تحوّلات الحقيقة عبر التاريخ


فئة :  مقالات

تحوّلات الحقيقة عبر التاريخ

موضوع التاريخ والحقيقة أو الحقيقة والتاريخ شائك جدّاً، ويمكن تناوله من عدّة زوايا أو منظورات. فإذا ما نظرنا إليه من زاوية الإبيستمولوجيا التاريخية فلا بُدّ من طرح الأسئلة التالية: هل يمكن التوصّل إلى الحقيقة فيما يخصّ مجريات التاريخ البعيد؟ أم أنّ ذلك وهم وسراب؟ مثلاً هل يمكن التوصّل إلى الحقيقة اليقينيّة فيما يخصّ الفتنة الكبرى في تاريخ الإسلام؟ إذا كان الباحث شيعيّاً فإنّه سيغلّب وجهة النظر الشيعيّة، وإذا كان سُنيّاً فسيغلّب وجهة النظر السُنيّة. وقل الأمر ذاته عن الباحث الإباضي، فهو أيضاً سيغلّب وجهة النظر الإباضية. أين هي الحقيقة إذن من كلّ ذلك؟ إنها مفقودة تماماً ما دام لم يخرج باحث موضوعي غير متحيّز بشكل مسبق لأيّ مذهب من المذاهب الإسلامية الكبرى. هل نعلم بأنّ هذا الباحث موجود ولكنه ليس عربياً ولا مسلماً، وإنّما مستشرق ألماني؟ إنّه الباحث والمؤرّخ الكبير "جوزيف فان ايس". وبالتالي ينبغي أن يظهر باحث خارج كلّ المذاهب، بل خارج على كلّ تاريخ الإسلام لكي يستطيع أن يتّخذ مسافة واحدة من كلّ الفرقاء، ويقول لنا الحقيقة التاريخيّة أو يقترب منها[1].

وهذه المسافة المعرفية أو الإبيستمولوجية هي التي ستمكّنه من اكتشاف الحقيقة الموضوعيّة لما جرى قبل ألف وأربعمائة عام، أمّا الباحث المسلم سُنيّاً كان أم شيعياً فلا يستطيع أن يتّخذ هذه المسافة لأنّه منغمس كُليّاً في مذهبيّة راسخة في العقول منذ مئات السنين. لا أعرف باحثاً واحداً قادراً على ذلك ما عدا محمد أركون. فعلى الرغم من أنه كان سُنيّاً كمعظم الجزائريين والمغاربيين إلا أنه بكونه باحثاً علمياً كبيراً فقد كان قادراً على اتخاذ هذه المسافة الإبيستمولوجية. كان قادراً على وضع جميع المذاهب على مسافة واحدة منه والنظر إليها بتجرّد موضوعي دون أيّ تحيز. هذا في حين أنّ هشام جعيط لم يستطع تحقيق ذلك في كتابه عن الفتنة الكبرى، فسقط في فخّ المذهبية[2]. ولكن ينبغي الاعتراف بأنّ التكوين المنهجي والمعرفي لأركون كان أقوى وأعمق من تكوين الباحث التونسي الشهير. الشيء نفسه ينطبق على تاريخ المسيحية الأوروبية قبل ظهور النقد التاريخي والفيلولوجي الحديث الذي يطبّقه جوزيف فان ايس وكبار المستشرقين الأكاديميين عليه مثلما يطبّقونه على تاريخ الإسلام. فإذا كان الباحث كاثوليكياً ملتزماً فإنه سيلعن لوثر والبروتستانتية، وإذا كان بروتستانتياً متحمّساً فإنه سيلعن البابا والبابويين. وهذا ما حصل على مدار عدة قرون قبل أن تتنوّر المجتمعات الأوروبية وتصبح قادرة على أخذ مسافة عن نفسها وعقائدها الأكثر حميمية عندما تريد الانخراط في البحث العلمي حول الشؤون الدينية الشديدة الحساسية. وهذا ما لم يصل إليه العالم الإسلامي حتى اليوم، فنحن عاجزون عن إقامة مسافة موضوعية عن عقائدنا المقدّسة عندما نتحدّث عن أنفسنا. لا نزال بدائيين من هذه الناحية، ولهذا السبب لا وجود لنا على مسرح البحث العلمي الدولي. أستثني من ذلك كبار الباحثين المسلمين أو العرب الذين يدرسون في جامعات أوروبا وأمريكا، فهؤلاء اعتنقوا منهجية البحث العلمي تماماً، وقبلوا بأن تطبّق على تراثنا الديني أيّاً تكن النتائج والعواقب. ولكنّ عدد هؤلاء الباحثين الكبار ما يزال قليلاً حتى فيما يخصّ باحثينا الذين يدرسون في الخارج، فالعديد منهم لم يستطيعوا التحرّر من العقلية القديمة. وليس كلّ الناس محمد أركون. وهنا أتوقف قليلاً لكي أفرّق بين نوعين من الحقيقة:

الحقيقة الحقيقيّة، والحقيقة السوسيولوجيّة

يتّفق علماء الإبيستمولوجيا، أي فلاسفة العلوم، على التفريق بين هذين النوعين من الحقيقة. فالحقيقة السوسيولوجية أو الاجتماعية قد تسود لفترة طويلة على الرغم من أنها خاطئة تماماً. نضرب على ذلك المثال البسيط التالي: لقد آمن الناس طيلة قرون وقرون بأنّ الأرض مسطّحة وأنّ الشمس هي التي تدور حولها، وليس العكس. ثم جاء كوبرنيكوس وغاليليو وسواهما وأثبتوا لنا العكس تماماً. وهذا يعني أنّ جميع الناس بمن فيهم الفلاسفة الكبار كأرسطو وأفلاطون كانوا مؤمنين بمركزية الأرض لا الشمس. وقد ظلّت البشرية غرباً وشرقاً مؤمنة بذلك على أنّها حقيقة مطلقة طيلة ألفي سنة، أي حتى القرنين السادس عشر والسابع عشر. فهل كان أرسطو غبياً أو الفارابي وابن سينا وابن رشد؟ لا، أبداً. ولكنّ الاكتشافات العلمية الحديثة ما كانت قد ظهرت بعد؛ وبالتالي يكفي أن يؤمن المجتمع بفكرة ما حتى تصبح حقيقة ولو كانت خاطئة تماماً، وهذا ما ندعوه بالحقيقة الاجتماعية أو السوسيولوجية الضخمة..إنها تفرض ذاتها بسبب إيمان العدد الأكبر من الناس بها لا بسبب برهنة العلم عليها أو على صحّتها[3]. ثم إنّها تفرض ذاتها عن طريق الحواس الظاهرية التي تخدعنا. فظاهرياً يبدو أنّ الشمس هي التي تتحرك وليس الأرض. ألا نراها بالعين المجردة تشرق من الشرق ثم تغرب في الغرب؟ ألا نراها تتحرك؟ ثم في الوقت ذاته ألا نحسّ بأنّ الأرض ثابتة لا تتحرك؟ وهنا نصل إلى نقطة أساسية: وهي أنه إذا ما أردنا التوصّل إلى الحقيقة الموضوعيّة فأوّل شيء ينبغي تحييده هو حواسّنا بالذات. كما ينبغي تحييد آرائنا الاجتماعية والسياسية والدينية قبل أن ندخل إلى مختبر البحث العلمي التجريبي، أو قبل أن ننخرط في البحث التاريخي عن الطوائف والمذاهب. هذا هو الشرط الأساسي للتوصّل إلى الحقيقة الحقيقيّة والتخلّص من براثن الحقيقة السوسيولوجية. وحدهم الباحثون الكبار يستطيعون تحقيق هذا الشرط الصعب جداً. لماذا صعب؟ لأنّه يجبرك على أن تناضل ضدّ ذاتك وضدّ عقائدك الأكثر حميمية. وهذه عمليّة مُرهقة وعسيرة جدّاً على النفس. وذلك لأنّنا تشرّبنا هذه العقائد مع حليب الطفولة منذ نعومة أظفارنا، وقد رسخت في أعماقنا رسوخاً شديداً؛ لأنّ "العلم في الصغر كالنقش في الحجر" كما يقول المثل. ولذلك فإنّ الفعل المعرفي سلبي قبل أن يكون إيجابياً. إنّه فعل تفكيكي قبل أن يكون تركيبياً، إنّه يدمّر قبل أن يُعمّر. وهذا ما عبّر عنه ديكارت عندما قال: "ولذلك قرّرت أن أدمّر كلّ أفكاري السابقة". وهو ما عبّر عنه أيضاً غاستون باشلار عندما قال "إنّ المعرفة الصحيحة لا يمكن أن تنهض إلا على أنقاض المعرفة الخاطئة"[4]. ومعلوم أنّ باشلار هو أحد كبار علماء الإبيستمولوجيا في القرن العشرين. إنّه أحد المنظّرين الكبار لفلسفة العلوم.

بالطبع لا توجد موضوعية كاملة في مجال البحث التاريخي كما هي في مجال العلم الفيزيائي، ولكن إذا كانت لا توجد موضوعية كاملة مائة بالمائة فهذا لا يعني أنه لا توجد موضوعية على الإطلاق. فالمؤرّخ الأكاديمي غير المؤدلج السياسي الذي يُرخي لعصبياته وانحيازاته العنان. المؤرخ الأكاديمي الرصين يلجم عواطفه الشخصية عندما يكتب بحثاً فكريّاً ما، ويحاول تحييدها قدر الإمكان دون أن يتوصّل إلى ذلك كُليّاً. وهنا يكمن الفرق بين العلوم الإنسانيّة والعلوم الدقيقة كالفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والرياضيات الخ.. وقد توهّم الناس في القرن التاسع عشر بإمكانية تأسيس علم للتاريخ يكون موضوعيّاً بقدر موضوعيّة العلوم الطبيعية..وتوهّموا بأنّه يمكن التوصّل إلى بلورة قوانين تاريخية بالحتمية نفسها التي للقوانين الفيزيائية، وكان ذلك إبّان هيمنة العقلية العلموية الوضعية المتطرّفة على العقول. ولكنهم تراجعوا مؤخراً عن هذا الوهم العلموي، وقالوا إنه يمكن لعالم الفيزياء التوصّل إلى حتميّة يقينيّة في مجاله الخاص، ولكن لا يمكن لعالم الإنسانيّات التوصّل إلى الحتميّة نفسها، أو القوانين اليقينية ذاتها. لماذا؟ لأنّ دراسة المادة غير دراسة الإنسان. الإنسان لا يمكن التحكّم به كُليّاً، على عكس المادة. الإنسان من لحم ودم وانفعالات، وله ذاتيّة شخصيّة تستعصي على القوانين الرياضيّة. في علم الرياضيات 2+2=4، ولكنّ قوانين العلوم الإنسانيّة ليست بهذه الحتميّة والصرامة. قوانين علم الاجتماع والتاريخ والنفس والأنتربولوجيا تقريبيّة عموماً. ولكن كما قلنا آنفاً إذا كانت الموضوعيّة الكاملة مستحيلة في مجال الإنسانيّات فهذا لا يعني أنه لا توجد موضوعيّة على الاطلاق، فتحليلات دوركهايم الدقيقة غير الكلام الفارغ للمؤدلجين الديماغوجيين. وقُل الأمر ذاته عن الدراسات الرائعة لبيير بورديو، فلا يمكن الخلط بينها وبين الخطابات السياسية المؤدلجة لهذا الكاتب أو ذاك. فالحركيّون السياسيون آخر همهم الحقيقة الموضوعيّة. إذن فالعلوم الإنسانية تتحلّى بالعلميّة ولكن درجة يقينيتها ومصداقيتها أقلّ من العلوم الدقيقة. هذا كلّ ما في الأمر لا أكثر ولا أقلّ. بل حتى داخل العلوم الفيزيائيّة الدقيقة فإنّ الحقيقة تتغير أحياناً بتغيّر العصور. وهذا ما تجلّى لنا من خلال الأبحاث الإبيستمولوجية المعاصرة.

نظريّة الباراديغمات المعرفيّة، أو تطور الحقيقة عبر العصور

لكي نشرح مدى ارتباط الحقيقة بالتاريخ ومدى تحوّلاتها معه يكفي أن نتوقّف قليلاً عند نظريّة عالم الابيستمولوجيا الأميركي توماس كهن. في كتابه الشهير "بنية الثورات العلميّة"[5] تحدّث هذا الباحث عن تعاقب أربعة باراديغمات علمية على تاريخ البشرية.

أولاً: باراديغم بطليموس الذي ذكرناه آنفاً، والقائل بمركزيّة الأرض ودوران الشمس حولها.

ثانياً: باراديغم كوبرنيكوس الذي أسقط الباراديغم السابق، وقال العكس، أي مركزية الشمس وتبعية الأرض لها.

ثالثاً: باراديغم نيوتن الذي اكتشف قانون الجاذبية الكوني، وقدّم بذلك نظريّة علميّة لتفسير سبب مركزيّة الشمس.

رابعاً: باراديغم النظريّة النسبيّة لأنشتاين.

هكذا نلاحظ أنّ الحقيقة العلميّة تغيّرت أربع مرّات عبر التاريخ. ولكن ينبغي التنبيه هنا إلى أنّ باراديغم بطليموس هو وحده الذي ألغي نهائياً، في حين أنّ الباراديغمات الأخرى كانت صحيحة، ولكن تمّ إكمالها عن طريق نظريات وكشوفات جديدة. ويرى توماس كهن أنّ الباراديغم هو عبارة عن رؤية للعالم، أو طريقة معيّنة لرؤية الأشياء، أو نموذج معرفي متماسك لفهم العالم. أصل الكلمة إغريقي، وهو يعني عندئذ النموذج أو المثال الأعلى. وقد اقترح كهن إحلال مصطلح القالب المعرفي محلّه، ولكنّ مصطلح الباراديغم هو الذي شاع وسار على الألسن.

أمّا ميشيل فوكو فإنّه يتحدّث في كتابه الشهير "الكلمات والأشياء"[6] عن نظام التصوّرات أو النظام الفكري الذي يتحكّم بكلّ أنواع المعارف في فترة ما من فترات التاريخ. وهو يدعوه بكلمة إغريقية هي الإبيستمي. ويتحدّث الفلاسفة عموماً عن الفضاء العقلي للقرون الوسطى/ والفضاء العقلي للعصور الحديثة، ثم القطيعة الابيستمولوجية الكبرى بينهما. ومعلوم أنّ العالم الإسلامي لا تزال شرائح واسعة منه منغمسة في عقلية القرون الوسطى، من هنا الشعبية الكبرى للإخوان والسلفيين والخمينيين. أمّا العالم الأوروبي فقد خرج منه كُليّاً إلى حدّ كبير، ما عدا بعض الجماعات الكاثوليكية المتزمّتة التي تشكّل جُزراً صغيرة معزولة وسط خضمّ الحداثة.

الحقيقة والدين والتاريخ

ينبغي أن نعلم أنّه بالنسبة لعقلية القرون الوسطى فإنّ الحقيقة واحدة إطلاقية، ولا يمكن أن تكون تعدديّة. وهذا يعني أنّه لا يمكن أن يوجد إلا دين واحد صحيح، هو ديننا بطبيعة الحال. بل حتى داخل هذا الدين لا يمكن أن يوجد إلا مذهب واحد صحيح، هو مذهبنا. أمّا بقيّة المذاهب فمنحرفة أو مهرطقة أو ضالّة. انظر حديث الفرقة الناجية. هذا هو منظور العصور الوسطى سواء في الجهة الإسلامية أم المسيحية. ولكنّ مفهوم الحقيقة بالنسبة للعصور الحديثة أصبح تعدّدياً؛ أي أنّه يمكن أن توجد عدّة طرق إلى الله أو عدّة أديان صحيحة إذا ما خلصت النوايا وصلحت الأعمال. وهذا على عكس ما اعتقدت البشرية طيلة قرون وقرون. هكذا نلاحظ أنّ مفهوم الحقيقة تطوّر حتى في مجال الدين، وهذا شيء ما كان يخطر على بال الناس إطلاقاً طيلة العصور الوسطى. بل حتى الآن لا يمكن أن يقبل به الأصوليّ سواء أكان يهوديّاً أم مسيحيّاً أم مُسلماً. وقد سألت محمد أركون مرّة عن مفهوم الحقيقة في الفكر الإسلامي، وعن الإسلام الصحيح/ والإسلام الخاطئ، فأجابني بما يلي: إذا كان المقصود بالإسلام الصحيح أنه لا يوجد إلا مذهب واحد صحيح وبقية المذاهب في النار فهذا خطأ. كل المذاهب والفرق الإسلامية لها مشروعيتها، ولا يمكن لأحدها احتكار مفهوم الإسلام الصحيح وحده. ولكننا نعلم أنّ هذا ما حصل على مدار التاريخ. فالمسلم السُنيّ يعتقد أنّه هو وحده الذي يمثل الإسلام الصحيح القويم المستقيم: أي "الإسلام الأرثوذكسي" بحسب المصطلح الأجنبي. والمسلم الشيعي يعتقد الشيء ذاته. إنّه يعتقد جازماً بأنّ الاسلام الصحيح يتجسّد في المذهب الشيعي فقط. وهذا ما يعتقده المسلم الإباضي أو الخارجي أيضاً. ولكنّ الإسلام الصحيح بالنسبة لأركون هو مجموع هذه المذاهب كلّها، وليس أحدها فقط. ولذلك بلور مفهوم التراث الإسلامي الكلّي أو السُنّة الإسلامية الشاملة: أي التي تشمل كلّ المذاهب الإسلامية دون استثناء. فالقرآن حمّال أوجه، وقابل لتفسيرات شتّى، ولذلك نتجت عنه عدّة مذاهب أو عدّة فرق إسلامية. فالتفسير الحرفي الحنبلي للقرآن غير التفسير المجازي الصوفي، والتفسير الظاهري غير التفسير الباطني، وهناك التفسير المعتزلي والتفسير الفلسفي[7] الخ. وبالتالي فلا يمكن اختزال دين كبير كالإسلام في تيّار واحد كما يتوهّم المتديّن التقليدي. الإسلام كان تعدّدياً وسيبقى. وينبغي على المذاهب الإسلامية أن تعترف ببعضها بعضاً كما فعلت المذاهب المسيحية من خلال الحركة المسكونيّة الشهيرة.

ولكنّ حقيقة الواقع هي أنّ المذاهب الإسلاميّة تصارعت بالحديد والنار لاحتكار مفهوم الإسلام الصحيح على مدار القرون. وهذا ما حصل للمذاهب المسيحيّة أيضاً، فالكاثوليكي يزعم كذلك أنّ مذهبه هو وحده الصحيح وبقية المذاهب ضالّة أو منحرفة عن الخط المستقيم، وبخاصّة المذهب البروتستانتي.

وكما قلنا فإنّ المسيحيين تطوّروا وغيّروا موقفهم، وأصبحوا يعترفون بإيمان بعضهم بعضاً، وبخاصّة بعد الفاتيكان الثاني (1962-1965). وهذا التطوّر اللاهوتي الكبير لا يزال الإسلام محروماً منه حتى الساعة. نقول ذلك على الرغم من ضرورته الملحّة لمكافحة الانفجارات الطائفيّة في المشرق العربي.

يرى الفيلسوف بول ريكور أنّ مفهوم الحقيقة دخل في أزمة مع ذاته بدءاً من عصر التنوير قبل مائتي سنة. المقصود بذلك أنّ الفلاسفة المتنوّرين ما عادوا قادرين على الإيمان بوجود حقيقة مطلقة محتكرة كُليّاً من قبل هذا الدين أو ذاك، هذا المذهب أو ذاك. فالآخر قد يكون دينه يحتوي أيضاً على جزء من الحقيقة، وليس ديني أنا فقط. والدليل على ذلك أنّه يوجد أشخاص طيّبون ومستقيمون في كلّ الأديان والمذاهب، ويوجد أشرار أيضاً، وبالتالي فلو كان ديننا هو وحده الصحيح لما وُجد أناس فاضلون في الأديان الأخرى، ولما وُجد أشرار كثر في ديننا نحن بالذات. على هذا النحو دخل مفهوم الحقيقة في أزمة مع ذاته، وبدءاً من تلك اللحظة أصبح احتكار الحقيقة من طرف دين واحد أمراً صعباً، وأصبح الاعتراف بالتعددية الدينية أمراً ممكناً ومشروعاً. وهذا ما فهمته الدولة المدنيّة العلمانيّة الحديثة، فهي تعترف بكلّ الأديان والمذاهب الموجودة على أرضها، وترفض تفضيل أحدها على البقية. وذلك على عكس الدولة الأصوليّة القديمة التي لا تعترف إلا بدين واحد أو مذهب واحد وتفرضه على الجميع وتحارب بقية الأديان والمذاهب أو تحتقرها. هنا يكمن الفرق بين دول الغرب المتقدّمة والدول العربية والإسلامية عموماً. نحن لم نؤشكل بعد مفهوم الحقيقة، نحن لا نزال متشبّثين بمفهوم الحقيقة المطلقة، ونعتقد أننا نمتلكها من دون كلّ البشر، ولا يخطر على بالنا لحظة واحدة أنّ الآخرين يعتقدون العكس تماماً. فهم أيضاً يتعلّقون بتراثهم الديني ويحبونه لأنه يؤمّن لهم السكينة والطمأنينة ويهدئ من روعهم في مواجهة الموت، ويعطيهم أملاً بالجنّة والنعيم المقيم في الدار الآخرة. مثلما يحبّ المسلم دينه فإنّ المسيحي يحبّ دينه أيضاً، وكذلك اليهودي والبوذي والهندوسي والكنفشيوسي الخ..والواقع أنّ كلّ هذه الأديان تتفق على نواة أخلاقية مشتركة: لا تقتل، لا تسرق، لا تكذب،الخ... إنها تختلف في الطقوس والعقائد ولكنها تتفق على القيم الأخلاقية الأساسية. لا يوجد دين واحد يقول لك: اقتل واسرق واكذب..

ولكن ينبغي الاعتراف بأنّه من أصعب الصعب الانتقال من مفهوم الحقيقة المطلقة إلى مفهوم الحقيقة النسبيّة. نقول ذلك على الرغم من أنّ عصر الحداثة والعلم والعقل يفرض علينا ذلك دون أن نتخلّى عن ديننا أو مذهبنا. فقط ينبغي أن نقوم بجهد ذاتي على ذاتنا لكي نستطيع الاعتراف بأحقيّة الأديان الأخرى في الوجود. بل ينبغي أن نعترف بوجود أشخاص كثيرين لا يعتنقون أيّ دين. ولذلك فتحت الكنيسة الكاثوليكية مكتباً للحوار مع غير المؤمنين أو غير المتدينين. والواقع أنهم الأكثر عدداً في بلدان الغرب المتقدمة. فلم يعد أحد تقريباً يذهب إلى الكنيسة أو يؤمن بالعقائد والمعجزات المسيحية. معظم الناس أصبحوا مؤمنين بالفلسفة التنويرية الحديثة أي فلسفة العلم والعقل، ولا يشعرون بالحاجة للإيمان بأيّ دين. ولكنّ الدولة المدنية العلمانية تحمي المؤمنين بالأديان مثلما تحمي غير المؤمنين بها. إنّها تحمي المتدينين[8] وغير المتدينين على حدّ سواء، وتعتبرهم كلّهم مواطنين على قدم المساواة. وهنا يكمن فرق آخر بين الدولة المدنيّة الحديثة والدولة الأصوليّة القديمة. كلّ هذا ما كان ممكناً لولا الخروج من مفهوم الحقيقة الإطلاقيّة المطلقة.

يضيف بول ريكور إلى كلّ ما سبق فكرة أساسيّة: وهي أنّ أتباع كلّ دين ينبغي أن يفكّكوا النواة التعصبيّة العميقة الموجودة داخل دينهم بالضرورة[9]. وهذا ما فعله فلاسفة الأنوار في أوروبا بالنسبة للمسيحيّة، فقد أشبعوها تفكيكاً ونقداً. ولكنّ هذا الشيء لم يحصل في الإسلام حتى الآن. وهو يُشكّل المهمّة الأساسية الصعبة المطروحة على المثقفين العرب في السنوات القادمة[10].


[1]ـ انظر كتابه الشهير أو بالأحرى موسوعته الشهيرة التي ظهرت في ستة أجزاء وآلاف الصفحات تحت عنوان: اللاهوت والمجتمع في القرنين الثاني والثالث للهجرة. تاريخ الفكر الديني في بدايات الإسلام.

Joseph Van Ess: Theologie et societe au II et III siecle de l’hegire,Une histoire de la pensee religieuse au debut de l’islam.

وقد تحدث عن الكتاب بكلّ حماسة تلميذه الفرنسي كلود جيليو، وكرّس له دراسة مطوّلة في مجلة آرابيكا على جزئين تحت عنوان: درس استشراقي كبير: العمل العظيم لجوزيف فان ايس، مجلة آرابيكا، 1993، العدد 40

Claude Gilliot: Une lecon magistrale d’orientalisme: L’Opus Magnum de J.Van Ess, Arabica, Arabica, 1993, T.XL

هذا وقد وصفه كلود جيليو بأنه كتاب القرن، أما الجزء الثاني من عرض كلود جيليو لهذا الكتاب العملاق فلم يصدر إلا عام 2000، وذلك في مجلة آرابيكا بطبيعة الحال، العدد 47

[2]ـ انظر كتابه بالفرنسية:الفتنة الكبرى، الدين والسياسة في إسلام العصور الأولى، غاليمار، باريس، 1989

Hichem Djait: La Grande Discorde: Religion et politique dans l’Islam des origines, Paris, Gallimard, 1989

وهو عبارة عن نظرة دينية للمسألة لا نظرة تاريخية حديثة، أو قل إنه يجمع بين الحداثة التبسيطية والرؤية التقليدية للأمور. وبالتالي فلا يشفي العليل ولا يروي الغليل. لماذا؟ لأننا بأمس الحاجة إلى معالجة قضية خطيرة كالفتنة الكبرى من وجهة نظر المنهجية التاريخية النقدية الحديثة لا المنهجية التقليدية القديمة التي شبعنا منها ومللنا. ولهذا السبب انتقد أركون بشدة كتاب جعيط واعتبره خارج دائرة البحث العلمي الحقيقي. ولكنه أثنى ثناء جماً على كتاب فان ايس الذي يعالج المسألة نفسها واعتبره بمثابة جبال الهملايا بالنسبة لدراسة فجر الاسلام: أي لا يضاهى. إنه قمة العلم والبحث التاريخي. والواقع أن فان ايس برع في تطبيق المنهجية الفيلولوجية- التاريخية على تراثنا كل البراعة. ومعلوم أن الألمان هم الذين اخترعوها وصدّروها للعالم كله. ومعلوم أيضاً أنّ الألمان إذا ما صنعوا شيئاً أتقنوه بدءاً من سيارة المرسيديس وانتهاء بالمنهجيات العلمية والنظريات الفلسفية..وبالتالي كفانا استهتاراً بالعلم وهجوماً على الاستشراق الأكاديمي الرصين! واذا كنا لا نستطيع حل قضايانا التراثية المتفجرة حالياً فعلى الأقل لنترك كبار المستشرقين لكي يحلوها لنا. سمعت بأنّ الأتراك والإيرانيين ترجموا كتاب فان ايس، ولكن أين العرب؟ لماذا لا يشكّلون فريقاً كاملاً للبحث لنقل كتاب فان ايس إلى لغة الضاد؟ أليسوا هم الأولى به؟ القرآن الكريم نزل بالعربية لا بالفارسية أو بالتركية. وبالتالي فتحرير الإسلام الفعلي لا يمكن أن يحصل إلا من خلال اللغة العربية. نقول ذلك وبخاصة أنّ كل تراث الفرق الإسلامية الذي يدرسه جوزيف فان ايس في هذا المؤلف الضخم مكتوب بالعربية وليس فقط القرآن الكريم.

[3]ـ ضمن هذا المعنى نفهم صرخة نيتشه الرائعة: آه أيتها الحقيقة يا أكبر كذبة في التاريخ!

[4]ـ مخاضات الحداثة التنويريّة. للمزيد من الاطلاع على هذه القضايا أحيل القارئ إلى كتابي: القطيعة الابيستمولوجية في الفكر والحياة، دار الطليعة، بيروت، 2008

[5]ـ ترجمه إلى العربية الباحث المغربي المعروف سالم يفوت، أكتب هذه الكلمات وأنا أشعر بألم حقيقي لرحيله المفاجئ والمبكر، تحية إلى سالم يفوت الصديق القديم الذي التقيت به أكثر من مرة خلال المؤتمرات التي حضرناها معاً.

Thomas Kuhn: La structure des revolutions scientifiques, Paris, Flammarion, 1983

هذا فيما يخصّ الترجمة الفرنسية. أمّا النصّ الأصلي فكان قد صدر منذ عام 1962 تحت العنوان التالي:

The structure of scientific revolutions,1962، وقد أصدرت جامعة شيكاغو نسخة جديدة له عام 2012 بمناسبة مرور خمسين عاماً على صدوره University of Chicago Press

[6]- انظر لميشيل فوكو: الكلمات والأشياء، باريس، غاليمار، 1966

Michel Foucault: Les mots et les choses, Paris, Gallimard, 1966

[7]ـ وهناك التفسير التاريخي أيضاً، وهو ممنوع في البيئات الإسلامية حتى اللحظة. ولكن إلى متى؟ إلى متى سنظل قادرين على منع انبثاق الحقيقة؟ حقيقة القرآن لن تتجلّى إلا بعد تطبيق المنهجية التاريخية ـ النقدية عليه كما حصل للتوراة والإنجيل في أوروبا، وهو ما يفعله الاستشراق الأكاديمي الكبير في الواقع منذ عشرات السنين، ولكنه ممنوع في اللغة العربية. انظر منع السلطات الدينية في بيروت لكتاب نولدكه الشهير عن "تاريخ القرآن" بترجمة جورج تامر..

Theodor Noldeke: Geschichte des Qorans

طبعة عربية فاخرة بمساعدة مؤسسة كونراد – أدناور الألمانية. الطبعة الأولى بيروت.2004

فإذا كانت بيروت الليبرالية التي تمثل مركز النهضة العربية منذ القرن التاسع عشر لم تستطع تحمّل هذا الكتاب الضخم والرائد فما بالك بعواصم العرب الأخرى؟ لا يمكن لرجال الدين المسلمين أن يقاوموا حركة التاريخ إلى ما لا نهاية. لا يمكنهم منع تطبيق المنهج التاريخي على النصوص الإسلامية التأسيسية بما فيها القرآن ذاته. هذا شيء سيحصل عاجلاً أو آجلاً. والتحرير الفكري للعرب والمسلمين يتوقف على ذلك. ينبغي أن يعلموا أنّ البابا الكاثوليكي وكبار رجال الدين المسيحيين كفّروا المنهج التاريخي ومنعوه لقرون طويلة، ولكنهم استسلموا له في نهاية المطاف، وقبلوا به. وحسناً فعلوا. والآن تغيرت صورة بابوات روما: فبعد أن كانت سلبية رجعية أصبحت إيجابية تقدمية بفضل التخلّي عن فتاوى التكفير ومعاندة العصر والحداثة.

[8]ـ بشرط ألا يفرض المتدينون دينهم بالقسر والإكراه أو التهديد المبطّن على الآخرين.

[9]ـ انظر الحوار الطويل القيّم الذي جرى بين اللاهوتي السويسري الشهير هانز كونغ والفيلسوف الفرنسي الكبير بول ريكور تحت عنوان: مقابلة هانز كونغ – بول ريكور: الأديان، والعنف، والسلام.من أجل بلورة أخلاق كونية. موجود على الأنترنيت

Entretien Hans Kung – Paul Ricoeur: Les religions, la violence et la paix, pour une ethique planetaire, 5 avril 1996

[10]ـ ينبغي أن يشمل هذا التفكيك كلّ المذهب الإسلامية أقليّة كانت أم أكثرية. فجميعها متمركزة حول نواة تعصبيّة ضيّقة ومغلقة على ذاتها. وهذه النواة التعصبيّة هي المسؤولة عن التفجيرات والمجازر الحاصلة حالياً. وبالتالي فالمسألة ليست سياسية فقط، وإنما دينية لاهوتيّة. ولن تحلّ سياسياً قبل أن تحلّ لاهوتياً: أي قبل أن ينتصر لاهوت التحرير والتنوير على لاهوت التعصب والتكفير.