تمجيد الموت والقتل بين القسوة والإقصاء والقيم الدينية والقومية


فئة :  مقالات

تمجيد الموت والقتل بين القسوة والإقصاء والقيم الدينية والقومية

"لا تكن سببا في أي أذى" جالينوس

تعكس عمليات العنف الجسدي كالقتل والاعتداء تجاه جماعات أو عقائد محددة العنف الرمزي السائد والمتقبل على نطاق واسع في الدول والمجتمعات وفي وسائل الإعلام والمناهج التعليمية والثقافة والفنون، وهكذا تتشكل معتقدات دينية أو وطنية تمجد القتل والموت لأجل قيم الكراهية.

فالمعتقدات كما تعرفها كاثلين تايلور (القسوة: شرور الإنسان والعقل البشري) هي كيانات تحمل معلومات فيها كل الإيحاءات العلمية والمنطقية التي يدل عليها هذا اللفظ، والمعتقدات بما يربطها من صلات بالمنطق تكون شبكة متسعة من المعارف التي نجمع منها هوياتنا، والتي من خلالها نتفاعل مع العالم، .. ونفترض أن معظم معتقداتنا صحيحة وحقيقية، وأنها متجذرة ومتأصلة بثبات في العالم الحقيقي.

كثير من المعتقدات غير عقلانية، وهي أيضا ليست ضارة، وقد تبعث على الارتياح، وقد يساعد التعليم والتدريب العلمي على فتح بعض العقول، ولكنها محاولة ليست كافية، فكثير من الناس حولنا من ذوي التعليم العالمي و/أو من المتدربين علميا وهم متعصبون ولديهم استعداد لمصادرة وفرض أي رأي بديل دون إعادة النظر، ولا داعي لديهم لأي فحص لدليل أو برهان، لأنهم يشعرون بشدة أنهم دائما على صواب، وسوف تظل الأفكار المغلوطة بلا أساس راسخة ومتبعة مادام الكائن البشري يتشكل مستمدا أفكاره ومعتقداته من المصادر المعروفة لدينا حتى اليوم، .. وليس مستبعدا ولو في حدود الخيال أن يكون ممكنا إعادة تشكيل العقل البشري.

يدعم بها الناس أفكارهم المفضلة والمغلوطة، والتي بلا أساس بتخفيض مستويات برهانهم، وعلى العكس من ذلك، فإن الأفكار غير المرغوبة تخضع للفحص والتدقيق الذي يليق بأكبر الفلاسفة المتشككين.

إن العلم مجهود إنساني بهدف الوصول إلى نظريات أفضل وليست مثالية تصل إلى حدّ الكمال، إنها تفسيرات تقترب من الحقيقة ولذا تقدم تنبؤات أكثر دقة، ولكن الإشارات من الحقيقة لا تستطيع دائما تغيير أو تحويل توقعات العقل، فربما يجب علينا ألا نندهش أن مجرد المناقشة للحقائق قد تفشل.

والأدلة والبراهين العقلانية تعطينا الكثير، ولكنها لا تعطينا بنفسها أسبابا، لأن نهتم كثيرا بالمعتقدات التي تؤيدها وتدعمها، وحب الحقيقة أحد الدوافع التي يشار لها غالبا ويبالغ فيها غالبا، مثل معظم أنواع الحب، فإنه من النادر أن يكون نقيا وبلا شروط.

مصادر المعتقدات

المعتقدات القوية تعني الكثير بالنسبة إلينا، وهذا المعنى يشمل أهميته وعلاقته بالأفكار الأخرى (ثراء دلالة المعاني المصاحبة للفكرة) وقربها من المدخلات الحسية وقابليته للاختبار وصلته بالإشارات الداخلية (معناه العاطفي وقيمته بالنسبة إلينا) فالمعتقدات التي تستند إلى ملاحظات حسية تكون أضعف؛ لأن العالم الذي تنشأ عنه يمكن أن يتغير، والمعتقدات التي تعتمد على المنطق معرضة لمخاطر وأخطاء التفكير أو الاستنتاج من الوقائع، فالتغيير الثقافي مثلا من الممكن أن يحوّل الافتراضات الواضحة لجيل ما إلى موضوع السخرية عند الجيل التالي. والمعتقدات التي ترتبط بعواطف قوية لا تحتاج أن تتبع حقيقة متغيرة، ولا أن تزعجها أخطاء التفكير، ذلك أن قوتها تستمد طاقتها من داخل الجسم (العواطف والمشاعر)، وهي لا تتغير إلا عندما تتغير المشاعر فقط، وقد لا يحدث هذا على الإطلاق، وبناء على ذلك، فإنه يمكن أن تصبح قوية وصلبة بدرجة كبيرة.

قوة المعتقد

المعتقدات التي نميل إليها أكثر تسبب أنماطا واضحة وقوية من النشاط العصبي وتتواءم بسهولة مع الأنماط التي نملكها بالفعل، إنها مثلنا ونحن عموما نفضل ما يماثلنا، وخاصة أن المعتقدات التي نتقبلها تصبح مكونات من هويتنا، وإذا كانت المعتقدات تشكل أنماطا ثابتة فلا بدّ أن تكون هذه الأنماط واضحة ومستمرة وبسيطة نسبيا. ولا بد أن يعززها داعم عاطفي يساعدها في نقش تأثيرها في الدماغ.

ويعتمد إقصاء الآخر على المعتقدات، والرسائل الأساسية بخصوص الناس الآخرين أنهم مختلفون ومثيرون للاشمئزاز وليسوا مثلنا، ويريدون إيذاءنا أو قد آذونا أو آذوا أناسا مثلنا، إن إزاحة هؤلاء لأناس يحل مشكلاتنا.

وتتشكل تبعا لهذه المعتقدات مشاعر تجاه الآخر، فتكون المعتقدات محملة بأحمال عاطفية ثقيلة؛ فتضرب تايلور مثالا: إذا كنت تشمئز من الفئران وشاهدتها في مكان يعيشه فيه المهاجرون فإنك تربط بوعي أو بدون وعي بين المهاجرين والفئران، وخاصة إذا كنت تكره المهاجرين. وقد تكون الفئران جذبها الطعام الذي يلقيه الأغنياء في الحي المجاور، ولكن الاشمئزاز لن يغادرك حتى لو عرفت ذلك، وبالطبع فإنه من الأسهل عليك أن تلوم المهاجرين بدلا من أن تفسد علاقتك بجيرانك.

وهكذا، فإن المعتقدات تكتسب قيمة إضافية من مصدرين: عندما تأتي من ناس نكن لهم مشاعر قوية، وعندما يكون للمعتقدات مضامين تقييمية؛ لأنها عبارة عن تنبؤات بخصوص ما يجب أن يكون عليه حال العالم الواقعي.

المعتقدات والهوية والتوقعات الاجتماعية

تكشف المعتقدات عن نفسها كمعابر تصل بين الحقيقي والمحتمل، فتصل علامات من الماضي والمستقبل. ولسوء الحظ، فإن المعتقدات غالبا ما تعتمد على نفس أفراد الجماعة الذين نلجأ إليهم عندما تتم معارضة هذه المعتقدات، ذلك لأنهم هم ذاتهم الناس الذي تعلمنا منهم معتقداتنا في المقام الأول. فعندما تتلقى إشارة في جهازك العصبي والعقلي أن إيذاء الناس خطأ ... وتتلقى في الوقت نفسه إشارة بأنك تريد إيذاء هؤلاء الناس، فإنك تنشئ اعتقادا أن هؤلاء الذين تؤذيهم ليسوا "ناس".

وقد يبدو أعضاء الجماعة حمقى او مغفلين لأنهم يتنازلون عن استقلالهم الذاتي ويقللون من فرديتهم بأن يجعلوا العقيدة المشتركة مع آخرين جزءا كبيرا من هويتهم، ولكن في مقابل ذلك تتحمل الجماعة كثيرا من الأعباء التي يتحتم على الأفراد مواجهتها منفردين. والتوتر الذي يرتبط بالموت والفناء على وجه الخصوص يمكن أن تهونه عضوية الجماعة.

المعتقدات بما هي دفاع عن الذات ومواجهة المخاطر والتهديدات

تقول كاثلين تايلور: التهديدات في العالم الرمزي للأفكار تشبه الكائنات التي تسبب المرض والجراثيم أو التهديد بالسموم؛ فالمعتقدات التي نكرهها نصفها دائما بأنها مثيرة للاشمئزاز، وعلى مدى التاريخ كان من يأتون بمعتقدات جديدة تطرح تحديات مثل الناس والكتب يواجهون بالعداوة التي تتولد من عاطفة النفور والرفض، وغالبا ما تكون العاقبة مهلكة.

وتشكل المعتقدات تصورنا للعالم الواقعي؛ فيكون الواقع يعكس هذه المعتقدات، ويدخل الإنسان بذلك في صراع مع الواقع ليشكله حسب معتقداته، أو مع معتقداته ليغيرها لتلائم الواقع، وقد يعيد فهم الواقع وتصوره بما ينسجم مع المعتقدات حتى لو كان هذا الفهم بعيدا عن الحقيقة. إن تصور العالم الواقعي أو "تشكيله" كما نهوى شيء يفعله البشر باستمرار بما في ذلك من ضلال وخداع للنفس، وبالطبع إذا لم يحدث ذلك يتنازل الإنسان عن معتقداته. إن كثيرا من توقعاتنا معتدلة، ويمكن تغييرها بسهولة، ولكن بعضها يشكل جزءا من ذواتنا لدرجة أنها تستفزنا لنعمل بطريقة تهدف إلى ان نغير العالم حتى يتواءم مع هذه التوقعات.

ولكن المعتقدات في بنائها للواقع وفي ثباتها في الوقت نفسه تمضي بأصحابها إلى حالة أكثر تعقيدا، إذ تتشكل حول هذه المعتقدات تصورات للناس والواقع وتنشئ هذه بذاتها عداوات وصداقات وعلاقات ومؤسسات ومصالح مثل الجيوش والأجهزة الأمنية والوقفيات والمؤسسات الثقافية والإعلامية، .. وعندما يظهر "الآخر" إشارات مختلفة لتصوراتنا عنه فإنه ليس فقط يتحدى معتقداتنا ولكنه أيضا يهدد المؤسسات والأفكار الناظمة والمنشئة لدول وجماعات ومصالح ومؤسسات، فالناس الذين نصفهم بأنهم ضعفاء وخونة أنانيون مقززون يصبحون "آخرين" ويشكلون تهديدا إذا تحدوا هذه الأنماط بأن يكونوا على عكس ذلك أقوياء جديرين بالثقة عطوفين ولديهم مشاعر اهتمام بالغير مثلهم مثل أي شخص قد تغير حتى يتغلب على الشعور بالاشمئزاز.

إن الاستعارة البلاغية لكلمة "مرض" تمثل حافزا على إقصاء الآخر، فالمعنى يعطي تفسيرا بسيطا وعاطفيا بدرجة كبيرة لأمراض الفرد أو الجماعة أو الأمة ويتضمن التهديد بردود افعال تزيد من الدوافع على الفعل. وهذه الاستعارة تتناسب مع المعتقدات المقبولة عن المرض بما في ذلك الشعور القديم بالخوف من الغرباء ناقلي المرض. ويعتمد المعنى أيضا على فكرة الجماعة كجسد يحمل عواطف إيجابية بين أعضاء الجماعة وتفرض عليها فروض الوحدة والطاعة، ويجعل ذلك الجماعة اكثر تماسكا، ومن ثم يعطي قوة أكبر لأعضائها في مواجهة الدخلاء.

لو أعطينا الفرد الاختيار بين أن يغير معتقداته أو الأنماط العصبية في ذهنه لتتناسب مع العالم الواقعي وبين تغيير العالم ليتواءم مع معتقداته فإنه سيتبع الاختيار الأسهل. وكلما كانت المعتقدات مهمة، فسيكون الدفاع عنها قويا، وكلما كانت العواطف التي سيؤججها هذا التحدي شديدة ومتطرفة، يحتمل أن يكون رد الفعل أكثر عنفا، وعندما يتضمن المعتقد شيئا من التقزز، ويتعرض هذا الفكر للتحدي فإن بني الإنسان مثلنا من الممكن أن يكون رد فعلهم مميتا ويتصف بالوحشية البشعة.

وتشمل بعض أنواع القسوة ردود فعل طائشة تجاه تهديدات اجتماعية تثير الغضب أو الخوف، وبعضها يتضمن إغفالا متعمدا للحالة الإنسانية للضحية؛ لأن إقصاء الآخر جعل هذه الحالة لا اعتبار لها إطلاقا بالنسبة إلى مرتكب الجريمة.

وهؤلاء المجرمون قساة القلوب الذين تدفعهم معتقداتهم القوية قد يرون أن سلوكهم نوع من سوء الحظ، لكنه دفاع ضروري عن النفس يحميهم من الأفكار والناس الذين يشكلون تهديدا ضد مظهر حيوي من مظاهر هويتهم.

وليست كل القسوة مردها الى الدفاع عن المعتقدات، ولكن المعتقدات يمكن أن تستخدم تلقائيا في تبرير السلوك العدواني، فالجشع والخوف والرغبة في الانتقام والمنافسة على الموارد وكثير من المثيرات يمكن أن تدعم القسوة التي تحفزها المعتقدات وتغذيها مبرراتها الأيديولوجية.

التشكيل الديني لمعتقدات القسوة

يمكن ملاحظة كيف استحضرت الأفكار والمصادر الدينية لتمجيد القتل والموت وإقصاء الآخر، بل والسعي إلى تحطيم جميع الأمم الأخرى لتمجيد الأمة الإسلامية، باعتبارها الأفضل ولتكون كلمة الله هي العليا، أو لترسيخ الاحتقار والكراهية تجاه الآخر، وقد يكون الآخر غير المسلم بالنسبة إلى المعتقدات الدينية الشعبية ولكنه قد يكون كل من ليس من الجماعة كما في حالة الجماعات السياسية والقتالية.

وقد يكون تصور الجهاد في الإسلام كما قدمه وعرضه سيد قطب في كتابيه في ظلال القرآن ومعالم في الطريق مثالا كافيا، باعتبار هذا التصور هو المؤسس لجماعات العنف والقتال كما أنه سائد ومتقبل في الفكر الديني العام، فبعد عرض مراحل الجهاد في الإسلام كما في كتاب زاد المعاد لابن القيم يصف سيد قطب الجهاد بالقول هو تقديم الإسلام إلى العالم في وذلك يجب إزالة الأنظمة والسلطات التي تحول بين الناس وبين التصحيح والبيان للمعتقدات والتصورات، ..

ويحذر من المهزومين روحيا الذين يحملون النصوص ما لا تحمله من المبادئ والقواعد النهائية، فيقولون إن الجهاد في الإسلام للدفاع، ويحسبون أنهم يسدون إلى هذا الدين جميلا بتخليه عن منهجه، وهو "إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعا" وتعبيد الناس لله وحده لا بقهرهم على اعتناق عقيدة ولكن بالتخلية بينهم وبين هذه العقيدة بعد تحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة أو قهرها حتى تدفع الجزية وتعلين استسلامها والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة، تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها.

والمهزومون روحياً وعقلياً كما يصفهم سيد قطب وممن يكتبون عن "الجهاد في الإسلام" ليدفعوا عن الإسلام هذا "الاتهام" يخلطون بين منهج هذا الدين في النص على استنكار الإكراه على العقيدة، وبين منهجه في تحطيم القوى السياسية المادية التي تحول بين الناس وبينه.

ويقرر أن الجهاد في الإسلام أمر آخر لا علاقة له بحروب الناس اليوم، ولا بواعثها، ولا تكييفها كذلك. إن بواعث الجهاد في الإسلام ينبغي تلمسها في طبيعة "الإسلام" ذاته ودوره في هذه الأرض، وأهدافه العليا التي قررها الله، وذكر الله أنه أرسل من أجلها هذا الرسول بهذه الرسالة، وجعله خاتم النبيين وجعلها خاتمة الرسالات.

إن هذا الدين إعلان عام لتحرير "الإنسان" في "الأرض" بإعلان ربوبية الله، وذلك يعني الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور ... ذلك أن الحكم الذي مردّ الأمر فيه إلى البشر، ومصدر السلطات فيه هم البشر، هو تأليه للبشر!

و"مملكة الله في الأرض" تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة. وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة وإلغاء القوانين البشرية .. ومن ثم لم يكن بد للإسلام أن ينطلق في " الأرض " لإزالة " الواقع " المخالف لذلك الإعلان العام ... بالبيان وبالحركة مجتمعين ... وأن يوجه الضربات للقوى السياسية التي تحكم بغير شريعة الله.

ويرى قطب أن محاولة إيجاد مبررات دفاعية للجهاد الإسلامي بالمعنى الضيق للمفهوم العصري للحرب الدفاعية، ومحاولة البحث عن أسانيد لإثبات أن وقائع الجهاد الإسلامي كانت لمجرد صد العدوان من القوى المجاورة على "الوطن الإسلامي" - وهو في عرف بعضهم جزيرة العرب - فهي محاولة تنم عن قلة إدراك لطبيعة هذا الدين، ولطبيعة الدور الذي جاء ليقوم به في الأرض. كما أنها تشي بالهزيمة أمام ضغط الواقع الحاضر، وأمام الهجوم الاستشراقي على الجهاد الإسلامي.

وهذا، فإن الجهاد كما يتوصل سيد قطب يكون ضروريا للدعوة، إذا كانت أهدافها هي إعلان تحرير الإنسان إعلانا جادا يواجه الواقع الفعلي بوسائل مكافئة له في كل جوانبه، ولا يكفي بالبيان الفلسفي النظري؛ سواء كان الوطن الإسلامي - وبالتعبير الإسلامي الصحيح: دار الإسلام - آمنا أم مهددا من جيرانه. فالإسلام حين يسعى إلى السلم، لا يقصد مجرد أن يؤمن الرقعة الخاصة التي يعتنق أهلها العقيدة الإسلامية. إنما هو يريد السلم التي يكون فيها الدين كله لله. أي تكون عبودية الناس كلهم فيها لله

ولا مجال بالطبع كما يؤكد سيد قطب للاستشهاد بآيات قرآنية مستقلة أو معزولة عن سياق الدعوة والجهاد، فالكف عن القتال في مكة لم يكن إلا مجرد مرحلة في خطة طويلة. كذلك كان الأمر أول العهد بالهجرة. هذا هدف أولي لا بد منه، ولكنه ليس الهدف الأخير ... إنه هدف يضمن وسيلة الانطلاق، ويؤمن قاعدة الانطلاق .. الانطلاق لتحرير "الإنسان" ولإزالة العقبات التي تمنع "الإنسان" ذاته من الانطلاق!

إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار الإسلام منهجا إلهيا، جاء ليقرر ألوهية الله في الأرض وعبودية البشر جميعا لإله واحد، ويصب هذا التقرير في قالب واقعي، هو المجتمع الإنساني، فلا تحكمهم إلا شريعة الله إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار الإسلام على هذا النحو، واعتباره نظاما محليا في وطن بعينه فمن حقه فقط أن يدفع الهجوم عليه في داخل حدوده الإقليمية، ويرى أن الباحثين الإسلاميين المعاصرين المهزومين تحت ضغط الواقع الحاضر وتحت ضغط الاستشراق، يتحرجون من تقرير تلك الحقيقة، لأن المستشرقين صوروا الإسلام حركة قهر بالسيف للإكراه على العقيدة، والمستشرقون يعرفون جيدا أن هذه ليست هي الحقيقة، لكنهم يشوهون بواعث الجهاد الإسلامي بهذه الطريقة .. ومن ثم يقوم المنافحون - المهزومون - عن سمعة الإسلام بنفي هذا الاتهام، فيلجؤون إلى تلمس المبررات الدفاعية! ويغفلون عن طبيعة الإسلام ووظيفته، وحقه في "تحرير الإنسان" ابتداء.

وبالطبع، فإن الباحثين المعاصرين الذين يعتبرهم سيد قطب منهزمين لم يكونوا أقل إقحاما للدين في بناء الجماعات والدول، ولكنهم أرادوا استيعاب الإسلام استيعابا معاصرا بمعنى تحويل المفاهيم والقيم والقوانين المعاصرة للدولة والمجتمع إلى قيم ومبادئ دينية، ولكنهم برغم ذلك كانوا بعيدين عن إعلان الحرب على العالم، .. سيد قطب يريد باسم الدين محاربة العالم والدول الإسلامية الحديثة تريد باسم الدين تعزيز وجودها وسلطتها، وفي الحالتين فقد جرى بناء معتقدات للإقصاء والاستبداد والتهميش أو لأجل الرفض والتمرد والفوضى. وفي الحالتين فقد حولت الأفكار والعواطف الناشئة عن الشعور بالتهديد والمخاطر أو محاولة تعزيز السلطة والوجود إلى معتقدات دينية متماسكة لعلها أكثر ثباتا وحضورا من الدين الأصلي.