الوطن نسيج الوجود الإنساني لمواطناته ومواطنيه


فئة :  مقالات

الوطن نسيج الوجود الإنساني لمواطناته ومواطنيه

الفرضية الرئيسة لهذه المقاربة تقول: إن معنى المواطنة ومعنى الوطنية يتحددان بكيفية إدراكنا معنى الوطن، بصفته المكان - الزمان المأنوس والمؤنسن، الذي يتشاركه الناس طوعاً واختياراً، ويجعلونه وطناً، بالعمل الخلَّاق والفاعلية الاجتماعية - الإنسانية المنتجة، أو بصفته شكلاً من أشكال تحويل الطبيعة ومنحها معانيَ اجتماعيةً وإنسانية؛ أي بصفته شكلاً من أشكال أنسنة الطبيعة وإنتاج العالم. فإذا كان عالم الإنسان، عند ماركس هو المجتمع والدولة، فإن الوطن، بصفته علاقة مركبة بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان والإنسان، هو نسيج هذا العالم، عالم الإنسان. ومن ثم، إن إدراكنا لمعنى الوطن، من دون افتراضات مسبقة، سوى التشارك الحر والعمل الخلاق والفاعلية الحية، وما تقتضيه من تواصل يقوم على الندِّية والثقة والتعاون، ومن دون تحيزات أيديولوجية: نسلية أو إثنية أو قومية أو دينية، ومن دون نعرات عنصرية، هو شكل من أشكال إدراكنا لمعنى الوجود الإنساني، ومعنى الحدود السياسية الغبيَّة ومصادر غبائها؛ لأن علاقة الإنسان بالمكان - الزمان أقدم من علاقته بالدولة وعلمها ونشيدها وحدودها وسيادتها وأهم منها جميعاً، وأكثر ديمومة منها، ما لم تكن الدولة، وليست بعدُ، تعبيراً مطابقاً لحياته النوعية (الإنسانية).

علاقة الإنسان بالمكان - الزمان علاقة وجودية (أنطولوجية) أساسية وتأسيسية، ولكنها لا تنفصل عن علاقته بذاته؛ أي بتجليات ماهيته، من الذكور والإناث والنساء والرجال. علاقة الإنسان بالمكان - الزمان، الصائر وطناً، هي العلاقة الوحيدة العابرة لجميع الانتماءات والبنى والتشكيلات والمؤسسات. أما العلاقة بين الإنسان والدولة، فلا تزال مشوبة بالنزعات القومية والدينية والطبقية وتضارب الاتجاهات الفكرية والسياسية، ولا تزال الهوة عميقة بين مفهوم الدولة وواقعها الفعلي، ولا تزال شعوب كثيرة، كالشعب السوري، تعيش حالة اللادولة، أو حالة تخارج مع نمط من أنماط "الحكم"، لا يستحق أن يسمى دولة، أو جمهورية.

المكان والزمان معاً هما نسيج الوجود المادي، ونسيج الوجود الإنساني. افتراض اضمحلال الدولة أو انتفائها بانتفاء نقيضها، المجتمع المدني، كما في الرؤية الماركسية، مفيد في تلمس معنى الوطن، إذ انتفاء الدولة لا يقتضي انتفاء الوطن، بصفته قوامَ الذات المواطِنة، وعلَّةَ امتلائها بالوجود وامتلائها بالعالم، وتجلِّي فاعليتها، وعماد موضوعيتها، ولا يقتضي، من ثم، انتفاء المواطنة، ولا يقتضي انتفاء الشعب، وأكثر من ذلك، لا يقتضي انتفاء السلطة، لأنها؛ أي السلطة، لا تكون حينئذ سلطة خارجية وشكلاً من أشكال الاغتراب.

العلاقة بين الإنسان وبين المكان - الزمان هي علاقة ذات بموضوع، بموجبها تتموضع الذات، ويتذَّوت الموضوع. فالوطن مكان مذوَّت أو مؤنسن، وإنسان مموضع أو متمكِّن - متزمن، من هنا تنبع قيمة الوطن المادية والمعنوية. تتموضع الذات في العالم، فيتذَّوت العالم؛ بغير ذلك لا يكون العالم عالم الإنسان، لكن الإنسان الذي ينتج عالمه، ويشكِّله، يتشكًّلُ فيه. أما الدولة، فهي شكل حقوقي وسياسي وأخلاقي لوجود مواطناتها ومواطنيها وحياتهم النوعية، بتعبير ماركس، والشكل يتغير تبعاً لتغير مضمونه، كما هو معروف. وفق هذه العلاقة الجدلية (الديالكتية) تتضح الفروق بين الوجود، بلا أية صفة أو إضافة، وبين الوجود الإنساني المتعيِّن في شكل أو أشكال، (وطن، أسرة، مجتمع مدني، دولة، ثقافة، قانون، انتظامات وتنظيمات مدنية ومؤسسات) والمفتوح على التشكُّل أشكالاً شتى، بحسب طبيعته.

العلاقة الجدلية المشار إليها بين الإنسان والمكان - الزمان علاقة مركَّبة، ومعقدة، وموسَّطة بالعمل والنشاط والفاعلية المنتجة، وليست بسيطة ومباشرة، كعلاقة الحيوان بالمكان، لكن البسيط أساس المركَّب، والطبيعي أساس الوضعي، والأنطولوجي أساس الاجتماعي - الاقتصادي والثقافي والسياسي والأخلاقي. لذلك، نفترض أن ثمة عنصراً طبيعياً ملازماً للتمدن والمجتمع المدني، وملازم للوطن، بمعناه المادي، لا يمكن رفعه. هذا العنصر الطبيعي في الوطن هو موضوع الجغرافيا والطوبوغرافياً والجيولوجيا وسائر علوم الطبيعة.

عندما تُبسَّطُ المواطنة لتغدو مجرد إقامة أو سكنى في مكان، في ظل علم ونشيد وسجن وجلاد، وتُختزل في بطاقة هوية أو جواز سفر ... وعندما تحل الامتيازات محل الحقوق، والولاءات محل القانون، كما هي الحال في "سوريا الأسد"، نكون في العلاقة البسيطة والمباشرة بين الإنسان والمكان، أي في الحالة الطبيعية، قل الحيوانية، ويكون الناس رعايا. ومعنى الهوية وجواز السفر، في هذه الحال، لا يعدو معنى "الكوشان".

فإذا كان المنطق الأرسطي هو منطق الحمل، الذي لا يعرف إلا القضية الحملية، فإن المنطق الرياضي الحديث هو منطق العلاقة، والقضية فيه قد تكون لزومية شرطية أو انفصالية أو عطفية أو تركيبية من هذا وذاك. والحق أن منطق العلاقة هذا يُعدُّ من أعظم إنجازات الفلسفة المعاصرة، فقد جعل من الممكن صياغة مشكلات قديمة بطريقة جديدة، وكان له دوره العظيم في إثراء الفكر الفلسفي المعاصر وتطوير الرياضيات البحتة، والذي يهمنا فيه أنه يتسق مع النظر إلى الكون على النحو الذي ينظر به العلم الحديث إلى الكون؛ أي بوصفه تعددياً لا واحدياً [1] .

الوطن والمواطنة والوطنية علاقة / علاقات، ذات محتوى اجتماعي - اقتصادي وثقافي وسياسيي وأخلاقي، لا يمكن تبيُّنها، على حقيقتها، إلا في ضوء منطق العلاقة، ولا يمكن الحكم فيها أو عليها إلا وفق معايير إنسانية، عبرت عنها منظومة حقوق الإنسان. كما لا يمكن تبين هذه العلاقات، على حقيقتها، إلا بحلول متصل الزمان والمكان، الذي ينسج الكليات العينية، والنظائم الإيكولوجية، محل الجواهر أو الماهيات، كالمكان المجرد، المنفصل عن الزمان، والزمان المجرد المنفصل عن المكان، الحاملين معاني الأزلية والسرمدية والأبدية ومعنى "الخلود"، ومحل العصبيات - الهويات القاتلة، أو الماهيات العرقية والإثنية والقومية والدينية والمذهبية، ومحل الأسوار والمتاريس.

الكليات العينية، المشار إليها هنا هي الأشياء والظواهر المادية، والأفراد والتنظيمات الاجتماعية والمؤسسات الخاصة والعامة والنظم السياسية، وهذا هو معنى التعدد المشار إليه، في الفقرة السابقة، نعني التعدد مع الاختلاف، وإلا نكون بإزاء ما يسميه هيغل اللانهاية الفاسدة: (شخص + شحص + شخص ... إلى ما لانهاية) وإزاء رؤية إحصائية مجردة، لا ترى في أفراد المجتمع وأعضاء الدولة سوى أعداد وأرقام. الكليات العينية المختلفة أشد ما يكون الاختلاف تحمل كل منها سلبَها أو نفيَها في ذاتها، في داخلها، وترتبط بعلاقات جذب ونبذ فيما بينها. تجدر الملاحظة أن الاختلاف لا ينفي وجود تشهابهات وتشاكلات وتماكلات (تماثل في الأشكال) وتكاملات وتناظرات بين الأشياء والأفراد والجماعات والتنظيمات والمؤسسات.

الزمان والمكان هما (معاً) القالب الذي صُبَّ فيه هذا الوجود جملة وتفصيلاً، وانتظم بفضلهما على هيئة كوزموس Cosmos، أي كون منتظم. والكوزموس أو الكون الذي تتعامل معه الفيزياء الحديثة هو المادة تتحرك في المكان في خلال الزمان، فهما صلب عالم العلم أو الوجود الذي يتعامل معه العلم، أو هما "إطار الوجود". قديماً، أشار هيرقليطس إلى أنه لا شيء في هذا العالم يستطيع أن يتجاوز مقاييسه، وهذه المقاييس هي الحدود المكانية والزمانية. ورأت الفيثاغورية أن العالم قد وجد أصلاً بفضل ما له من حدود زمانية مكانية[2]. والأمر كذلك على صعيد المعرفة، لأن المكان - الزمان هو شرط إمكانها.

رأى صموئيل ألكسندر (1859 - 1937) أن الزمان والمكان هما الأصل الهائل، أو الحقيقة المبدئية التي نشأ عنها العالم، هيولى أولى، أو جوهر أصلي أو خامة Primal stuff، صدرت عنها كل الموجودات بالانبثاق. فعن الزمان والمكان انبثقت أولاً المادة، وبالتدريج انبثقت الحياة ثم الوعي وأخيراً الألوهية، بل إنهما يظلان أيضاً ماهية الموجودات بعد انبثاقها عنهما، فتظل كل الأشياء مثل مصدرها زمانية مكانية. هذه حدوس فلسفية باكرة، صار من الممكن التحقق منها.

ولكن عالم الفلك والفيزياء وفيلسوف العلم جيمس جينيز (1877 - 1946) رأى أن العلم يطرح أربعة معان متميزة للمكان، هي المكان التصوري، والمكان الإدراكي الحسي، والمكان الفيزيائي، المكان المطلق. وهذه، في رأينا، هي ذاتها الزمان التصوري والزمان الإدراكي الحسي والزمان الفيزيائي والزمان المطلق. فكما أن الوعي لا يتلقى نقاطاً لا امتداد لها، فإنه لا يتلقى لحظات لا ديمومة لها. الاستقامة والخطية مستبعدتان هنا، لأنهما من إنشاء الذهن.

المكان عند كنت "شكل تجربتنا الخارجية"، والزمان "شكل تجربتنا الداخلية"؛ ولكن لا يمكن فصل هذه عن تلك. مثلما لا يمكن فصل الروح أو النفس عن الجسد، فقد رأى أبو حيان التوحيدي (922 - 1023) أن "النفس لطيف الجسد والجسد كثيف النفس"، وقياساً على هذا يكون المكان هو الجسد والزمان روحه أو طاقاته الروحية أو النفسية - الذهنية والحركية والكيميائية والفيزيائية والكهرومغنطيسية، جسد الفرد وجسد المجتمع وجسد الكون.

لعل "المعرفة الترانسندنتالية"، التي لا تنتج عن تجربة إمبريقية، كمعرفة الزمان والمكان، جديرة بالتأمل، للإجابة عن السؤال: لمَ يستطيع الإنسان أن يدرك المكان والزمان، قبل أي تجرية؟ هل لأنهما شرط إمكان أية تجربة فقط، أم لأن الإنسان نفسه ناتج منهما، أو منسوج منهما، كما أشرنا، ولأنهما معاً مغروزان في الطبيعة البشرية وأنهما قوامها، لا "في صلب العقل الإنساني" فقط، كما يفترض كانط؟

في ضوء ما تقدم، ثمة قيمة معرفية وقيمة عملية كبيرة لاعتبار الوطن نظيمة إيكولوجية (بيئية، بالمعنى الواسع والتضمني للبيئة) مركزها الإنسان، وليس من مركزية أخرى واقعية وغير جبرية سوى هذه المركزية، على اعتبار الفرد الإنساني نفسه، الرجل والمرأة، نظيمة أيكولوجية، لا تعيش ولا تنمو إلا في إطار نظيمة/ نظائم أوسع فأوسع، حسب نظرية الأنظمة. لقد اتسع مفهوم البيئة مؤخراً واكتسب دلالات جديدة، فصرنا نتحدث عن بيئة اجتماعية وبيئة ثقافية وبيئة سياسية وأخلاقية، ومناخ سياسي أو ثقافي... إلخ. مفهوم النظيمة أو المنظومة الإيكولوجية يفسر معنى العلاقة المركَّبة والمعقَّدة بين الإنسان والمكان - الزمان، وبين الإنسان والإنسان. ومن خصائص هذه النظيمة أنها، كالإنسان نفسه، نظيمة ديناميكية، ذاتية التشكل، وذاتية الاشتغال وذاتية التنظيم وذاتية التعديل والترميم، وقابلة للتحسن باطراد، وقابلة لاستخراج ما تنطوي عليه من ممكنات وثروات مادية وأخلاقية وجمالية؛ فكما يكون الناس تكون أوطانهم، والعكس صحيح.

هكذا، وهكذا فقط، نكون قد توصلنا إلى حقيقة ارتباط وطن بشعب، وارتباط شعب بوطن ارتباطاً وجودياً، لا سببياً فقط؛ ونكون قد توصلنا إلى انبثاق السياسي من الوجودي (علاقة الإنسان بالإنسان وعلاقتهما المشتركة بالطبيعة) والبيئي (علاقة الإنسان بالبيئة الطبيعية والاجتماعية الاقتصادية والثقافية والسياسية والمعرفية والأخلاقية والجمالية)، أو انبثاق الدولة من المجتمع المدني، وانبثاق السلطة من الشعب. الوطن والشعب مفهومان متشارطان في الوجود، وجود كل منهما شرط لازم لوجود الآخر، وانتفاء أي منهما هو انتفاء الآخر بالضرورة. ولما كانت السلطة السياسية، اللاشخصية، لا تنبثق إلا من الشعب، أي من العلاقات الاجتماعية، وقد ارتقت إلى علاقات سياسية، تختفي فيها تعيينات الأفراد وخصائصهم الشخصية وانتماءاتهم الفرعية كافة، فإن الدولة لا تنبثق إلا من الوطن. فحين ينسب أحدنا نفسه إلى سوريا، مثلاً، إنما ينسبها إلى الوطن والشعب والدولة، في الوقت نفسه، لكأن هذه المفاهيم الثلاثة مفهوم واحد، وهذه الحقائق الثلاث حقيقة واحدة، أو ثلاثة وجوه لحقيقة واحدة.


[1]- يمنى طريف الخولي، الزمان في الفلسفة والعلم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1999، ص ص 10 - 11. الاقتباسات الأخرى من الكتاب نفسه مدرجة في المتن، ومشار إلى أرقام الصفحات بين هلالين، بتصرف.

[2] - الخولي، ص ص 13 - 14