انتحار المبدع: جدل الرفض والانكسار!!


فئة :  مقالات

انتحار المبدع: جدل الرفض والانكسار!!

انتحار المبدع:

جدل الرفض والانكسار!![1]

هم يرون ما لا يستطيع السواد الأعظم من الناس رؤيته...

يستشفون المستقبل، ويلقون بأنفسهم في وجه الآتي من التيار، وحين ينعزلون، وينسحبون عن عوالم من حولهم، فإنهم يصبحون رهبان إبداع.

يتأملون، فيوغلون في الرحيل إلى الجانب الآخر، ويسيرون ركبا في قافلة البحث عما وراء المادة، وهم الرافضون لانحطاط المحسوسات حولهم، في رحلة بحثهم عن الجوهر السامي.

يسميهم كولن ويلسون، باللامنتمين، إذ إنهم يشعرون لأي سبب كان بالوحدة، وسط جمع من الذين لا يبلغون منزلة أفكارهم، وفي رؤيتهم للعالم رؤية العذاب والمرارة والموت المفاجئ وانعدام الشعور بالأمن دائما، واحتقار الحياة.

إذن، فالمبدع المتميز وحده الذي يزهد بالمادة، وهو حامل الموقف النبوي ذو الطموح الجوهري، راء وسامع لما لا يرى ويسمع، يرى المجهول، ويسمع أصوات الغيب، فرؤياه رؤيا نبوية، تكشف ما لا يستطيع غير المبدع اكتشافه، حتى يتجاوز بالمبدع توظيفه لإبداعه وتميزه ورؤياه إلى أن يصل الحد الذي يحس به أنه وحده المسؤول عن إصلاح العالم وتخلصه من كل الخطايا. فالهمّ العام، ورؤيا النبي، عند المبدع تذيب الهمّ الخاص، وتبقى تتطور حالة التمازج هذه في داخل ذاته إلى أن تصل إلى النقطة الحرجة التي يكون عندها مفترق الاختيار، فيتحول المبدع حينها إلى نبي كـ(بوذا) و(زرادشت)، أو مصلح كـ (غاندي) و(مارتن لوثر)!!

ولكن بعض المبدعين يستهلكون كل طاقتهم في محاولة التغيير والإصلاح، فتحرقهم نار الإحباط، وتهزهم صدمته بلا جدوى الخلاص للمجتمع حوله، فيلجؤون للانتحار رحيلا، وانسحابا لنفسهم الشفافة الظامئة، من عالم يحسونه دون أن يروه، أملا في أن يكون عنقاء تحترق، ليعاد بعثه في عالم ينسجم معه، عالم آخر قادر على استيعاب رؤياه.

والعزلة طريق بديل للمبدع بعد أن تشربت روحه بالمعرفة والتجلي، فيترهبن عاكفا على التأمل والتحليق في ممالكه العليا، فتصبح رؤيته – كما يعبر عن ذلك جبران خليل جبران- بعين الخيال، أو بالعين الثالثة، أو بعين القلب، ويصف هذه العين بأنها "تلك الرؤيا، تلك البصيرة، ذلك التفهم الخاص للأشياء، الذي هو أعمق من الأعماق، وأعلى من الأعالي...".

وإن في رؤيا المبدع حرية وتمردا، بيد أن الدرب حصاها الجمر واللهيب، ودون تلك الحرية النقية هناك صلب أو جنون، وفي الصلب العذاب والخلاص، بينما في الجنون عزلة وانفصال وطريق إلى الانتحار، وقيل "أبناء الحرية ثلاثة: واحد مات مصلوبا، وواحد مات مجنونا، وآخر لم يولد بعد!!".

وللمبدع مجتمعه المختلف، المتميز، وغير المنسجم مع وتيرة ما حوله، لأن مقياس (مجتمع العامة) قائم على مبدأ الخضوع؛ "أنا أخضع، إذن أنا موجود"؛ حيث إنه في المجتمعات الصناعية خضع الإنسان للآلة فاستعبدته، وانضوى تحت لوائها على اعتبار أنها سبيل هنائه، وفي المجتمعات المتخلفة، رفع شعار الدخول تحت مظلة النظام السياسي، كسبيل للرخاء، فحكم مصير الإنسان بمنظومات ليس له أمامها من خيار سوى الخضوع أو الانهزام، وفي كل هذه المجتمعات والأنظمة تجريد للإنسان من إنسانيته، وإرادته، وهنا تكمن مشكلة المبدع، تلك هي المشكلة، في أنه رافض لما حوله من استعباد، وخضوع، وكبت، مكرس ذاته وروحه لإنسانيته التي ترتفع به إلى مرتبة النبوة والنبوغ!

والأدباء والفنانون، هم أكثر المبدعين انتحارا وانعزالا واحتجاجا ورفضا، هم المحترقون دفاعا عن إنسانيتهم ورؤيتهم بشفافية نفوسهم ورقة أحاسيسهم إلى جوار مبدئيتهم. رافضون بذلك إحباطات السواد من حولهم، وانحطاط القيم، وسطحية التفكير، وتراكمات الهزائم، والخنوع والتراجع، واختلال قيمة الإنسان الملاك بانحطاطه إلى الدرك الأسفل من المادية، ليصبح شبيه الشيطان أو ذاته، فكان الرفض التام لبهيمية التعامل مع روح الإنسان.

يمكن رصد كثير من الآلام المبدعة التي مضت على درب الانتحار، ويمكن التقديم لكل حالة بفيض من التفسيرات، لكن ربما نقل صورة النهاية، أو تفاصيل آخر رسالة تركها ذاك الموغل في رحيله، تعطي الانطباع الأعمق حول مدى الحالة التي وصلها المبدع، قبل أن يقرر أن يغيب منتحرا.

يقول ألبير كامو في كتابه (الإنسان المتمرد): "إن طبيعة التمرد الحقيقي، أن لا يكون رفضا لحالة فردية، وغضبا لضيم خاص يتعرض له واحد من الناس أو جماعة منهم، بل أن يكون رفضا لاستلاب العام الشامل، عملا بما يفهم من قول القائل (أنا أتمرد...إذن نحن موجودون)". هذا مفتتح أولي، لاستحضار صورة الروائي الياباني يوكويو ميشيما، والتي يحضر فيها مغتربا متمردا، قبل لحظة انتحاره، حيث هو رافض لانجراف اليابان نحو التغريب والتأمرك، متمسك وداع للعودة إلى الروح اليابانية، والهوية الحقيقية.. تلك الأفكار، وهذا البوح، يأخذ منه كلمة استغرقت عشر دقائق، بتاريخ 25 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1970، قال كلمته في الجنود الشباب من رفاقه، بعد أن احتل هو وإياهم مقر كلية الأركان العسكرية وسط طوكيو، واحتجزوا قائدها، ثم صعد شرفتها، وألقى خطبته على الشباب، دعاهم فيها إلى رفض خضوع اليابان لأمريكا، وإلى تغيير دستورها السلمي الذي فرض عليها بعد احتلال أمريكا لليابان عام 1945، والعودة إلى التقاليد اليابانية العسكرية، والقيم القومية التاريخية، ثم أكمل بعدها عملية انتحاره على طريقة الساموراي (فرسان اليابان القدماء)، بأن غرز سيفه في أعماق أمعائه، وأخرجه من جانب بطنه الآخر، ثم قام أحد رفاقه بحز عنقه، وفصل رأسه عن جسده.

صورة أخرى، تومض كما شرارة في مكان آخر، هو لبنان، حيث عام 1982، وقد كان الشاعر الدكتور خليل حاوي، قرب الجامعة الأمريكية في رأس بيروت، تدكه مطارق الحزن الرافض والوجع الدفين، وهو يراقب أرتال الجيش الإسرائيلي زاحفة نحو بيروت، وقلبه يعتصر ذاكرة وتراكمات أعوام طويلة من الصراع الداخلي في لبنان، وكأنه كان قد تنبأ بالاجتياح من قبل وجهّز الحلّ مسبقا في قصيدة البحر والدرويش التي كتبها عام 1957، وفيها يقول:

"وأرى.. ماذا أرى؟

موتا، رمادا، وحريق..

نزلت من الشاطيء الغربي

حدّق ترها.. أم لا تطيق؟".

ولما كان لا يطيق كل تلك الأخطاء التي كان يراها مشوهة لجلال الوطن، وسمو الإنسان، واصطدم بها، وهو مكبل غير قادر على إصلاح تراكمات هذا الخراب السياسي المستشري حوله، وهو صاحب القضية والقلم، والأرض والألم، وأنّى اتجه بنظره حوله رأى مؤامرة تحاك، ووطن ينتهك، فرفض الوقوع في حبال مصيدة الواقع، وآثر السكينة كي لا يلوث روحه بكل تلك الدسائس، فاختار الموت مسبقا، والإبحار ميتا، والابتعاد، كما عبر عنها في واحدة من قصائده:

"خلني للبحر، للرّيح، لموت

ينشر الأكفان زرقا للغريق

مبحر ماتت بعينيه منارات الطريق

مات ذاك الضوء في عينيه مات

لا البطولات تنجيهن ولا ذل الصلاة".

إنها حالة إحباط تامة، سواد أغلق كل الطرق أمامه بعد أن سدتها بنادق ودبابات العدو، فكان أن أطلق النار على رأسه من جهة العين اليسرى (مساء 6 يونيو/ حزيران 1982)، فيصمت الدم، مع القلب، وخيط أحمر قان، يعيد كتابة قصيدة لحاوي كان قد احتج بها رافضا بمبدئيته كل هلامية المواقف حوله، مبشرا بانتحاره حين قال:

"فاتني طبع المجاهد

لم أعد غير مشاهد

فلأمت غير شهيد

مفصحا عن غصة الإفصاح

في قطع الوريد..".

وذات انكسار آخر، هو ذا الشاعر الأردني تيسير سبول، يقرر الرحيل برصاصة في الرأس، بعد أن كان يحلم أن يحمل وشم دولة قوية تبعث الأمة، التاريخ، والإنسان، في نهوض كامل نحو الوحدة التي كان يتمناها، غير أن وشم الهزيمة كان أقوى، فأورثت نكسة يونيو/ حزيران الخذلان إلى نفس سبول، هذا الملاح الباحث عن دولته تلك، في شواطئه الأخيرة، فلم يجدها، فعبر عنها شعرا:

"يعبر الملاح مخذولا لشطآن السآمة/

ورمى الملاح لليم شراعه

كانت الخيبة ترتاد جبينه

ونأى.. رحلة نحو ضفاف، دون حب أو ضغينة".

وحين كانت حرب أكتوبر/ تشرين الأول، انتشت نفسه فرحا بقدوم البشير المخلص لجغرافية المكان وروح الإنسان، حاضرا ومستقبلا، وأحس بملامح تشكيل أول نقوش الوشم الذي كان يحلم به، لكن محادثات الكيلو (101)، سرعان ما كشفت واقع الانحطاط والهزيمة أمام عيني سبول، وإذا بالحزن يغطي البداية والنهاية في كل المعارك الحية:

"ويقال إن هزيمة

خطت إلى الآتي فخاره

الأمر في عيني ماثل

وأرى البداية والنهاية

لكنما... الحزن ينفض نسج قلبي

يمتد من قلبي... وحتى

لا نهاية".

غير أن سبول أبى أن يضع رأسه بين الرؤوس، فكان الخامس من أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973، حين دوت طلقة من مسدسه، مخترقة رأسه ظهيرة ذاك اليوم، واضعا الحد للتيه في هذا الزمن الأخدود، وكان قد كتب قصيدته الأخيرة، تركها بجانبه، قبل انتحاره، خنجر اغتراب، وصرخة رفض، قال فيها:

"أنا يا صديقي

أسير مع الوهم.. أدري

أيمم نحو تخوم النهاية

نبيا، غريب الملامح أمضي

إلى غير غاية

وأنت صديقي... وأعلم

لكن قد اختلفت بي طريقي".

[1] - ذوات 43