بعض أصول "الثقافة القومية" ومآلاتها


فئة :  مقالات

بعض أصول "الثقافة القومية" ومآلاتها

الثقافة، بمعناها الواسع، ممارسة اجتماعية وسياسية، مثلما هي ممارسة فكرية وعلمية وأدبية وفنية، وفقاً لمنظومة القيم الأخلاقية والجمالية التي يتبناها المجتمع المعني، في شروط تاريخية معطاة. فالمجتمع من هذه الزاوية، زاوية الممارسة، نسيجٌ حيٌّ من منظومات ثقافية، هي حقول قوى مختلفة ومتفاوتة في حالة تشكل دائم وتغير مستمر، قد يصدق على آليات تشكُّلها وعوامل تغيُّرها "مبدأ عدم اليقين"، لأن الناس لا يستطيعون التحكم في نتائج أقوالهم وأفعالهم والسيطرة عليها. لفتنا إلى هذا ما يجري في سوريا والعراق واليمن وليبيا ومصر وغيرها منذ خمس سنوات. فقد تمكنت النظم التسلطية، والسلطات المستبدة استبداداً كلياً في هذه البلدان من السيطرة على أقوال محكوميها وأفعالهم سيطرة شبه تامة و"الاحتكار الفعال لمصادر الثروة ومصادر السلطة ومصادر القوة"، وأن تحقق درجة عالية من الانضباط القسري الكلي أو شبه الكلي، في جميع مجالات الحياة، وهو ما مد في أعمارها عقوداً. ولكنها لم تتمكن من السيطرة لا على نتائج أقوال المحكومين وأعمالهم، ولا على نتائج أقوالها وأفعالها هي نفسها، فكانت الثورات والانفجارات الاجتماعية، والثورات المضادة.

وقد امتازت سوريا من بقية بلدان الربيع العربي بدخولها في طور التفكك الاجتماعي و"حرب الكل على الكل"، وانفجار عنف غير مسبوق، في العالم، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وسبقها العراق إلى ذلك، في ظروف مختلفة. وقد فنَّدنا غير مرة مقولة "تحول الثورة السلمية إلى حرب" قذرة، ورأينا في الثورة السلمية والحرب ظاهرتين مختلفتين نوعياً، لكل منهما خصائصها وحاملها الاجتماعي وأهدافها.

حرب الكل على الكل، التي كانت فرضية نظرية عند ميكيافلي، غدت واقعاً معيشاً، من أبرز معالمه انتكاس الجماعات إلى "حالة الطبيعة"، كما وصفها فلاسفة العقد الاجتماعي، أو "حالة الغريزة"، حسب كانط، ونشدد على حالة الغريزة، (اقتل لكي تعيش)، على اعتبار "السياسة الحيوية" هي العامل الرئيس من عوامل هذا الانتكاس، والسياسة ليست أكثر من ترجمة الثقافة إلى أفعال.

ولما كانت ملفوظات السلطة، بوجه عام، وملفوظات الجماعات المقاتلة في سوريا، بوجه خاص، هي التي تتحول إلى ممارسة، ولما كانت الثقافة ممارسة، كما أشرنا، والممارسة مرآة الثقافة والقيم الأخلاقية والجمالية، نفترض أن "الثقافة القومية الاشتراكية"، التي أنتجها حزب البعث العربي الاشتراكي وعممها وغرسها في نفوس الناشئة، على مدى أكثر من نصف قرن، متوسلاً بالنظام التعليمي والسلطة التعليمية والمؤسسات الثقافية والأيديولوجية والإعلامية و"المنظمات الشعبية"، التي أنشئت بمراسيم وقوانين فوقية .. نفترض أن هذه الثقافة هي التي أنتجت الاستبداد الكلي، وهي التي تُترجَم اليوم إلى حرب قذرة، وهي التي جعلت من السياسة حرباً على المجتمع، منذ استولى العسكر على السلطة باسم حزب البعث العربي الاشتراكي، ثم جعلوا هذا الحزب قائداً للدولة والمجتمع، وفق الدستور السوري لعام 1973، حتى عام 2011. فالوظيفة الرئيسة للنظام التعليمي والسلطة التعليمية والمؤسسات والمنظمات الشعبية كانت تقتصر على نشر هذه الثقافة وترسيخها وإعادة إنتاجها، بما يخدم مصلحة السلطة الحيوية (سلطة العائلة)، ويحقق غاياتها، ويضمن استقرارها واستمرارها. فالتنشئة السياسية والانضباط الاجتماعي كانتا محور الحياة العامة.

الوعي السياسي الذي أنتجته الثقافة القومية الاشتراكية ومؤسساتها يفصل المسألة الوطنية (= القومية) عن المسألة العلمانية – الديمقراطية، وقد أشرنا إلى ذلك، قبل "الربيع العربي"، ثم مع بداية الثورة السورية[1]. ومرد هذا الفصل القطعي بين المسألة الوطنية والمسألة العلمانية - الديمقراطية هو كيفية تأويل "الدولة القومية" (= الدولة الوطنية)، التي بلورتها الحداثة، أواخر القرن الثامن عشر، في الفكر السياسي العربي عامة ولدى النخبة السورية خاصة، وتفريغها من محتواها العلماني – الديمقراطي، واختزالها في "الدولة العربية" الواحدة، دولةً مركزيةً للعرب الأقحاح من المحيط إلى الخليج. ويتصل بذلك أوثق اتصال فصل مفهوم الأمة عن مفهوم المجتمع المدني، ومن ثم فصل مفهوم السلطة عن مفهوم الشعب، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى بعث الاستبداد والتسلط من جوف التاريخ وتحديثهما في صيغة "دولة البعث" و"سوريا الأسد" و"الشعب العربي السوري"، حتى بات الكوردي والآثوري والأرمني والشركسي والتركماني .. عرباً سوريين، في البطاقات الشخصية وجوازات السفر، قسراً وإرغاماً.

تجب العودة هنا إلى مفهوم الأمة في فكر ساطع الحصري وزكي الأرسوزي وميشيل عفلق ومدرسة حافظ الأسد، ومدرسة صدام حسين ومدرسة معمر القذافي، التي اعتبرها المثقفون القوميون العرب مرجعيات فكرية وسياسية، بعد "تصفية الناصرية"، لكشف النقاب عن حقيقة أن فكرة الأمة العنصرية (الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة) أساس فكرة الدولة المركزية العنصرية، "دولة البعث" وأساس النظام التسلطي، وأن فكرة الأمة العنصرية إثنياً (الأمة العربية) معادل علماني لفكرة الأمة العنصرية مذهبياً، (الأمة الإسلامية)، حسب المتكلم، سنياً كان المتكلم أم شيعياً أم غير ذلك من الفرق الناجية. العقيدة هي العقيدة، سواء كانت عقيدة حسن البنا أو سيد قطب وغيرهما أم عقيدة زكي الأرسوزي وميشيل علفق وغيرهما، ولا سيما في ظل الأدلوجة التي تقول: "العروبة مادة الإسلام، والإسلام روحها، فلا تنهض الأمة إلا بجناحيها: العروبة والإسلام".

ولما كانت فكرة "الأمة" أساساً سوسيولوجياً وأيديولوجياً وأخلاقياً لفكرة "الدولة القومية"، فمن البديهي أن تولِّد فكرة الأمة الإسلامية المتجانسة مذهبياً فكرة "الدولة الإسلامية" المتجانسة مذهبياً، وتنبذ، من ثم، غير المسلمين وغير السنة أو الشيعة (حسب المتكلم/ــة) من دائرة الأمة ودائرة الدولة، وتعتبرهم إما من أهل الذمة، وإما مشركين وكفاراً وزنادقة. ومن البديهي أيضاً أن تولد فكرة الأمة العربية النقية عرقياً فكرة الدولة القومية العربية النقية عرقياً، وتنبذ، من ثم، غير العرب من دائرة الأمة ودائرة الدولة، وتعتبرهم إما من الموالي، وإما أعشاباً ضارة يجب اسئصالها.

الأمة العربية، عند زكي الأرسوزي (1900 - 1968)، مشتقة من الأم، ما يحيل على فكرة الأصل، التي تنكشف لأفراد الأمة بالحدس، فإن "الاختلاف بين فرد وفرد من أبناء الأمة إنما هو اختلاف في درجة الوضوح في الأمور المتعلقة بالأصول؛ فما هو حدس مبهم عند الجمهور يتحول إلى بصيرة نيرة عند القادة. وذلك ما يحمل على الاعتقاد أيضاً بأن ما يتجسد من شبه بين الأفراد المنحدرين من ذات الأصول وبين ما يظهر من انسجام في المؤسسات العامة يرجع إلى آية الأمة المتحققة عبقريةً في الطبيعة، يرجع إلى تجربة الأجداد المثلى في أصول الحياة، وليس التاريخ إلا سجل هذا التحقيق كمصير حصل من انتصارات الحياة على القدر"... "تلك هي الأمة العربية عبقرية أبدعت أداة بيانها فأفصحت بهذا الإبداع عن حقيقتها ... إن الحدس في الكلمة العربية من صرح الثقافة بمثابة البذرة من الشجرة. ذلك ما دعانا إلى القول: بأن أمتنا ليست محصلة ظروف تاريخية، بل إنها معنى يبدع تجلياته ويوجهها نحو المزيد من الحرية. وذلك ما دعانا إلى الاعتقاد بأن مثل ظهور الأمم البديء على مسرح التاريخ كمثل ظهور الأنواع الحياتية على مسرح الطبيعة"[2].

إذن، الأمة العربية والقومية العربية تنبثقان من اللغة والتاريخ بحدس العبقرية الكامنة فيهما. فـ "الفكر في حد ذاته قوة تاريخية، قوة تاريخية لا تقدر. فمجرد وضع القضية العربية القومية في صيغة فكرة شاملة كان أول مساهمة في تركيز الحركة الثورية العربية على أسس صلبة .." بتعبير ميشيل عفلق. (1911 - 1989)[3].

الفكرة القومية فكرة مطلقة وحية، بتعبير عبد الله عبد الدايم، والإطلاق والحياة فيها هما طابعها الجوهري لا مجرد نعتين من جملة نعوت يمكن أن تطلق على القومية العربية. "إنها فكرة حية لأنها فكرة قومية قبل كل شيء تريد أن تبعث أمة فلا تنسى الروابط التاريخية الحية التي تربط بين أفرادها، وفكرة مطلقة لأنها تريد أن تجعل من الحياة القومية حياة حية لا ضيق فيها ولا فقر تستمد قوتها من قوة العقل وحقائقه"[4].

يبدو هذا كله مفهوماً إذا عرفنا أن القومية عند ميشيل عفلق "ليست نظرية ولكنها مبعث النظريات، ولا هي وليدة الفكر بل مرضعته، وليست مستعبدة للفن بل نبعه وروحه ... كل تفسير للقومية العربية لا ينبعث من صميمها انبعاث الغرسة من الأرض والسنبلة من القمحة يكون تفسيراً ضالاً جامداً ميتاً .. لا يحتاج العرب إلى تعلم شيء جديد ليصبحوا قوميين، بل إلى إهمال كثير مما تعلموه حتى تعود إليهم صلتهم المباشرة بطبعهم الصافي الأصيل، القومية ليست علماً بل هي تذكر، تذكر حي .. ما عسى أن تكون دهشتهم عندما تظهر فيهم نقية كاملة بسيطة بساطة المعجزات .."[5]. القومية عند ميشيل عفلق حب قبل كل شيء. وكان يخشى أن تسف إلى المعرفة الذهنية والبحث الكلامي، فتفقد بذلك قوة العصب وحرارة العاطفة ... (فإن) الإيمان يجب أن يسبق كل معرفة ويهزأ بأي تعريف، بل إنه هو الذي يبعث على المعرفة ويضيء طريقها"[6].

ساطع الحصري (1880 - 1968) الذي فند "وحدة الأصل" أو العرق مؤكداً أن "جميع الأبحاث العلمية المستمدة من حقائق التاريخ ومن مكتشفات علم الإنسان ومكتسبات علم الأقوام لا تترك مجالاً للشك في أنه لا يوجد على وجه البسيطة أمة تنحدر من أصل واحد فعلاً، ولا توجد على الأرض أمة خالصة الدم تماماً"[7]. انتهى إلى القول: "إن المهم في القرابة والنسب ليس رابطة الدم في حد ذاتها، بل هو الاعتقاد بها والنشوء عليها، وهذا هو الواقع بالنسبة إلى الأفراد والجماعات على حد سواء: إن الاعتقاد بوحدة الأصل والشعور بالقرابة يعمل عملاً مهماً في تكوين الأمم، سواء كان ذلك موافقاً للحقيقة أم مخالفاً لها، لأن القرابة بين أفراد الأمم تكون قرابة نفسانية معنوية أكثر مما تكون جسمانية ومادية[8]" وإن العوامل التي تؤدي إلى تكوين هذه القرابة المعنوية هي اللغة والتاريخ. "اللغة هي روح الأمة وحياتها ... والتاريخ هو شعور الأمة وذاكرتها"[9].

يتبين مما سبق أن وحدة الأصل ورابطة الدم وهم من الأوهام، ولكن لا بأس أن تقوم الأمة على الاعتقاد بهذا الوهم والإيمان به. وقد فات الحصري أن تفنيد رابطة الدم يؤدي إلى تفنيد رابطة اللغة والتاريخ، إذ تتماهى اللغة والثقافة والتاريخ؛ فإن اللغة قد تكون لغة جماعة عرقية بعينها، (لغة قريش، مثلاً) أما الثقافة فلا يمكن أن تكون كذلك، ففي ثقافة العرب من العناصر الفارسية واليونانية، على سبيل المثال، أكثر مما في لغتهم من كلمات فارسية ويونانية، وليس في فقه لغتهم ونحوها وصرفها أي أثر للغة الفارسية أو اليونانية، في حين يتجلى أثر الثقافة اليونانية، ولا سيما منطق أرسطو، واضحاً فيها.

هذا الهذر القومي هو ما أسس الاستبداد الثقافي. والاستبداد الثقافي هو الذي يتيح الاستبداد السياسي والسلوكي، حسب علي حرب. فالاستبداد الفكري هو أن يقع المرء أسير أفكاره، أو حبيس أصوله وثوابته، وأن يتعامل مع المرجعية الفكرية كسلطة مطلقة لا تخضع للجدل والمساءلة، أو يتصرف إزاءها بمنطق التسليم والطاعة. يكمن أساس الاستبداد في فقدان المرء حريته الفكرية إزاء شخص أو نص أو حدث يجري التعامل معه كأصل ثابت أو مرجع مطلق أو رمز مقدس.

يقول جورج طرابيشي في إحدى هرطقاته: كانت ثورة الحداثة قد ابتكرت مبدأ العلمانية وطبقته وطورته حلاً لمشكلة الأقليات الدينية والطائفية. ولكن هذا الحل على عبقريته، كشف عن قصوره في مواجهة مشكلة الأقليات القومية. وهكذا وجدنا أوروبا تقدم، في القرن التاسع عشر، مشهداً غريباً ومتناقضاً لدول متسامحة على الصعيد الديني ومتعصبة على الصعيد القومي. ثم جاءت التجارب التوتاليتارية في ألمانياً وإيطاليا وإسبانيا، في النصف الأول من القرن العشرين، لتكشف عن مدى طغيان النزعة القومية وقابليتها للتحول إلى شوفينية عدوانية، إذا لم تستند إلى ركيزة من الثقافة الديمقراطية إضافة إلى العلمانية، وقد تأدى سقوط التجارب الفاشية في هذه البلدان إلى توسيع مفهوم الديمقراطية[10].

في الحالة العربية عامة والسورية خاصة لا تزال العلمانية موضوع أخذ ورد، على الصعيد الثقافي، بل الأيديولوجي، وتوصم بمناهضة الدين عامة و"الإسلام" خاصة، ويرى فيها بعضهم أدلوجة أقلوية تخفي عداوة مستحكمة للإسلام السني، ويعارضونها بديمقراطية صندوق الاقتراع وحق الأكثرية (العددية) في الحكم. وما ذلك إلا لأن الطائفية المذهبية متجذرة في الثقافة والاجتماع والسياسة والأخلاق، وليس من دليل على ذلك أكثر سطوعاً من الحرب الطائفية الدائرة منذ خمس سنوات. فإذا كانت مسألة التعدد المذهبي لم تحل علمانياً بعد، ولا يبدو حلها مطروحاً في الأفق المنظور، فما بالكم بمسألة التعدد الإثني وحق الجماعات الإثنية في تقرير مصيرها بنفسها؟!


[1] راجع/ي، كتابينا: "طريق إلى الديمقراطية" الصادر عن دار الريس (2010)، و"في الدولة الوطنية الحديثة، نقد الكتابة على جلود البشر" الصادر عن دار التنوير بدمشق، 2011

[2] زكي الأرسوزي، الأمة في الحدس العربي، من "القومية والوحدة، المقالات"، تحرير وتقديم محمد كامل الخطيب، وزارة الثقافة، 1994، ص 576

[3] ميشيل عفلق، معالم القومية التقدمية، عن المصدر السابق، الجزء الثاني، ص 685

[4] عبد الله عبد الدايم، فكرتنا حية، عن المصدر نفسه، الجزء الثاني، ص 555

[5] المصدر السابق، ص 323

[6] المصدر السابق، ص 313

[7] عن المصدر السابق، ص 57

[8] عن المصدر السابق، ص 60

[9] عن المصدر نفسه، ص 63

[10] جورج طرابيشي، هرطقات، عن العلمانية كإشكالية إسلامية إسلامية، دار بترا للنشر، دمشق، ..، ص ص 189 – 190