للحاق بالصينيين، سنتبنى النماذج الاجتماعية الصينية، الملابس الصينية، والأنواع الأدبية الصينية، وعادات الأكل الصينية، وما إلى ذلك. ففي الوقت الذي سيطالبنا الصينيون أن نلتزم بهم، ونلحق بهم بطريقة «حضارية»، ونبذل قصارى جهدنا من أجل ذلك، فإنهم يقولون لنا دائماً: إنكم لستم صينيين، متحضرين، وعلمانيين، وحداثيين بما فيه الكفاية! سيتعلم الصينيون تقدير طبق أو آخر من المطبخ الأوروبي، وسيحاولون أحياناً ترجمة أحد شعرائنا، لكن احترامهم لثقافتنا سيظل منعزلاً ومجرّداً. لن يكون هناك أي صيني تقريباً يكلف نفسه عناء تعلم لغاتنا، (لماذا يجب أن يفعل ذلك، في الوقت الذي يتعلم الجميع الصينية!)، لكن علينا استخدام الحروف الصينية، على الأقل لتبادل الرسائل القصيرة فيما بيننا، أو للإبحار في الإنترنت. هذا هو الوضع الذي يوجد فيه العالم غير الغربي تقريباً، منذ حوالي قرنين من ارتباطه بالغرب، وبهذه الطريقة، نادراً ما تكون الكوسموبوليتية الغربية أكثر من كونية غربية مُهتمَّة، حفلة تنكرية ودية، وأحياناً مجرد نوع من الكرنفال، حيث يتنكر المرء كشخص في زي آخر لفترة قصيرة([2]).

على خلفية هذه الهيمنة الغربية الكاملة، قد يكون من المفاجئ أن يتغير الوضع بالتمام. وتلعب التيارات الخفية للحداثة الأوروبية، والرومانسية (المبكرة)، والتنوير المضاد، الذي نوقش في الفصل السابق من هذا الكتاب، ونظريات اللغة الأخروية-الكوسموبولوتية، التي يمكن إثباتها من هيردر إلى بنيامين، دوراً كبيراً في هذا. إن المعرفة المتزايدة بالثقافات غير الأوروبية، والتي ترجع من جهة إلى الفضول اللغوي، ومن جهة أخرى إلى متطلبات الاستعمار، واجهت ظاهرة كون العديد من المثقفين غير الأوروبيين، أصبحوا على دراية كافية بالثقافة الأوروبية، أتقنوا لغاتها وأنماط خطابها، ولعبوا بشكل جيد بما فيه الكفاية على لوحة مفاتيح الأوروبيين، لكي يُسمعوهم ويعبروا عن قضاياهم، مهما كانت مشوهة.

هناك نص يقدّم مثالاً مثالياً لهذا النوع الجديد من عمليات التبادل، وكان له تأثير سياسي وأيديولوجي مدوٍّ. ويتعلق الأمر بجزء من القصيدة الملحمية الهندية «ماهابهاراتا Mahabharata»، والمكونة من نقاش تعليمي فلسفي أخلاقي بين الإله كريشنا Krishna والأمير والمحارب أرجونا Arjuna، ما يسمى بـقصيدة «بهاغافاد غيتا» «Bhagavad Gītā» («نشيد العزة والجلال»؛ وفيما بعد «غيتا»). وكانت ترجمات هذا النص المشهور عالمياً مؤثرة في أوروبا، وفي نهاية الأمر في الهند نفسها، بطريقة مختلفة تماماً عن ترجمات «ألف ليلة وليلة»، أو قصائد حافظ، عمر الخيام وشعراء «شرقيون» آخرون([3]). في كتابه (الهندي) «يوميات سفر فيلسوف» (1919)، وصف الكونت كايزرلِنغ Graf Keyserling غيتا بأنها «ربما كانت أجمل عمل في الأدب العالمي»، على الرغم من أنه أضاف: «يعتبرها الكثيرون مجموعة لا قيمة لها من الناحية الفلسفية»([4]).

لم يهتم أي شخص آخر أكثر من هيغل بالمحتوى الفلسفي للقصيدة، في نص طويل له، عام 1826. رد فيه على محاضرة عن بهاغافاد غيتا Bhagavad Gita عام 1826 لفيلهلم فون هومبولت Wilhelm von Humboldt، الذي سمَّى «هذه الحلقة من مهابهاراتا أجمل القصيدة، وربما كانت القصيدة الفلسفية الوحيدة حقّاً»، «التي تقدمها لنا كل الآداب المعروفة»([5]). (على ما يبدو، فإن جملة هومبولت تشبه جملة كيسيرلينغ. لابد أن هيغل شعر بالتحدي من خلال الاهتمام الكبير بالفلسفة الأجنبية التي استعصت على نظامه، خاصة وأن هومبولت يقرِّب الأخلاق الهندية الممثلة في غيتا Gita من المفاهيم الأخلاقية الكانطية: «في الاستغناء عن ثمار الإجراءات [التي تطالب بها كريشنا]، يكمن ما نعرفه إلى يومنا هذا كأنقى أخلاق، التصرف بدافع الشعور بالمسؤولية فقط، وممارسة الفضيلة في حد ذاتها»([6]).

يجدر بنا أن نبدأ المناقشة التي تلي حول بهاغافاد غيتا Bhagavad Gita برد فعل هيغل على هومبولت. كما سنرى، يستخدم المثقفون الهنود تفسيراً لـ غيتا Gita، لتجاوز تصور العالم المهيمن الذي ساعد هيغل في تشكيله، يصف هيغل الوضع الأساسي للملحمة على النحو التالي:

«البطل أردشونا، في حرب مع أقاربه، على رأس جيشه، والإله كريشنا كقائد لعربته، وأمامه جيش العدو يسير للمعركة، وفي الوقت الذي يتردد صدى موسيقى القرون الحربية، والقذائف والأبواق والطبول وما إلى ذلك بشكل رهيب من السماء إلى الأرض، القذائف تطير بالفعل، فإنه (البطل أردشونا: إضافة المترجم) يسقط في حماسة خجولة، ويترك الأقواس والسهام تسقط، ويطلب من كريشنا النصيحة، وتعطي المحادثة التي نتجت عن هذا نظاماً فلسفياً كاملاً في ثماني عشرة أغنية، سمَّاها المترجمان "دروسا"، وتسمى بهاغافاد غيتا»([7]).

يبدأ هيغل في إخراج القصة بطريقته الخاصة، ليتم فَرَمْلَتهَا (بالخصوص!)، عندما تبدأ في «المحادثة (الفلسفية!) التي نتجت عن هذا». يمكن فهم عرض هيغل على أنه محاولة نموذجية لما بعد التنوير «الكوسموبوليتي»، والتي فرضت نفسها حتماً في أعقاب الاستعمار، حتى لو كان ذلك في شكل نص فقط، عقيدة أجنبية، (على عكس اليوم في شكل أشخاص حقيقيين)، في نظام الإحداثيات الخاصة به، لتقليصه إلى ما يعتقد المرء بأنه فهمه دائماً، حتى وإن كانت عملية عفا عليها الزمن وساذجة، ومن ثم يقوم المرء بنزع فتيلها كرونوبوليتياً.

نشأت ضرورة هذا التصنيف والاختزال بالنسبة إلى هيغل من ادعاء النظام الشامل لفلسفته، والتي بدت مهددة من قبل الاهتمام بمثقفين مثل هيردر شلينغل وفيلهلم فون هومبولت، وفي النهاية شوبنهاور، منافس هيغل الفلسفي غير المعروف آنذاك في برلين، وغيتا Gita والفلسفة الهندية ككل. من جهة، كان يبدو بأن الاستعمار الصاعد يُظهر تفوق أوروبا، ومن جهة أخرى تم جرف الكثير من الطرق الجديدة للتعامل مع العالم إلى أوروبا، حيث إنها هددت بنسبية وبتقويض وجهات النظر الأوروبية للعالم، وهذا ما حدث بالفعل في الواقع.

عندما يتفاعل هيغل مع هذا الموقف، يحدث شيء ما، تمت مناقشته في غيتا نفسها، على الأقل إذا صدقنا شخصاً مثل غاندي: «إن ملحمة مهابهاراتا هي عمل فريد ولغيتا مكان فريد فيه. فلوصف الصراع الجسدي، فإنه يفسر صراعاً غير مرئي، ويشير من خلال ذلك إلى أنه في معركة جسدية، فإن الهزيمة تلحق ليس فقط الذين يخسرون، بل أيضاً أولئك الذين ينتصرون»([8]).

صحيح أن أوروبا كانت متفوقة عسكرياً، واعتبرت نفسها متفوقة فكرياً، لكن أحد أعظم مفكريها، هيغل، أُجبر على اتخاذ موقف فكري دفاعي، وأخيراً إلى نوع من الإفشاء، بسبب نص قصير لا يكاد يتعدى مائة صفحة وعمر ألفَي عام. لم يكن الإفشاء اعترافاً بعظمة غيتا Gita، كما فعل كايزرلِنغ وفيلهلم فون هومبولت، بل كان تعبيراً مذهلاً عن صغر المرء، وعدم القدرة على رؤية الإمكانات الفكرية، والجمال الشعري والفلسفي للنص، أو الاعتراف بذلك. إنها حالة عرضية، لعدم قدرة بعض التيارات الأكثر أهمية في الحداثة الأوروبية على الإثراء من قبل الآخر، الغريب، والتحرر من ضيق وقيود سردهم، سواء أكان ذلك بشكل هزلي أو بطريقة كرنفالية.

هؤلاء المفكرون الأوروبيون الذين نجحوا (جزئياً على الأقل) في ذلك، مثل هيردر والرومانسيين الأوائل، مثل نوفاليس والأخوان شليغل وروكيرت، الذي نشر كتابه الخاص بعنوان «حكمة البراهمان» (1836)، ويمكن أن يُنسب للثيوصوفيين، والعقول الحرة، مثل كايزرلِنغ Keyserling، وأتباع ما يسمى بالفلسفة الأبدية([9]) philosophia perennis، إلى الحداثة هذه في حدود محدودة فقط. على العكس من ذلك، في رفضها وتقليلها لقيمة الآخر، فإن الكونية المعلنة بصوت عالٍ للحداثة التقدمية الأوروبية، تكشف فجأة عن نفسها على أنها نسبية، ونبدأ في فهم كيف ولماذا يربط هنتنغتون وفوكوياما برادايم التقدم والأصالة، ويُنظر إليهما من الخارج، من ما وراء الغرب، كنظام مغلق إلى حد كبير. حتى اليوم، فإن معظم الذين يشعرون بأنهم مدينون لتفكير هيغل، وخاصة أولئك الذين يشعرون بأنهم مدينون لماركس، أو التفكير «النقدي» بشكل عام، يجدون صعوبة في الاعتراف بأن هيغل وماركس، في حالة الهند و«الشرق» وغير الغربيين، قد فشلا على الإطلاق؛ لأن النقد، حسب ما يُعتقد، لا يمكن تشكيله إلا من خلال المبادئ الهيغلية والماركسية، وإلا لا يمكن تشكيله على الإطلاق([10]).

لنبق مع هيغل! يهتم بغيتا في «جمالياته Ästhetik»، ويصفها بأنها مثال بارز: «شعر وحدة الوجود pantheistischer Poesie». وهذا ليس خطأ. فكريشنا، باعتباره تجسيداً للبراهمان brahman (المطلق غير الشخصي، المبدأ الروحي الأسمى)([11])، موجود في كل شيء، وكل شيء يوجد منه، حتى وإن كان مجرد مظهر؛ أي مايا āyMā. يقول أرجونا Ardjuna:

«أرى كل الآلهة في جسدك يا إلهي

وجميع أنواع الكائنات مجتمعة [...]

أراك في كل مكان: شكل لا نهائي،

بأذرع وبطون وأفواه وعيون لا حصر لها؛

لا نهاية ولا وسط ولا بداية لك

أرى، يا كل الرب، يا كل شيء!»([12])

على خلفية حقيقة كون هيغل تحدث باستمرار باحترام عن سبينوزا ووحدة الوجود عنده، وبحث ووصف في شبابه في توبنغن، جنباً إلى جنب مع شيلنغ وهولدرلين، عن الوجود «الواحد وكل شيء»، الوحدة الكلية([13])، فإن الأمر الأكثر إثارة للدهشة، هو نفاذ صبر هيغل مع وحدة الوجود الشعرية في ملحمة غيتا. مع الهنود، يقود هيغل دون فرامل، يعرض الشيء نفسه دائماً، و: «ما يبدو في البداية أن ثروة من الخيال تنتشر فِيّ، ويظل [هو] مع ذلك رتيبا للغاية، وبشكل عام، فارغاً ومرهقاً بالخصوص، بسبب هذا التشابه في المحتوى»([14]).

يشير هذا بشكل سطحي إلى الجماليات، لذلك سيكون الأمر يتعلق بالذوق قليلاً، على الرغم من أن هيغل أراد بالتأكيد أن تُفهم جمالياته بشكل مختلف. وحسب هيغل، فإن الأمر لا يختلف، عندما يتعلق بالتاريخ عند الهنود، فالدولة طبقا لهيغل: «تفترض أساساً وعي الإرادة الحرة على الإطلاق»([15]). ويجب عليها تحقيق «الوعي الذاتي للروح»؛ أي تحقيق «حرية الإرادة كقانون»، وبما أن الطبيعة والروح يتطابقان في وحدة الوجود الهندية، (كما هو الشأن عند سبينوزا، كما على المرء أن يعتقد)، فإن التعارض بين الروح والطبيعة غائب هناك، وتعتبر الإرادة الحرة نقيض الطبيعة. لهذا السبب، وحسب استنتاج هيغل، فلا يمكن أن تكون هناك دولة في الهند أيضاً. والنتيجة هي أن «ما يُسمّى الحياة السياسية في الهند، هو استبداد من دون أي مبدأ، ومن دون أي قاعدة أخلاقية وتَدَيُّن»؛ لأنه في آخر المطاف، حتى هذا الأخير لا يوجد من دون إرادة حرة، على الأقل بقدر ما يتعلق الدين أيضاً بالعمل: «إن الاستبداد الأكثر تعسّفاً والأسوأ والأكثر خزياً يجد موطنه في الهند»([16]). من دون دولة وإرادة حرة وأفراد مدركين لذواتهم، لا يمكن أن يكون للهنود تاريخ، وفقاً لهيغل. كشعب بلا تاريخ، فإنهم يوجدون في المكان الخلفي للحضارات. ويعتبر هذا الحكم متسقاً في إطار نظام هيغل، هل كان هيغل مدركاً أن حقيقته عن الهنود كانت واحدة فقط، في إطار جدليته، وليس لها علاقة بأي «واقع»، يمكن فهمه بأيّ شكل من الأشكال في شبه القارة الهندية؟ أغلب الظن لا؛ أو لم يكن ليهتم بهذا؛ فمعرفة ذلك، كان من شأنه أن يُحدث خللاً في نظامه.

لنعد إلى إجابة هيغل على هومبولت لم يكد يصف بوضوح نقطة البداية ذات المناظر الخلابة للملحمة، كما ذكرنا أعلاه، حتى يواصل: «بالطبع، إن مثل هذا الموقف [sic] يتناقض مع كل الأفكار التي لدينا نحن الأوروبيين لشن الحرب واللحظة التي يلتقي فيها جيشان كبيران وجهاً لوجه مع بعضهما البعض، وكذلك جميع مطالبنا بشأن التأليف الشعري»([17]). هذه الملاحظة التي تبدو غير مؤذية، ليست مجرد تقييم شخصي. إنها تشير بوضوح إلى حدود الاستعداد الأوروبي للفهم - وبهذا، وفقاً لهيغل، حدود الحق في الفهم في حد ذاته. يجد الفهم حَدَّهُ، حيث يتم التخلّي عن القانون الحديدي للتقليد، حيث يتم التخلي عن تقليد الطبيعة والواقع كمظهر نهائي للوجود. تتخلى غيتا Gita عن المحاكاة من خلال السماح لخطاب فلسفي قبل بدء المعركة مباشرة، حيث لا يمكن في الواقع أن يحدث على الإطلاق. وكما قال هيغل: «فإن التأمل ما كان ينبغي على الأقل أن يوضع في فم الجنرال وسائقه في مثل هذه الساعة الحاسمة»([18])، وهذا هو اعتراض هيغل الصغير. وحتى في بداية هذه الملحمة، لم يتم تلبية «مطالبنا حول التأليف الشعري»، ولا غير ذلك: «يعدنا هذا المدخل الخارجي لحقيقة أنه يمكننا أيضاً توقع أفكار مختلفة تماماً، حول الحياة الداخلية والدين والأخلاق، مما اعتدنا عليه»([19]).

إذا فشل الهنود حتى في الشعر، في شكل أحد أشهر أعمالهم بهاغافاد غيتا Bhagavad Gita، فلن يبق لهم أي شيء آخر؛ لأنه، كما رأينا، كان الشعر هو الموقف الذي يمكن أن يرجع له التدين الضعيف: وحيث لا يمكننا قبوله (أي التدين: إضافة المترجم) كدين، فإننا على الأقل نمرّره على أنه شعر. وفقاً لهيغل، فإن هذا لم يعد ممكناً؛ لأن هذا الشعر رتيب، ومملّ وكذلك، لا يصدَّق، وغير واقعي. وأعطى للقرآن إجراءً مماثلاً لتخفيض مزدوج لقيمته. ولا ينبغي أن نتفاجأ من كون المسيحيين الأوروبيين، لا يجدون سوى القليل من الأمور الدينية في القرآن، ويضيفون بأن القرآن لم يكن جيّداً حتى من الناحية الشعرية كذلك، لذلك لم تكن له أي قيمة على الإطلاق في نظرهم([20]).

في ردّه على هومبولت، يلخص هيغل ما يعنيه الدين في غيتا على النحو التالي: «حسب الملاحظات التي تم الإدلاء بها، فإن الدين يعني تقديم الكعك ورش الماء، وتعني المعصية جزئياً الامتناع عن مثل هذه الاحتفالات، وجزئياً الزواج من الطبقات الدنيا، مضمون لا نحترمه دينياً ولا أخلاقياً»([21]). وبعد سبعين صفحة طويلة، توصل هيغل إلى نتيجة غامضة، تكشف عما كان مستفزّاً جدّاً في غيتا لهيغل: «تصبح مهمة [فهم خصوصية العقل الهندي] أكثر صعوبة، ليس بسبب الاختلاف العام بين طريقة التفكير الهندية وطريقتنا، بل بسبب تعارضها مع أسمى مفاهيم وعينا، ولكنها في العمق المدهش غير المنقسم تسقط في أكبر إهانة»([22]).

أعرب هومبولت عن استيائه من المحاولة القهرية لهيغل لإخضاع غيتا لنسقه: «لا يمكنني الموافقة ولو قليلاً على تقديم هيغل الطويل لنصي. إنه يخلط الفلسفة والخرافة، الحقيقة والزيف، القديم والحديث، - أي نوع من التاريخ الفلسفي يمكن أن يكونه هذا؟»([23]). بكلمة مختصرة: لقد فقد هيغل مصداقيته، وليس هذا فقط، بل طريقته الكاملة في «التاريخ الفلسفي». لقد فاز بنصر باهظ الثمن pyrrhic victory، فقد حدث له بالضبط ما تحذِّر منه غيتا، وعلى حد تعبير غاندي: إن المنتصر يخسر أيضاً.

من يشعر بأنه متفوق عند التقائه بالآخرين، ويريد التلاعب بمكانته المهيمنة، ويخطئ في تقدير ديناميكية كل لقاء من هذا القبيل، لا يريد الاعتراف بأن مثل هذا اللقاء لا يتركنا دون تغيير، حتى عندما نعتقد بأننا نتحكم فيه. قد يبقى الفائز فائزاً، ويسمح له بأن يطلق على نفسه هذا اللقب، لكنه لن يبقى من هو، وفي نهاية المطاف، سواء أدرك ذلك أم لا، يفقد نفسه.

ينشأ العداء الثقافي، عندما يخشى المرء التغيير الحتمي المتأصل في كل لقاء، ويريد التهرب منه. يبحث المرء على التفوق، على أمل الهروب من التغيير والبقاء مسيطراً، والبقاء على طبيعته؛ أي الحفاظ على «هوية» المرء، ويفترض بأن هناك حجماً ثابتاً، يجب الحفاظ عليه إما (في برادايم الأصالة والوطن)، أو (في برادايم التقدم)، الذي لا يزال يتعين تنفيذه وفقاً للشعار: أصبح من أنت. في بهاغافاد غيتا، وفقاً لتعاليم كريشنا، لا يمكن لأرجونا أن يفوز بالمعركة، إلا إذا قاتل كما لو أنه لا يوجد شيء للفوز: من خلال عدم القتال من أجل نفسه. يبقى هو ذاته، لكن هذه الذات ليست الفرد الحديث بالطبع، بل هي أتمان ātman، الذات التي تعتبر كل شيء، ولا شيء، وعلى أي حال لا تكون «شخصية».

كانت الترجمة الإنجليزية التي استعملها هيغل، إضافة إلى ترجمة شليغل Schlegel اللاحقة (إلى اللاتينية)، أول ترجمة للغة أوروبية على الإطلاق. نُشرت عام 1785 من طرف تشارلز ويلكينز (1749-1836) Charles Wilkins، الذي كان موهوباً لغوياً، سافر إلى الهند عام 1770، وخدم لصالح الحاكم البريطاني الشهير وارن هاستينغز Warren Hastings. وتم التعرف على أهمية غيتا على الفور من قبل ويلكينزWilkins وهاستينغز Hastings، ولكن أيضاً من قبل العقول الأكثر إشراقاً في أوروبا.

حتى ذلك الحين، لم يُعرف سوى القليل عن التقليد الملحمي للهند. وليس فقط البعد الأدبي، بل أيضاً البعد الروحي للنص، كان يجب أن يجذب القرّاء الأوروبيين. نظم هيردر بعض الأبيات، على الأرجح من اللغة الإنجليزية - وبدت غيتا Gita متوافقة تماماً مع السرد الموصوف، وبمساعدة الديانات (غير المنطقية) للشعوب الأخرى، يمكن قراءتها على أنها شعر، يمكن دمجها وقبولها كجزء من فهم الفرد للعالم والكوسموبوليتية. من المُسَلَّم به أن هذا الاستقبال ينطوي على خطر البقاء دائماً في الحَجْر، لما كان (وفقاً لغوته Goethe) فضولاً أو نسبياً كرونوبولوتياً. ليس لغيتا قيمة جوهرية خاصة بها، بقدر ما هي عينة غريبة من الفكر الديني الهندوسي، كما هو موثق في مراجعة من المراجعات الأولى لترجمة ويلكنز Wilkins في إنجلترا([24]).

في الوقت نفسه، تعرضت مجموعة ما يسمى بالمستشرقين - أي أولئك الذين تعلموا اللغات الهندية -، برعاية المسؤولين الاستعماريين البريطانيين لضغوط كبيرة، خاصة من المبشرين والمحافظين البريطانيين المتدينين. وقيل إنهم قدموا الكثير من التنازلات للسكان المحليين، وأصبحوا قريبين جدّاً منهم، واندمجوا معهم. ولهذه الأسباب اضطرت كلية فورت ويليام Fort William College في كالكوتا Calcutta، التي تأسست عام 1800، إلى الإغلاق مرة أخرى عام 1830 ([25]). واتخذ قرار البريطانيين بالتدريس في التعليم العالي في الهند باللغة الإنجليزية، عوض اللغات المحلية في نفس الفترة، (بناءً على ما يسمى ورقة ماكولاي Macaulay لعام 1835)، ومنذ ذلك الوقت أصبحت الهند أنجلوساكسونية.

كما رأينا، كانت صورة الهند في ألمانيا سلبية أيضاً في الغالب، منذ عصر التنوير والمثالية الألمانية حتى ماركس. ووفقاً لتقارير المبشّرين، كانت الهند تعدّ ملاذاً للشرك واللاعقلانية والسلبية. واعتبر غوته الشعر الهندي «مثيراً للإعجاب [...] لأنه يساعد نفسه، من جهة على الخروج من الصراع مع الفلسفة الأكثر غموضاً في واحدة [...] من أكثر الديانات وحشية [sic]، ومن الجانب الآخر، يوجد في أسعد طبيعة»([26]). لكن غوته لم يعرف غيتا([27]).

بالنظر إلى هذا، فإن ترجمة أوغوست فيلهلم شليغل August Wilhelm Schlegel إلى اللاتينية تمثل قفزة. ففي وقت مبكر من عام 1817، دعا August Wilhelm إلى إنشاء كرسي للغة الهندية والأدب في برلين - وطالب بهذا المنصب لنفسه ([28]). وأصبح فيما بعد أستاذاً في بون Bonn. إن العلاقة بالهند بين الأخوين شليغل، اللذين التقينا بهما في الفصل الأخير من هذا الكتاب، عندما تحدثنا عن تبادل الرسائل مع نوفاليس Novalis، لا يرجع فقط إلى الحالة المزاجية السائدة في ذلك الوقت، بل له أيضاً جذور، تتعلق بالسيرة الذاتية لهما. التحق الأخ كارل أوجستCarl August (من مواليد 1762) بخدمة شركة الهند الشرقية البريطانية East India Company عام 1782 التي كان يرأسها في ذلك الوقت وارين هاستينغس Warren Hastings. وتوفي كارل أوغست في الهند عام 1789، على الأرجح بسبب عدوى. على العكس من هذا، لم يكن الأخوان شليغل الأصغر سنّاً، واللذان أسّسا الدراسات الهندية في ألمانيا، أبداً في الهند. والغالبية العظمى ممن تعاملوا مع «الشرق»، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، لم تطأ أقدامهم أرض الهند أبداً. ولم يسافر روكيرت Rückert إلى أبعد من روما.

بالإضافة إلى ترجمته، أعد أوغوست فيلهلم شليغل نسخة نقدية بهاغافاد غيتا Bhagavad Gita أيضا عام 1823، والتي كانت تعد الأفضل لمدة قرن([29]). سمحت اللاتينية بدرجة عالية من الدقة المفاهيمية، ولكن هذا أدى أيضاً إلى ترجمة العديد من الكلمات السنسكريتية، باستخدام المصطلحات المسيحية، حيث ترجمت كلمة اليوغا Yoga مثلا بكلمة التفاني devotio([30]). تعلم فيلهلم فون هومبولت أيضاً اللغة السنسكريتية، لكنه اعتمد في تفسيراته على ترجمة شليغل. أراد هومبولت أن يعطي مستمعيه وقراءه تأويلاً غير متحيز عن النسق الفلسفي، يعني إعطاء تعاليم القصيدة، كما يقول([31]). ومن خلال هذه القراءة، التي أخذت غيتا Gita على محمل الجد كفلسفة، تم اتخاذ الخطوة الأولى الحاسمة نحو التنبيه للاستيلاء الأوروبي والتوسع الثقافي، على الرغم من محاولة هيغل التقليل من قيمة القصيدة فلسفياً. وبهذا توصل هومبولت إلى نتيجة رائعة مفادها أنه: «لا يمكن في الهند فصل القانون السياسي عن القانون الديني»([32]).

لكن الاختراق الحقيقي جاء مع الترجمة الشعرية الشهيرة لإدوين أرنولد، التي نُشرت عام 1885، تحت عنوان «الأغنية السماوية». ومع أرنولد، الذي أشار مراراً وتكراراً إلى شليغل في مقدمة ترجمته، تلاشت تحفظات هيغل إلى غير رجعة. والسبب الذي قدمه أرنولد لإعادة ترجمته جدير بالملاحظة: «سيكون الأدب الإنجليزي بالتأكيد غير مكتمل، إذا لم تكن بحوزته، بشكل يسهل الوصول إليه، عملاً شعرياً وفلسفياً يحظى بتقدير كبير في الهند»([33]). يا له من فرق بين هيغل وغوته، يا له من استنتاج منطقي، ولكن أيضاً، يا له من عمل تمهيدي لشليغل وهامبولت! إن أخذ عمل من الهند كشرط لاكتمال الأدب الإنجليزي، هو أفضل ما في الأدب الكوسموبوليتي، وليس هناك إلا روكيرت Rückert، والرومانسيين الأوائل، الذين قدموا بمثل هذا التقدير للأدب.

أثبتت ترجمة إدوين أرنولد Edwin Arnold لغيتا، بأن هذه الترجمة الأدبية تستخدم الشخصيات كنماذج أولية، أو مُثُل مجردة، والأفعال كقراءة رمزية بحتة للنص، يسهل نقلها وتقبلها على نطاق واسع([34]). وتسبب هذا في تحول مميز في دائرة المستقبلين: الملحمة التي تم تكييفها لغوياً مع الذوق الفيكتوري، لم يتم قبولها في الأوساط الأكاديمية، اهتم بها أكثر المهتمين بالتوجه الديني الجديد، والذين كانوا متقبلين لتعاليم الحكمة غير الأوروبية بشكل خاص. ومن بين هؤلاء كان هناك الثيوصوفية والمنجمة المبهرة والباطنية (Esoteric الإدراك الذي يتجاوز الحواس: إضافة المترجم) السيدة بلافاتسكي. وُلدت هيلينا بلافاتسكي Helena Blavatsky، في روسيا عام 1831، وتوفيت في لندن عام 1891، عبقرية ودجالة، مجنونة وصاحبة رؤية visionary في نفس الوقت. غالباً ما سخر المرء من الطابع الكوسموبوليتي الروحي لها، والذي ينعكس في سيرتها الذاتية المضطربة، بين أوروبا والهند والولايات المتحدة الأمريكية. لكن هذا الطابع ألهم العديد من الفنانين والمثقفين، وهو واحد من أقوى التيارات الفكرية في مطلع القرنين التاسع عشر والعشرين. للاستشهاد بمثال واحد فقط من الفن، يجب ذكر عمل كاندينسكي Kandinsky المؤثر للغاية «حول الروحانية في الفن Über das Geistige in der Kunst» لعام 1912([35]). كان كاندينسكي، كما ذكرنا، عم ألكسندر كوجيف Alexandre Kojèv، الذي اهتم أيضاً بالفلسفة الهندية، ويفترض أنه تعلم اللغة السنسكريتية والصينية. إذا أخذنا بعين الاعتبار أهمية كوجيف للحياة الفكرية للقرن العشرين حتى فوكوياما، تظهر روابط مذهلة، بدءاً من بلافاتسكي Blavatsky، والتي لم يتم الاهتمام بها بجدية. ففي المجتمع الثيوصوفي، وهذا أمر مؤكد، كانت غيتا Gita، في ترجمة إدوين أرنولد بمثابة كتاب عبادة.

كاد إرنست بلوخ، الذي يرفض كل ما لا يتناسب مع روايته العالمية، أن يجد كلمات مدح في حق بلافاتسكي، (قبل أن يهاجم رودولف شتاينر Rudolf Steiner لاحقاً جملة من جمله): «متوحشة تماماً، لكنها مثيرة للاهتمام من الناحية الجوهرية، [...] بالـ 'إيزيس دون نقاب'»([36]). (ويعد «إيزيس دون نقاب» من عام 1877، أحد أهم أعمال بلافاتسكي). بالنسبة إلى القراء مرهفي السمع لغوياً، لا يزال صدى صياغة بلوخ هذه يتردّد، مع شيء من حُكْم هيغل على غيتا، الذي يرى أسلوبه الهندي في التفكير: «في العمق المدهش غير المنقسم تسقط في أكبر إهانة».

لا يعود نجاح الحركة الثيوصوفية إلى بلافاتسكي فقط، بل أيضاً إلى الشخصية المبهرة الثانية، الناشطة في مجال حقوق المرأة والناشطة اليسارية آني بيسانت Annie Besant (1847-1933). ولدت في إيرلندا وكانت كاثوليكية، وكانت حساسة تجاه السياسة الاستعمارية البريطانية، وشاركت في الحركة العمالية، وانضمت إلى الجمعية الثيوصوفية في عام 1889، والتي مثلتها في البرلمان العالمي الشهير للأديان في شيكاغو عام 1893. ذهبت إلى الهند في بداية القرن العشرين، وقامت بحملة من أجل حركة الاستقلال الهندية، وإحياء الهندوسية الروحية، وفقاً لأفكارها (التي تأثرت أيضاً بالنظريات العرقية الآرية).

يعود الفضل إلى بيسانت في اكتشاف وصعود جيدو كريشنامورتي Jiddu Krishnamurti (1895-1986)، أحد أهم ناشري الروحانية الهندية في الغرب. وقال جوستاف ميرينك Gustav Meyrink، مؤلف الرواية الصوفية الكافكاوية «المارد The Golem»، عام 1927 حول كتاب كريشنامورتي «عند قدمي المرشد At the Master's Feet»، بأن هذا الكتاب كان: «إلى حد كبير الأكثر دادائية، الذي سلمته الجمعية الثيوصوفية حتى الآن للطباعة». ويبدو أن كريشنامورتي نفسه، «الذي عليه أن يكون المسيح لقرننا»، «لا يزال في مرحلة البرمائيات»([37]). وبغض النظر عما قد يظنه المرء، فقد امتدت أنشطة المحاضرات التي قام بها كريشنامورتي من الثلاثينيات إلى الثمانينيات من القرن العشرين([38])، وطبع صورة الروحانية الشرقية المتأثرة بالهند عند الكثير من الناس في الغرب، وفي الهند نفسها أيضا. وقيامه عام 1929 بنفسه بحل «النظام» المسياني الذي أسسته بيسانت Besant عام 1911 تكريماً له، يُظهر نضج معين ومعارضته لـ«مرحلة البرمائيات». وتوجد إحدى الجمل الأساسية في تصوره للعالم في الخطاب الذي حل به «جمعية النجم Order of the Star»: «إنني أدعي بأن الحقيقة هي أرض بلا طريق. لا يمكن للمرء الوصول إليها من خلال أي طريق أو دين أو مذهب. ولأن الحقيقة غير محدودة، وغير مشروطة، وغير قابلة للتحقيق بأي وسيلة، فلا يمكن أن تظهر بطريقة منظمة. ولا ينبغي تشكيل منظمة ما لقيادة أو إجبار الناس على السير في أي طريق معين»([39]).

على ضوء هذا قول، فإن تلميح ما يرينك Meyrink إلى الدادائية Dadaismus غير خاطئ على الإطلاق؛ يجب على المرء فقط ألا يرفض الدادائية، واعتبارها مجرد هراء. إن «الحقيقة هي أرض بلا طريق» «Truth is a pathless land»، تشير مباشرة إلى قول بول فايرابند «كلّ شيء مقبول anything goes». ومثلما لا يمكن فصل ما بعد الحداثة عن الثورات الطلابية وحركات عام 1968، فإن الاهتمام بـالروحانية - خاصة الشرقية - لا ينفصلان كذلك عن حركات 1968 وما بعد الحداثة. إذا لم يقم المرء بتضمين التيارات السطحية اللاعقلانية، والروحية، والعرقية، والشرقية المتحمسة في التاريخ الفكري الكوني، (ويعني هذا أيضاً الغربي)، بشكل حاسم، فإن المرء لا ينكر نصف هذا التاريخ فقط، بل أيضاً لم يعد يفهم لماذا انتهى بنا المطاف إلى التصورات المسدودة للعالم، التي (جميعنا) عالقون فيها.

إذا عدنا خطوة إلى الوراء، ونظرنا إلى هذا التقليد الآخر، فإن السؤال الذي التقينا به سابقاً يُطرح مرة أخرى: ما إذا كان هناك خيار بين طريق مسدود واللا سبيل فقط، بين تمثل للعالم مغلق وكل شيء ينتهي، بين التدين العقائدي المنظم، أو الدين كهواية وشعر. فلا التقليد الليبرالي ولا الماركسي الهيغيلي -وكلاهما شكلان سابقان للأيديولوجيا الغربية- قادر على فهم التاريخ، ناهيك عن التاريخ الفكري، إذا كان الدين والروحانية بالنسبة إليهما مجرد نقطة عمياء، وفي أحسن الأحوال شاعرية، ولا يعتبر بأي حال من الأحوال أمراً سياسياً. والجدير بالذكر أولا وبالخصوص أن «الروحانية والعلمانية برزتا في وقت واحد كبديلين مترابطين للدين المؤسساتي في الحداثة الأوروبية-الأمريكية»([40]).

حتى كريشنامورتي يقوم بـالعمى الاجتماعي فيما يتعلق بالدين، وبالتالي يتوقع بوذية المساعدة الذاتية العصرية في عصرنا: إن «الإيمان هو مسألة فردية بحتة ""A belief is purely an individual matter»([41]). ومثل هذا التنوع لما بعد الحداثة قبل الأوان (avant la lettre)، كان دائماً متوافقاً بشكل جيد مع الليبرالية؛ خاصة وأن اللغة الإنجليزية في الهند عام 1929، كان يسعدها سماع مثل هذه الكلمات. وتم اعتقال بيسانت في عام 1917، بسبب ارتباطها بحركة الاستقلال الهندية. وبعد اثني عشر عاماً، لم يكن هناك ما يخشاه المرء من «جمعية النجم»، التي حُلّت. وكجميع أدبيات المساعدة الذاتية، فإن كتابات كريشنامورتي لا معنى لها سياسياً، فردية وتمثل تراجعاً هادئاً([42]). ولكن ماذا لو ظهر هذا الاعتقاد «الفردي»، غير المسيّس ظاهرياً، فجأة بشكل جماعي وطرد قوة استعمارية؟

حدث هذا في سياق الاستقبال الجديد لبهاغافاد غيتا Bhagavad Gita، بدءاً من ترجمة أرنولد Arnold لقد أصاب التبني الثقافي لهذا النص من قبل المشهد الثيوصوفي البريطاني، وغيره من الحركات البديلة والتحررية في بريطانيا العظمى، الهنود الذين كانوا يعيشون في إنجلترا، وكان له تأثير على الهند، وطور تأثيراً لا يمكن تصوره للنص الأدبي الفلسفي: أصبحت غيتا نقطة التبلور، الإيجاز، تعويذة حركة التحرير الهندية. وكانت آني بيسانت Annie Besant من أوائل من فسر المعركة التي نوقشت في غيتا، من حيث النضال الهندي من أجل التحرر من الاحتلال البريطاني([43]). وتشير المؤرخة ميشكا سينهاMishka Sinha إلى أن الاتجاهات الإنجيلية للعصر الفيكتوري، التي كانت من بين أقوى التأثيرات على الثقافة والسياسة الإمبراطورية في القرن التاسع عشر، والأكثر معارضة جذرياً «ليس الليبرالية، التي [...] تشترك في العديد من الافتراضات الإنجيلية، بل التيارات الدينية غير التقليدية، والتي تضمنت الروحانية والثيوصوفيا. ويمكن للثيوصوفيين تجنيد غيتا Gita، كجزء من السعي الروحي الراديكالي الذي من شأنه أن يؤدي إلى نتائج تتجاوز المجال الروحاني المحض»([44]).

«تتجاوز المجال الروحاني المحض»: وهذه هي النقطة الحاسمة. لا ينبغي أن تكون الثيوصوفيا بأي حال من الأحوال مجرد مسألة فردية بحتة، كما أطلق عليها كريشنامورتي فيما بعد اسم «اعتقاد»، بل اعتبرت نفسها بمثابة خلفية سردية وأساس فكري لأشكال التحرر الأكثر تنوعاً، وليس فقط تحرر المرأة. ويمكن أيضاً توجيهها ضد الإمبريالية: «يكمن تصور الروحانية في الرغبة في أن يكون عالمياً والارتباط بتصورات الهوية الوطنية في نفس الوقت»([45]).

في هذا السياق، أعطيت البهاغافاد غيتا Bhagavad Gita، التي اشتهرت بترجمة أرنولد Arnold، تفسيراً جديداً تماماً. وهكذا تم إبعادها عن الفهم التقليدي، وكان بإمكان القوميين الهنود إعادة قراءتها. وعلى الرغم من أن غيتا كانت معروفة للهنود المتعلمين، إلا أنها كانت تعتبر مجالاً للبراهمانيين؛ أي نصّاً للمبدعين الدينيين لطائفة معينة. ووفقاً لتعليق غيتا الشهير لشنكارا Shankara منذ بداية القرن التاسع، فُهمت غيتا على أنها نداء للتخلي، وليس كدعوة للعمل السياسي على الإطلاق. وعلى العكس من هذا اتضح أن غيتا الثيوصوفية الغربية، كما تم فهمها على أساس ترجمة أرنولد على أنها: «نص حديث متعدد الأشكال، يمكن فهمه حسب الرغبة، وفقاً للسياقات التفسيرية المعنية. كانت قابلة للتطبيق عالمياً، وقابلة للتكيف مع الاحتياجات العالمية للروحانية ومطالباتها العالمية، ولكن في نفس الوقت كانت متجذرة في ماض هندوسي خالص، أعيد بناؤه بطريقة خيالية»([46]).

تمكن الشاب غاندي أيضاً من الوصول إلى دوائر الجمعية الثيوصوفية([47]) Theosophical Society، خلال سنواته الثلاث كطالب قانون في لندن (1888-1891). هناك قرأ غيتا Gita لأول مرة، وبالضبط ترجمة إدوين أرنولد. وكان غاندي مفتوناً بشكل خاص بالدعوة إلى اللاعنف في غيتا، والتي، بالطبع، ليست سوى جانب واحد من تعاليم كريشنا. كتب غاندي عام 1925 في مقال له: «أثناء وجودي بإنجلترا، قرأت غيتا من خلال وساطة صديقين. [...] لم تكن معرفتي باللغة السنسكريتية كافية لفهم كل أبيات غيتا دون مساعدة. [...] أراني الصديقان النقل الرائع للسير إدوين أرنولد لغيتا. التهمت المحتوى من الألف إلى الياء، وكنت منبهراً. ومنذ ذلك الوقت طُبِعَ آخر تسعة عشر بيتاً من الفصل الثاني بشكل لا يُمحى من قلبي. إنها تحتوي على المعرفة كلها بالنسبة لي. منذ ذلك الحين، قرأت العديد من الترجمات، والعديد من التعليقات عليها، وفكرت فيها وناقشتها لإرضاء نفسي، لكنني لم أنس أبداً الانطباع الذي تركته تلك القراءة الأولى عندي»([48]).

كان غاندي الأكثر شهرة ونجاحاً، لكنه لم يكن بأي حال من الأحوال الهندي الأول والوحيد الذي أعاد قراءة غيتا، على خلفية الحاضر السياسي في عصره. تندمج التأثيرات الهندية الأصلية والغربية مع بعضها البعض بطريقة لا يمكن تمييزها تقريباً. تم إحياء التقليد الهندوسي بالمعنى القومي، وبالتالي معاداة البريطانيين في نفس الوقت في الهند نفسها، تم وضع الأفكار الغربية في الأصل مثل فكرة الوطن ضد الغرب (مُمَثَّلا ببريطانيا العظمى) في مكانها الصحيح. ولكن ما كان جديداً هو أن الحجج والاستراتيجيات الخاصة بالنضال ضد الاستعمار، أخذت مباشرة من غيتا Gita، وليس من القانون البريطاني أو المفاهيم الغربية للقانون والعدالة. ومن بين الذين رجعوا أيضاً لغيتا، كان هناك بال گنغگادهر تلك Bal Gangadhar Tilak (1856-1920)، أحد قادة حركة الاستقلال الهندية. كتب تعليقه، الذي يُؤوِّلُ غيتا من حيث الكفاح من أجل الحرية، كسجين بريطاني حوالي عام 1910. قرأ أبيات الملحمة كدعوة للعمل السياسي، ورأى فيها -وهو ليس تأويلاً خاطئاً!- بأن العنف مبرر، على الأقل طالما أنه لا يخدم دافع الربح الفردي، ولكن غرضاً أسمَى:

«علَّمَ كريشنا في غيتا بأن لدينا الحق في قتل حتى معلمنا أو أقاربنا. لا لوم على من يتصرف دون أن يكون تصرفه مدفوعاً بالرغبة في ثمار الفعل. هُبُّوا ضد قانون العقوبات [البريطاني]، وادخلوا عالم غيتا Gita، ثم تأملوا تصرفات هؤلاء الرجال العظماء»([49]).

يتبع أوروبيندو گهوس Aurobindo Ghose (1872-1950)، نشأ في إنجلترا، ويعد أصغر من بال غانغادهار تيلاك - موقفاً مشابهاً إلى حد ما. انضم عند عودته إلى الهند عام 1893 إلى حركة الاستقلال أيضاً، ومثل تيلاك، قرأ غيتا في السجن، وحوّلها إلى فلسفة تحرير. ظهر له كريشنا في المنام، وأعطاه الغيتا، وصرح له بأنه مؤيد للانتفاضة. يقول في كتابه «مقالات عن غيتا»، من بين ما يقوله: «نعتقد بأن اليوغا [التي تُفهم هنا على أنها الصرح الفلسفي الذي يحمل نفس الاسم، وليس الجمباز] في غيتا، ستلعب دوراً رئيساً في انتفاضة الأمة، وهذا الموقف هو الشرط الأول ليوغا غيتا»([50]). قرأ غوس Ghose غيتا على أنها دعوة للنشاط السياسي بمفهوم القومية الهندية.

لكي يتجنب المزيد من الاعتقالات، انسحب گهوس Ghose سنة 1910 إلى المناطق التي كانت تسيطر عليها فرنسا في ذلك الوقت، في جنوب شرق الهند. ومنذ ذلك الحين، فسر غيتا على نحو ديني، أكثر من كونه نصّاً عالمياً، موجّهاً للبشرية جمعاء([51]). وعلى أساس هذا التفسير، أسس مع الروحانية السفاردية الفرنسية ميرا الفاسي Mira Alfassi (نعرف من هذا الاسم، بأن عائلتها أتت من مدينة فاس المغربية، ومثل عائلة سبينوزا وسيلا بن حبيب، ربما ذهبت إلى مصر، وبالتالي إلى الإمبراطورية العثمانية في سياق اضطهاد اليهود) الأشرم Ashram، الذي نشأت منه جماعة أوروفيل Auroville، بعد وفاة أوروبيندو، وهي نوع من الكوسموبوليتية أو، كما يطلق عليه أيضاً، «العالمية» والروحانية، مدينة مثالية موجودة حتى يومنا هذا([52]). قام أوروبيندو بعملية تحول «من سياسي قومي إلى معلم روحي عالمي»([53]). وكان الإعداد لهذا التحول هو تعليقه على غيتا، وهو تعليق لم يفسره على أنه هندي بالخصوص، بل باعتباره رسول حقيقة للإنسانية ككل. ويبدو أن أوروبيندو قد اعتقدت أن جانباً واحداً فقط من الكوني يتحقق في الجانب الوطني من غيتا، على غرار الطريقة التي تُعتبر بها الأمم، وفقاً للسرد المشترك للحداثة، عنصراً مركزياً في نظام عالمي شامل. من طبيعة الحال، فإن وجهة النظر هذه ليست وجهة نظر هندية، بل وجهة نظر غربية، متأثرة بشدة بالمثالية الألمانية، وبالخصوص عند هيغل: كان بإمكان أوروبيندو، إعادة صياغة نوفاليس، والتأكيد أن «الهندية Indischheit هي كوسموبوليتية ممزوجة بأعلى درجات الفردية». وصلت المعادلة الإشكالية للغاية للكوسموبوليتية والقومية، والتي أشار إليها الرومانسيون بالفعل، ذروتها في بداية القرن العشرين، وتحولت إلى حجة واهية لكل شيء وكل شخص. في عام 1920، دعا توماس مان Thomas Mann إلى «توحيد أوروبا من خلال الجرمانية»، ووصف «الكوسموبوليتية بأنها روح وجوهر إرسال الجنسية الألمانية»([54]). وحتى يومنا هذا، فإن لشعوب أوروبا تحفظات على هذا النوع من «الكوسموبوليتية».

في إطار مثل هذه الأفكار، أصبحت الهند، (كما كانت ألمانيا في الماضي)، تتمتع بأهمية إنقاذ العالم وأخروياته؛ أي «كزعيمة روحية لعالم مادي (غربي) فاسد»([55]). كانت غيتا بالنسبة إلى أوروبيندو بالأساس، أساس التجديد الروحي للجنس البشري. أصبح واضحاً للمرء بأن: هندياً تربّى تربية بريطانية بالكامل، اكتشف جذوره في إنجلترا، (وتعلم اللغات الهندية بصعوبة بعد عودته)، أسس مع يهودية فرنسية، بلمسة روحانية وتاريخ عائلي عربي-عثماني، تصوراً للعالم، كوسموبولوجية عالمية جديدة، في مزيج متوحش من الأفكار الهندية الأوروبية. والهدف الذي يجب السعي لتحقيقه هو، دون أدنى سخرية، الإنسان الأعلى الخارق (superman). ويمكن أن يأتي هذا النموذج المثالي من نيتشه كما يمكن تكوينه من غيتا: «إن ما تعلمه غيتا ليس هو الزهد الجسدي، بل الزهد الداخلي»([56]). وبالنسبة إلى شقيق أوروبيندو، باريندرا كمار گوش Barindra Kumar Ghosh، فإن غيتا «لا تقل أهمية عن صناعة القنابل»([57]). وقد تطلب الأمر فترة من الاضطرابات السياسية الراديكالية، مثل تلك التي شهدتها الهند في النصف الأول من القرن العشرين، لجعل مثل هذه التخيلات مقبولة اجتماعياً -كان من الممكن أن يطلق عليها ميرينك اسم دادائية Dadaist, وربما سُرَّ هيغل لهذا، ولتكون بشكل أو بآخر، قابلة للاستمرار حتى يومنا هذا. ويتأسس السؤال الأساسي الموجود في جميع التفسيرات الحديثة لغيتا، على مفارقة تمت مناقشتها بشكل مكثف، بشكل خاص في الفلسفة الهندية، ولكنها في النهاية تعتبر تناقضاً إنسانياً عالمياً: كيف يمكن الفعل من دون فعل؟ ويقود هذا بدوره إلى مسألة كيف يمكن أن يكون المرء في العالم، وفي نفس الوقت البقاء بعيداً عنه، عدم التأثر به بقدر الإمكان. كيف يمكن أن يكون المرء في الدنيا وفي الآخرة في نفس الوقت، لتلبية مطالب الدنيا والآخرة.

إذا لخّصنا إجابة غيتا (في إجابة كريشنا على أرجونا Arjuna) بالقليل من التبسيط لوصلنا إلى النقطة المهمة، التي تسْحر كل قراء هذا النص حتى يومنا هذا؛ والذي يدفع جميع المفسِّرين إلى اليأس عندما يحاولون استخلاص استنتاجات عملية أو سياسية منه. والجواب ببساطة هو: عليك أن تتصرف كما هو منتظر منك، كما يليق بك، كما يبدو لك صحيحا. لكن تماسك نفسك داخليا، كما لو أن الأمر لا يعنيك، كما لو أنه لا يهمك، وقبل كل شيء، كما لو أنه لا يفيدك. اسلك طريقاً كما لو كنت تمشي من دون طريق، بلا مسار، من دون هدف. إذن لا تتصرف أبداً لأسباب أنانية، لا تتصرف أبداً وكأنك مُهتم، ولكن كما لو كنت تشاهد نفسك غريباً دون أن تتأثر. وبهذه الطريقة، كما تذهب تعاليم غيتا لذلك، يمكن للمرء أن يتصرف، وفي الوقت نفسه يقف فوق تصرفه؛ أي كما لو كان المرء لا يتصرف في الحقيقة، ابق وعياً نقياً وغير متأثر. ونقرأ في غيتا:

«ابذُل جُهداً من أجل الفعل فقط، ولكن لا تبذل جهداً لنجاح هذا الفعل أبداً

يجب ألا يكون النجاح أبداً سبباً للعمل، ولكن أيضاً تجنب الكسل

قُم بعملك بحزم وإخلاص! لكن لا تتشبث بأيّ شيء، إنك أنت المنتصر!

دع النجاح يكون أنت تماماً، فالاتزان هو ما يسمّى بالإخلاص»([58]).

لنتذكر مرة أخرى الصراع بين السيد والعبد، الذي يلعب دوراً بارزاً في «فينومينولوجيا الروح» لهيغل، والذي أعاد كوجيف تأويله، وأصبح في هذا التأويل مكوّناً لأيديولوجية الغرب، كما عبر عنها فوكوياما بطريقة نموذجية! ويصبح الاختلاف الأساسي واضحاً على الفور: إن الصراع بين السيد والعبد، الذي يمنح للعالم النظام والتاريخ من خلال تطوير التسلسل الهرمي، هو حسب تعاليم غيتا ثانوياً وبلا معنى، مجرد واجب خارجي، يجب على المرء القيام به، لكنه لا يكون تابعاً لنجاحه. ولهذا يكون المرء دائماً في مكان آخر، في الخارج، في الآخرة، في مجال روحي خالص. إنه موجود بالفعل في المجال الذي لا يزال يتعين على السيرورة الديالكتيكية عند هيغل أن تقود إليه. وهذه الدار الآخرة متاحة للتجربة والمعرفة في نوع من رؤية الله:

«من يرى في جميع الكائنات الحية نفس الربّ الأعلى،

الذي لا يهلك عندما يهلكون، ومن عرف هذا، فقد عرف حقيقة.

فمن عرف نفس الربّ ساكناً في الكل،

لا تؤذِ النفس بالنفس، لذا اسلك أعلى طريق. وسر في أعلى ممر»([59]).

بهذه الأبيات بالضبط، من طبيعة الحال من الترجمة اللاتينية لشليغل، اختتم شوبنهاور «كتيب الجائزة حول أساس الأخلاق Preisschrift über die Grundlage der Moral» (1840)، أحد أقسى الانتقادات للتصورات الأخلاقية الغربية واليقين الذاتي، التي لم تُكتب أبدا في لغة أوروبية ما، كتيب ضد فكرة الفرد المستقل، التي يؤمن بها المرء حتى اليوم، باستثناء شوبنهاور. يستنتج بأن هناك عند الهنود، (وهو أمر صحيح كما رأينا)، «هذه التعاليم القائلة إن كل تعددية هي ظاهرية فقط، وبأنه في جميع أفراد هذا العالم، مهما كان عددهم غير محدود، بَعْدَ وبجوار بعضهم البعض، ولكن هناك وجود واحد فقط، حاضر ومتطابق، يتجلى في كل واحد منهم [...]»([60]). يتعلق الأمر بهذا المنفتح جدّاً hen kai pan («الواحد والكل»، أي الكل-الواحد)، الذي أقسم عليه هيغل وشيلنغ وهولدرلين بالفعل في توبينغن، ربما أيضاً القوة التي، وفقاً لقول فريدريش شليغل الشهير، تجعل: «كون الإنسان متأكداً من أنه يجد نفسه دائماً من جديد، و[يخرج] من نفسه من جديد دائما، للبحث عن مكمّل أعمق وجوده والعثور عليه في أعماق شخص غريب»؛ لأن «العقل، دون أن يعرف ذلك، [يعرف] مع ذلك [...] بأنه لا يوجد إنسان يكون فقط إنساناً، ولكن في الوقت نفسه، يمكنه أن يكون البشرية جمعاء حقيقية وفي الحقيقة، وينبغي أن يكون كذلك»([61]).

إذا بحث المرء في أوروبا عن مصادر ونماذج للكوسموبوليتية المستقبلية المستدامة، فسيجدها عند شوبنهاور وشليغل، أكثر منه عند كانط أو هيغل أو ماركس. مثل هيغل، يقارن شوبنهاور التصورات الأخلاقية لأوروبا المسيحية بمفاهيم شبه القارة الهندية، لكنه يوصل إلى نتيجة مختلفة. بالنسبة إليه، يتجلى تفوق التعاليم الأخلاقية الهندية في نقطة أصبحت أكثر أهمية اليوم من أي وقت مضى، الأخلاقيات تجاه الحيوان: «إن تجاهل أخلاق المسيحية للحيوان هو عيب فيها، ومن الأفضل الاعتراف بهذا، عوض إدامته، وهو ما يجعل المرء يتعجب أكثر، عندما يلاحظ بأن هذه الأخلاق تُظهر تقارباً أقرب مع الأخلاق الخاصة بالبراهمانية والبوذية، يتم التعبير عنها بقوة أقل، ولا يتم تطبيقها إلى أقصى الحدود؛ ومن ثم لا يمكن للمرء أن يشك بأنها، مثل فكرة الإنسان الذي أصابه إله (الأفاتار Avatar)، نشأت في الهند [...]. كرمز لَطِيف لفقر الأخلاق المسيحية، وباتفاقها الكبير مع الأخلاق الهندية، يمكن فهم الظروف التي يظهر فيها يوحنا المعمدان في شكل سانياسين sannyasins هندي، لكن مرتدياً جلود الحيوانات! وكما هو معروف، فإن هذا مكروه عند كل هندوسي»([62]). وتقول أبيات غيتا التي استشهدنا بها سابقاً: «إن الإنسان الذي يعمل من دون ميل للعالم، يبلغ الهدف الأسمى»([63]).

إذا تصرف الإنسان انطلاقاً من الموقف الصحيح، يعني بالابتعاد والانعزال، وليس بالتصرف انطلاقاَ من نفسه ولنفسه، فإنّ التصرف لا يتم اعتماده من قبل غيتا فحسب، بل توصي به، تماماً كما أوصى كريشنا في آخر المطاف الأمير أرجونا بالقتال ضد أقاربه. ولهذا السبب بالتحديد، يمكن قراءة غيتا ككتاب يبرر المقاومة من أجل الوطن ضد الحكم البريطاني، الأمر الذي برر حتى العنف المفتوح، كما رأينا مع تِلَك Tilak، وكما نجد له صدى أيضاً عند أوروبيندو Aurobindo. لم تعد هذه هي القراءة التقليدية لغيتا، التي صاغها المعلق القديم شنكرا Shankara بقراءته الزهدية، بل القراءة الحديثة المستوحاة من الغرب، وهي القراءة التي تركز على العمل والفرد، شريطة التصرف بطريقة موجهة نحو الهدف؛ وألا يتبع الفعل أي دوافع أنانية أساسية.

كان غاندي هو من اعترض على هذا الرأي. فإذا كان القوميون قد أقسموا بغيتا([64])، فإن هذا النص أصبح تعويذة لغاندي وأتباعه، حملوه معهم دائماً، وانتظروا منه الدعم والبناء الروحي. ما كان يشغل غاندي هي مسألة كيف يمكنه الفعل سياسياً من جهة، ومن جهة أخرى ممارسة العزلة والانفصال، الذي يتوافق مع المثل الأعلى الهندوسي، يعني ممارسة عدم الفعل. وبشكل أكثر تحديداً: كيف يمكن أن يتصرّف سياسياً، ولكن لا يسمح لنفسه أن يفسد من جراء ذلك، داخلياً وخارجياً. وكان هذا السؤال مصحوباً بقرار أساسي، وهو فهم محدد للسياسة، (وبالاستنتاج العكسي، من الدين والروحانية)، وهو أمر أساسي للسياسة المستقبلية خارج ووراء الغرب. فالسياسة القائمة على روح ليست غربية في حد ذاتها. أصبحت غيتا في تأويل غاندي بياناً للأعنف. وعلى خلاف المترجمين المعاصرين الآخرين لغيتا، تبنى غاندي الفصل بين مجالَي الفعل والروح، على النحو المنصوص عليه في التعليقات القديمة، ولم يحاول تبرير الفعل من خلال مناشدة الموقف والعقلية الصحيحة، مثل الإيثار([65]).

من خلال اهتمامه بغيتا، فهم غاندي السياسة كمجال لا يمكن تنقيته وتبريره بالمعنى الروحي الأسمى، والذي يتضمن دائماً شكلاً من أشكال التدنيس، ويعني دائماً الاغتراب وعدم الاتمام بالأساس الأصلي للوجود، الذي يعني الآتمان ātman أو النيرفانا. ومع ذلك، فإن هذا الفهم -وفقاً لغاندي هذا لتعاليم الغيتا- لا يستنتج الابتعاد عن السياسة. إنه يضمن فقط بأن الشخص الذي يتدخل في السياسة لا يبرر ذلك بأهدافه، ولا يتسخ بربط نفسه بالأشياء الدنيوية. وعوض ذلك، فإن ما يهم هو الفعل السياسي نفسه؛ أي ما يفعله الفعل.

وبهذا، فإن غاندي، على عكس تيلاك وأوروبيندو وآخرين، لا يهدف بأي حال من الأحوال إلى تبرير السياسة أو إلى الإعلان بأنها نقية، أو إقرارها دينياً. قد تكون السياسة ضرورية، ويمكن الفعل سياسياً دون توحيل الذات. ولكن لا يوجد خلاص في السياسة في حد ذاتها، ولا يوجد خلاص يمكن البحث عنه فيها أو من خلالها. وهذه وجهة نظر غير عادية للسياسة في الغرب، منذ الثورة الفرنسية. وبهذا، فإن السياسة بالنسبة إلى غاندي، لم تكن مشروعاً أخلاقياً أو روحياً أو دينياً. وكما قال ديبيش تشاكرابارتي Dipesh Chakrabarty وروشونا ماجومدار Rochona Majumdar: «على عكس المتطرفين في الماضي»، لم يعد يطمح إلى «إصلاح المجال السياسي ككل، باعتبار العمل السياسي مدفوعاً أساساً بدوافع أخلاقية. بل كان يقبل بأن هناك دائماً جهات فاعلة شرعية أخرى في السياسة، حتى لو لعبت وفقاً لقواعد مختلفة تماماً عن قواعده»([66]).

إن المشكلة الحقيقية هي الشحنة الأخلاقية للسياسة. لكن لا مفرّ منها تقريباً؛ لأن السياسة حاضرة في كل مكان، بسبب قدرة الدولة الحديثة على اتخاذ الإجراءات، وبهذا فإنها تتسلّل إلى المجال الأخلاقي، وترغب في تحديد ما هو السلوك الجيد وما هو السلوك السيئ. تدّعي الدولة بأنها تدافع عن السياسة الصحيحة والجيدة، وبهذا فإنها تُعطي للسياسة طابعاً أخلاقياً. وإذا وقف المرء ضد هذا، فإنه يخاطر بالرد على أخلاق السياسة بأخلاق مضادة؛ أي إعطاء المقاومة طابعاً أخلاقياً أيضاً، واعتبارها الشيء الوحيد الصالح والصحيح، -على أي أساس آخر يجب على المرء أن يبرر حججه؟- وعند القيام بذلك، يبقى المرء عالقاً في النمط الذي حددته السياسة الأخلاقية، ويقويها فقط.

على العكس من هذا، قد تكون تعاليم غيتا هي الفصل بين الأخلاق والسياسة؛ لأنه وفقاً للتعاليم الهندية القديمة، فإن لكل تصرف (يعني السياسة) القدرة على الفساد الأخلاقي؛ لأن هذا التصرف يطالب الشخص ببساطة أن يكون حاضراً في فعل تصرفه؛ أي ألا يقف فوق كل الأشياء الدنيوية مثل الزاهد. يقول غاندي: «تتحكم السياسة اليوم [...] في كل تفاصيل حياتنا؛ فمثلا نتعامل مع الدولة في مناسبات لا تحصى، سواء أردنا ذلك أم أبينا. تؤثر الدولة في الجانب الأخلاقي لوجودنا. من هنا، فإنه على السانياسين sannyasin [الزاهد، المتنازل]، باعتباره خادماً حقيقياً وفاعلاً في المجتمع، أن يهتم بعلاقة الناس بالدولة، يعني عليه أن يُرشد إلى طريق ما، لتحقيق سواراج swaraj [الاستقلال، الحرية]. […] والسانياسين الذي بلغ الحرية بنفسه هو الأنسب ليرشدنا للطريق إلى هناك. إن السانياسين موجود في العالم، ولكنه ليس في هذا العالم»([67]).

يتوافق هذا الموقف مع الفهم الغربي للسياسة، ولكن بشكل سطحي وخارجي فقط. إن مطلب مجال من الحرية خارج السياسة والدولة ليس ممنوعاً، لكنه فكرة غريبة مع ذلك؛ لأن المفهوم الغربي ما بعد التنويري للحرية هو مفهوم دنيوي ملموس؛ أي مرتبط بالعالم الظاهر، الخارجي، وبالتالي السياسة. أما مفهوم الحرية الذي يمثله غاندي، فإنه يذكرنا أكثر بـ«رسالة في الحرية المسيحية Traktat von der christlichen Freiheit» للوتر، يقول: «إن الإنسان ذو طبيعة مزدوجة، واحدة جسدية والأخرى روحية». ويضيف بعد هذه الروحية: «الإنسان الروحي والجديد والداخلي»([68]). ولا يضرّ الروح «إذا امتنع الجسد عن كل ما يفعله المنافقون أيضا»([69])، وبالتالي كل ممارسة دينية خارجية مرئية. ويكمن الخلاص وفقاً للوثر في الموقف الداخلي، في الإيمان نفسه، وتماماً كما هو الشأن عند كريشنا في Bhagavad Gita، ووفقاً لغاندي، فإن ما يهم في تفسيره للغيتا هو الموقف الداخلي، الذي يكمن بالنسبة إليه في عدم اهتمام الشخص الذي اندمج مع الآتمان، أساس الوجود.

لا يترتب عن هذا الانصهار مع الأساس الأصلي، أو مع إيمان لوثر، بأي حال من الأحوال، بأنه ليس مهمّاً بتاتاً كيف يتصرف المرء خارجياً. على العكس من هذا، ففي كلتا الحالتين، وفقاً للتعاليم الهندية، وكذلك عند لوثر، الذي يشير إلى القديس بول، يعني هذا بأنه يجب احترام النظام الخارجي، (عند لوثر الدولة والكنيسة، وفي الهند دارما dharma، النظام القانوني الديني ونظام القيم)، حتى لو كان هذا يتعارض مع الموقف الداخلي. ويأتي التبرير أو النعيم من خلال الموقف الداخلي الصحيح، ولا يتأثران بمثل هذه الأشياء الخارجية. يقول لوثر: «يجب أن يخضع المسيحيون لسلطة الدولة، وأن يكونوا مستعدين لكل عمل صالح، ليس للتبرير؛ لأنهم مبررون بالفعل بالإيمان، بل من أجل خدمة الآخرين، وأيضاً خدمة من هم في السلطة في حرية الروح وطاعة إرادتهم في الحب الطوعي»([70]). وبهذه الطريقة يمكن، وفقاً للوثر، حل التناقض الذي بدأ به رسالته؛ أي الرسالتان التاليتان «حول الحرية الروحية والعبودية»:

«إن الإنسان المسيحي هو سيّد كل شيء ولا يخضع لأحد.

الإنسان المسيحي هو خادم لكل شيء وخاضع للكل»([71]).

هذا غير مناسب كشعار لحركة تحرير ما. ومع ذلك، استطاع لوتر تحفيز مقاومته ضد البابوية، وتمكن غاندي من قيادة حركة الاستقلال الهندية إلى النجاح، بمساعدة الموقف الهندي المماثل. وحتى وإن بدا بأن الانقسام بين المواقف الداخلية والخارجية، وما يرتبط بها من التقليل من قيمة المواقف الخارجية باعتبارها ثانوية، أو مجرد مؤقتة، تشجع على الخضوع، كما قد يعتقد الكثيرون اليوم -يقارن لوتر الاحتفالات بالسِقالات التي يزيلها الحرفيون بعد إتمام البناء([72])-. ولكن يتجاهل المرء بأنه مع هذا الانقسام تم اتخاذ الخطوة الأولى في اتجاه الابتعاد، (وبالتالي الاغتراب الداخلي)، عن الظروف المعينة، بينما هناك حيثما يقاوم المرء هذا الانقسام، تؤخذ الظروف الخارجية باعتبارها فعلية، لا مفر منها وعلى المرء، إما أن يقبل هذا (مثل الهزيمة تقريباً)، أو (كما في حالة عدم تحمل الاغتراب)، أن يضع نفسه تحت الضغط (لتحسينه، تغييره). ونظراً لعدم وجود إطار مرجعي آخر، فإن الموقف الثالث، أي الانتظار والترقب، «الحر» الداخلي، يكون مفقوداً.

تمّ التخلي تدريجياً عن الفصل بين الداخلي والخارجي في سياق التنوير والعلمنة، وهو أمر لا يثير الدهشة؛ لأن ما يدعم الموقف الداخلي، أي الدين، قد تم كبته. إن وعد التنوير، وحتى عصر الثورة والمثالية الألمانية، هو توحيد الوعي والوجود الداخليين والخارجيين، والجمع بينهما، وإلغاء الانفصال (الاغتراب)، حتى وإن كان ذلك في سياق العمليات التاريخية والديالكتيكية، العمليات التي يتعين على الناس تطويرها بنشاط.

من الضروري هنا الإشارة إلى أن الانقسام بين الداخلي والخارجي يبدو مع كانط، الذي يقف فكرياً في بداية هذا التطور، لا يزال ساري المفعول. ومع ذلك، يمكن ملاحظة الانتقال بين المرحلتين بوضوح في عمله؛ على سبيل المثال في النص الشهير «ما هو التنوير» (1783). ويصبح هذا الانتقال ملموساً في الوقت الذي تصبح فيه الحرية الداخلية عامة، ويمكن ويجب أن تعبر عن نفسها في البيانات العامة، لا سيما في التعارض. ولكن حيث لا يزال النظام الخارجي؛ أي نظام الدولة خاضعاً للطاعة، (كما هو الحال مع لوتر)، فإن الثمن الذي قد يدفعه المواطن للدولة، للطاعة الخارجية الرسمية يتمثل، وفقاً لكانط، في عدم تدخل الدولة في حرية ضمير المواطن، حتى لو عبر عنها علنا في شكل نقد: «يجب أن يكون الاستخدام العمومي والعلني للعقل حُراً دائماً، وهذا وحده يمكن أن يُحقق التنوير بين الناس. [...] لكنني أفهم من خلال الاستخدام العمومي والعلني للعقل الخاص بالفرد ما يفعله المثقف أمام جمهور القراء»([73]).

إن هذا الانتقال التدريجي من الداخل (عند كانط في شكل الموقف والرأي التنويريَين) إلى الجمهور والعموم والخارج، يمثل الانتقال من اللوتري إلى حقبة ما بعد كانط، والذي كان معنياً بالسماح للداخل والخارج، التنوير والدولة، الضمير والواقع، الوعي والوجود، السقوط في بعضهما البعض، (سواء كان ذلك فيما يخص تقدم التاريخ)، وللتعبير عن الأمر بشكل أكثر إيجابية، للجمع بين الجانبين بطريقة لا يكون المرء فيها مضطرّاً للعيش في حالة الانفصال المنفردة بين الاثنين، ويتحقق المثل الأعلى للوحدة ككل؛ أي حتى يصب الإحساس الـمـُلِح لبرادايم التقدم، مثل تيار عظيم، في محيط إحساس برادايم الأصالة، وهناك يذوب في النعيم -يستشعر المرء موجة ترديد الصوت الليبيدية (من الليبيدو. إضافة المترجم) لمثل هذه التخيلات-.

لا يمكننا اتهام كانط بنشر مثل هذه الأمور (سيعزو علماء النفس ذلك إلى مرحلة طفولية من التطور). ويقف ماركس وأتباعه بينهما، بقدم عند لوتر، وأخرى عند هيغل. ولا يُعتبر هذا الأمر جديداً، لكنه أساسي للغاية، حيث يمكننا تكراره هنا، وتحديد نقطة التحول بدقة كما قدمها كانط. يتم التعبير عن نقطة التحول بصيغة غريبة جدّاً عند كانط، وبالتحديد في تمييزه بين الخاص والعام: «يجب أن يكون الاستعمال العمومي للعقل حرّاً في جميع الأوقات»، كما قيل فيما قبل. وبهذه الطريقة، ينقلب العقل، الروح، الضمير، (في حالة لوتر بلا شك الداخل) إلى الخارج؛ أي يتحول إلى الخارج، ولكن لا يتوقف الأمر عند هذا الحد. فمن الغريب أنه في نفس اللحظة يحول كانط الخارج إلى الداخل، على الأقل في شكل استعمال غير عادي لمصطلحاته الخاصة: ففي حين أن الاستخدام العام للعقل يجب أن يكون حرّاً، يجب تقييد هذه الحرية في الفضاء الخاص -والذي نفهمه أكثر على أنه الفضاء الشخصي والداخلي للضمير-: «إن الاستعمال الخاص لنفس الشيء [أي للعقل]، غالباً ما يتم تقييده بشكل ضيق للغاية، دون إعاقة تقدم التنوير بشكل خاص». بالطبع، كان لكانط فهم مختلف لـ«الخاص»، عمّا عليه اليوم، وربما أيضاً، عما كان عليه فهم معاصريه له، وإلا فلن يضطر إلى شرح الموقف لهم على النحو التالي: «إنني أعني بالاستخدام الخاص، ذاك الذي يستعمله في وظيفة مدنية معينة أو مكتب معهود له. الذي قد يبرر أسبابه في وظيفة أو منصب مدني معين يعهد إليه. […] بالطبع لا يجوز المجادلة هنا، بل يجب على المرء أن يُطيع، ولكن بقدر ما يرى هذا الجزء من الآلة نفسه في نفس الوقت كعضو في مجتمع كامل، نعم حتى في المجتمع المدني العالمي، [...] فيمكنه بالطبع أن يجادل»([74]).

يتم الإبقاء على الحاجة إلى طاعة السلطات المستمدة من الفصل بين الداخل (الضمير) والخارج (الدولة، الكنيسة)، كما هو الحال عند لوتر، لكنها مغلفة بطريقة غريبة. يصبح المكان أو غرفة الصدى للحال السابق، السلطة الداخلية، مع كانط كل الخارج الشامل للآخر، «الوجود المشترك» بأكمله (يعني: «المجتمع»)، «نعم، حتى المجتمع المدني العالمي». إذا أراد المرء محاكاة ساخرة لوتر مع كانط، فيمكن للمرء أن يقول: «إن الكوسموبوليتي هو سيد حرّ على كل شيء ولا يخضع لأحد»، ولكن أيضاً: «خادماً لكل شيء وخاضعاً للجميع». لم يقل هذا لتسلية القارئ المفكر، ولكن لأن هذا يصف بالضبط الحالة الراهنة للسياسة العالمية، كما يتجلى في التناقض بين الفعل والأخلاق، وبأفضل معرفة وضمير من جهة، والعمل السياسي العملي من جهة أخرى. يُطالب بالسلام وحقوق الإنسان وحماية المناخ بصوت عالٍ، كما لو كان المرء سيّداً حرّاً على كل شيء، ولا يخضع لأحد. وبمجرد أن يتم التنفيذ في السياسة التطبيقية في إطار «منصب أو مكتب مدني موثوق به»، تسيطر القيود العملية والاعتبارات الدبلوماسية والاقتصادية، وما إلى ذلك، فالمرء يُسَيَّر فقط. قد يجد المرء هذا مؤسفا؛ لكنه يتفق تماماً، إذا صح التعبير، مع الموقف الوسيط لكانط، وفهمه للتنوير. لكننا نتعلم أيضاً من هذا بأن التحول من الداخل إلى الخارج لا يزيل الاغتراب؛ أي الفصل بين الداخل والخارج، ولا يخفف منه، بل يتم تفاقمهما والكشف عنهما بطريقة مفضوحة، وبهذا من الممكن وقوع مشكلة، لا يحتمل حلها أي تأخير، لكن يطالب إلى الفعل النشيط. من هنا، فإن السياسة أخلاقية، تتم تجربة التناقض، الذي كان دائماً قائماً كتناقض، بوضوح وبطريقة غير مُطاقة، لكن هل يمكن حلّه؟

يعود فصل كانط بين المواقف العامة والخاصة، والمعبر عنها والمستنيرة (من الأنوار: إضافة المترجم)، والقيود السياسية الرسمية، في تمييز ماكس فيبر الشهير بين أخلاقيات المواقف وأخلاقيات المسؤولية، الذي يشهد عودة في الخطاب السياسي، بفضل أزمة اللاجئين([75]). وأصله في نص بعنوان «السياسة كمهنة Politik als Beruf». وبعد ما قيل هنا، لم يعد يفاجئنا بأن ماكس فيبر يذكر Bhagavad Gita في ندائه لأخلاقيات المسؤولية. وغالباً ما يتم تجاهل الخلفية التاريخية للمحاضرة التي ألقاها فيبر في الأصل في ميونيخ، خلال الشتاء الثوري لعام 1918/1919، من قبل أولئك الذين يستشهدون اليوم بأخلاقيات المسؤولية لدى فيبر: إنها مسألة الذنب بعد الحرب العالمية الأولى، ومن الواضح أن فيبر كان على خلاف مع كيفية انتهاء الحرب. كان يريد السلام على أساس الوضع الراهن Status quo، يقول: «جعلت طريقة الحياة الهندوسية كل من المهن المختلفة موضوعاً لقانون أخلاقي خاص، دارما. [...] ويمكن العثور على تصنيف الحرب في مجمل نظام الحياة في بهاغافاد غيتا Bhagavad Gita، في محادثة بين كريشنا وأرجونا "قم بـ"العمل الضروري" -أي بحسب دارما طبقة المحاربين وقواعدها، ما هو إلزامي وضروري موضوعياً لغرض الحرب-: ولا يضرّ هذا بالخلاص الديني حسب هذه العقيدة، بل يخدمه»([76]).

من المثير الاعتقاد بأن معاصري فيبر الهنود، كانوا على بعد بضعة آلاف من الكيلومترات في الجنوب الشرقي، يفكرون في أسئلة مماثلة، وفي بعض الحالات توصلوا إلى استنتاجات مختلفة تماماً؛ استنتاجات كانت فعالة من الناحية السياسية، ولم تغادر إطار فيبر المفاهيمي فحسب، بل أدت إلى تفجيره. يرى فيبر، بشكل صحيح تماماً، خطورة «تقديس الغاية عن طريق الوسائل». لهذا السبب «يبدو بأنه على أخلاق الاقتناع أن تفشل»([77]). وكانت هذه هي المشكلة عند تيلاك Tilak وأوروبيندو Aurobindo وسافاركار Savarkar، (منظّرو القومية الهندوسية). ولتجنب هذا الخطر، فإن لأخلاقيات الموقف وفقاً لفيبر: «منطقياً احتمال واحد فقط: رفض كل عمل يستخدم وسائل خطيرة أخلاقياً»([78]). والظاهر أن فيبر يستبعد إمكانية تصرف المرء بالفعل دون استخدام وسائل خطيرة من الناحية الأخلاقية، ولهذا السبب فإنه ضد أخلاقيات القناعة، كشيء مستحيل. لكن في نفس الوقت الذي كتب فيه فيبر هذه الجملة، مارس غاندي السياسة الأخلاقية التي استبعدها فيبر، ونجح في ذلك!

تأتي أخلاقيات المسؤولية، إذا أراد المرء مقارنتها مع تمييز كانط بين العام والخاص، لتكمن حتماً في الجانب «الخاص»، وعلى العكس من هذا، فإن أخلاقيات القناعة، وبالتالي تمظهر التنوير، تكون في الجانب «العام»، (ويمكن للمرء أن يقول إن هذا غير بديهي؛ لأن الموقف حميمي وخاص إلى حد ما). ويجب أن تدفع نتيجة المقارنة إلى التفكير. عندما يتم فصل الفعل والموقف المسؤول، كوعي لما هو صحيح أخلاقياً، خاصة في روح التنوير، تصبح المصلحة الوطنية Staatsraison غاية في حد ذاتها، كما أوضح ذلك كانط بشكل لا لبس فيه: «بالطبع لا يجوز التفكير (räsonnieren) بمعنى المناقشة وتبادل الحجج هنا، بل يجب على المرء أن يطيع»([79]). يشتري التنوير موقفه المتفوق أخلاقياً بثمن الفعل الأدنى أخلاقياً.

في ظل هذه الخلفية، تُتهَم السياسة الأخلاقية بأخلاقيات الواجب، وبالصواب السياسي (political correctness) المبالغ فيه، وحتى في خيانة الدولة، والتي تسمى بتعبير أخف «فشل الدولة»، وهو الاتهام الأكثر شيوعاً ضد سياسة استقبال اللاجئين الألمانية عام 2015، والذي يضع الإنسانية فوق تفسير تافه للقوانين، وفهم مطلق للدولة. وبما أن الموقف والمسؤولية ينتميان في الأصل إلى بعضهما، وبما أن الانقسام مصطنع، فلابد أن يُنير هذا عقل كل شخص لا يزال يعرف ما هو الدين؛ ولكن يشتبه فيه على الفور بأنه يقوض الفصل بين الدين والسياسة الذي يعدّ مقدساً بالنسبة إلى العلمانية. لا ينبغي إنكار أن تخليق السياسة يمثل إشكالية، خاصة عندما تقدم السياسة نفسها على أنها أخلاقية، ويبدو أن هذه كانت وجهة نظر غاندي في المقطع الذي استشهدنا به. لكن هناك إشكالية لا تقل أهمية، تتمثل في أنه لا كانط ولا فيبر يوضحان بوضوح في أي مجال يمكن للأخلاق أن تدعي القوة الملزمة، والأهمية السياسية المباشرة، (وليس الأخروية). ولربما أمكنت صياغة هذا الأمر على النحو التالي: عندما تتضمن السياسة الوعد بالخلاص؛ أي تصبح دينية في حد ذاتها، يتم تجاوز المقياس، وتصبح تعدّياً على الدين، وعلى الأخلاق نفسها، ولكن لا يحدث هذا بأي حال من الأحوال، حيثما تحاول السياسة أن تكون أخلاقية دون أن تعد بالخلاص. وأعتقد أن هذا هو القرار الذي قدمه غاندي، والذي من المحتمل أن يقبله لوثر أيضاً، لكنني أخشى أن الطريقة الوحيدة لإبعاد انتظار الخلاص عن السياسة، هي الحصول على شكل من أشكال الإيمان والأخلاق خارج السياسة (والدولة)، يمكن للمرء الرجوع لها كتوجيه وإرشاد. في الواقع يمكن للسياسة أن تكون أخلاقية، ولكن حيثما ادعت بأنها تحل محل الدين، وقدمت الوعد بالخلاص والكفّارة، وحيثما ادعت بأنها مُطْلقة، حقيقية، من دون بديل، وما شابه ذلك، فهي من الناحية الدينية عبادة الأصنام، وغاية في حد ذاتها، تحلّ محلّ الأخلاق، وتخاطر بالتجسد كأخلاق، في حين أنها في الواقع سياسة فقط.

إن قلب الداخل (الضمير، النزاهة) إلى الخارج، العمومي، كما قلنا سابقا، لا يلغي الاغتراب، والفصل بين الداخلي والخارجي، ولا يُلَيِّنُه حتى، بل يفضحه بطريقة صارخة، ويزيد في تفاقمه. من وجهة نظر دينية، يعد عدم الاتفاق، وعدم الرضا عن العالم، معطى أساسي، بديهي، لدرجة أنه لا يلزم حتى مناقشته؛ أي إنه شرط الدين بشكل عام، وإلا فلن يحتاج هذا المعطى للدين، ولن يكون معطى. والسؤال الوحيد الذي يُطرح على المؤمن هو كيفية التعامل مع هذا المعطى: بالانسحاب من العالم، كما فعل وعلَّم الزاهدون السانياسيون sannyasins، أو حتى اللاجئون الطاويون في الصين؛ أو بالبقاء في العالم، (وليكن بالعودة إلى العالم بعد الاستنارة كما في حالة بوذا)، وقيام المؤمن بعمله، رغم كل الصعاب، وعلى الرغم من عدم قابلية العالم للإصلاح: «مستعدون لكل عمل صالح [...] من أجل خدمة الآخرين بحرية الروح وأيضاً من هم في السلطة»، كما قال لوثر، وكيف يجب أن يخدم الأنواري الكوسموبوليتي لكانط دولته بأمانة، في وظيفته كموظف مدني، أو يستقيل من الخدمة الحكومية، إذا كانت هذه الخدمة لا تناسبه؛ وبهذا يسقط في وضعية الزهد.

إذا تجاهل المرء الدين، كما حدث خلال فترة التنوير، وإذا قلل المرء من أهميته، واعتبر تعاليمه غير منطقية، فمن الواضح أنه يجب معالجة عدم الاتفاق، الذي لم يعد من الممكن توطينه أو تفسيره، وعدم الرضا، بطريقة جديدة وفريدة من نوعها. والفضاء الذي يعرض فيه كانط هذا الاستياء، ويعبر عنه كرغبة ومطالبة بالتنوير، هو العالم (الواسع). إن الكوسموبوليس Kosmopolis هو الفضاء السياسي للتنوير بامتياز، وبالخصوص لأننا جميعاً جزء من العالم، لكننا لسنا مسؤولين عنه كله، كما لدينا في الفضاء «الخاص»، عند كانط، لالتزاماتنا المهنية وغيرها من الالتزامات. إن الكوسموبوليس، باعتباره فضاءً خارجياً، يحتوي ويعكس ما كان داخل الضمير الحر، وهو في نفس الوقت المساحة الحرة الوحيدة حقاً للتنوير، تماماً كما كان الحال عليه في القديم، فعلى سبيل المثال كان الفضاء الداخلي عند لوثر خاصا بالمعنى المعتاد.

تم تعريف مساحة الحرية هذه على أنها هامش (اللعب) لللامسؤولية - وهي نموذجية للوضع الاستعماري، وكذلك لسلوك السياسة الخارجية حتى يومنا هذا: يمكن عيش الموقف (فيبر)، أو الحاجة إلى التفكير (كانط)، حسب الرغبة، دون الحاجة إلى تقديم حساب. ومع عكس كانط للداخل والخارج، تلاشت العلاقة الأخلاقية مع الفعل، خاصة في العالم الكبير الواسع. فالأخلاقي، الذي كان يُفهم في القديم على أنه الداخل الخاص للإنسان ومجال ضميره، يظهر الآن كواجب، (وللعجب أن كانط أطلق عليه مرة أخرى اسم المجال «الخاص») وباعتباره واجباً، فإنه طاعة مطلقة وخارج خالص وسببه الوحيد هو استمرار «الآلة» (يعني الدولة والمجتمع والنظام المعرفي) في الاشتغال. على العكس من هذا، يُنظر في فلسفة كانط إلى الأخلاقية الحقيقية كموقف رخيص وغير ملزم (على غرار حرية الرأي). يجب أن يكون الإغراء كبيراً للافتراض بأن هناك أيضاً حرية عمل في هذا المجال الخارجي غير الملزم، يعني الفعل القائم على «الموقف»، وهو تعسفي لأنه يعتقد دائماً بأنه صحيح وخال من المسؤولية والمساءلة.

لكن لسوء الحظ: بعيداً لا يوجد هناك شيء للعمل أو للفعل. فبِالإشارة إلى الطبيعة غير الملزمة لمفهوم كانط للمجال العام، والذي اتخذ شكله النهائي، وفي نفس الوقت الأكثر وحشية، في أقصى طبيعة غير ملزمة للإنترنت، يمكن وصف العملية التي أدت إلى العقلية اللامسؤولة والتفكير (räsonnieren) بمعنى المناقشة وتبادل الحجج دون الرجوع إلى الواقع، بل فقط في إطار المنطق السردي السائد. إنه يتجلى كتسلط من أجل التسلط، حيثما كان هناك حديث عن المجال العام. وهذا صحيح قبل كل شيء بنسبة «جمهور الإنترنت». لقد تم هناك الإفراج عن الإمكانات الكامنة والمخيفة في فصل الأخلاق والسياسة من ناحية والمشاعر والمسؤولية من ناحية أخرى.

إن الأمر مختلف عند غاندي. كلوترMartin Luther، الذي غير اسمه الأصلي «لودر Luder» إشارة إلى الكلمة اليونانية للحرية (إليوثريا eleutheria)([80])، حرر الضمير من قبضة الكنيسة، أي من النظام الخارجي، وبالتالي أضعف هذا الأخير، (إلى أن سلمه كانط وهيغل للدولة)؛ فقد قوض غاندي الفهم الغربي للسياسة، حيث انتزع منها مفهوم الحرية؛ أي الفتِش (من الفيتشية، الدكاكيرية، التوثين، البدية -تعتبر أيضاً التقديس الأعمى-: إضافة المترجم)، الذي يمثل وضعه موضع تساؤل أكبر خرق للتابوهات لمجموع أنواع الأيديولوجية الغربية، وهو ما يطرحه غاندي على وجه التحديد بسبب هذا الأمر الذي جعله، بمفارقة مزدوجة، مناضلاً من أجل الحرية ضد العبودية، التي يفرضها الغرب.

يضع غاندي إصبعه في جرح الغرب: أولاً، يرتبط مفهوم الحرية هناك ارتباطاً وثيقاً بالدولة، التي من المفترض أن تضمن الحرية داخلياً وخارجياً، ولكن يمكنها أيضاً تقييدها، وتعريضها للخطر لهذا السبب بالخصوص، وأكثر من ذلك، فقد قيدتها دائماً، من خلال وجودها كدولة، خاصة عن طريق إنشاء الحدود. ثانياً، تقوم الدولة (القومية) على خطاب حول الهوية؛ أي حول خصائص معينة للبشر، والتي بسببها تمنح الدولة، أو لا تمنح حقوقاً، معينة وبالتالي حرّيات.

يضع غاندي مقابل مفهوم الحرية السياسية في المقام الأول، والذي غالباً ما يكون مشحوناً دينياً وأخروياً، الحرية التي يمكن أن يحققها الزاهد الهندي، (الحرية الداخلية، وبهذا تعتبر حرية لوترية)، ومن حيث المبدأ، يمكن لكل إنسان تحقيقها، من خلال الاستغناء وعدم الاهتمام الداخلي للزاهد. يضع غاندي إذن الحرية الداخلية مقابل الحرية الخارجية، التي تمنحها الدولة للأشخاص في شكل هوية مخصصة، ومعترف بها رسمياً، ويتم إثباتها ببطاقات الهوية، ويمكن أيضاً إلغاؤها في حالة العصيان في شكل سجن وترحيل.

إن الحرية -موكشا moksha في الفلسفة الهندية- لا تعني الحرية في تطوير الهوية، بل العكس تماماً. إنها تعني فقدان الهوية، والتفرد، والتميز، والتحرر منها. وبالتالي، فإن النموذج الهندي للحرية يرقى إلى مستوى التنازل، وكما قال غاندي في حوار له: «عندما يتلاشى الشعور بالأنا، لا يكون عندنا أيضا الشعور بأننا خاضعون لسلطة أي شخص»([81]). والزهد هو الوسيلة التقليدية لترك الشعور بالأنا يتلاشى. إذن فللحرية علاقة بالزهد، فالزهد هو الاستغناء. وبالإضافة إلى العزوبية والصوم، وفقاً لغاندي، فإن هذا الاستغناء يشمل أيضاً اللاعنف([82]).

من أجل الدقة، وحتى لا يتم اتهامنا بجمع الكل في الوقت نفسه، يجب الإشارة في هذه المرحلة إلى أن هناك اختلافات مهمة بين التمييز الهندي والغربي بين الروح والمادة؛ أي الثنائية المعروفة. فأجزاء كبيرة مما هو بالفعل جزء من العالم الروحي في الخيال الأوروبي، لا تزال مادة في التصور الهندي: «بالإضافة إلى السيرورات المادية، هناك أيضاً عمليات نفسية وعقلية، عندما تخضع للتغيير في الشكل بمرور الوقت؛ باختصار، إن "المادة" هي ما يمكن أن يكون موضوع الخبرة (الإدراك والمعرفة)»، كما يؤكد على ذلك المتخصص في الدراسات الهندية ميخائيل فون بروك Michael von Brück في طبعته لبهاغافاد غيتا([83]).

ربما لم يعد بإمكان المرء أن يتحدث هنا عن الثنائية؛ فما تفهمه الفلسفة الغربية على أنه العالم، لا تتم قسمته إلى قسمين، بل يتم جمع ما ينقسم في التقاليد الغربية، حيث يتم وضع الروح والمادة عملياً على نفس مستوى الوجود. ويسمى بشكل غير عادي ومضلل «مادة»؛ لأن الأفكار الداخلية، والعالم الخارجي، هو عرضة للتغيير في الشكل. وبما أن الموقف الذي يتجاوزه؛ أي ما وراء البناء غير المنقسم للروح والمادة، لم يعد يقدم عملياً، لا العالم (المتمظهر)، ولا هذا العالم، فقد تم إلغاء الثنائية في التقليد الهندي. وقد أدرك هيغل هذا الأمر بالفعل، وبشكل صحيح، عندما صرح بـ: «وحدة الطبيعي والروحي» في الهند، ولهذا السبب اتهم الهنود بوحدة الوجود، كما سبق وأن قلنا. وعلى أيّ حال، فإن العالم الخارجي يكون مهمّاً للفلسفة الهندية الكلاسيكية فقط، بقدر تأثيره وتحكمه في العمليات النفسية والعقلية، التي يجب التحرر منها كأسمى هدف يمكن أن يحققه الإنسان. في ظل هذه الظروف فقط، لا يدرك الوعي الخالص، المسمى آتمان ātman، الذات الحقيقية، والتي ليست ذاتاً بالطبع (أنا، فرد) بالمعنى الغربي، بل أساس وجود الإنسان الفوق الفردي، وغير القابل للتغيير([84]).

هذا التحول في مفهوم الحرية مهمّ وأساسي لاعتباراتنا في هذا الكتاب. فإذا كان المرء يميّز في أوروبا، بالرجوع إلى لوتر مثلاً، بين الحرية الداخلية والخارجية، فإن المرء يقبل بأنه بالإمكان أن تكون هناك حرية الضمير، على الرغم من القيود الخارجية؛ يعني أن المرء يمكنه، ومن حقّه، أن يفكر دون ضرورة التصرف، فإن التفكير والتصرف يقعان، وفقاً للفكر الهندي، على نفس المستوى الخارجي. والنتيجة هي أن الحرية تعني السعادة (موكشا moksha)، ليس الحرية بالمعنى الخارجي أو الداخلي؛ أي حرية التصرف أو التفكير، (وعند كانط الحرية في التعبير علانية)، كما يريد المرء، وكما يبدو له بأنه صحيح؛ لكن يتم التفكير في الحرية بالكثير من التجريد، كتحرر من الفعل ومن ضرورة الفعل، وأيضاً كتحرر من التفكير، ومن الإكراه على التفكير بشكل عام. ويفسر هذا أيضاً عنوان الكتابات المجمع لكريشنامورتي Krishnamurti، «الحرية الكاملة Total Freedom»، وهو عنوان مضلّل للغاية، بالمعنى الغربي.

يمكن للمرء أن يقول إن الحرية في الغرب سياسية. أما في الهند، فإنها أنطولوجية قيمية مطلقة، ومنفصلة عن العالم الـمُتمظهر، وبالتالي عن السياسة. ونظراً لعدم وجود حرية مطلقة عن المادة والطبيعة في الغرب، مع اتجاهه نحو القانون الطبيعي؛ أي ربط الإنسان بالطبيعة، (لأن لهذه الأخيرة على عكس عالم البشر، «قوانين» حازمة)، فقد تم نقل مجال الحرية إلى المجال الـ(بين) إنساني (أي العلاقة بين الناس: إضافة المترجم)؛ أي إلى السياسي. على العكس من ذلك، يعتبر التحرر من الروابط المادية (وانعكاساتها في الروح) في الهند، ممكناً، ويطمح الزاهدون لتحقيقه، أو إنجازه على التوالي.

لهذه الأسباب رفض هيغل المفهوم الهندي للحرية الذي، وفقاً للفهم الغربي، كان مبالغاً فيه بشكل صارخ. واستشهدنا سابقاً بمقطع من «محاضرات في فلسفة التاريخ»: «إن الحرية مفقودة [هنا]، كإرادة في حدّ ذاتها وكحرية ذاتية. وبهذا، فإن الأساس الخاص للدولة، مبدأ الحرية، غير موجود على الإطلاق»([85]). ولأن الحرية، حسب هيغل، كمجال للروحي، كما هو الحال مع لوتر، تحتاج من حيث المبدأ إلى العكس؛ أي العبودية، المعطى (مسبقاً) في شكل الطبيعة بقيودها. إذا تم اعتبار الروح والطبيعة في الهند على أنهما مادة ككل، وبالتالي كعالم لعدم الحرية، فلن تكون هناك أي حرية، وفقاً لهيغل؛ لأنه لا يوجد في الهند تعارض بين الروح والمادة، أو بالأحرى، لأنه عند هيغل، على عكس الهنود، لا يوجد شيء وراء الروح والمادة.

إذا أردنا، يمكننا تحديد ما وراء الغرب هنا، فما لم يُفكَّر فيه في الغرب، يعني الحرية، ليس فقط للتصرف أو للتفكير، بل التحرر من الفعل والفكر، وفي الواقع قبول عالم متعال وخالٍ من المضمون، خال من التمثلات والصور والسرديات. ويوضح هذا أيضاً سبب اتهام الغرب بالمادية، وهو اتهام لا ينطبق إلا إذا وسع المرء مفهوم المادة ليشمل التفكير والتمثلات، كما حدث في الهند. إن ما وراء الغرب هو إذن فراغ، ومع ذلك فإنه ليس لا شيء. وهنا بالضبط أرى تشابهاً بنيوياً مع الحق في الحقوق، الذي ليس له محتوى محدد، ولكنه مع ذلك ليس لا شيئاً، وليس غير مهمّ. إنه يشكل عالماً يتجاوز النطاق السياسي، وينقل الحرية إلى هذا المجال، إلى السرد وراء السرد، يفهمها على أنها سرد لنقص السرد (أو لغياب السرد: إضافة المترجم)، أو إن أراد المرء، كحكاية نهاية الحكايات العظيمة، كما ظهرت لنا ما بعد الحداثة بعد ليوتار.

يشهد هذا على الحكمة، إذا كان بإمكاننا استخدام هذه الكلمة. وبما أن تصوراتنا وأفكارنا، (ومثل هذا تماما هو ما يسميه لوتر الحرية الداخلية والضمير)، ليست تعسفية تماماً، (من يمكنه التحكم في أفكاره؟)، لكنها تتبع سرديات وطرائق تخيل ومنطق ورمزيات وغيرها من الأنظمة، بعبارة أخرى، لا تعد حرة، إلا بمعنى محدود للغاية، وبالتالي فإن سبب الارتباط بالعالم مجاني. وبهذا، فإنها (أي تصوراتنا وأفكارنا: إضافة المترجم)، بالمعنى الهندي، سبب وموضوع الارتباط بالعالم. تَحَوُّل مفهوم الحرية إلى ما وراء التفكير وما يمكن تخيله، إلى ما وراء ما هو سردي، (وبالتالي ليس إلى سرد رئيس، بل إلى سرد فارغ، كما قد يمكن أن نفهم النيرفانا nirvāna)، يَقُود إلى تحول حاسم للبرادايم (للنمط)، من خلال تعيين الاحتمال النظري، التي قد تكون بهذا المعنى الحرية الحقيقية الوحيدة: الحرية للتغيير بين السرديات، لكي لا يخضعَ المرء لاستبداد حقيقة واحدة، ويكونَ بإمكانه الهروب من المطالب المفرطة والقيود الضيقة لمثل هذه الحقيقة، وادعاءات صلاحيتها المطلقة. لا يؤدي ذلك إلى اللجوء إلى النيرفانا على غرار ما تقدمه الأنظمة الهندية والبوذية، بل إلى سرديات مختلفة على الدوام، وإلى وعي نسبيتها ومحدوديتها، وقابلية البناء التاريخي لكل سرد. ويقول الهنود إنه يمكن للمرء لربما الوصول إلى ما وراء النيرفانا هذه والبقاء فيها، ولكن سيكون هذا مهمة حياة بأكملها، وهدفها الوصول إلى حقائق لم تعد قابلة للاستغلال سياسياً.

يمكن استخدام هذا الما وراء أو السرد الفارغ المفترض (على الأقل بالمعنى السياسي)، من طرف الذين لا يكون الحل الهندي وارداً بالنسبة إليهم، وبالخصوص سياسياً. ويمكن للمرء استخدامه كباب ودائرة توزيع، وكأنه مطار كبير، حيث لا يرغب المرء البقاء فيه لفترة أطول من ليلة واحدة، ولكن حيث يمكنه الهروب من كل سرد وأيديولوجية. وهذا الاحتمال وحده، يعني إلقاء نظرة على لوحة المعلومات لوجهات السفر في قاعة الانتظار، تكفي لتجاوز مكان المرء واعتبار نسبيته، لوضع بديله دون بديل ومطالباته الحصرية، (لا يوجد هناك شيء خارجاً عني إلا أنا، أنا الحقيقة)، محطّ سؤال، ومعرفة كون الصورة التي صنعها المرء عن الله، هي صورة فقط، وفهم بأن لله أشكالاً كثيرة، وفي الحقيقة ليس له شكل ملموس على الإطلاق.

تؤدي معرفة نسبية الحقائق والسرديات المكتسبة بهذه الطريقة إلى تصدع في القصص وأنظمة المعرفة. ومع ذلك، لا يعتبر هذا تصدع نقصاً، ولا ينبغي أن يُعالج أو يُزال، بل من الناحية المثالية يجب أن يستمر في التصدع. ويشكل هذا الدافع المضاد للدوافع التي تتبع سرد التقدم، الجدلية الهيغلية أو الماركسية وبرادايمات (أنماط) الأصالة بواجهة الحقيقة المغلقة. ويعني هذا، كما وضحنا ذلك سابقاً في مثال غاندي، عدم الاستغناء عن النشاط السياسي، ولا الدعوة للحفاظ على الوضع القائم. إن الصدع المثير، الذي تم عن طريق استعمال تشققات الصدع -أشرنا في الجزء السابق إلى ذلك، في مناقشة الحق في الحقوق- يبدأ حتما ديناميكية تلغي سلطة كل خطاب يدعي الهيمنة والحقيقة الحصرية والمطلقة، وبالطبع أيضا السياسات الناتجة عنه والهيمنة والاحتكارات وما إلى ذلك. إنه عيب كبير، الخطيئة الأصلية للنظرية الماركسية، ولكن أيضاً لكل شخص آخر من التنوير والنظريات الحديثة، انتقادهم لزعم الآخرين، بأنهم يمتلكون الحقيقة، ولكن يدعون هم أنفسهم دائماً امتلاك الحقيقة، وتشغيل نفس الصدع الذي لا يتحمل الاغتراب، ونشر ادعاء الحق في وحدة السرد في العالم، من أجل مواصلة انتقاد النقد في لحظة النقد وتعزيزه وإدامته وتكراره، إلى أن يغيب الهدف النقدي الأصلي في آخر المطاف عن الرؤية تماماً، ويتساءل المرء عن سبب تعزيز كل النقد فقط من النقد.

لقد تبيّن أن الصدع في السرد، وهو حتما صدع في كل السرديات، هو العامل الذي يربط بين الناس، بعيداً عن تمثلاتهم للعالم والثقافات، ويخلق النوافذ والمجاري المرنة والمسارب. إذا كان سرد ما عبارة عن إناء مغلق، فإن الجديد، غير المتوقع، والذي لم يتم التفكير فيه، لا يكون له مكان فيه منذ البداية، ولا يكون مُبرمجاً، ويتم دمجه دائماً وتفسيره وتقليصه إلى حجمه الخاص. إذا لم ينجح ذلك، فإن الذعر، من الناحية المجازية، ينفجر؛ لأن الصدع يصبح مرئياً، وفقدان السيطرة واضحاً، وفشل السرد يكون واضحاً تماماً.

بالمعنى السياسي، لا يمكن أن يكون كل شخص حرّاً، إلا إذا كان بالإمكان تمييزه بوضوح عن الآخرين، ويدين «للفرد»، حرفياً «غير القابل للتجزئة»، اسمه الخاص، المُمَيَّز، لذا فإن هذا الصدع يعني أيضاً الشك والنسبية، وتعليق التصورات السائدة عن الهوية الفردانية، إنه يفتحها. تقود البوذية فكرة كون الفرد يعتبر لا شيئاً، حيث إن كلمة نيرفانا تعني «التفجير»، و«إسقاط حُمق الأنا»، (يعني هذا بالمناسبة أن هذا الحمق/الوهم الذاتي ليس اختراعاً غربياً حديثاً، وليس ظاهرة للرأسمالية المتأخرة). ومن القول المشهور لبوذا: «إن القضاء على وعي الأنا هو حقاً أعلى درجات السعادة»([86])، وفي درس له قال: «لذلك، أيها الرهبان، فأيّاً كان الجسد، ماضياً، حاضراً، مستقبلاً، داخلياً أو خارجياً، جسيماً أو دقيقاً، منخفضاً أو سامياً، بعيداً أو قريباً، كل ما هو الجسد، يجب اعتباره وفقاً للحقائق بحكمة تامة كالتالي: إنه ليس لي؛ أنا لست هو، إن هذا ليس ذاتي! مهما كانت الأحاسيس، ومهما كان الإدراك، ومهما كانت القوى العقلية، ومهما كان الوعي [...]: إنه ليس لي؛ أنا لست هو، إن هذا ليس ذاتي!»([87]).

من المفروغ منه أن مثل هذه التعاليم ساحرة. وبالنسبة إلى تساؤلنا، فإن فائدتها محدودة فقط. لا يمكن أن يتعلق الأمر بالوصول إلى نقطة الصفر، النيرفانا، بل يتعلق الأمر فقط باستخدام البنية، التي تنتج عن الإمكانية النظرية لمثل نقطة الصفر هذه من الوعي، والتفكير فيها، والتي أوازنها بالموقف الافتراضي، لما وراء كل السرديات والتصورات. وعلى كل شخص يجرؤ على الوصول إلى هذا الوضع أن يحاول ذلك، لكن ليس له أهمية تذكر (كوسمو) بولوتيا من الناحية السياسية([88]).

أفترض إذن، أننا نتحرك دائماً في التصورات والسرديات، ومن دونها، وبغض النظر عن مدى غموضها، لا نوجه أنفسنا على الإطلاق، ناهيك عن تنظيم المجتمعات المعقدة وتوحيدها. وإذا اعترف المرء بذلك، فمن الأهمية بمكان أن نأخذ بعين الاعتبار على الأقل الاحتمال القائم على أسس جيدة من الناحية النظرية لنقطة الصفر في هذه السرديات، لكي يتم الفهم الصحيح لما يظهر في السرد على أنه حاسم وصحيح ومعقول وحقيقي، وليس أيضاً بشكل مطلق، وبالتالي يظهر للجميع وللعالم بأسره، على أنه فعلاً حقيقي ومعقول، بل يلزمنا الإدراك بأن أي حقيقة وأي سردية يمكن حلّها وإفشالها. هذا ولا شيء آخر يجب أن يكون الموقف الكوسموبولوتي اليوم. عندها فقط يكتسب المرء المرونة والحرية، ليس فقط في إطار سرد معين وبصمة ثقافية معينة، بل وأيضاً في التحرر من هذه الإطارات والسرديات. وفي الآن نفسه، فإن افتراض نقطة الصفر هذه، لا يعني تعسّفاً تامّاً، ولا يعني كل شيء مقبول anything goes خالياً من القيمة والقِيَم، بل يعني أن هناك تماسكاً وراء كل سرد على حدة، أرضية مشتركة، وفردية فائقة، وتجاوز الهوية المُقَيِّدة، التي تمنح لطافة وليونة للسرديات، وتفترض دائماً شيئاً أعلى ومشتركاً، أكثر مما هو معطى ومما يتمظهر فقط.

يبدو أن رفض أو عدم القدرة على قبول نقطة الصفر هذه، وبالتالي قبول نسبية كل سرد، هو المشكل المركزي لكل من الأيديولوجية الغربية والعديد من الأديان، طالما أنها تقدم سردياتها الخاصة عن الله كسرديات مطلقة ونهائية. ولن يستطيع أي مثقف يمثل ديناً إيجابياً ملموساً من تجنب إدراك أن الأمر قد يتعلق بـ«فقط» الخاص به بمثل هذا السرد، والنتيجة هي أن كل دين هو شكل داخلي من أشكال تفسير الوجود، إلى جانب العديد من التفسيرات الأخرى التي تتساوى في ادعاء الحق في إعطاء المعنى. إن أحد أعظم إنجازات نقد الإنجيل والتنوير هو زيادة الوعي، إن لم يكن خلقه حتى، وبأن الأديان هي سرديات من صنع الإنسان، وتخضع لظروف إنسانية، ولا تتجاوز أبداً تجلياتها الملموسة، وبسبب هذا يمكن تمييزها عن السلطة العليا والأعلى والمفارقة.

يعني هذا أيضاً بأنها (الأديان: إضافة المترجم) توجد دائماً في عالم السياسة. وقد تعلم غاندي ذلك في أوروبا، ومكنه في الهند من التدخل في الدين، وتفسيره وتسييسه بطريقته الخاصة، وتحويله إلى قوة، إلى سردية، تدعم مقاومة الاستعمار، وجعل المقاومة دون عنف مقبولة اجتماعياً وناجحة. ومن خلال علاقته الواضحة بالهندوسية والتقاليد المحلية التي تعززت أيديولوجياً، بتفسيره لبهاغافاد غيتا، تمكن غاندي من الخروج من السرد الغربي الذي لا جدال فيه، للحرية والدولة والسياسة، واكتساب إمكانيات بديلة للفعل.

إذا كان السرد الغربي، كما يمثله الإنجليز، مبنياً على الدولة (القومية)، وعلى أفكار الأنا والفرد والذاتية، التي لها علاقة مشروطة بالدولة، -لأن سبب وجودها يتمثل في المقام الأول في حماية هذه الأفكار وجعلها قابلة للعيش-، فإن غاندي يترك هذا السرد وراءه. فقد فهم بأنه في الإطار الذي حدده البريطانيون والقانون البريطاني، لا توجد طريقة لتحسين الوضع في الهند، كانت أخلاقيات المسؤولية البريطانية، أو «الاستخدام الخاص» البريطاني للعقل في خدمة الدولة، تفسر دائماً أو تحيل هذه القوانين على نحو يضر بالهنود. ومعظم المناضلين الآخرين من أجل الحرية، وخاصة من يسمون «بالمتطرفين» (مثل أوروبيندو Aurobindo وتيلاك Tilak)، قاموا فقط بتحويل المفهوم الغربي للحرية ضد الغرب؛ أي إنهم ردوا على العنف بالعنف المضاد، وبالتالي ظلوا مرتبطين بالمفهوم الغربي للهوية والأمة والحرية والسياسة، وهو أمر يمكن للمرء فهمه؛ لأن هذا الفهم الغربي للسياسة هو الذي وعد بالحرية والاستقلال بشكل مخادع. وقد كان فيناياك دامودار سافاركار Vinayak Damodar Savarkar (1883-1966) أكثر ممثلي القومية الهندية راديكالية، على غرار القوميات الأوروبية. إنه لا يعتبر فقط العقل المدبر للحكومة القومية اليمينية الحالية في الهند، برئاسة رئيس الوزراء ناريندرا مودي Narendra Modi، بل وأيضاً باعتباره الشخص الذي ألهم قاتل غاندي، ومحاولات الاغتيال السابقة له([89]).

على العكس من هذا، فإن غاندي، من خلال قراءته لغيتا، كما ينعكس ذلك في «خطابات حول غيتا Discourses on the Gita» (1926)([90])، يضع التصورات حول الدولة والهوية والفرد محط تساؤل بطريقة راديكالية؛ ذلك أن مفهوم الحرية، يُشكل النقطة المحورية ونقطة الذروة التي لا يفهمها غاندي بطريقة غربية، بل بطريقة هندية. يُعوض غاندي المفهوم الغربي للحرية السياسية، بالمفهوم الهندي الذي يختلف عن نظيره الغربي، الحرية التي تنشأ عندما لا يريد المرء أي شيء من العالم، ويصبح مستقلّاً عنه([91]). ومثل هذا الموقف يرفع البرادايمات (أنماط) التي يحددها المفهوم الغربي للحرية، كما صاغ ذلك هيغل بوضوح: إن التمييز بين الروح والطبيعة، (أي الازدواجية)، وبين الذات والموضوع، وبين الهوية، (على أي حال الهوية الوطنية)، وعدم الهوية Nicht-Identität، وبين الفردية والمجتمع؛ لأن الذات بالمعنى الهندي ātman، هو فوق المفهوم العادي للفرد وللذات، ولذا يُذوّب «جنون الأنا» في هذا التمييز، كما رأينا فيما قاله بوذا في خُطَبه.

تتضح حقيقة كون هذا لم يكن مجرد ثرثرة فارغة عند غاندي، في خطوة مذهلة في عمله السياسي ومظهره. لم يتوقف رفضه لحماقة التمييز الغربي، وسياسة الهوية الغربية، حتى فيما يخص الاختلافات بين الجنسين. يظهر غاندي كخُنثى. ويقول المحلل النفسي إريك إريكسون Erik H. Erikson عن غاندي: «هل كان هناك زعيم سياسي آخر، كاد أن يفتخر بكونه نصف رجل ونصف امرأة، والذي كان يتطلع بشكل فاضح إلى أن يكون أمّاً أكثر من النساء، مثل غاندي؟ [...] لكن يبدو أن الصور الأنثوية، قد بدأت بشكل طبيعي وعامي. بالطبع، كان هناك الكثير من الكلام عن حبّ غاندي للعمل المنزلي، بِعَجَلَة الغَزل، والذي كان [...] تقليدياً من عمل النساء. ومع ذلك، كان غاندي سيقابل كل هذه الثرثرة بالاعتراف البسيط، بأنه كان بالفعل يتطلع إلى أن يكون نصف امرأة، تماماً كما في ردّه على ملاحظة تشرشل المهينة بشأن الفقير العاري، مع التأكيد أنه، بالفعل، يريد أن يكون عارياً قدر الإمكان»([92]).

إن الحرية في أنقى معانيها، تعني التخلي عن الهوية، والفعل المتبجح والسرد([93]). ويتم شراء الحرية في جميع السرديات، من خلال الكف بطريقة نهائية عن الحكي، وعدم تقديم حكايات العرْي. ويعد اعتبار النفس جزءاً من العالم الظاهر ضعفاً. وإذا افترض المرء مثل هذا النظام، كما فعل غاندي على ما يبدو، فعندئذ يكون السؤال الكبير الذي يُطرح، في وضع تاريخي ملموس مثل وضعه، هو كيفية العودة من هذا الوعي، الذي لا معنى ولا فائدة له، إلى جوهر الفعل السياسي الملموس، وخوض نضال من أجل الحرية، وللتحدث مع فيبر، كيف يمكن للمرء التصرف دون وسائل أخلاقية تعرض للخطر، إذا كان بإمكان المرء فعل ذلك على الإطلاق، وينفي فيبر هذه الإمكانية.

ساعدت غيتا في ذلك؛ لأنها على الرغم من أنها أوصت بالتصرف وفقاً للنظام (دارما dharma)، كما رأى ذلك فيبر بشكل صحيح، ولكن، كما غفل فيبر ذلك، في ظلّ الشرط المهم، المتمثل في عدم المبالاة؛ أي الزهد الداخلي والتخلي عن الحرية. وصف الباحث الديني الروماني الفرنسي ميرسيا إلياد Mircea Eliade الموقف الذي تبنته غيتا بالقول إنه بينما يجب على الإنسان أن يتقبل وضعه التاريخي، ومقتضياته، ويتصرف وفقاً له [أي دارما]: «فيجب عليه أن يمتنع عن إعطاء أي قيمة لأفعاله، وبالتالي عدم إعطاء قيمة مطلقة لوضعه»([94]). وبهذه الطريقة، يتم «إنقاذ» الأفعال وفرصة التصرف في الوقت نفسه، وتمثل شكلاً من أشكال التضحية، بعدم قيام المرء بأعماله لنفسه؛ أي الاستغناء عن ثمار أفعاله. وبهذا وحده يمكن للمرء أن يصبح عبداً لأفعاله ورغباته: «يتمثل التصرف السيئ في الاعتقاد بأن للعالم والزمان والتاريخ واقعهم الخاص والمستقل، لذلك لا يوجد شيء آخر خارج العالم والديمومة»([95]).

هذا أيضاً هو موقف نيتشه، كما يؤكد على ذلك الفيلسوف الأمريكي آرثور سي دانتو Arthur C. Danto، بالإشارة إلى البهاغافاد غيتا، وبمساعدتها، فسر حكمة مأثور من «هكذا تكلم زرادشت». ويقول هذا المَثَل: «غير مبالين، ساخرين، عنيفين - هذا ما تريدنا الحكمة أن نكون عليه. إنها امرأة، إنها تحبّ المحارب فقط»([96]). والاختلاف، بالمقارنة بغيتا، هو أن نيتشه لا يفترض بالطبع أي حياة أخرى، ولا حتى، مثل التقليد الغربي منذ عصر التنوير، مستقبل أو نموذج مثالي، يجب أن يرتبط به العمل. يتعلق الأمر عند نيتشه بالتصرف، الوجود في الحاضر، كغاية في حد ذاته([97]). لو كان بالإمكان هنا أيضا ربط نيتشه-دانتو بغيتا-إلياد، فسيكون الفعل تضحية؛ لأن الأمر لا يتعلق بثمار الفعل، بل يتعلق فقط بالعمل في حد ذاته. ولكن لمن تقدم هذه التضحية، إن لم يكن هناك إله ولا آخرة؟ بما أن الفعل عند نيتشه لا يقع من أجل إله أو من أجل الآخرين، فإنه يحدث فقط لشخص واحد، الفاعل نفسه. إذن، فإن الإنسان لم يعد وسيلة لهدف غريب آخر، دنيوي، بل هو غاية في حد ذاته. وهذا هو الاستنتاج الذي يقدمه دانتو: «من غير المستغرب بأن وجهة النظر هذه هي الوحيدة المتوافقة مع كرامة الإنسان: تتوافق مع الإنسان، باعتباره الهدف النهائي»([98]). وقد نسمي هذا الخطأ الأساس لما بعد الحداثة، وهو ما يميز كل شيء مقبول anything goes عن أشياء كثيرة مقبولة، ولكن ليس كل شيء many things go but not all.

إن عدم العمل لغرض خارجي، أو غرض دنيوي ما، (كما تطالب الأديان)، لا يمكن أن يبرر النظر بعيداً عن عواقب الفعل، وهذا هو ما يخلص إليه نيتشه في النهاية. على الأقل، لن يكون مثل هذا التصرف «الشيء الوحيد المتوافق مع كرامة الإنسان»، كما يزعم دانتو. إن العكس هو الصحيح: لن يكون متوافقاً مع كرامة الإنسان على الإطلاق، ولن يضع «الإنسان كغاية نهائية man as an end»، إلا إذا كان المرء لا يريد أن يفهم كلمة «مان» man الإنجليزي بمعنى الإنسان؛ أي الإنسانية بشكل عام، بل بصفته «رجل Mann»، بالمعنى البدائي، للتفاخر بالهوية الذكورية، كما توحي قراءة نيتشه في أحسن الأحوال، عند بلوغ سن الرشد. بالإضافة إلى ذلك، يقوم نيتشه- دانتو بإغفال حقيقة كون التصرف من أجل التصرف، خارج نظام معين، دارما dharma، هو سرد لا يَعِدُ بأي معنى ولا إشباع([99]). إن رؤية نيتشه، إذا كان لها أي معنى على الإطلاق، تتلخص ببساطة في سردية أو نمط الأصالة. فعوض توجيه الإرادة (إلى السلطة)، نحو الرؤى العظيمة أو الحياة الآخرة، فإن فلسفة نيتشه، وفقاً لدانتو، تعني عودة الإرادة «إلى غايات الحياة البشرية البسيطة»([100]). يمكن للمرء أن يفكر فيما يريده في فلسفة ما قبل ما بعد الحداثة للرضا عن الذات، في إطار بساطة ما يُعطى. وسيكون من الصعب على المرء الادعاء بأنها رؤية قابلة للتطبيق، في زمن من الالتقاءات والاحتكاكات العالمية بين الثقافات.

لنرجع إذن إلى غاندي، رغم أنه يطلب منا أكثر من نيتشه. تم تحديد نوع المقاومة ضد الحكم البريطاني مسبقاً، من خلال تحديد مواصفات التنازل عن الحرية، أي شكل من أشكال الانسحاب والقضاء المعطى: أي كموقف تنازل، أي الرفض. وتجلى هذا الرفض في سياسة غاندي المتمثلة في الاضرابات، وعدم التعاون مع البريطانيين. فعوض رفض السياسة، كما كانت المواقف الهندية التقليدية تقترح، مارس غاندي سياسة الرفض. أصبح الزهد، الذي كان في السابق وسيلة للبحث الشخصي عن الخلاص، مع غاندي وسيلة للسياسة، ويمكن للمرء أن يتعامل مع النظام الذي يحد من الحرية بمعنين: من جهة، سياسياً بوضوح تام، ومن جهة أخرى -بأقل وضوح- وجودي، بإنكار وجود مجال (مهم!) خارج السياسة وعالم التمظهرات. وعلى هذه الخلفية، يمكن للزاهد الذي أراد غاندي تجسيده، التصرف بضمير مرتاح وغير أناني، كما يُعَلِّم كريشنا في غيتا.

يتكون العمل السياسي لغاندي من الزهد والتعفف والإحباط والرفض، يتكون من نبذ مظاهر الهوية الشخصية والفردية، ويقود السرد إلى الوراء قدر الإمكان، إلى السرد الفارغ، نقطة الصفر، التي قد لا يتم الوصول إليها أبداً، ولكن يكون من الممكن السعي لتحقيقها، والاقتراب منها. يتمثل الفعل في عدم القيام بأي شيء، أو مثل غاندي، في تدوير عجلة الغَزْلِ يوماً بعد يوم، والتجول عارياً قدر الإمكان. ويتم حل «مشكلة تقديس الوسيلة في النهاية»([101]) الفيبيرية؛ لأن الوسيلة والغاية تتطابقان في ممارسة التنازل عن الحرية؛ أي الزهد، وقول لا. ويكون هذا ممكناً؛ لأن الهدف، وفقاً لتعاليم غيتا، ليس شيئاً يمكن رسمه في الدنيا، أو شيئاً يمكن تحقيقه أو تقديمه بوسائل عالمنا نحن. وبالمعنى الغربي، لا يكون من الممكن فهم بمثل هذا كغاية أو هدف من أهداف الإنسان. بعبارة متناقضة: إن الغاية تتحقق بالتضحية بها، فالتضحية بالغاية، هي الوسيلة التي تحقق الغاية.

إن الممارسة وحدها هي التي يمكنها إظهار ما إذا كان هذا بمثابة درس لحركات المقاومة والاحتجاج الأخرى. إنه بلا شك نموذج للمثابرة، فقد تطلب الأمر من غاندي أكثر من ثلاثين عاماً لتحقيق هدف الاستقلال، ثم قُتل برصاص قومي هندوسي، وتم تقسيم البلاد بين هندوس ومسلمين، وفق سياسة هوية مستعارة من أوروبا، وهي سياسة قاومها غاندي حتى النهاية. تسمى الأجزاء المسلمة من الهند البريطانية السابقة باكستان وبنغلاديش، وبقية الهند الآن في قبضة القومية الليبرالية المتطرفة الجديدة، التي تجسد في كل شيء عكس رؤى غاندي السياسية والاجتماعية والأخلاقية، وتحاول إزاحة إرث غاندي بكل ما تستطيع. وليس لهذا النوع من القومية الهندوسية في الوقت الحاضر أي علاقة على الإطلاق بالتقاليد الهندوسية، التي قام غاندي وأوروبيندو بإحيائها وجعلها مفيدة سياسياً، بالرجوع إلى أخلاقيات أقدم النصوص الهندية. ويجب اعتبار ثمرة عمل غاندي السياسية مُدمَّرة. إنه يقف أمامنا اليوم بشكل أكثر قوة باعتبار عظمته الفكرية والأخلاقية، يجب إعادة اكتشاف إرثه وإعادة قراءته بشكل نقدي وتحديثه في ضوء حاضرنا. يفتح مفهوم الاستغناء عن الحرية ليس فقط إمكانيات جديدة في النضال ضد هيمنة الرأسمالية، ويبدو أنه لم يتم العثور على علاج لها بعد. لم تخدم سياسة غاندي في عدم التعاون لتحقيق تقرير المصير السياسي فقط، بل كانت أيضاً مقاومة للاستغلال الاقتصادي. وبهذا، فإنه لم يضر الإنجليز اقتصادياً فحسب، بل أساء إليهم أخلاقياً أيضاً. يقول غاندي: «إن عدم تعاوننا ليس ضد الإنجليز أو الغرب. يهدف عدم تعاوننا إلى ضرب النظام الذي أنشأه الإنجليز، الجانب المادي للحضارة، والجشع المصاحب له واستغلال الضعيف»([102]).

يفتح هذا القول أفقاً للسياسات المناهضة للرأسمالية، التي تتجاوز السياق الهندي، وفي الوقت نفسه وجوب أن تكون مناهضة للمادية. والسؤال الذي تصعب الإجابة عنه، هو ما إذا كان التأسيس الديني لهذا مطلوباً، كما هو الحال مع غاندي، أو ما إذا كان بالإمكان الفوز بسياسة معادية للمادية من خلال الوعي بمحدودية ونسبية السرديات والأيديولوجيات وتصورات العالم والأديان فقط. إذا كان لهذا أن ينجح، يجب ألا تتحول الأيديولوجيات التنويرية، واللاحقة لها، من هيغل، مروراً بماركس، ووصولاً إلى نيتشه، إلى فكر نهائي ultima ratio خارجي، إلى عقيدة جامدة، بل يجب أن تتعلم بأنها ليست إلا سردية من بين العديد من السرديات الأخرى. وبالخصوص؛ لأنه يُنصح أن يستعمل كل واحد عقله الخاص، فسوف يُسمح لنا أيضاً بالتشكيك بشكل نقدي في الطريقة التي استخدم بها التنوير عقله. وفقط بالتحرر من مذاهبهم، سيكون بإمكان المرء تقدير القصص والروايات، وتمثل العالم لما وراء الغرب بشكل صحيح. وينتمي إلى هذا، دون أدنى شك، التخلي عن مفهوم الحرية، ومعه روحانية الهند، إلى جانب العديد من التقاليد الأخرى، وبالأخص التقاليد الإفريقية والشرق الأقصى التي لا يمكنها هنا التطرق لها.

ربما كان آخر مؤرخ عالمي عظيم، أرنولد ج. توينبي Arnold J. Toynbee، وقد حان الوقت لإعادة اكتشافه، وله ما يقوله لنا أكثر من فوكوياما وهنتنغتون وأتباعهم، قد أعرب بالفعل عن الأمل عام 1961 في أن: «الموت العنيف لغاندي باسم قضية نبيلة من شأنه أن يولد قوة روحية، يبدو أنها لاتزال تؤثر بشكل لا يُقاوم بعد وفاته»([103]). ويقول بالتطابق التام مع روح غاندي: «إن معنى/الغرض من الحياة البشرية هو هدف روحي، وهذا الغرض الروحي يميز الإنسان عن المخلوقات غير البشرية على سطح كوكبنا. بالطبع، هناك بعض الوسائل المادية تكون ضرورية لتحقيق الهدف الروحي؛ لأنها ضرورية للحياة نفسها، ولكن فيما يتعلق بكمية السلع الاستهلاكية، فإن الحاجيات المادية للحياة قليلة جدّاً. إذا نظر المرء لكيفية عيش الرهبان المسيحيين والبوذيين، فيكون له معيار صالح، لما تتكون منه ضروريات الحياة الحقيقية.([104]). [...] فقدرة الإنسان على امتلاك سلع مادية، هي قدرة محدودة للغاية. فإذا كان يصبو إلى اللامتناهي، فلن يجد المخرج، إلا في العالم الروحي، في ميادين العلم والفن، ولربما بالخصوص في الدين»([105]).

لا يدعو توينبي هنا إلى الدين من أجل الدين، بقدر ما يدعو للدين كوسيلة، (إلى جانب الوسائل الروحية الأخرى)، للتخلص من «العبودية النفسية» «للصناعة المنتجة للرغبات»؛ أي الإعلانات الدعائية: «في الأخير، فإن أحد أثمن الحريات الإنسانية التي فقدتها أمريكا هي التحرر من طغيان الإعلان»([106]). من خلال التوصية بالروحانية والدين كترياق ضد الإعلان والرأسمالية، ودون أن يعرف ذلك، فإن توينبي يستنتج نتائج رؤية بنيامين. يقول في مسودة نص له لم تُنشر في حياته، وأصبحت الآن مشهورة: «من الممكن رؤية الدين في الرأسمالية؛ أي إن الرأسمالية تعمل أساساً على إشباع نفس المخاوف والعذاب والاضطرابات التي أجابت عليها الأديان سابقاً. [...] قد تكون الرأسمالية هي الحالة الأولى لطائفة لا تُكَفِّر عن ديون، بل تترتب عليها»([107]).

يمكن هنا فهم المديونية التي تدعو لها الرأسمالية، وتغوي بها، (ليس بمساعدة الدعاية ووسائل التعظيم الذاتي الأخرى، مثل الفيلم فقط)، على الصعيدين الواقعي والمجازي، فضلاً عن الذنب المالي والمعنوي. وبينما يعرف الجميع ما هو الدَّيْن المادي، فإن السؤال المطروح هو أين يمكن الدين الأخلاقي، في ظل الظروف غير الدينية للرأسمالية. ويعطي بنيامين الجواب: «وهنا يكمن الفحش التاريخي للرأسمالية، حيث إن الدين [في حالته] لم يعد إصلاحاً للوجود، بل تحطيم له؛ [أي إن الرأسمالية تعني: ] توسيع اليأس في الحالة الدينية لعالم يُنتظر منه الشفاء. سقط تَعَالِي الله، لكنه لم يمت، إنه مُتَضَمَّنٌ في قدر الإنسان»([108]). وحسب بنيامين، فإن الإنسان «الأول»، «الذي بدأ في إدراك الدين الرأسمالي»، ليس إلا إنسان نيتشه يعني الإنسان الأعلى الخارق: «إن نوع الفكر الديني الرأسمالي تم التعبير عنه بشكل رائع في فلسفة نيتشه. [...] إن الإنسان الأعلى، هو الإنسان الذي وصل دون رجوع، الإنسان التاريخي، الذي نما في السماء»([109]). وقد تطرقنا إلى دور نيتشه المركزي في الأيديولوجية النيوليبرالية الغربية. وبصفته رائداً لمثل هذه الرأسمالية، التي لا تسمح بأي آلهة (مهمة سياسيا) بجانبها، كان عليه، وفقاً لبنيامين، أن يُعلن حتماً عن موت الله.

تعود الفرضية التي قلبها بنيامين إلى نيتشه؛ أي إن المفهوم الأخلاقي وبالتالي المجازي للذنب بالمعنى الديني لا يعود إلا إلى الذنب الواقعي، غير المجازي؛ أي الذنب المالي أو المادي يعني الدَيْن وباللغة الألمانية تشتق كلمة الديون Schulden من كلمة ذنب Schuld. يقول نيتشه في «جينيولوجية الأخلاق»: «هل حلمت الجينيولوجيات الأخلاقية السابقة، ولو من بعيد، بأن المصطلح الأخلاقي الرئيس "الذَّنْب"، على سبيل المثال، قد أخذ أصله من المصطلح المادي "الدُّيُون"؟([110]) [...] في هذا المجال؛ أي في قانون الالتزامات، نجد مركز منشأ العالم المفاهيمي الأخلاقي "الذنب"، "الضمير"، "الواجب"، "قداسة الواجب"، وككل شيء عظيم على الأرض، فقد لطخ بطريقة شاملة بالدم لفترة طويلة»([111]).

إن قلب بنيامين للفكرة النيتشوية الشهيرة هذا رائع. ويمكننا وصف الطريق من نيتشه إلى بنيامين على النحو التالي: يلغي نيتشه الذنب الأخلاقي، من خلال إرجاعه إلى الدين المادي الملموس، دين رأس المال. بالنسبة إلى الإنسان الأعلى الخارق، الذي يقبل أخلاق نيتشه، فإن هذا هو النوع الوحيد من الذنب، والطريقة الوحيدة للشعور بالذنب على الإطلاق: مادّياً. وحسب نيتشه، بما أن المرء قضى على الله، فلم يعد بإمكان المرء أن يشعر بالذنب تجاه الله، وتجاه الأخلاق. ووفقاً لبنيامين، يعني هذا بأنه طبقاً لنيتشه، فإن كلّ شيء مسموح به، طالما أنه يخدم الرأسمالية، التي تُعتبر الديون محركها، والحاجة الدائمة للامتلاك باستمرار، أكثر مما يمتلكه المرء. ففي اللحظة التي يتم فيها تعميم الشعور بالذنب وبالدَّيْن؛ أي إنه لا يوجد أَيّ كَان دون ديون (مادية)، وكما يتضح اليوم فقط، يتم تحطيم الوجود ويدمر الكوكب، هذه العملية على قدم وساق، ولكن بالطبع ينكرها «الجُنَاة»؛ لأنهم لا يعرفون أيّ ذنب آخر، بصرف النظر عن الديون الرأسمالية -، إذا أصبح الذنب بسبب هذا التدمير أخلاقياً، ويصبح يأساً يصل إلى هذا البعد، حيث يفترض أن الخلاص الوحيد الذي يمكن تخيله للبشر، يكمن في الدين نفسه، على أمل أن يكون هناك إله، يقلب كل شيء للأفضل، ويخلص الناس من هذا الذنب المادي، الذي يتخذ الآن أبعاداً أخلاقية. يقول بنيامين: «[...] في جوهر هذه الحركة الدينية، وهي الرأسمالية، يوجد الصمود إلى النهاية، حتى مديونية الله النهائية التامة، [حتى] تحقيق وضع عالمي لليأس لا يزال المرء يأمل فيه»([112]). وفقط عندما يصبح الذنب المادي أخلاقياً مرة أخرى، وعندما يُفهم على هذا النحو، يمكن أن ينجح التغيير الذي ينقذنا من اليأس والدمار.

يمكننا أن نرى دعوة أرنولد وغاندي للروحانيات، وحقيقة كونهما يضعان الروحاني والدين ضد الرأسمالية، كعلامة على أن الدور الذي ما زال بنيامين يعطيه لله والدين؛ أي دور المنقذ في نهاية الدمار الرأسمالي، قد لَمعَ بالفعل في أفق الرأسمالية. ويمكننا تفسير «عودة الدين»، التي يتم الترويج لها كثيراً، في هذا الاتجاه بشكل عام([113])، ولا يُعتبر هذا علامة تُطمئن. ولا يتحدث هذا الإدراك ضد الدين، بل ضد الرأسمالية في وقتنا. ويقول غاندي في الفصل الأخير من سيرته الذاتية «تجاربي مع الحقيقة»: «لقد أقنعتني تجربتي باستمرار، بأنه لا يوجد إله آخر غير الحقيقة. وإذا لم تعلن كل صفحة في الفصول السابقة للقارئ، بأن الوسيلة الوحيدة لإدراك الحقيقة هي ahimsa [اللاعنف]، فَعَلَيَّ إذن أن أعتقد بأن كل عذابي في كتابة هذا الفصل قد ذهب سدى. [...] لكي نلتقي بالروح الحقيقة الكونية والشاملة وجهاً لوجه، يجب على المرء أن يحب أدنى مخلوق حبّاً جمّاً كما يحبّ نفسه، ولكن الشخص الذي يضع طموحه لتحقيق ذلك لا يمكنه البقاء بعيداً عن جميع جوانب الحياة. هكذا قادني تفانيَ للحقيقة إلى مجال السياسة. ويمكنني القول دون أدنى تردد، ومع ذلك بكل تواضع، إن كل الذين يدَّعون بأنه لا علاقة للدين بالسياسة، ليست لهم فكرة عما يعنيه الدين»([114]).

عوض مساواة الحق بالله، ساوى غاندي بين الله والحقيقة، تَحَوُّل في التركيز يتم تجاهله بسرعة، ولكن له عواقب لا يمكن تصورها. وغالباً ما شدد غاندي على أنه يمكن للمرء البحث عن الحقيقة، ولكن لا يمكنه الوصول إليها نهائياً، تماماً كما لا يمكنه في نهاية المطاف تحقيق الكمال المطلق، المثل الأعلى للتدين الهندي. إذا كانت الحقيقة هو الله، فهناك خطر الخلط بينها وبين الآلهة التي تعبد، أو مع الله الذي تضع الأديان صورة له بشكل دوغمائي. على العكس من هذا، إذا كان الله حقيقة، فإنه بنفسه ذاك الشيء الذي يمكن السعي إليه دائماً، ولا يتم بلوغه نهائياً. لا وجود لحقيقة مطلقة؛ لأن الحقائق دائماً ما تكون حقائق في السرد ومن خلاله. إن الحقائق نسبية، وتعتمد على سياق وإطار التأويل، ولا يمكنها أن تدعي المطلق مثل الله. فإذا لم يكن هناك إله إلا الحقيقة، فهذا لا يعني شيئاً آخر سوى أن الله، لا يمكن الوصول إليه بالكامل، وبأن حقيقة ما، لا يمكن أن تُثبت إلا في سياق وفعل ملموس.

يكمن الزهد، التضحية، في الاستغناء عن الفعل من تعدد الحقيقة، وفي المطالبة بامتلاك الحقيقة المطلقة، ومن خلال هذا الشعور بالقوة. وتتمثل التضحية في عدم محاولة رفع الاغتراب في النهاية، في الفعل ومن خلاله. وهنا يَكْمُن ويُفَسَّر نبذ العنف: فليس هناك أي حقيقة ولا امتلاء ولا يقين في الله يمكن أن يبرره (أي العنف: إضافة المترجم)؛ لأنه لا وجود لمثل هذا اليقين الأخير. إن إنكار الحرية، المتمثل في التضحية بالهدف، هو الضمان الوحيد لعدم التضحية بأيّ شخص من أجل هذا الهدف.

([1]) Mahatma Gandhi, The Collected Works of Mahatma Gandhi (CWMG), Band 31, p. 376 (http://gandhiserve.org/e/cwmg/cwmg.htm).

([2]) قام فريدريك روكيرت بهذه الحفلة التنكرية في القصيدة بشكل ساخر:

"Der Abendländer im Morgenland" thematisiert: Friedrich Rückert, Gesammelte Gedichte, Band 3, p. 264 f., Frankfurt (Sauerländer) 1843

المقطع الأول: «رحلت من الغرب / خرجت من أخلاقه، / بالزي الشرقي / عبر منتصف الشرق». للمزيد راجع:

Stefan Weidner, Fluchthelferin Poesie. Friedrich Rückert und der Orient, Göttingen (Wallstein) 2017, p. 29 ff.

([3]) أعتمد في الملاحظات التالية على تقديم مايكل فون بروك في طبعته:

Bhagavad Gītā. Der Gesang des Erhabenen, translated by Michael von Brück, Frankfurt (Verlag der Weltreligionen) 2007

وكذا على دراسة:

Mishka Sinha in: Modern Intellectual History 7,2 (2010), p. 297–317 توجد في الموقع التالي: https://www.academia.edu/569803/A_History_of_the_Gita_s_Transnational_Reception_1785-1945

فيما يخص غيتا نفسها، انظر ميخايل فون بروك، هاينريش تسيمر،

Heinrich Zimmer, Philosophie und Religion Indiens, Frankfurt (Suhrkamp) 1992, p. 339 ff.

([4]) من المفيد الاستشهاد بهذه الكلمة لكيسيرلينغ Keyserling في السياق. يقول: «إذا تناقضت فكرتان منطقياً مع بعضهما البعض، نتخيل أن واحدة منهما فقط يمكن أن تكون صحيحة. في هذا، كما هو الحال في العديد من النواحي الأخرى، فإننا نوجد في مرحلة بدائية من التطور. ولهذا السبب، لا تزال الأغلبية منا غير قادرة على فهم العمق الكامل للحكمة الهندية. على سبيل المثال بهاغافاد غيتا، Bhagavad Gita، ولعلها أجمل عمل في الأدب العالمي وتُعتبر عند الكثيرين تجميعاً لا قيمة لها من الناحية الفلسفية، لأن فيها تلتقي العديد من المدارس الفكرية في نفس الوقت». مأخوذ من:

Hermann von Keyserling: Das Reisetagebuch eines Philosophen, Darmstadt [Otto Reichl] 1922, p. 301 f.).

إن «مدرسة الحكمة Schule der Weisheit» التي لم تدم طويلاً لكيسيرلينغ، والتي تأسست في دار مشتات عام 1920، تستحق على الأقل إشارة هنا، كانت نوعا من الأكاديمية للإلتقاء بالأفكار غير الأوروبية.

([5]) Wilhelm von Humboldt, Über die Bhagavad Gita, in: Wilhelm von Humboldt’s Gesammelte Werke, Erster Band, Berlin (G. Reimer) 1841, p. 111

([6]) Wilhelm von Humboldt’s Gesammelte Werke, Erster Band, Berlin (G. Reimer) 1841, p. 179

([7]) Georg Wilhelm Friedrich Hegel, Über die unter dem Namen Bhagavad-Gita bekannte Episode des Mahabharata von Wilhelm von Humboldt, in: Theorie Werkausgabe, Frankfurt (Suhrkamp) 1970, Band 11, p. 135 f.

([8]) Mahatma Gandhi, The Collected Works of Mahatma Gandhi (CWMG), Band 37 (11. Nov. 1926–1. Jan. 1927), p. 338 (http://gandhiserve.org/e/cwmg/cwmg.htm).

([9]) كما سمَّى ألدوس هكسلي الإيمان بالحكمة الأساسية التي تمر عبر جميع الأديان بالرجوع إلى لايبنتز. انظر:

Aldous Huxley, The Perennial Philosophy, London (Chatto & Windus) 1947, p. 1 (https://archive.org/details/perennialphilosp035505mbp).

([10]) يبذل سبيفاك قصارى جهده لتجنب الانطباع بأن الخطأ عند هيغل نسقي واضح وبالتالي يمكن أيضاً أن يكون متأصلاً في تفكيره، كيفما كانت جاذبية محاولة تحويل قراءة هيغل لغيتا هيجيليا إيجابية لصالح غيتا، أي دحض تفسير هيغل لغيتا على أساس هيغل. ولا ينجح هذا إلا على حساب تأكيد السرد الهيغلي، الديالكتيك ذاته (يسميه سبيفاك Spivak «مورفولوجيا») مرة أخرى. ويدعم هذا مرة أخرى شكنا في أنه دون هيغل وأتباعه، لم يتبق سوى القليل مما كان يُعتبر لحقبة ما بعد الاستعمار. تكمن مشكلة مثل هذا «النقد» وسبب فشله العملي والسياسي المذهل بالضبط في كونه يعزز وينسخ بنية ما يزعم انتقاده. انظر:

Gayatri Chakravorty Spivak, A Critique of Postcolonial Reason, Harvard (Harvard University Press) 1999, p. 37 ff.

([11]) أتبع تعريف مايكل فون بروك في إصدار غيتا الخاص به، نفس المرجع السابق، ص. 416

([12]) Von Brück, op.cit., p. 78

([13]) Cf. Thomas Sören Hoffmann, Hegel, Eine Propädeutik, Wiesbaden (Marix) 2004, p. 67

([14]) Hegel, Werke Band 13, p. 473

لا يتعلق الأمر بالطبع بمطالبة هيغل بعد الوفاة بالصواب السياسي، بل بإظهار أين تقودنا طريقة التفكير بالعودة إلى هيغل: للتضييق الأهوج المباشر للعالم. لا يمكن أن يوجد الصواب السياسي في ظل المقدمات الهيغلية، إلا في صورة نفاق أو تناقض فكري. ولهذا السبب قد ينزعج المرء بحق من شخص هيغلي يريد أن يكون على صواب من الناحية السياسية. وسيتعين توضيح مدى انطباق هذا أيضاً على الماركسيين.

([15]) Hegel, Werke, Band 12, p. 201

([16]) Hegel, Werke, Band 12, p. 202

([17]) Hegel, Werke, Band 12, p. 136

([18]) Ibid.

([19]) Ibid.

([20]) قدم نفيد كرماني البرهان المضاد في كتابه «الله جميل»:

Navid Kermani: Gott ist schön, München (C.H. Beck) 1999

([21]) Hegel, Werke, Band 12, p. 139f.

([22]) Hegel, Werke, Band 12, p. 203f.

([23]) Hegel, Band 11, p. 579f.

([24]) Sinha, op.cit., p. 301

([25]) انظر هنا:

Robert Irwin, For Lust of Knowing. The Orientalists and Their Enemies, London (Penguin) 2007, p. 160

([26]) Goethe, Sämtliche Werke, Band 11.2, p. 246

([27]) لم أتمكن من العثور على أي دليل على مزاعم مخالفة لذلك، والتي يتم تداولها أحياناً على الإنترنت.

([28]) Vgl. Jochen Strobel, August Wilhelm Schlegel, Darmstadt (Theiss) 2017, p. 137

([29]) Strobel, p. 149

([30]) Bhagavad Gita, ed. von Brück, p. 267

([31]) Humboldt, p. 26, and von Brück, p. 272

([32]) Von Brück, p. 270

([33]) Edwin Arnold, The Song Celestial, Boston (Roberts Brothers) (no year), p. 10

بالطبع، يمكن أيضاً تصور قراءة خبيثة لهذه الجملة، والتي تدعي بأن لبريطانيا الحق في كل ما تم استعماره من قبل البريطانيين في الهند.

([34]) Sinha, op.cit., p. 313

([35]) http://digi.ub.uni-heidelberg.de/diglit/kandinsky1912/0150

([36]) Ernst Bloch, Das Prinzip Hoffnung, p. 1396

([37]) Gustav Meyrink, Hochstapler der Mystik. In: Das Haus zur letzten Latern. Nachgelassenes und Verstreutes, München (Langen Müller) 1973, p. 353

([38]) Jiddu Krishnamurti, Total Freedom. The Essential Krishnamurti, New York (Harper Collins) 1996, p. 361–363

([39]) Jiddu Krishnamurti, Total Freedom. The Essential Krishnamurti, New York (Harper Collins) 1996, p. 1

([40]) Peter van der Veer, Spirituality in Modern Society. In: Social Research, Bd. 76, Nr. 4, Winter 2009, p. 1097

http://www.mmg.mpg.de/fileadmin/user_upload/pdf/van_der_Veer_Social-Research-1097-1120.pdf.

([41]) Krishnamurti, a.a.O.

([42]) في غضون ذلك، استحوذت النيوليبرالية الروحانية هذه، على سبيل المثال عندما يتم تجنيد أتباعها من بين موظفي شركات تكنولوجيا المعلومات أو طلاب كليات إدارة الأعمال. ويمكننا اعتبار يوفال نوح هراري Yuval Noah Harari أيضاً من هذا الاتجاه. انظر:

van der Veer, a.a.O., Anm. 38, p. 1116

([43]) Sinha, a.a.O., p. 312

([44]) Sinha, p. 311f.

([45]) Van der Veer, a.a.O., Anm. 38

على كلّ حال، ينطلق فان دير فير من فرضية مؤداها أن الهوية الوطنية والعالمية هما تناقض، واعتقد أنه يجب وضعه موضع تساؤل. وتكمن كونية تصور فكرة الهوية الوطنية في حقيقة كون كل شخص (يجب) أن تكون له هوية وطنية. وهكذا تتبنى الروحانية الافتراض الأساسي للإمبريالية الحديثة، القائل إن العالم يجب أن يتم تنظيمه وإدارته وفقاً للأمم.

([46]) Sinha, p. 311

([47]) للمزيد انظر: Arvind Sharma, Gandhi. A Spiritual Biography, New Haven (Yale University Press) 2013, p. 39 f.

([48]) Sinha, p. 310

([49]) von Brück, p. 225

([50]) von Brück, p. 230

([51]) Andrew Sartori, The Transfiguration of Duty in Aurobindo’s Essays on the Gita. In: Modern Intellectual History 7, 2010, p. 319–334

([52]) www.auroville.org.

([53]) Sartori, op.cit., p. 321

([54]) Cf. Happrecht, Thomas Mann, p. 487

([55]) Sartori, p. 326

([56]) Man and the battle of life, in: Sri Aurobindo, Essays on the Gita, in: The Complete Works of Sri Aurobindo, Band 19, Pondicherry (Sri Aurobindo Ashram Press) 1997, p. 56

([57]) Zit. nach Eric J. Sharpe, The Universal Gita, Chicago (Open Court) 1985, p. 81

([58]) Leopold von Schroeder: Bhagavadgita, Aschtavakragita, München (Hugendubel) 2004, p. 36f.

([59]) Bhagavadgita, op.cit., p. 82, (13, Verse 27-28).

([60]) Arthur Schopenhauer, Kleinere Schriften, Zürich (Haffmanns) 1991, p. 624

([61]) Friedrich Schlegel, Gespräch über die Poesie. In: , Schriften zur Literatur, et. Wolfdietrich Rasch, München (Hanser) 1972, p. 280

([62]) Schopenhauer, Kleinere Schriften, p. 598f.

لا بد من الإشارة إلى أن نداء شوبنهاور لأخلاقيات الحيوان له توجه غير سار معادٍ لليهود. ويبدو أن شوبنهاور يريد أن يقول إنه لولا التأثير اليهودي، لكان الأصل الهندي للمسيحية غير محرف.

([63]) Bhagavadgita, op.cit., p. 41

([64]) Von Brück, op.cit., p. 229

([65]) يمكن للشروحات التالية الاستناد إلى دراسة ميهي موكهيرجي:

Mithi Mukherjee, Transcending Identity: Gandhi, Nonviolence, and the Pursuit of a "Different" Freedom in Modern India. In: The American Historical Review, Volume 115, Issue 2, 1. April 2010, p. 453–473. https://academic.oup.com/ahr/article/115/2/453/10617/.

([66]) Dipesh Chakrabarty, Rochona Majumdar, Gandhi’s Gita and Politics as Such, in: Modern Intellectual History 7, 2 (2010), p. 335–353, p. 346

([67]) CWMG 31, p. 376f.

([68]) Martin Luther, Von Christlicher Freiheit, Schriften zur Reformation, Zürich (Manesse) 1990, p. 530

([69]) Luther, Von Christlicher Freiheit, p. 532

([70]) Luther, Von Christlicher Freiheit, p. 562f.

([71]) استشهد هنا من نفس النص ولكن حسب النسخة الأقرب إلى الأصل:

Martin Luther, Aufbruch der Reformation, Schriften I, Berlin (Verlag der Weltreligionen) 2014, p. 312

([72]) وذلك لأن الأمر لا يتعلق في الواقع بالعمل السياسي الخارجي، كما أن الاحتفالات حسب لوتر ليست سوى ملحق داعم/مكمل مثل سقالات الحرفيين: «لأنه عند الانتهاء من العمل، سيتم إزالتها» (Von Christlicher Freiheit, p. 571).

([73]) Kant, Werke 11, p. 55

([74]) Kant, Werke 11, p. 55 f.

([75]) Vgl. Konrad Ott, Zuwanderung und Moral, Stuttgart (Reclam) 2016, p. 8f.

([76]) Max Weber, Gesammelte politische Schriften, hrsg. von Johannes Winckelmann, Tübingen (Mohr Siebeck) 1988, p. 554 f.

هذا مثال آخر على التغير المذهل لتأويلات غيتا وفقاً للسياق التاريخي: يضع فيبر غيتا ضد أتباع هيغل اليساريين، الذين هددوا ألمانيا بأفكارهم الثورية، بل لربما فرضوا عليها السلام. وفي ضوء السياق التاريخي الذي يصمم فيه فيبر زوج من الأضداد من أخلاقيات الموقف وأخلاقيات المسؤولية، يجب أن يكون تطبيقه على أزمة اللاجئين غير وارد من تلقاء نفسه أو على الأقل يجب مناقشته. إلا إذا كانت المطالبة بذلك ستكون في حد ذاتها مجرد أخلاق الموقف. بالمناسبة، يعبر فيبر عن هذا بمزيد من التفصيل في كتابه:

"Gesammelte Aufsätzen zur Religionssoziologie" (Band 2), Tübingen [Mohr Siebeck] 1988, p. 191ff.

([77]) Weber, Politische Schriften, p. 553

([78]) Ibid. التأكيد من فيبر.

([79]) Kant, Werkausgabe, Band 11, p. 56

بينما قد يكون خلع الأخلاق عن السياسة مع غاندي موضع ترحيب، فلا كانط ولا فيبر يوضح على أي أساس يمكن للأخلاق أن تدعي القوة الملزمة والأهمية السياسية المباشرة (غير المتوقعة في المستقبل).

([80]) Thomas Kaufmann in: Luther, Schriften I, p. 479

([81]) Mukherjee, p. 469

([82]) Ibid.

([83]) von Brück, Bhagavad Gita, p. 142

([84]) Vgl. von Brück, Bhagavad Gita, p. 142 and p. 415 (ātman).

([85]) Hegel, Werkausgabe, Band 12, p. 201

([86]) Gautama Buddha, Die vier edlen Wahrheiten, München (dtv) 1985, p. 333

([87]) Buddha, Die vier edlen Wahrheiten, p. 137

([88]) عرض أخيم لاندوير Achim Landwehr مؤخراً في مقال كبير ملهم كيف يقدم التاريخ نفسه من نقطة الصفر المطلقة -أي لم يتم إنشاؤها على الإطلاق أو بالأحرى مبنية بالكامل-:

Die anwesende Abwesenheit der Vergangenheit. Frankfurt (S. Fischer) 2016

([89]) انظر: Pankaj Mishra, Zeitalter des Zorns, Frankfurt (S. Fischer) 2017

([90]) انظر كذلك الترجمة الإنجليزية لقراءة غاندي لغيتا في جوجاراتي Gujarati:

https://www.gandhiheritageportal.org/mahatma-gandhi-books/the-gita-according-to-gandhi#page/16/mode/2up

([91]) أنا مدين بالتمييز بين الحرية السياسية والتنازل عن الحرية لميثي موخيرجي Mithi Mukherjee، مرجع سابق.

([92]) Erik H. Erikson, Gandhis Wahrheit. Über die Ursprünge der militanten Gewaltlosigkeit, Frankfurt (Suhrkamp) 1978, p. 481f.

([93]) انظر كذلك: Mukherjee, p. 460

([94]) Mircea Eliade, Geschichte der religiösen Ideen, Band 2, Freiburg (Herder) 1993, p. 208 (§ 193f.).

([95]) Eliade, Geschichte der religiösen Ideen, Band 2, p. 210

([96]) Nietzsche, KSA, Band 5, p. 340

([97]) Arthur C. Danto, Some Remarks on the Genealogy of Morals. In: R. C. Salomon, K. M. Higgins, Reading Nietzsche, Oxford (Oxford University Press) 1988, p. 13–28

([98]) Danto, p. 28

([99]) في روايته «المرأة ذات الشعر الأحمر»، يضع أورهان باموك Orhan Pamuk هذا الإدراك في فم شخصية في الرواية، الشاب أنور، الذي يشعر بأنه قريب من حزب الرفاه، حزب أردوغان، والمتأثر دينياً بحزب العدالة والتنمية. يشرح لوالده، الذي يمثل الفردانية والثورة ونقد الدين، بأن والده يؤازر نيتشه: «بهاجس الفردانية، فإن نخبنا لم تصبح أفراداً ولا أي شيء آخر خاص بها. ولأنهم يعتقدون بأنهم مميزون، فإنهم لا يؤمنون بالله. وبالنسبة إليهم، فإن هذا دليل على أنهم ليسوا مثل الآخرين، لكنهم لا يقولون هذا هكذا. على العكس من هذا، فإن الإيمان يعني بأن المرء مثل أي شخص آخر. الدين هو جنة وعزاء كل متواضع». هما معا في آنٍ واحد، الفردانية الحديثة كتمرد (مراهق نيتشوي) ضد الأب وفي الوقت نفسه طاعته له، وبالتالي طاعته للأصول (ولا يمكن للمرء أن يمتلك (الفعل المهيمن والذي يحقق نيتشه فقط)، - إلا إذا كان المرء نفسه أردوغان، ويمكنه باسم التقاليد التمرد على والده، المُسمّى أتاتورك («الأب التركي»). انظر:

Orhan Pamuk, Die rothaarige Frau, München (Hanser) 2017, p. 245

([100]) Danto, op.cit., p. 27

لا يمكن اليوم تصور ما يحدث لأجيال عديدة من قراء نيتشه، بل لمعظمهم: إذا كان المرء يريد التفكير بطريقة ثورية وضد التيار السائد وضد وقتك ورواياته، فعليه أن يتعلم التفكير ضد نيتشه، ويطور النظر إلى صغر حجمه ومحدوديته وجنون العظمة عنده وطفوليته وتفاخره وفنه الهابط ولزاجة أسلوبه، على سبيل المثال في رأيي في الوقت الحالي «Zarathustra زرادشت» غير القابل للقراءة، الخطاب الساخن المُسكِر وغير ذلك كثير. فالإعلان عن موت نيتشه اليوم هو ما فعله نيتشه عندما أعلن موت الله: تدنيسا للمقدسات. بالطبع، إن السبب الأعمق لهذا لا يكمن في نيتشه، الذي يتمتع بمميزات لا يمكن إنكارها، بل في النيتشية السائدة والامتعاض والنرجسية وجنون العظمة التي تلبسها.

([101]) Weber, Gesammelte politische Schriften, p. 553

([102]) Mukherjee, op.cit., p. 471

([103]) Arnold J. Toynbee, Die Zukunft des Westens,("The Present-Day Experiment in Western Civilization"), München (Nymphenburger) 1964, p. 88

([104]) Toynbee, p. 166 f., من المحاضرة بالعنوان الأصلي: America and the World Revolution (1961).

([105]) Toynbee, p. 153

([106]) Ibid.

([107]) Benjamin, Gesammelte Schriften, Band 6, p. 100

([108]) Benjamin, Band 6, p. 101

([109]) Ibid.

([110]) Nietzsche, KSA, Band 5, p. 297 (Zur Genealogie der Moral, 2, 4).

([111]) Nietzsche, KSA, Band 5, p. 300 (6. Abschnitt).

([112]) Benjamin, Band 6, p. 101, التأكيد من بنيامين.

([113]) تم الإعلان عن عودة الدين بالفعل قبل 11 سبتمبر 2001، على سبيل المثال من قبل Martin Riesebrodt في: Die Rückkehr der Religionen, München (C.H. Beck) 2000

([114]) Mahatma Gandhi, An Autobiography or The Story of My Experiments with Truth, translated from Gujarati by Mahadev Desai, Ahmedabad (Publications Division Government of India) 1940, p. 615 https://www.gandhiheritageportal.org/mahatma-gandhi-books/the-story-of-my-experiments-with-truth#page/654/mode/2up. Cf. also: www.gandhiheritageportal.org.