تجربة الإفلات من المقدس في الفضاء العمومي الافتراضي: التجليات والمآلات


فئة :  مقالات

تجربة الإفلات من المقدس في الفضاء العمومي الافتراضي: التجليات والمآلات

تجربة الإفلات من المقدس في الفضاء العمومي الافتراضي: التجليات والمآلات

مصطفى البحري

مقدمة:

يُحيل الفضاء العمومي الافتراضي إلى الفضاءات التواصليّة الجديدة المرتبطة بشبكة الأنترنيت كالفايسبوك والتويتر واليوتيوب وغيرها، على نحو تتفاعل فيه الذوات بصفة متسارعة، وتنغمس في زمنية اتصالية جديدة تتسم بالانسياب والحيوية وتخلق "تفاعلات ثقافيّة واجتماعية وسياسية واقتصادية تُعود بتأثيرات في المجالات الاعتقاديّة والمفاهيمية والمسلكية والمعنويّة في واقع المجتمعات والأفراد[1]فالافتراضي يداهمنا بمضامين صاعدة وصادمة أحيانا تتطلب معالجات كابحة، إلا أنّ فوضى المحتويات الشبكية لا يمكن ضبطها والتحكم فيها وتوجيها على اعتبار أننا أمام سيلان شبكي جارف. ومن هذا المنطلق، استفادت الإنسانية من هذه العمومية المفتوحة وانخرطت في سياقات تواصلية متنوعة وجذابة، وارتمت بذلك في شبهات الافتراضي خلسة متطاولة على المقدس والجمعي، منحنية لمتعة المدنس من خلال الاتجاه إلى التكتل مع طوائف شبكية حول اهتمامات جنسية وعنفيه بما يمنح إطلالة متنوعة على المواقع الإباحية ومنصات العلاقات الحميمية الافتراضية، علاوة على أنّ هذا الانخراط في مسارات المدنس الافتراضي قد يتحول إلى عنف من خلال التفاعل مع خطابات الكراهية المكثفة في هذا الوسط الخائلي.

ما يعنينا، بحث في خبث الذات، وهي تترفع عن المقدس والجمعي وتُناور العمومي وتطوعه لنزواتها ورغابتها الجامحة، حيث الخضوع لثقافة النزوة والغرائزية...إذ الهروب من جبروت المقدس وسلطة الضمير الجمعي تقتضي تخفيا وسرية واحتفاء خاصا يتخمر فيه الانسان برذيلة لذيذة وينصاع للشبهات والحس المشترك، فتنكشف الجوانب الدفينة والخبيثة في الانسان، وتتعرى شخصيته الحقيقة في زجاجة الافتراضي.

1- إزاحة المقدس والتقرب من شبهات الفضاء العمومي الافتراضي:

حينما تصادف الذات المعاصرة الافتراضي تذوب في سردياته، وتتخفى بقناع خبيث من خلال الانغماس في عوالم لذيذة وغير واقعية، فتتحرر من ضوابط السائد والمرئي، وتنطلق نحو وجودية سيئة حيث الانعزال والاختلاء والدخول إلى عوالم المتعة الجنسية اللاحسية التي يوفرها الزمن التواصلي الجديد الذي يحتوي على تضمينات ثقافية مذمومة كالرسائل الإباحية والتعبيرات العنصرية والجندرية. على هذا النحو، ينسلخ الفرد من شموخ المقدس ومنعة السائد على اعتبار أنّ هذه البيئة الرقمية تجعل الإنسان ينشغل بالشهوات والرغبات، ويشاكس وجدانه بالملذات والرذائل والخطايا، فهذا النزوع نحو عالم اللذة في العالم الافتراضي يكشف حقيقة الشخصيات التفاعلية التي لا تفوت فرصة الإفلات من المقدس من خلال إصرارها على ارتكاب المدنس. والحق أنّ الإدمان على المواقع الإباحية في الفضاء الافتراضي يمكن أن يجعل الفرد يهتم بالصور ومقاطع الفيديو والرسائل النصية التي تتضمن إيحاءات جنسية مما يحجب الستار عن حقيقة الشخصية المعاصرة، التي تدّعي المحافظة والطهرية في الزمن المحسوس، إلا أنها تعمد وهي في جبة الافتراضي إلى تصريف نزواتها ورغابتها الخفيّة والمحرّمة اجتماعيا من خلال الولوج إلى المواقع والصفحات التي تتضمن موادا جنسية، التي يضمن من خلالها الفرد تحقيق الإشباعات النفسية والجنسية، وينسى، ولو مؤقتا مشاكل الحياة اليومية، فكأننا أمام رحلة سلوكية من أجل تخليص الذات من الشاغل والترحال بها إلى عالم اللامعقول، مما يُفصح عن كذب الذات البشرية التي تنافق الأنا والغيرية، وتتلذذ لحظة وصلها بالافتراضي، فتداعبه بسمومها المكبوتة على نحو تتعرى فيه شخصية الأنا وتنكشف حقيقتها الدفينة المعبأة بالرغبة والانزياح نحو الشهوة. هنا يعتقد الأفراد أن رغبتهم في تحقيق موضوع اللذة قد تحقق على اعتبار أنهم يخوضون تجريه نفسية مدنسة غير محكومة بتوزيعية زمنية منظمة ولا تشترط الإذعان لسلطة المقدس. ويعني هذا أن الإنسان يضحّي بالثوابت والجمعي من أجل وهم السعادة المؤقتة والتوازن النفسي المزعوم، فيتحول ما هو مدنس ومنبوذ دينيا واجتماعيا إلى فعل مقبول نفسيا. وتتحجج الذات المعاصرة في تبرير انخراطها في سياق المدنس الافتراضي بكونها منهكة ومكبلة بالعوائق الاجتماعية، وبالتالي، فإن حاجتها إلى التخمر والانغماس في الحالة اللاوعي ملحة، فالذات تقتنص فرصة الخلو بالمنصة الشبكية، فتهادن نفسها والغيرية، وتذوب في سياقات النجاسة والقذارة، حيث الهروب إلى المتعة واللذة. والغريب أنّ هذه المعاشرة الشبكية لا تتعلق بفئة عمرية أو جنسية معينة، إذ يعمد جميع الأفراد إلى اغتنام اللحظة المواتية لشد الترحال لزمنية التواصل الجديد الذي يحقق إشباع المكبوتات الخفية وتذوق الشبهات الناضجة، حيث حلاوة الجنس الافتراضي تفيض على السطح وتُنهض الجوانب الكتومة في الذات.

يضغط الزمن التواصلي الجديد على الأنساق القيمية والمرجعيات الكبرى، حيث الانغماس في التفاعلات المشبوهة، بما يذكي روح المبتذل ولذة الابتهاج والشهوة، فالإبحار في الفضاء الشبكي يجذب المتصفح نحو تفضيلات "ذميمة" تستثير رغباته وتستميل ميولاته، فينغمس في معاشرة مجتمعات الرغبة على نحو تنكسر فيه الثوابت ومراكز التوجيه التقليدية في المجتمع .

وفي خضم هذه التفاعلات، يراهن بعض الأفراد على سرية الزمن الشبكي، فينطلقون نحو عملية البحث عن الملذات الوهمية التي يطفو من خلالها الحميمي والكامن والخبيث في الذات الإنسانية، بما يغريهم بالانغماس في تغيير صورة الذات خلسة، حيث تفريغ المكبوتات وبثها في زجاجة الافتراضي وبروز شخصيات افتراضية تتغير وتتشكل وفق نماذج مختلفة.

إنّ الولوج إلى الطوائف والمجتمعات المأزومة، أو المضطربة نفسيا تحاصرها اللذة والمتعة، تقود الفرد إلى بديل افتراضي مشحون بتحفيز مشبوه يذعن للذاتي، ويتمرد على النسق المجتمعي أو الاعتقاد الديني، أو حتى الهوية الثقافية، مما يقود الفرد للبحث عن الخلاص من السائد والمقدس وخوض تجربة هجرة التعقّل والانخراط في رحلة سلوكيّة محفوفة بالمخاطر. إنه الحلم المزعوم والمشوه بتحقيق السعادة، فتجاوز المفاهيم والتصورات ذات العلاقة بالمعتقدات والقيم والمرجعيات التأسيسية للمجتمع يتيح للفرد فرصة الغوص في غيابة جب الفضاء الخائلي الذي يجعلنا نستهلك كثيرا من الاهتمام والطاقة ونؤجل من خلاله لحظة التفكير في الواقع وفي شقائه على اعتبار أن الناس يرغبون في الهروب من الحاجة في التفكير في وضعنا التعيس.

إنّ مداعبة شبهات الافتراضي ومشاكستها ستنقذنا حتما، ولو ظرفيا من إكراهات الجماعة وجبروت المقدس، لكنها قد تتحول إلى نوع من الإدمان النفسي الذي يدمر الذات ويجرها نحو سلوكيات غير آمنة، والأهم أنه سيعزز غربة الانا ويحفز عزلتها مما يقودها للبحث عن إغراءات وعروض أخرى قد لا تتضمن دلالات جنسية، إلا أنها قد تنحو نحو ميولات وسلوكيات عدوانية تجاه الغيرية، وأحيانا تجاه المؤسسات الوظيفية كمؤسسة الدولة ومؤسسة العائلة.

وعليه، فإن الفرد حينما يصادف أيقونة الافتراضي ويداهم مضامينها المشبوهة، تتشكل لديه نزعة عدم الرغبة للانتماء للجماعة، فينغمس في الوحدة والعزلة والتمرد على السائد والنمطي، مما يضطره لمعايشة جيوب شبكية متطرفة تستمد عتوها من سياقات تداولية سافرة واستفزازية، حيث الانخراط نحو بديلة تصوريّة ومفاهيمية وعقائدية وسلوكية جديدة تقوم على التفاعل المشبوه وغير المضمون العواقب، فهذا الانزلاق في دنس الافتراضي لا يتصل بالضرورة بالمحتويات والممارسات الموصوفة ب"الإباحية"، إذ يمكن أن يتحول هذا الانسلاخ من المقدس والجمعي إلى شعور مهلك، حيث الرفض والكراهية تتلبس بالذات، وتؤهلها للانضمام لفلك التطرف والدمار الاجتماعي.

2- تحول المدنس الافتراضي إلى عنف:

إنّ اندماج الفرد في شبهات الافتراضي وانتسابه لمجال المدنس يقود الفرد إلى تغيير مسلكي صادم وغير مألوف، ويمنحه فرصة الدخول إلى المجال السياسي العنيف، إذ تصطدم الذات بخطابات افتراضية حاضنة للتطرف والإرهاب، تتضمن سرديات مرغبة ومحفزة نحو عالم الاكتمال وجنّة الخلد، وربما يلتقي بفقاعات شبكية تتخير أساليب جذّابة في استمالة الآخر نحو الأفكار المدمرة للسلم الاجتماعي، على اعتبار أنّ التغيير لا يكون إلا بالعودة للسلف الصالح الراديكالي، حيث استحضار البدايات والذاكرة الدينية القديمة، وتراهن هذه المؤسسات والتنظيمات الرقمية المحفزة على العنف على عروض السعادة والرفاهية في عالم الخلد والراحة النفسية، حيث نعيم الجنان وقصورها وحورها. فتحول المدنس إلى عنف يمرّ بطريقة سلسة، إذ تستفيد جماعات العنف من الوضعية الهشة للأفراد وحالة الاكتئاب التي تتلبس بهم نتيجة الضغوطات النفسية والاجتماعية، فتغريهم من أجل نجاح مشروعهم العنفي بعروض مغرية تتصل بالملذات التي تنتظرهم حيث الفوز بالجنة، وبنعيمها وسعادتها الدائمة.

كثيرا ما ارتبطت ظاهرة تحول المدنس إلى عنف بالفقر والخصاصة، وهو في الحقيقة غير صحيح، على اعتبار أنّ الافراد الذين يتداولون على شبهات الافتراضي نجد منهم العديد من الفئات المثقفة والجامعيين والموظفين، علاوة على ذلك فإن العديد من المتزوجين الذين يعيشون ظاهريا حياة مستقرة لا يفوتون فرصة معاينة نجاسة المجتمع الافتراضي، فلا يقتصرون على عالم المتعة والشهوة وتفريغ المكبوتات الجنسية والنفسية، بل يلجون مطبات العنف السياسي على نحو يعبر فيه المدنس الفعل السياسي العنيف. وعليه، فإنّ الانتقال من المدنس الافتراضي إلى سلوك العنف هو في الأصل ممارسة واعية ينضوي من خلالها الفرد بصفة قصدية في جماعات انتماء جديدة مضادة للسلم الاجتماعي من أجل إنشاء تحالفات ثقافية واجتماعية تتبنى فكرة الخراب الاجتماعي على اعتبار أن سوء فهم المقدس قد يتحول إلى عنف ينخر السلم الاجتماعي ويهدد البنية الاجتماعية، إلى جانب تأثيره في اشتغال النسق الاجتماعي.

نؤكد أنّ الانفلاتات الناجمة عن إزاحة المقدس في الفضاء العمومي الافتراضي تؤدي للعنف، والدليل على ذلك أنّ العديد من المتطرفين كانوا يتطاولون على المقدس ويشاكسونه من خلال زيارة المواقع المشبوهة، فيستمتعون بتضميناتها اللذيذة، وينطلقون نحو بديل عنفي بحثا عن وجوديتهم السيئة وكينوناتهم الخبيثة.

الخاتمة:

وهكذا، فإنّ ظاهرة استفحال مخاتلة المنبر الشبكي تكشف حقيقة الذات المعاصرة التي تُظهر الطهرية والنقاء أمام الجماعة، وتتعرى وتكشف عن جانبها الخبيث في حضرة الافتراضي مستمتعة بمضامينه الجذابة التي تلبي رغابتها وتحقق شهواتها الجنسية والنفسية، وأحيانا تبرز الجوانب العدوانية الكامنة والمخفية، فحالة العراء الاجتماعي في الوسط الشبكي لا تمثل تعبيرا عن معايشة لحظية وانفعالية، ولا تربط بالضرورة بالعوامل النفسية الاجتماعية ولا بحالة الإرباكات الوجدانية والاجتماعية، بقدر ما تعبّر عن تحيّل على المقدس من خلال إزاحته والإفلات منه والاشتراك في سرديات المدنس الذي يكشف رغبة النفس اللاواعية في معانقة الممنوع والمحرم .

لا تهدد شبهات الافتراضي البناء المعماري الوجداني للفرد فحسب، وإنما تُبدّد الاجتماعي وتسوقه نحو مآلات مدمرة لا تُبقي ولا تذر، فتتصدع مؤسسة الاسرة بفعل هذا الاختراق الشبكي المشبوه مما يؤثر في وظائفها ودورها الإيجابي في النسيج المجتمعي، وتنكسر رمزية الدولة بوصفها حاضنة اجتماعية تمتلك وحدها أحقية العنف الرمزي والقانوني.

ومجمل القول، إنّ الاطلاع على شبهات الافتراضي يتحول بسرعة إلى معايشة وتجريب على اعتبار أنّنا أمام لحظة إنسانية فارقة تنكسر فيها حصون المقدس والجمعي، وينشغل فيها الفرد بالشبهات والممارسات المذمومة، فهذه التجربة الحياتية تستمد عتوها من تمجيد الشهوة والنزوة والمتعة والسطحي والغرائزية ... إذ المعنى يولد من صميم التافه والمبتذل، وتحصيل ما يدمر وجودها، والتعرف على مشهدية مقززة تقوم على أولوية اللذة الإيروسية[2] وثقافة العنف على الثقافي والاجتماعي.

[1] حسام شاكر، كيف يضغط الزمن التواصلي الجديد على المجتمعات العربية ؟، ضمن مجلة حضارة، مركز الامة للدراسات والتطوير، العدد الثاني والعشرون، جويلية 2019، ص 92

[2] إيروس في الميثولوجيا اليونانية هو إله الحب والرغبة والجنس.