تأثيرُ شوبنهاور في فريديريك نيتشه


فئة :  ترجمات

تأثيرُ شوبنهاور في فريديريك نيتشه

تأثيرُ شوبنهاور في فريديريك نيتشه[1]

تقديم المقالة

تأتي قيمةٌ هذه المقالة من عدة وجوه. أولا، فهي مقالة أصيلة، لأنها صدرت سنة 1901 بعد سنة واحدة من موت الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه. ثانيا، أنَّها لفيلسوفة أمريكية كانت من السَّباقات لدراسة فلسفة نيتشه، وقد أصدرت كتابا في السَّنة الَّتي توفي فيها نيتشه؛ أي في سنة 1900 عنوانه "فلسفة فريديريك نيتشه".[2] ولم يصدر قبل هذا الكتاب بالفرنسية إلاَّ كتاب واحد لهنري ليشتنبرغر بسنتين، أي في سنة 1898.[3] هذا مع العلم أنَّ اهتمام هذا الأخير كان يتعلق بالنَّحو وفقه اللُّغة أكثر من الفلسفة. ثالثا، أنَّها تُلقي الضوء على علاقة نيتشه بشوبنهاور، وتُبرز مدى التأثير الحماسي الَّذي لحقه قبل وفي بداية تأسيس مذهبه، وتوضح أثر فكر شوبنهاور في آرائه مع بعض التأويل، هذا بالإضافة إلى أنَّها تقف عند الاختلافات بينهما مع شرح مُوجز لآراء كلِّ واحد منهما.

تُعتبر غريس نيل دولسون Grace Neal Dolson فيلسوفة من أصل أمريكي وُلدت في نهاية الرُّبع الثالث من القرن التاسع عشر (1874)، وتوفيت حتى بداية العقد الثاني من منتصف القرن العشرين (1961)، وهذا يدل على أنَّها عاصرت في بداية شبابها الفيلسوف فريديريك نيتشه، وبما أنَّها كانت أستاذة جامعية ودرَّست في جامعة كوليج ويلز، فإنَّ اهتمامها بفلسفة نيتشه لم يكن من منطلق الفضول المعرفي، وإنَّما كان نابعا من منطلق البحث الأكاديمي، يشهد على ذلك إتقانها للغة الألمانية، وقراءتها العميقة لكتب نيتشه، مع الإحاطة بتاريخ وبتسلسل وبتطور وبمراحل كتاباته. وما يدل على ذلك مؤلفُها المشهور في هذا الباب، وإنْ كان هذا الكتاب لا يتجاوز المائة صفحة إلاَّ بقليل من الصفحات، فإنه يُعد كتابا مستوفيا للعناصر الأساسية في فكره، ومُبرزا لأهم الإشكاليات التي عرض لها وحاول أنْ يجد لها حلا من منظوره الخاص.

قد لا يمكن فهم مضمون هذه المقالة الموجزة التي ترجمناها دون الوقوف على ملخص كتابها حول "فلسفة فريديريك نيتشه". أولا يمكن الإشارة إلى أن الكتاب أصبح ملكية مشتركة Public Domain وليس فيه متابعة قانونية، لذلك نجده يطبع، ويعاد طبعه مرارا وتكرا، وحمله إلكترونيا متاح لكل من يريد الاطلاع عليه، وقد قامت "شركة غوغل" بتصويره أحسن تصوير. لقد صدر الكتاب أولا ضمن سلسلة دراسات كورنيل في الفلسفة، العدد الثالث، في نيويورك من قبل شركة ماكميلان سنة 1901، وطبع من قبل شركة إرة الجديدة للطباعة. هذا مع الإشارة إلى أن تاريخ التصدير الذي كتبته المؤلفة هو 22 دجنبر سنة 1900 بجامعة كوليج ويلز ببلدة أرورة الأمريكية. وهذا يدل على أنه صدر سنة 1900 ضمن طبعة سابقة؛ أي السنة التي توفي فيها نيتشه.

يتضمن الكتاب في بداية صفحاته تصديرا لا يزيد عن الصفحتين إلا قليلا. أمَّا محتوياته من خلال الفهرس، فإنَّها تشتمل على خمسة فصول كبرى، ويتضمن كلُّ فصل منها عناصر محددة. الفصل الأول جاء على شكل مدخل، تحدثت فيه عن السِّيرة الذاتية لنيتشه، وعن الطبيعة العامة لنسق فكره. وعنوان الفصل الثاني، المرحلة الجمالية، باعتبارها المرحلة الأولى التي هيمن فيها مفهوم الجمال على فكره، تحدثت فيها عن الخصائص العامة لهذه المرحلة، وعن نظريتا الفن والثقافة عنده. وعنوان الفصل الثالث هو المرحلة العقلية، التي انتقد فيها نيتشه العقل، تحدثت فيها عن تصور نيتشه لأهم المفاهيم في فكره، مثل مفهوم الحقيقة، ومفهوم الثقافة، ومفهوم الجمال، ومفهوم الدين، ومفهوم الأخلاق. وعنوان الفصل الرابع هو المرحلة الأخلاقية، حيث انتقد الأخلاق السائدة عبر العصور، تحدثت فيها عن مفهوم الحقيقة الدينية، وعن الدين المسيحي بالأخص، وعن أصل الأخلاق بصفة عامة، وعن المسؤولية والعقاب، وعن المثل الأخلاقي. أما الفصل الخامس، فقد خصصته للحديث عن علاقات نيتشه بالفلاسفة والكتاب المؤثرين في عصره، مثل علاقته بشوبنهاور، وعلاقاته بهيجل وبالهيجيليين، وعلاقته بالماديين والكانطيين الجدد، وعلاقته بالكتاب أمثال ماكس شتينر، ثم ختمت الكتاب بالحديث عن دلالة وأهمية فكره. وما يدل على أنَّ بحثها هذا علمي خالص، أنَّها خصَّصت فهرسا يتضمن جردا لمؤلفات نيتشه الأصلية باللغة الألمانية، ثم عرضت لائحة للمصادر والمراجع حول فلسفة نيتشه تضمنت مقالات وكتب، وهو عمل بيبلوغرافي في غاية الأهمية لمن يُريد الاطلاع على الدِّراسات الأولى لنيتشه في حياته؛ أي في أواخر القرن التاسع عشر.

ما يهمنا من هذا العرض لمحتويات هذا الكتاب هو أنَّ غريس نيل دولسون تناولت في هذه المقالة التي نحن بصدد ترجمتها تأثير شوبنهاور في نيتشه من خلال مراحل فكره الثلاث: المرحلة الجمالية والمرحلة العقلية، والمرحلة الأخلاقية، مع المقارنة بين تصور كل واحد منهما واستنتاج التشابه والاختلاف بينهما. هذا مع الإشارة إلى أنَّ ما يفصل صدور المقالة عن الكتاب من الناحية الزمنية سوى سنة واحدة فقط.

تحدثت دولسون في بداية هذه المقالة عن التعرف المفاجئ لنيتشه عن الفيلسوف آرثر شوبنهاور؛ وذلك بعد أن عتر على نسخة من كتاب شوبنهاور المشهور "العالم كإرادة وتمثل" بأحد المتاجر القديمة التي تبيع الكتب، كان نيتشه في هذه المرحلة مازال طالبا في جامعة لايبزغ يدرس فقه اللغة. ولمَّا انتهى من قراءة كتاب شوبنهاور تأثر كثيرا به، وروج لأفكاره حتى غدا له شوبنهاور معلما ومرشدا لما وجد في آرائه من الاستقلال الفكري بما لا يشبه الفلاسفة السابقين. ولما اعتلى نيتشه كرسي الأستاذية في جامعة بال، أصدر مجموعة مقالات تحت عنوان "اعترافات سابقة لأوانها" أبرز في إحداها التأثير الواضح لشوبنهاور في فكره، فقد وصفه بالمعلم، ووضَّح ما يعنيه شوبنهاور بالنسبة له، ووصفه كذلك بالمفكر العظيم الذي تحرر من التمثلات الشائعة ومن التأثيرات الخارجية، كما أشاد باستقلاليته الفكرية ما يجعله من أعظم الأسماء في عالم الفلسفة، وقد عبَّر على إعجابه في هذه المقالة بأنه يفتخر بكونه من القراء الجيدين لشوبنهاور الذين لا يشرعون في قراءة ما كتب شوبنهاور إلى أن ينتهوا بنهاية ما كتب، وينصتون جيدا إلى كل كلمة قالها.

لما استقامت أفكار نيتشه الشخصية في ذهنه حاول فسخ العقد الذي كان يجمعه بأستاذه المبجل شوبنهاور، وشرع في تكوين شخصية مستقلة بأفكارها، ولا تدين في ولائها إلا إلى ذاتها بما ينسجم مع التصور الجديد الذي طبع به العالم. لكن مع كل هذا ظل أرثر شوبنهاور في فكره. إن أول شيء يجب الإشارة إليه هو أن نيتشه لم يهتم بالميتافيزيقا كما فعل شوبنهاور، وهي من الأمور التي ينبغي الالتفات إليها، فقد كان نيتشه يسخر مرارا من كل المحاولات التي تدعي إمكانية وجود حل نهائي لمشكل العالم، وذلك من منطلق ضعف العقل البشري. أما شوبنهاور، فقد كان ميتافيزيقيا حتى النخاع، وعالج المسألة التي تركها كانط، والتي تتعلق بالظاهرة (الفينومين) باعتبارها شيئا مدركا، والظاهرة في ذاتها (النومين) باعتبارها شيئا في ذاته.

قسَّمت دولسون مراحل النشاط الفكري لنيتشه على حسب ما يتلاءم مع أعماله الكاملة إلى ثلاث مراحل: المرحلة الجمالية، والتي بدأت مع إصداره لكتاب "ولادة التراجيديا". والمرحلة العقلية، التي هاجم فيها العقل، ومجد فيها الغرائز. والمرحلة الأخلاقية التي تُوجت بكتاب "هكذا تكلم زرادشت"، والتي هاجم فيها القيم والفضائل السَّائدة. ما هو أثر شوبنهاور في جماليات نيتشه؟ وهل هناك تشابه بين موقفهما من العقل والعلم والمنطق؟ وما الذي يُميز "الإرادة من أجل الحياة" عند شوبنهاور عن "إرادة من أجل القوة" لنيتشه؟

على الرَّغم من أنَّ نيتشه حاول تجنب الخوض في القضايا الميتافيزيقية في كتابه "ولادة التراجيديا" بشكل صريح، إلاَّ أنَّه دوَّن في تلك المرحلة مجموعة من الشذرات في مذكراته تُبرز تأثره بفكر شوبنهاور الميتافيزيقي؛ وذلك من خلال حديثه عن الإرادة باعتبارها هي سبب العالم. إنها الإرادة التي تحقق التفرد. ولهذا، فالإرادة هي التي تجمع الرجلين، فنيتشه اعتبر الإرادة في المقام الأول، بينما العقل في المرتبة الثانية، غير أن "إرادة الحياة" بالنسبة إلى شوبنهاور غدت "إرادة القوة" عند نيتشه، فإن اختلافا من حيث الإضافة ومن حيث الطبيعة، لكن الإرادة قاسم مشترك بينهما. فنيتشه يرد كل مظاهر العقل وكل حالات الوعي إليها، وأنَّ الخير الأسمى بالنسبة إليه لا يتجلى في الإنكار التام لها، وإنما يتجلى في إثباتها التام.

إنَّ المجال الذي حصل فيه اتفاق كبير بين نيتشه وشوبنهاور هو مجال الجمال، إذ نجد روح شوبنهاور بادية في تصور نيتشه الجمالي. فإذا كان نيتشه قد لخَّص أشكال التعبير الفني في قوتين استلهمهما من الأساطير اليونانية، وهما: القوة الأبولونية والقوة الديونيزوسية، فالأولى تشير إلى الإله أبولون، إله الحكمة والنظام والثبات، والثانية تنسب إلى الإله ديونيزوس، إله الخمر والغريزة والفوضى، فإنَّ تينك القوتين ينسجمان مع مفهومين جماليين عند شوبنهاور. فإذا كان هذا الأخير يُميِّز بين الفنون التصويرية والتشكيلية التي يطبعها الثبات عن الموسيقى التي تجسد الإرادة، فكذلك تعبر الأبولونية عن الفنون الثابتة، وتعبر الديونيزوسية عن الموسيقى والعاطفة.

بناء على ما سبق، قد يبدو أننا لا نلمس أوجها للتشابه بين الرجلين خارج مجال الجماليات: فإذا نظرنا إلى تصور نيتشه للحقيقة، نجد أنه يعتبر أن تاريخ الحضارة أو تاريخ العقل هو سلسلة مترابطة من الأخطاء، والتي لولاها لما تقدمت البشرية، والادعاء بامتلاك الحقيقة لا يعني شيئا سوى نهاية البشرية. لذلك، فمن غير المجدي السعي وراء الحقيقة. لكن شوبنهاور يعتبر الأخطاء سم قاتل، وأن الحقيقة تستحق أن نسعى وراءها.

لم يؤسس نيتشه الأخلاق على أساس ميتافيزيقي كما فعل شوبنهاور، فرغم أن "الإرادة من أجل الحياة" عند الثاني، و"الإرادة من أجل القوة" عند الأول ليسا متطابقتين من حيث المعنى، فإن "إرادة من أجل الحياة" عند شوبنهاور تشترط ممارسة القوة من أجل تحصيلها، وتشترط الصراع مع الوجود الآخر من أجل التغلب عليه. أما "الإرادة من أجل القوة" عند نيتشه، فهي المبدأ الأساس الذي أقام عليه تصوره الأخلاقي. فالإرادة من أجل القوة بالنسبة له ليست مجرد حقيقة، وإنما هي غاية أخلاقية، والقوة بالنسبة إليه هي الأرفع، وعلى الخصوص القوة في شكلها المادي.

يمكن التعبير عن العلاقة المتداخلة بين نيتشه وشوبنهاور في مجال الأخلاق كالآتي: فقد سلَّم نيتشه بالمقدمات التي وضعها شوبنهاور، لكنه رفض النتائج التي استنبطها منها. فقد سلَّم معه بأن العالم يسوده الشر، وبأن الحياة كلها ألم وحزن لا مفر منهما، وبأن هذه الحياة لا أمل فيها: فالمستقبل رمادي، وبالأحرى سوداوي مثل الحاضر والماضي، والإنسان في وضع لا يُحسد عليه. لكنه يعارض بشدة الكيفية التي يعامل بها هذا الوضع القائم، فهو لا يدعو إلى الاستسلام للمعاناة والبؤس كما فعل شوبنهاور، وإنما يتمرد عليه، وكأنه يُعلن أنه لا بدَّ أن يستجيب القدر، فالإنسان قوي بالنسبة له، ويستطيع بقوته أنْ يحارب القدر، ولا يدع الألم والمعاناة تتغلب عليه، فهو مُحارب لا يعرف الاستسلام حتى الموت، فرغم أنه يعرف على القطع أنَّ الحياة لا أمل فيها، ومع ذلك يكافح ويناضل، ولا يدع الأوهام تسيطر عليه ليعلن السلام والاستسلام. هل يمكن أن نصف هذا الموقف الذي اتخذه نيتشه بالمتشائم؟ فهو، بالطبع ليس موقفا متفائلا، فبم نصفه إذا؟ إنه موقف متشائم في نظرته للحياة، لكنه متفائل بالمقاومة والحرب، والممانعة وعدم الرضوخ، لذلك سمَّته دولسون بالموقف "المتفائل المأساوي".

من المعلوم أن نيتشه رفض كل الفضائل المهينة التي تحط من شأن الإنسان القوي، لذلك عارض بشدة مفهوم التعاطف والود عند شوبنهاور، فهو بالنسبة إليه ليس فضيلة، وإنما هو على الأصح رذيلة من الرذائل؛ لأنه مؤشر على الضعف، ووصمة عار على المتعاطف والمتعاطف معه، وأنه يصير المتعاطف معه عبدا. إن الصفات الأخلاقية التي يمجدها نيتشه هي تلك الصفات التي تميِّز المحارب والمقاتل، والمتجلية في القوة والسلطة واللذة، وهي من شيم الإنسان الحر، وفيها إثبات كامل للذات.

إن الأهداف التي ينشدها الاثنين من الأخلاق تختلف: فإذا كان شوبنهاور يرى أن تحقيق الإرادة يتم من خلال التعاطف مع معاناة الآخرين؛ وذلك من أجل الوصول إلى الهدوء التام، الذي يكون الراهب البوذي نموذجا له؛ أي الذي ينشد النيرفانا، فإن نيتشه على العكس من ذلك يهدف إلى إثبات الذات عن طريق الحرب، فالإنسان الأخلاقي هو المُحارب الذي يسحق كل من يقف أمامه، ويدوس كل ما يعترضه، ونموذجه في هذا الإمبراطور الفرنسي نابوليون.

إن ما يُمكن أن نستخلصه من خلال هذه المقارنات هو أنه رغم الاختلاف الذي يُميِّز نظرية كل من شوبنهاور ونيتشه، لكن العلاقة بينهما قائمة، فما جذب نيتشه إلى شوبنهاور هو استقلاليته وتحرره من كل التأثيرات الخارجية ومن كل الأنساق الفلسفية المغلقة. ومن منا لا ينجذب نحو شخص انجذب إليه الفيلسوف نيتشه الذي لا يسلم قارئه من أثر ضربة مطرقته، ومن وكز سهمه الحاد.

هذه محاولة متواضعة لتقديم أهم ما جاء في مقالة غريس نيل دولسون، ونترك للقارئ اكتشاف أشياء أخرى، ونحن إذ نترجم هذه المقالة، فنحن سعداء برد الاعتراف إلى فلاسفة وباحثين لم ينالوا حقهم من الصيت والشهرة، خصوصا وأنَّ الأمر يتعلق بامرأة، ساهمت في مطلع القرن السابق في البحث الفلسفي داخل مجال ذكوري لا يمسه إلا الرجال، وكم كانت شجاعة، ولا تعبأ بما كتبه نيتشه وشوبنهاور عن المرأة.

اعتمدنا في صياغة عبارات هذه الترجمة على أسلوب لا يختلف عن أسلوب المؤلفة، فهي ترجمة أقرب إلى الترجمة الحرفية الأمينة التي تراعي الحفاظ على بنية الجملة في اللغة المنقول منها دون الإخلال بتركيب بنية الجملة في اللغة المنقول إليها، وهي أبعد ما يكون من الترجمة الحرة التي أعتبرها تأليفا جديدا وخيانة للنص، وتقويل للنص ما لم يقل. وإليكم نص المقالة.

نص المقالة المترجمة

في إحدى الفترات الزمنية الممتدة ما بين شهر أكتوبر من سنة 1865، وشهر غشت من سنة 1867، لمَّا كان نيتشه ما زال طالبا متخصصا في فقه اللغة بجامعة لايبزغ، عتر في متجر قديم على نسخة من كتاب "العالم كإرادة وتمثل"[4] لشوبنهاور. لقد كان الكتاب جديدا بالنسبة إليه، وحمله معه إلى المنزل. ولمَّا انتهى من قراءته، ربح شوبنهاور تلميذا آخر. فبفعل حماسة التحول الجديد، بدأ نيتشه في التبشير. لقد نجح في كسب أصدقائه في الإيمان، وقدموا جميعا الولاء لألوهيتهم. إذا كان أحدهم في مشكلة، فإن الآخرين يقترحون عليه مقاطع مناسبة من أعمال شوبنهاور. إنها لم تكن مجرد ثلة من المذاهب التي درسوها من قبل. لقد كان شوبنهاور بالنسبة إليهم تجسيدا للفيلسوف المثالي، وكان على وجه التقريب صديقا نسجوا معه علاقة شخصية، ثم إنه لما قبِل نيتشه كرسي فقه اللغة في جامعة بال، فإنه عبَّر عن نيته في بث روح شوبنهاور في فقه اللغة.[5] ولما شرع في كتابة مقالاته "اعتبارات سابقة لأوانها"، سمى إحداها شوبنهاور باعتباره معلما، وحاول فيها إظهار ما يعنيه شوبنهاور بالنسبة إليه. فالمقالة، عوض أن تعيد إنتاج نظريات شوبنهاور، فهي بالأحرى وصف لـ "تأثره الفيسيولوجي" كما سمّاه نيتشه.[6] إنه يريد القول إنَّ أهمية الفيلسوف لا تقوم على عقائد محددة بقدر ما تقوم على المثال الذي وضعه في كل من كتابيه، وفي حياته؛ لأن الفيلسوف ليس مفكرا عظيما فقط، ولكنه إنسان أصيل، وفي هذه الصفات الرجولية يتفوق شوبنهاور. إنه يجعل الناس يرون ما تعنيه الحياة، وما هي أساسيات الثقافة الحقة. إنه يبشر بالتحرر انطلاقا من الأفكار المسبقة التي يتسبب فيها محيط الفرد إلى غاية أن كل روح قد تتعلم أن تعيش حياتها الخاصة دون أن تزعجها التأثيرات الخارجية.[7] إن استقلاليته تجعل منه أفضل معلم ممكن. قد يتعلم الناس منه أن السعادة ليست ضرورية، وأن نهاية الحياة هي إنشاء ثقافة أنبل وإنتاج للعبقرية. لقد تمت كتابة المقالة بأكملها بروح من الحماس لدرجة أن القارئ ينقاد بشكل لا إرادي على وجه التقريب بأن شوبنهاور هو أعظم الأسماء في تاريخ الفلسفة. يقول نيتشه: "أنا أنتمي إلى قراء شوبنهاور، "الذين بعد أن قرأوا الصفحة الأولى منه يعلمون على وجه القطع أنهم سيقرؤون كل صفحاته، وأنهم سيستمعون إلى كل كلمة قالها."

بعد أن اتخذ نسق نيتشه شكلا أكثر تحديدا، تخلى عن ولائه الصادق لسيده، حتى شعر أنه يمكن العثور في طبيعته الخاصة على تفسير للأهمية العميقة التي كان يمتلكها شوبنهاور ذات مرة بالنسبة إليه. وبتلمذة حبلى بالحماسة، قرأ أفكاره الخاصة في كلمات الآخر، وحتى أثناء استعمال صور شوبنهاور ضمنها بمحتوى مختلف. قد يكون من الممكن الشك فيما إذا كان نيتشه ملتزما في هذا الصدد بمكانته المبكرة والتأثيرات التي صاغتها. لقد كان مغرما جدا بالحرية الفكرية لدرجة أنه وجد من السهل تصديق أنه قبِل فلسفة أي شخص ذات مرة. ومع ذلك، فإنَّ شهادة كتبه على العكس من ذلك، ومن الآمن الافتراض أنَّ تأثير شوبنهاور كان حقيقيا ومهما. إنَّ المشكلة التي يجب حلها لا تتعلق بوجود هذا التأثير، وإنما تتعلق بالأحرى باتجاهه ومداه.

تقدم فلسفة نيتشه جوانب مختلفة لمراحل مختلفة من تطورها لدرجة أن الترتيب الزمني لآرائه يكاد يكون ضروريا. لقد بلغت كتاباته حد التقسيم الثلاثي، الذي تُسمَّى فتراته من وجهات نظر مختلفة بالجمالية وبالفكرية وبالأخلاقية. يقدم كل منها إجابة عن السؤال الذي شغل اهتمام نيتشه طوال نشاطه الأدبي؛ أي طبيعة الثقافة الحقيقية، أو بالخصوص ما هو الشيء في ذاته بالنسبة إليه، ومشكلة القيمة الفائقة. لقد كان نيتشه يتساءل دائما عما يستحق ذلك فعلا، وبما أنه في مراحل مختلفة من تطوره قد ظهر العالم له في جوانب مختلفة، فقد كانت إجاباته غير متسقة على وجه طبيعي. إن تتبع تأثير أي شخص من خلال العديد من مراحل التفكير ربما يكون مهمة خطيرة. فمن الصعب تجنب التأكيد المفرط، سواء تعلق الأمرباللاختلافات أو بالتشابهات. إن أي اتفاق دائم بين نيتشه وشوبنهاور تمنعه طبيعة الموضوعات المطروقة. لم تكن اهتمامات نيتشه قط في اتجاه الميتافيزيقا. فقد وصل به الحد إلى أنه سخر من محاولات حل المشكلة النهائية للكون، ويبدو أحيانا أنه يبني ازدراءه على ضعف العقل البشري بقدر أقل من الاقتناع بعدم وجود نهايات يمكن معرفتها. ومن ناحية أخرى، فقد كان شوبنهاور ميتافيزيقيا. لقد أخذ على محمل الجد أسئلة مثل طبيعة الظاهرة وطبيعة الظاهرة في ذاتها، وعلاقة الاثنين ببعضهما، لقد أوشك على الاقتراب من الشيء في ذاته مع كل الاحترام التقليدي للفيلسوف الألماني، بطبيعة الحال، غالبا ما لا يوجد شيء مشترك بين موضوع فلسفته وموضوع فلسفة نيتشه، ومع ذلك، في بعض النواحي، كما ذكرنا، ظلا مرتبطين ارتباطا وثيقا، وعلى الرغم من تناقص عدد أوجه الاتفاق هذه مع حصول نيتشه على قدر أكبر من الاستقلال، إلا أنها مع ذلك لم تختف في مجملها.

في الوقت الذي نشر فيه نيتشه "ولادة التراجيديا" سنة 1872 أعلن أنه من أتباع شوبنهاور. فقد استبعد موضوع الكتاب أي نقاش حول ميتافيزيقا شوبنهاور، لكن المختارات المنشورة من مذكرات نيتشه المكتوبة آنذاك تظهر أنه قبِل مُعظم نظريات سيده، وحتى بدون هذه العبارات الصريحة، فإن الآثار المترتبة على "ولادة التراجيديا" ستكون كافية لإثبات أهمية تأثير شوبنهاور فيه. تتضمن الشذرات الموجودة في المذكرات مناقشة حول الطبيعة النهائية للكون، والتي وفقا لأسلوب شوبنهاور الحقيقي، يعلن نيتشه أنها الإرادة.[8] إن العقل هو بالأحرى ظاهري: ولا يمكن أن يقال إن أي شيء موجود على الإطلاق خارج الإرادة. إن جهود الإرادة لتحقيق الفردية هي سبب العالم الظاهري، الذي يشكل الإنسان جزء منه. فبغض النظر عن الأشكال المتنوعة التي قد تفترضها الظواهر، فهي في حد ذاتها أقل من لا شيء. تكمن قيمتها الوحيدة في الدرجة التي تزيد فيها من وجودها. إن كل ما يجلبه الدوام تؤكده الإرادة بغض النظر عن أي خصائص أخرى. يختلف نيتشه عن شوبنهاور في التمييز بين الفكرة الواعية واللاواعية، ويتحدث أيضا عن الذكاء الأصلي الذي يسبق الوجود الفردي من الناحية المنطقية.[9] إن التفرد نتاج لهذه الفكرة اللاواعية، ونتاج لمبدأ التفكير الكلي الذي يبدو أنه يقف في منتصف الطريق بين الظواهر الخاصة والإرادة. ومع ذلك، فإن الاختلاف ليس جوهريا، ولم يكن له أي تأثير في موقف نيتشه في الأمور الأخرى، فقد يتم تجاهله، وبالخصوص أنه امتنع عن نشر أي بيان يتعلق بهذه النظريات الميتافيزيقية المبكرة.

إن فكرة الطبيعة الأولية للإرادة هي الرابط الذي يجمع نيتشه وشوبنهاور. وفي كتابات نيتشه اللاحقة، فعلى الرغم من تخليه عن صور شوبنهاور المميزة للنظرية، إلا أنه لا يزال يعطي الإرادة المكانة الأولى، ويؤكد في الواقع أكثر فأكثر على الأهمية الثانوية للعقل. إنه لمن المؤكد أن الإرادة من أجل الحياة أصبحت معه إرادة من أجل القوة، لكنها لا تزال هي الإرادة. إنه يرد إليها كل مظاهر العقل الأخرى، بل يحاول بواسطتها تفسير العالم. فعلى الأقل، يقول إنه نظر لأن الإرادة لا يمكن أن تعمل إلا بناء على الإرادة، فإن الرد الوحيد المحتمل للعالم في ألفاظ بسيطة موجود في افتراض أن الإرادة حاضرة في كل مكان.[10] فلا يمكن بأي شكل من الأشكال جعل العلاقة بين إرادة الإنسان وبيئته مفهوما. من أجل إتمام التبسيط يحتاج المرء فقط إلى افتراض أن كل دوافع العقل هي تجليات مختلفة لشكل واحد من الإرادة، "الإرادة من أجل القوة". فعلى عكس شوبنهاور، لا يخوض نيتشه في أي تفصيل من التفاصيل المتعلقة بالجانب الكوني في نظريته إذا جاز التعبير، لكنه يكرس كل اهتمامه لإظهار الوجود الكلي ل"الإرادة من أجل القوة" في حياة البشرية، حيث لا تظهر فقط كطبيعة لجميع الوجود، ولكن كمعيار للقيمة أيضا. إن كل حالات الوعي ترجع إليها، ويجب قياسها بالدرجة التي تعبر عنها. هناك محاولة قليلة للبيان بالتفصيل وجود الإرادة كأساس للأفكار والمشاعر الفردية. لقد كانت طبيعتها الأساسية إلى حد كبير مسألة افتراض مع نيتشه، لدرجة أنه لم يمتنع بحكمة عن محاولة إثباتها فحسب، بل شعر أيضا بأنه لم يحس بأي التزامات للإشارة إلى تجلياتها المختلفة. لقد كان أكثر اهتماما بتأسيس القيمة الأخلاقية للإرادة، في ربط درجات الإرادة ودرجات الأخلاقية. في القيام بذلك اختلف جذريا عن شوبنهاور، إذ جعل الخير الأسمى لا يتألف من إنكار تام للإرادة، ولكن في إثباتها التام.

أنه بمجرد أن ينتقل المرء من هذا الموقف العام إلى نظريات أكثر تحديدا، فإنه تكون الاختلافات بين نيتشه وشوبنهاور أكثر من أوجه التشابه من حيث العدد. في الواقع، المجال الوحيد الذي كانا فيه على اتفاق في أي شيء هو علم الجمال. لا شك في أن هذا يرجع جزئيا إلى الظهور المبكر زمنيا لمساهمات الإيجابية لنيتشه في نظرية الفن والنقد الأدبي. ولكن حتى في وقت لاحق، لم تكن ثورته على شوبنهاور ملموسة في هذا المجال بالذات على نحو صريح. ومع ذلك، حتى هنا، كانت الموضوعات التي عالجها الرجلين كقاعدة مختلفة. لكن روح شوبنهاور في عمل نيتشه واضحة. يشعر المرء دائما أنه، بشكل عام، كان شوبنهاور سيتعامل مع الموضوع بنفس الطريقة، إذا كان قد أتيحت له الفرصة لمناقشة نفس الأسئلة.

في الواقع، جرت محاولة لإثبات أن القوتين اللتين وجدهما نيتشه في أشكال التعبير الفني، واللتين سماهما الأبولونية والديونيزوسية ليستا أكثر ولا أقل من الإرادة والخيال لشوبنهاور. ومع ذلك، هناك اعتراضات على مثل هذا التطابق. ففي المقام الأول، لم يقترح نيتشه توسيع قوتيه إلى ما وراء مجال الفن. إنه لم يحاول قط حملهما على الكون ككل؛ وعلى الرغم من أنه لو كان قد فعل ذلك، فربما كانت النتيجة عمليا هي نهايات شوبنهاور، مع ذلك، يبدو أنه لا يوجد سبب يدعو أي شخص إلى الإصرار على القيام باسمه بما تركه متعمدا. السبب الثاني لرفض التماثل المقترح هو أن الأبولونية والديونيزوسية يتوافقان بشكل وثيق مع أحد تصنيفات شوبنهاور الجمالية على وجه التحديد. لقد رسم شوبنهاور خطا فاصلا بين الفنون التصويرية والتشكيلية من جهة، والموسيقى من جهة ثانية، والأخيرة هي التي اعتبرها بمثابة التعبير المباشر عن الإرادة، وبالتالي، فهي أكثر نهائية في طبيعتها. لقد قام نيتشه بنفس التمييز فيما يتعلق بقوتيه الفنيتين. إنه يجد الأبولونية تعبيرا عن جميع الفنون الثابتة، إذا جاز التعبير. وعلى العكس من ذلك، فإن الديونيزوسية تشمل كل الفنون الموسيقية والحيوية مثل الشعر الغنائي، وبالخصوص الموسيقى نفسها. فالأبولونية حلم، والديونيزوسية ثمالة، هذه الأخيرة تعبر عن الإرادة على الفور دون إخفاء قوتها في الشعور تحت صورة التمثل. هذا هو موقف شوبنهاور إلى حد كبير، والقرب الشديد من التماثل يجعل التطابق مع الإرادة والخيال يبدو أكثر قوة.

خارج مجال الجماليات، الاختلافات بين نيتشه وشوبنهاور جلية في كل مكان. ومن أكثر الأمور إثارة للدهشة هو التقييم المطروح على الحقيقة. لقد اعتبر نيتشه أن تاريخ الحضارة يتكون من سلسلة طويلة من الأخطاء، والتي بدونها كان أي تقدم مستحيلا. إن تطور العقل والفن وكل المشاعر والأحاسيس التي تجعل الحياة مليئة بالمعنى بالنسبة إلينا، إنه يقوم على أفكار خاطئة. إن معرفة الحقيقة كان يمكن أن يكون قاتلا إلى حد كبير. إن موقف شونبهاور هو عكس موقف نيتشه تماما. فبالنسبة إليه كل خطأ هو سم قاتل، [11] والحقيقة ولا شيء غير الحقيقية، فهي وحدها تستحق السعي وراءها.

نظرا لأن مساهمات نيتشه المهمة في الفكر الفلسفي بطبيعتها أخلاقية، فإن أي مناقشة لعلاقاته بالكتاب الآخرين يجب أن تهتم في حد ذاتها بشكل أساسي بمشكلات الأخلاق. هنا، من الطبيعة الحقيقية لنسق نيتشه، لا يريد المرء أي أساس ميتافيزيقي للأخلاق الصحيحة كما هو الحال عند شوبنهاور. يُفترض أن الإرادة هي العامل الأساسي في حياة الإنسان، وعلى الرغم من وجود تصور موجز لصحتها الكونية كمبدأ توضيحي وجوهري، إلا أن هذه المسألة ذات أهمية ثانوية، وهي مجرد قضية ثانوية ليس لها صلة حيوية بالمشكلة الأكثر أهمية للإرادة كعنصر من عناصر الشخصية. لا نعلم ما إذا كانت الإرادة بهذه الصورة الأكثر تقييدا هي نفسها عند نيتشه وعند شوبنهاور هي سؤال لا يكاد يعرف إجابة قاطعة. إذا تم أخذ "الإرادة من أجل الحياة" و"الإرادة من أجل القوة" بصرامة، فمن الواضح أن المفهومين ليسا متطابقين في المعنى. ومع ذلك، فإن "الإرادة من أجل الحياة" تتضمن بالضرورة ممارسة القوة وجهدا مبذولا للحصول عليها. لا يوجد وجود ممكن بدون قدر معين من الصراع مع موجودات أخرى، ودرجة معينة من النجاح في التغلب عليها. بالطبع، فالرغبة في الحياة والرغبة في القوة يتصارعان أحيانا، فهما ليسا نفس الشيء دائما، فهذه الأخيرة، على الأقل كما وصفها نيتشه أكثر وعيا ويمكن تسميتها بدرجة أعلى من التطور. يعتمد تقارب التماثل بينها وبين "إرادة الحياة" كليا على تأويل هذين المبدأين. قد يتم فصل بعضهما عن بعض، وكلا الإجراءان يقبلان التبرير. قد يكون المسار الأوسط هو الأكثر حكمة. ولكن هناك مرة أخرى يجب أن يبقى مقدار التشابه والاختلاف الذي يجب قبوله مسألة رأي فردي.

كيفما يتم تأويل إرادة القوة، فهي المبدأ الأساس لأخلاقيات نيتشه؛ واختلف عن شوبنهاور في أنه اعتبر ممارسة الإرادة ليس فقط كحقيقة، ولكن كغاية أخلاقية. إن الشيء الوحيد الذي نحتاجه هو المزيد من الحياة، ومن حرية صحية للشعور والاندفاع. لا شيء يمكن أن يكون أبعد في الطمأنينة من تأليه نيتشه للقوة، خاصة في صورتها المادية. إن النتيجة هي قبول مقدمات شوبنهاور المتشائمة، ولكن إنكار النتائج المستخلصة منها. إنه لا شك في أن العالم شرير، وأن البؤس موجود في كل مكان. إن الحياة مليئة بالألم والأسى الذي لا نجدة له ولا أمل، والمستقبل مظلم تماما مثل الحاضر والماضي. إن الإنسان شيء بائس، ويرثى له في ضعفه، وليس حتى مجرد حيوان معافى. لقد كان نيتشه يؤمن بكل هذا وأكثر منه، لكنه لم يفده أبدا في الدفاع عن التقاعس البائس. إن الإنسان القوي، هو الوحيد الجدير بالاهتمام، يكافح بشدة لمّا يكون القدر ضده. لا يمكن أن يتغلب عليه الألم، لأنه لن يتسلم لأي شيء. إنه قوي بما يكفي حتى ليعيش بدون أمل. إنه يدرك حال العالم، وليس لديه أوهام، لكن كثرة المعارضة تمنحه فرحا شديدا في قدرته على التغلب على الشر. إنه دائما، وفي كل مكان مقاتل بلا رغبة في الاستسلام.

يمكن التساؤل حول ما إذا كان موقف كالذي لنيتشه يمكن تسميته بشكل صحيح بالمتشائم. يبدو أن تسميته بالتفاؤل سخيفا، ومع ذلك، فوفقا له، تقدم الحياة بالتأكيد شيئا يستحق الغباء. قد يكون الشر سائدا، لكن طالما أن الإنسان قادر على محاربته، فالحياة جيدة. لا يوجد ما يشير إلى اليأس، ولا الشعور بأن الخلاص يجب أن يطلب في نفي الإرادة. هكذا يصف نيتشه نفسه بدقة. إن موقفه من الحياة هو موقف "المتفائل المأساوي".

بقدر ما هو الاختلاف بين نيتشه وشوبنهاور فيما يتعلق بتقييمهما للحياة، فإنهما لا يقلان عن بعضها بعض في تقديرهما النسبي للفضائل. في الواقع، يبدو أن أحد الحوافز الرئيسة لعمل نيتشه في الأخلاق كان معارضته لوجهة نظر شوبنهاور في التعاطف. فبدلا من جعل التعاطف هو الفضيلة الرئيسة، وضعها بين الرذائل، ولم يجد أي ألفاظ مقلقة بما فيه الكفاية لأولئك المفكرين الذين يدافعون عنها. لقد كان في عينيه علامة ضعف، ووصمة عار على كل من المعطي والمتلقي. ففي أحدهما يظهر الرغبة في التنقيب عن أسرار الآخر، ونقص تام في الرقة والاحتفاظ؛ ومن ناحية أخرى الرغبة في الاعتراف بأنه تعرض للضرب ولم يعد مكتفيا ذاتيا. إن العتور على كل الأخلاق في التعاطف هو جعل كل إنسان عبدا، ومعيار قيمته الوحيد هو ما يجعل الحياة أسهل.

يصنف نيتشه بتعاطف جميع الفضائل المتحدة، مثل التواضع والتضحية بالنفس. ينظر إليها على أنها شرور إيجابية، والصفات الوحيدة التي يعتبرها جديرة بالثناء هي تلك الصفات المميزة للمحارب. القوة والسلطة واللذة في استعمالها من فضائل الإنسان الحر. لا شيء لا يعبر عن هذه بشكل أو بآخر يستحق اسم الفضيلة. الاستقلال التام، والإثبات التام للذات، وبعض القسوة والغلظة كلها تفوق بكثير التعاطف لدرجة أن المقاربة تكاد تكون مستحيلة.

من الواضح أن المثل الأخلاقية لشوبنهاور ونيتشه تختلف كثيرا وبنفس الطريقة التي يجب تقديرها للصفات الأخلاقية المختلفة. بالنسبة إلى الأول، توجد أعلى نهاية للوجود البشري في إنكار الإرادة من أجل الحياة. الخطوة الأولى نحو تحقيقها هي التعاطف مع معاناة الآخرين، وفي هذه الحال يشعر المرء بالهوية الأساسية لكل الحياة، حتى لكل الوجود. ومع تقوية الشعور، يصبح عدم جدوى الجهد أكثر وضوحا، ويتم قمع كل رغبة، ولم تعد الحياة نفسها تستحق التفكير. المرحلة الأخيرة هي الطمأنينة التامة، ونفي كل الحياة الجسدية والعقلية الإيجابية. المثل الأخلاقي الذي يؤمن به شوبنهاور هو الراهب البوذي. بالنسبة إلى كليهما، الوجود هو أعظم الشرور، ويطال الآخرين، والقديس هو الذي يقترب من حالة النيرفانا.

سيكون من المستحيل إدراك أي شكل من أشكال المثالية الأخلاقية أكثر تعارضا مع ذلك الذي لنيتشه. فبما أن فضائله الرئيسة هي تلك التي تزيد من الحياة العدوانية، فإن مثله الأعلى هو إثبات الذات التام. يجسده المحارب الذي يسحق كل معارضة بممارسة قوته، وسلطته. إن الهدف الأخلاقي ليس الحياة من أجل الآخرين، ولكن الحياة من أجل الذات. إن ما نسميه شخصية الفرد، والتعبير عن الذات، والتحرر من ضبط النفس حتى بالأفكار، هي في الوقت نفسه وسائل لإرادة من أجل القوة، وجزء من الغاية أيضا. لقد كان نابوليون تجسيدا للفكرة النبيلة. كان لديه القدرة على السلطة والإرادة لاستعمالها دون شك، إن هدف الإنسان هو الإصرار الذاتي، وكل ما يتعارض معه ينحى جانبا بلا رحمة.

في مواجهة هذه الاختلافات الكبيرة بين نيتشه وشوبنهاور، ما هو الارتباط الوثيق في وجهتي نظريهما اللتين يفترض وجودهما بشكل عام؟ لم نجد تشابها كثيرا في نظريتيهما، وكانت اهتماماتهما بشكل عام منفصلة على نطاق واسع. ومع ذلك، كانت العلاقة بينهما علاقة حقيقية ومهمة. ما يبدو أنه جذب نيتشه إلى شوبنهاور بشكل خاص كان الاستقلال الجذري عن التقليد وعن بادئ الرأي، وحيث يمدح عمل الأخير يكون عادة من أجل هذا التحرر من التأثيرات الخارجية. لقد كان شوبنهاور هو الإنسان الذي تمجَّد في الاختلاف مع السلطة الراسخة حيا أو ميتا، وكان قادرا على إيجاد القليل من الثناء في أنساق أي فيلسوف من الفلاسفة باستثناء أفلاطون وكانط. غالبا ما كانت طريقته في التعبير عن انتقاداته شخصية في نبرتها، ولا يمكن أن تفشل في أن تكون مسيئة للعديد من قرائه. لقد دعا إلى قدر أكبر من الحرية في العديد من مسارات التفكير، والحقيقة أن النتائج في حالته كانت شكلا مختلفا عن الدوغمائية، فبدلا من أن تكون انفتاحا، ربما أوصلت وجهة نظره لنيتشه أكثر من ذلك كله. لقد كان هذا هو بالضبط الموقف الفكري الذي جذبه إليه بشدة. لقد عارض نيتشه العديد من آراء شوبنهاور بمرارة كبيرة، لكنه أدرك دائما أن هناك عدوا يستحقه، ولم تكن قيوده تحقيرا أبدا. لقد كانت الرابطة الرئيسة بين الرجلين هي تلك التي كانت ذات شخصية فكرية مماثلة، وعلى الرغم من تأثير شوبنهاور في الفترات الأخيرة من فلسفة نيتشه، فإنه لم يكن دائما تأثيرا إيجابيا، وغالبا ما يظهر إلى أجل غير مسمى، إلا أنه لم يكن أقل واقعية.

غريس نيل دولسون

ويلز كوليج

 

 

 

 

[1] مصدر المقالة

Dolson, Grace Neal., “The Influence of Schopenhauer upon Friedirich Nietzsche”, The Philosophical Review, May. 1901, Vo. 10, No. 3, pp. 241-250, Duke University Press on behalf of Philosophical Review.

[2] Dolson, Grace Neal., The Philosophy of Freidirich Nietzsche, Cornell Studies in Philosophy No. 3, The Macmillan Company, New York, Press of the New Era Printings Company, Lancaster, PA., 1901

[3] (2eme édition) Lichtenberger, Henri., La philosophie de Nietzsche, Paris, 1899

[4] فراو فروستر-نيتشه- حياة فريديريك نيتشه، المجلد الأول، ص. 231

[5] نفس المصدر، ص. 306

[6] أعمال نيتشه الكاملة، المجلد الأول، ص ص. 402-403

[7] نفس المصدر، ص. 386-392

[8] أعمال نيتشه الكاملة، المجلد التاسع، الصفحات. 47، 66، 67، 69-72، 130، 164-174

[9] نقلا عن المصدر نفسه، ص. 66-67.

[10] أعمال نيتشه الكاملة، المجلد السابع، الصفحات. 27، 33، 55-57

[11] شوبنهاور، آرثر، العالم كإرادة وتمثل، الفصل الثامن.