اليامين بن تومي: في النقد واستراتجيات بناء الوعي المتحرر


فئة :  حوارات

اليامين بن تومي: في النقد واستراتجيات بناء الوعي المتحرر

حوار مع الباحث والأكاديمي المبدع، الدكتور اليامين بن تومي

في النقد واستراتجيات بناء الوعي المتحرر


يستهدف هذا الحوار، مع الباحث الجزائري اليمين بن تومي، الوقوف عند أزمات الوعي الثقافي العربي، وكيف يسهم النقد الثقافي والأدبي في تحقيق التجاوز، من خلال استحضار العدة المفهومية والنقدية الإيجابية والفعالة التي يتيحها الدرس الأدبي واللغوي في مضمار مرجعيات القراءة والتأويل والبحث النقدي المتوازن والمتين في الآن نفسه.

الدكتور اليامين بن تومي، أكاديمي وباحث جزائري، متخصص في تحليل الخطاب والنظرية النقدية والسيمياء والآداب العالمية، أستاذ بجامعة فرحات عباس - سطيف بالشرق الجزائري، اهتم باللغة وآدابها وكابد البحث العلمي بكل موصوفاته؛ حيث ساهم في تأسيس العديد من المؤسسات العلمية والبحثية كالرابطة العربية الأكاديمية للفلسفة، والشبكة المغاربية للفلسفة والإنسانيات، أضف إلى ذلك عضويته في العديد من الوحدات البحثية وكذا إشرافه على العديد من الأطروحات الأكاديمية. شارك في ملتقيات أكاديمية داخل الجزائر وخارجها، نشر بحوثًا في مجلات عربية كثيرة، عضو محكم في مسابقات نقدية وشعرية عديدة، له مجموعة من الأعمال المطبوعة منها:

- مرجعيات القراءة والتأويل قراءة في مشروع نصر حامد أبو زيد، عن الدار العربية للعلوم ومنشورات الاختلاف.

- التفاعل البروكسيمي في السرد العربي؛ قراءة في دوائر القرب عن دار ابن النديم بيروت

- النهضة العربية؛ ممكنات النهضة في الجزائر، عن سلسلة مواطنة الجزائر

- مدرسة فرانكفورت /كتاب جماعي، فلسفة الدين / كتاب جماعي، وهناك مشاريع مخطوطة، وله مجموعة من الأعمال الأدبية من روايات، حيث حصل على جائزة رئيس الجمهورية عن روايته "الوجع الآتي" وفاز بجائزة عبد الحميد بن باديس عن روايته: "من قتل هذه الابتسامة" وله نصوص في طور الطبع وغيرها من الأعمال النقدية والفلسفية والإبداعية.

خالد عبد الوهاب: أستاذي الفاضل، يبدو من الاطلاع الأولي على أعمالكم الأدبية بحكم التخصص، ميلكم الكبير إلى الخطاب الفلسفي المعاصر، حيث تطفو المعاني والأفكار الفلسفية فوق سطوح الألفاظ والعبارات وباحاتها.

الدكتور بن تومي: بداية أشكرك صديقي الأستاذ الباحث اللامع خالد عبد الوهاب على الاهتمام الذي يجعلنا نؤسس لكوجيطو "أنا أحاور أنا موجود" لأنَّ في الحوار قدرة عجيبة على تخريج مسألة الاهتمام بالشخصي مخرج الجماعة المتحاورة أو كما يقول باختين الخروج من المونولوج إلي البوليفونيا (تعدد الأصوات) أو الأصوات المتعددة خصوصًا لما يتخلص الشخصي من النرجسية التي تقوم على معاودة الصوت "أنا" إلى الداخل، ليصبح الصوت متراكبًا في شكل رسالة؛ سؤال/جواب.. ربما انشغالي العميق بالنقد هو ما جعلني أتوجه نحو تركيز قراءاتي حول الخطاب الفلسفي المعاصر، وهنا أتساءل هل يمكن أن نجد وجهًا محددًا لما هو "نقد"؟ حيث تداخل النقدي بالفلسفي في الخطاب المعاصر إلى درجة أنّه يمكنني أن أقول إنّ النقد يقوم في الفلسفة مقام "الصلب والترائب"، حيث لا يمكن للمفهوم الفلسفي أن يتخلق إن لم يخرج من امتزاج غريب ومركب بين السؤال ونقده،حيث يحمل الخطاب تصورًا نقديًّا لكل البراديغمات السابقة، من هنا جاء اهتمامي لفهم العالم، فالتصور العقلي لا يكف دون وضع الأسئلة وضعًا يربط العالم بالرؤية، وبالتالي تُطَعِّمُكَ الفلسفة بأشكال فهم متعالية وعميقة للظاهرة الأدبية، لأنّ الأدب يهتم بوضع العالم والإنسان وضعًا جماليًّا، ينتشلهم مما هو كائن إلى ما يجب أن يكون. فالفلسفة تُعمِّق نظرة الإنسان لنفسه ولمساءلة الأدب، ومن هنا حاولت أن أعمق النظرة لماهية الإنسان أثناء الكتابة، فالكتابة تعبر عن عمق التقويض للصوت الواحد ليصبح الحوار متداخلاً فيَّ ذاتًا متشظية، هنا فقط تصبح لازمة الفلسفة ضرورية وممتعة لأي أديب يريد أن يكون عميقًا وفاحصًا.

خالد عبد الوهاب: بم تبررون هذه الثنائية (الأدب والفلسفة)؟ هل هي تعبير عن علاقتك الحميمية بالفلسفة؟ أم هي تعبير عن المتعدد في شخصيتكم الفكرية؟

الدكتور بن تومي: لعل هذا التعدد هو ما يمكنه أن يعين الإنسان على فهم القضايا الكبرى فهمًا دقيقًا، لقد أعانتني الفلسفة على وعي التراكبات الكبرى وفهمها في تتبع المسار النقدي الغربي الذي لم يكن بمعزل عن تلاحقه الفلسفي، وبالتالي من لزوم المعرفة أو الماقبليات المعرفية التي يضطلع بها الناقد الفاحص، أن يربط مسار النظرية النقدية بمرجعياتها الفلسفية حتى يمكن أن يتتبع خيوط هذه المرجعيات وتغلغلها في النظرية النقدية وهي من الضرورات الفعلية لفهم الجهاز المعرفي في رمته، وإلا كانت معرفة الناقد هزيلة وضعيفة، فكلما كانت العدة الفلسفية ضخمة كان الوعي الابستيمولوجي تأسيسيًّا لانخراط حقيقي للباحث في حوارية جذرية مع ما يمكن أن يميز وضعنا النقدي عن الأوضاع المتاخمة له، وبالتالي يمكننا تحديد الحدود الابستيمولوجية بين ما هو فلسفي وما هو نقدي، وكيف يمكن أن يستفيد النقد من الرؤية العامة للفلسفة حتى تصدر أحكامنا النقدية عن وعي بالشرط الفلسفي لتراكب النص بشكل دقيق.

وعليه فهذا التعدد الذي أشعر به يعبر عن حاجة معرفية تحتية من كوني أريد فهم تلك الدروب الداخلية التي يتقاطع فيها الفلسفي بالأدبي، ووعيها.

خالد عبد الوهاب: أستاذي الكريم، عطفًا على السؤال السابق يعتقد بعض الروائيين المعاصرين من أمثال أمين الزاوي أنّ قدر الفلسفة هو الرواية. فهل صحيح أنّ النص الأدبي هو الحقل المعرفي الوحيد الذي بقي للفلسفة أن تشتغل عليه؟

الدكتور بن تومي: الرواية هي قدر عالمنا الجديد، بل هي النص الوحيد الذي أمكنه أن ينقل المآسي الكبيرة، وبالتالي أول سؤال طرحته الرواية هي الإشكالات الكبرى التي صاحبت عصر النهضة وعمقت أسئلة الإنسانية الكبرى مع رواية دونكيشوت لميغال سرفانتس التي طرحت إشكاليات كبيرة منها تجاوز النسق الأخروي في شخص دونكيشوت، وبداية عصر جديد تترسخ فيه قيم الدنيوة، هذه الرواية التي يقال إنّ ميغال سرفانتس بدأها بالجزائر حين كان أسيرًا هناك، لعل هذا الأمر دفع فيَ محاولة البحث العميق عن علاقة الجغرافيا بالرواية، وهو ما فتح داخلي أسئلة كثيرة قادتني فيما بعد إلى أن أقرأ أهم التنظيرات الكبيرة في تاريخ الرواية ذاتها من جورج لوكاتش وباختين وصولاً إلى الرواية الجديدة، هذا النوع من السرديات التي استطاعت أن تستنطق عمق الأسئلة الإنسانية من قبيل سؤال الحرية، العبث، الفوضى، الإنسانية، الموت وغيرها وبالتالي فهذا الزمن الذي نعيشه هو قدر الرواية لأنّها فن يمكنه أن يستوعب تفاصيل الأزمة الأنطولوجية للإنسان المعاصر والتي كتب عنها الأدباء والفلاسفة.

خالد عبد الوهاب: لا يزال النص العربي المعاصر، بل حتى الخطاب العربي المعاصر، حبيس ذلك الدور المغلق والمتمثل في الجدل الفكري بين التراث والحداثة، بالرغم من كونه غير منخرط في التراث، ولا منتج للحداثة. بم تبررون هذه الأزمة البنيوية التي يعانيها النص العربي المعاصر؟

الدكتور بن تومي: للأسف الشديد لم نؤسس إلى اليوم حركة مراجعة قوية تقف عند العواضل البنيوية الأساسية التي حالت دون تفعيل حقيقي لللنهضة التي ننشدها، فحتى تلك المشاريع الفردية واجهتها إدانة سلطوية رهيبة سواء كانت سلطة دينية أورتذكسية أو سلطة سياسية ريعية حالت دون تأسيس وعي حقيقي في فهم المعضلات الكبرى للتخلف، حتى بعض الكتب التي شرحت الأزمة تكتنفها لغة حماسية ووعظية، وتفترش جهازًا فقهيًّا رهيبًا عن الأمة التي خالفت تعاليم النبي، وبالتالي نكون أمام تشريح فردي يشتغل على أزمة الفرد في المجتمع وليس عملاً مؤسساتيًّا يبحث في إخفاق سوسيولوجي خاصة بالجامعة، لعل هذا ما يمكن أن نلاحظه من الفروقات المنهجية لمتصدري الخطاب العربي عمومًا، حيث نجدها محاولات معزولة عن بعضها، تفكر في شكل دوائر مغلقة تكتنفها العدائية بين المفكرين أنفسهم، وهذا يجعلنا نركز بشدة على تلك الخلافات النفسية لأمزجة المفكرين أنفسهم، وظاهرة النرجسية التي تظهر على المفكر العربي، الذي يبدأ دائمًا من القديم ويعمل على التأسيس والتأصيل حتى أصبحت المشاريع الفكرية العربية عبارة عن بنى باثولوجية مليئة بالعقد النفسية التي تجدها متخمة بالمديح لشخص الباحث، أو توجهه الإيديولوجي، والنيل من غيره وكأن ليس في سماء الفكر إلا هو، ولعل من يلاحظ نقد طرابيشي لمحمد عابد الجابري يفهم ذلك جيدًا، أو نقد طه عبد الرحمان للجابري يفهم ذلك، فهو نقد ينبني على نسق متوتر ومخادع ظاهره البحث في الفكر، لكن عمقه القدح في مجهود الشخص، لذلك عدمنا الحدوس الكبرى في مشاريعنا لتكون عبارة عن حواش وشروح للأزمة دون تشخيص حقيقي للأزمة، ولعل هذا الجهد قدم طبقًا من ذهب للحركات الإسلامية التي أدانت هذا العقل المجتهد، ووضعته في خانة الكافر والمرتد، وحصل من ثمة قطع الطريق عن كل تجديد، ولعل هذا ما حصل مع فرح أنطون وغيره، أو ما يمكن أن نسميه تاريخ الإساءة للعقلانية، فالإدانة والعقاب بدأ من داخل الحقل الثقافي أما التصفية فقد كانت حلقة إضافية لمشروع الهدر الكلي الذي كانت بدايته الإهدار المعرفي، وكذلك نصر حامد أبو زيد الذي أدانته المؤسسة بكل أشكال العقاب التي توفرت لها بما فيها الجامعة والقضاء والمسجد، فما كان منه إلا الغربة التي أدت إلى ما نعرفه جميعًا المنفى، هذا الأمر لم يساعد كثيرًا في الوقوف على أزمة الفكر العربي لغياب تراكم حقيقي في النصوص، نتيجة إهدار جهد الفرد/ المفكر في صراعات وهمية، فكل المشروع الفكري العربي منهك بالجهد النضالي والسياسي الذي ينم عن قلق وخوف في الذهاب مباشرة إلى بناء نص كبير، يمكنه أن يكون فارقًا في سماء الفكر العربي، أي ليست هناك مساحة من الحرية ليشتغل الفكر وفق ضوابط معقولة فهناك حراك قوي للمصادرات فكيف يمكن للعقل أن يقف على معضلاته.

هذا الأمر الذي أدى إلى غلبة السياسي على المعرفي، وهنا احتقنت الساحة بضحايا الأفكار نتيجة تعويم نموذج سياسي واحد، وكذلك نتيجة تعويم براديغم فقهي واحد ألزم الجميع تحت قبته، واستبعد جميع العقول المفكرة إلى الهامش بل سلط ضدهم كل أشكال العقاب، أنَّ للطفرة الفكرية أن تحصل في جوّ لا تسوده الحرية.

خالد عبد الوهاب: من خلال نصوصك الروائية تبدو متمردًا على الضوابط الأكاديمية الصارمة، فهل هذا التمرد هو تمرد القلب على العقل؟ وهل هو ضروري لإبداع النصوص المتميزة؟

الدكتور بن تومي: أتصور أنّ المسألة تتعلق بالتجريب، فأنا من الذين يهتمون كثيرًا بقراءة التنظير النقدي للرواية والذين يهتمون بتكوين أنفسهم جيدًا في هذا الإطار، وممن ينشغلون بعمق بممارسة الجهاز النظري العميق الذي تكون لدي من جهة قيامي على النظرية السردية، وليس صحيحًا أنّ كتابة الرواية والإبداع عمومًا تُغلِّب القلب على العقل، بالعكس من ذلك تمامًا فإنّ قدرة الأديب الفلسفية تتجلى في قوة الترميز، القوي الذي يمكن أن يحتكم إليه الكاتب أثناء الكتابة، ربما سؤالك هنا يتعلق بشق "الرواية الوردية" التي تتوجه في العادة إلى المراهقين ولكن ممكنات الكتابة عندي تبين عن مسؤولية جذرية اتجاه المسائل والموضوعات التي أباشر الكتابة فيها. فأنا لا أحفل في العادة إلا بالنصوص الرمزية والتي تقارب الموضوعات الفلسفية بشكل جمالي.

خالد عبد الوهاب: كثير من الدراسات النقدية المعاصرة بقيت مسيجة بأسوار الأكاديمي، ولعل ذلك ما حجب عنها الانتباه والالتفات إلى البعد الجمالي والفني. هل تشاطرون هذا الطرح؟

الدكتور بن تومي: صحيح هذه مسألة دقيقة فالنقد الأكاديمي عندي متضخم، ويرى في نفسه أنّه معصوم ويمكنه أن يحاكم، بل وفي مقدوره ممارسة الرقابة بشكل جذري اتجاه النصوص وهذا توجه فيه كثير من النرجسية والغطرسة والتفاهة، لأنّ النقد من المفروض أن يؤسس للحوارية مع النص الإبداعي وأن لا يحصل تميز للنقد على حساب النص الإبداعي بل أن يتواضع النقد أمام الإبداع، هذا هو الخلل الفظيع الذي يمارس في سمائنا النقدية حيث نجد النقاد يتعاملون مع النصوص بطريقة فيه الكثير من ليِّ العنق والتقول المفضوح لذلك كان نقدًا باهتًا ومتهافتًا من جهة عدم مراعاة الخصوصية التي يكون عليها النص الإبداعي، وهنا فقط يكون نقدًا أكاديميًّا متعاليًا على النصوص الإبداعية، نقدًا نرجسيًّا ومتورمًا، وعليه وجب أن نخرج من طور النقد المدرسي الذي بنته الجامعة وسيجته بأسوارها المتعالية، أن نفض تلك الجداريات التي تدعي العصمة لتتوالد المناهج من عمق النصوص، وليس العكس. وهذا الأمر يؤدي بنا إلى تجاوز المعضلات الكبرى التي أسستها المؤسسة النقدية من خلال تشكيل مقاربات قلقة.

خالد عبد الوهاب: دكتور بن تومي، في كثير من مقالاتكم حول تحليل الخطاب أراك تضع حدودًا وفواصل بين ما هو نص، وما هو خطاب. في تقديركم أين نصنف النقد العربي المعاصر للرواية، أهو نص أم خطاب؟

الدكتور بن تومي: سأكون صريحًا ما يزال البراكسيس النقدي عندنا لم يتجاوز الفعل الفردي المعزول حيث لم نحقق للآن تراكمًا كبيرًا للنصوص، إنّه نقد وإن كان في ظاهره يحتكم لآليات نقدية إلا أنّه ذوقي وانتقائي لم يتجاوز حكم القيمة، لم ينفذ إلى تأسيس نظرية عامة تؤسس لحراك فلسفي حول مفهوم النص بعد، وإن كان الغالب على ساحتنا ترجمة عديد النظريات النقدية من هنا وهناك إلا أنّها تبقى في حدود الترجمة المبتورة ولم ترتق إلى كونه فعلاً إبداعيًّا خلاقًا، حيث لم نتجاوز إلى الآن عقلية الاستهلاك نتيجة أنّنا ما زلنا نراكم الترجمة ولعلها عند بعضهم حالة الإبداع أو المدخل الإبداعي الوحيد الذي يمكنه أن يؤكد فعليا انخراطنا في المشروع النقدي، ومع ذلك تبقى نصوصنا معزولة، وتعاني قلقا أنطولوجيًّا نتيجة أنّها لم تكن أبدًا مصدرًا لتلك الإبداعية مع هذا التراكم المريب لعديد المناهج النقدية؛ البنيوية، السيميائية، التداولية، التفكيكية وغيرها. بالإضافة إلى أنّ هذا التدهور في عدم تراكم النصوص لم يمكننا نحن العرب من أن نؤسس مؤسسة نقدية فعالية ومختلفة بقدر ما أسسنا لفعل التقليد، وأي إبداع خارج عن التقليد يصادر مباشرة، لذلك ما تزال محاولتنا النقدية في طور البناء ولم تنهض من داخلها بعد نظرية نقدية يمكن أن تبين عن قوة نقدية ما، نحن فقط في حالة الترجمة أي حالة النقل، وعلينا أن نراكم النصوص لنؤسس للتقاليد التي يمكنها أن تؤسس نصًّا طفرة في ممارستنا النقدية، لذلك نحن في طور ما قبل المنهج، في طور البحث عن الذات لعل هذه الحيرة الأنطولوجية ستقودنا يوما لنؤسس نصوصنا البشرية الكبيرة، لعل هذا التشريح يجعلني أتراجع قليلاً لأمدح تلك المشاريع التي تشكل حدثًا معزولاً في منظومة التفكير العربية، إنّ تحليل العواضل لا يجب أن يمنعنا من أن نمدح أولئك الذين يعملون بجهدهم الفردي من أجل تأسيس هذه اللحظة الطفرة أو الوثبة التي ننتظرها جميعًا.

خالد عبد الوهاب: أستاذي الفاضل، من مقولاتكم في الرواية: إنّ الروائي ابن مخزونه من القراءة، فهل هذا يعني أنّ التثاقف ضروري لجدة النص وأزليته؟

الدكتور بن تومي: أكيد على الروائي أن يقرأ كتابات سابقيه وأن يتعرَّف على فن الملحمة والتراجيديا والكوميديا والعناصر المختلفة المشكلة لها، وأن يعرف العلاقة بين تشكل الرواية والبورجوازية مثلاً، وأن يكون على علم بالأسماء الأدبية الكبيرة وطرق الكتابة عندها، وكذلك المذاهب الأدبية ومشاربها بهذا يمكن أن يكتب الروائي وهو مؤسس بشكل يسمح له أن يبدأ في المختلف، وأن لا يكون إبداعه مبتورًا عن السياق العام للنظرية الروائية، وبالتالي التثاقف مهم شريطة أن يُحصِّل المبدع إوالياته كالتمثل والتحصن والمحيطة، لأنّ التثاقف عملية معقدة ومركبة، ولا تكون فقط عملية اعتباطية، بل هي عملية معقدة تحتاج إلى تمثل عميق ومعرفة علمية ودقيقة بالموضوع المراد التثاقف معه.

خالد عبد الوهاب: يبدو جليًّا أنّ أغلب، إن لم نقل كل الروائيين المشتغلين بالنقد من أترابكم، تميل نصوصهم الى الفلسفي وتنفر من الاجتماعي. بم تفسرون هذا التوجه في الرواية المعاصرة؟

الدكتور بن تومي: سبق لي أن أكدت في عدد من الدراسات والأبحاث أنّ الأدب يعتاش على الفلسفة، وأنّ الفلسفة تتقوم بالنقد، وبالتالي لا يمكن للناقد أن يكون دقيقًا وفاهمًا ومتأولاً جيدًا ما لم يكن عارفًا بالمنظور العام لتراكب النص من الوجهة الفلسفية وإلا يكون نقده آليًّا وميكانيكا من دون روح تؤسس لايطيقا الحوار، لأنّ النقد في حاصله ليس إلا عملية حوارية مع النص المنقود.

و بالتالي علينا أن نكون واعين اتجاه ما نكتب، هل نقصد أن تكون نصوصنا مشبعة بالحدوس التي تنمي روح التفلسف أو أن تكون مجرد نقل لما هو واقعي، هنا فقط تقع نصوصنا في دائرة التسجيلي والسوداوية وتصبح كتابة صحفية لأنّها تكون نسخة طبق الأصل عن الواقع، ووحدها الفلسفة من يمكنها أن تطعم النص وتثخنه وتجعله يحمل الأسئلة الكبيرة، وتخلص النص من فجاجة اليومي والواقعي، لأنّ الفلسفة تساعد الإنسان في البحث عن الخلاص، إنّها تنمي رحلة البحث عن المعنى من حضيض السقوط في الاستهلاكي واليومي.

خالد عبد الوهاب: دكتور بن تومي، على ضوء اشتغالكم في كثير من أبحاثكم على بعض المشاريع الفكرية العربية، كمشروع نصر حامد أبو زيد، وادوارد سعيد، وطه عبد الرحمن، والجابري، والعروي وغيرهم، هل تمكنت هذه الخطابات العربية المعاصرة من فك أزمة الجدل بين الديني والعقلي؟ أم مازالت تراوح مكان المقدمات التي انطلقت منها؟

الدكتور بن تومي: حقيقة لقد كتبت عن أغلب هؤلاء المفكرين لأتيح لنفسي معرفة العقابيل التي حالت دون تنامي حركة أنوار قوية في عالمنا العربي، كما أمكنني فهم لعبة المصادرة الكامنة في العقل التاريخي العربي، ولن أتهرب لأقول إنّ الوضع معقد جدًّا، وإنّ السلطانين السياسي والديني حالا دون قيام مشروع عربي موحد يشتغل على فهم تلك الإهدارات لأنّ التكاليف كانت كل مرة باهضة وقوية. أتصور أنّها مشاريع شرحت ووصفت الأزمة، لكنها لم تقدم حلولاً فعلية وجذرية للخروج من الأزمة، لأنّ الخروج من الأزمة يحتاج بداية لبناء إنسان النهضة، ونحن نشاهد أنّ السلطتين تعملان على عزل المفكر عن المجتمع، ووسمه بأبشع الأوصاف من التبديع إلى التفسيق والتكفير إلى التصفية الجسدية. لكن لا يمكنني في المقام الآخر أن أبخسها حقها فقوة الإدانة تكون من قوة التشخيص للأزمة ولعل قضية نصر حامد أبي زيد خير دليل، لقد حالت هذه العواضل دون الوقوف على وضع بدائل جذرية للخروج من الأزمة التي هي بالأساس معقدة ومتراكبة بنيويًّا.

خالد عبد الوهاب: سيدي الفاضل، إذا تأملنا في روائع النصوص الأدبية، في رأيكم من يصنع النصوص العظيمة؟ هل يصنعها الهامش أم تصنعها ثقافة الواجهة؟

 الدكتور بن تومي: النصوص الكبيرة تصنعها الطفرات الزمنية الفائقة، تصنعها الآلام العظيمة والملاحم الكبيرة. وقد يكون للهامش نصوصه كذلك، لا فرق عندي من يصنع النص الكبير، ربما الهامش يصنع نصوصًا أرقى بكثير مما يصنعها المركز، لأنّ المركز يصنع نصوصًا رسمية في حين أنّ طرافة الهامش أنّ نصوصه الكبيرة كثيرًا ما تتجاوز عبقرية المركز.

خالد عبد الوهاب: اذا اعتبرنا مجازًا نهاية الحوار مقدمة لاستشراف مستقبل النص والخطاب العربي المعاصر فينبغي أن نثير سؤال المستقبل، هذا الذي يعتبره المفكر التونسي فتحي التريكي هو سؤال إمكان الحداثة أو سؤال الحيلة إلى الحداثة. فهل هذا ما يجب أن يكون؟

الدكتور بن تومي: جميل أن نناقش فكرة المستقبل، لكن المستقبل في منظوري هو في ذاته منظور إليه على أنّه ماض في زمن غيرنا، إنّ المستقبل يقع هنا في لحظتنا الراهنة، بل يوجد في الماضي طالما ما زلنا لم نقطع معه أو لنقل لم نفض إشكالاته التي ترجع كل مرة، إنّنا عربًا لا نملك تصورًا للمستقبل لأنّ كل الأزمنة عندنا مجرد لحظة زمنية واحدة صُنعت في الماضي،علينا أن نتدبر الماضي هنا بشكل نقطع فيه مع أسباب التخلف، وكل ما من شأنه أن يؤدي إلى فشلنا في المستقبل على اعتبار خطي، هذه القراءة من شأنها أن تعيد توصيف ما المستقبل؟ فإعادة تدبير الزمن من شأنه أن يخلصنا من انفجار قضايا الماضي التي تصنع مستقبلنا إن ظللنا نضع الزمن في خانة التقديس، ما يجب أن نفعله هو أن نعيش زمنًا أرضيًّا/دنيويًّا بعيدًا عن كل انفعال عاطفي مع أمجاد الماضي، الماضي هو آخر كذلك، والمستقبل هو ما يمكن أن نشكله نحن فقط بعيدًا عن كل الألاعيب اللغوية والموضوعاتية التي قد تسحب بساط الفعالية عن زمننا ليصبح مستقبلنا مجرد ماض مُعلَّب وتحت خدمة الإشكالات نفسها.