جدل الليبراليّين والجماعاتيّين: مدخل لتفكير مختلف حول النزاع العلماني الإسلامي


فئة :  مقالات

جدل الليبراليّين والجماعاتيّين: مدخل لتفكير مختلف حول النزاع العلماني الإسلامي

قد يجد الزعم شرعيّته بأنّ الثورة انحرفت عن مسارها في ما يلحظ من توجّه مختلف للقوى السياسيّة المتولّدة عنها نحو مطالب لم يرفعها المتظاهرون من الشباب الذين كانوا وقودها ونارها وحطبها، يدرك ذلك في تجربة الممارسة السياسيّة الأولى لهذه المطالب التي أوكلت للقوّة الإسلاميّة، فبصرف النظر عن إكراهات اللّحظة الحرجة التي حكموا فيها، إلا أنّ الإجماع يكاد يكون حاصلاً على كونهم انحرفوا عن المطالب الأصليّة التي أوصلهم أصحابها إلى الحكم من أجل تنفيذها، فبدل أن يقودوا الجدال مع الأطراف السياسيّة التي تنازعهم السلطة بكلّ ثقلها الاجتماعيّ، نحو البحث عن السبل الأنجع لعلاج الأمراض الاجتماعيّة والسياسيّة المزمنة، صرفوا الجهد وأدوات السلطة في إسراع الخطى نحو تركيز أعمدة مشروعهم الحضاري الذي كانوا إلى أمد غير بعيد قد أوشكوا على اليأس منه. وقع ذلك سواء في تونس أو في مصر، وكانت نتائجه تبرز أخطرها في اتّساع الشقّة يومًا بعد يوم، داخل الجسد الاجتماعيّ الذي كان متوحدًا أمس ضدّ غياب الديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة، بين فصيلين تزايد التباعد بينهما في تصوّر فكرة المشروع المجتمعي.

وبدل أن يكون التفكير منصبًّا على سبل تحقيق المشروع المجتمعيّ المعطّل، استعيدت ذكرى جدل فجّ مصطنع حول مدى صلاحيّته لقيادة العرب والمسلمين إلى استعادة دورهم الحضاري. هكذا ساق التيار الإسلاميّ وراءه المجتمع بمن كان معه ومن كان ضدّه، وقواه السياسيّة، نحو إعادة التفكير معه فيما لم يقتنع بعد أنّه ما عاد صالحًا بصورته تلك لكي يمثّل منوالاً حضاريًّا منسجمًا. ففي زمن تهاوي الإيديولوجيّات وهيمنة الواقعيّة السياسيّة، فردانيّة كانت أم جماعاتيّة، أصرّ الإسلاميون على تحويل الثورة إلى بوّابة عبور نحو النقطة الصفر من تاريخنا الحديث، ليعيدوا للإيديولوجيا الإسلاميّة بريقًا خفت وأبلاه التقادم، منذ وأده التاريخ عبر تركيز نموذج الدولة الوطنيّة العلمانيّة المتكيّفة مع إسلاميّة قاعدتها الاجتماعيّة. إنّ مقولات الحاكميّة وتطبيق الشريعة على المستوى النظريّ، وما يتبعها من حرب للإرهاب الإسلامي على الدولة، ما كانت ربّما لتعود إلى الأذهان لولا هذا الارتداد إلى لحظات المشروع الإسلاميّ الأولى، وشحنها بمحمولات عدائيّة جديدة استبدلت فيها مؤامرة الاستعمار بمؤامرة الإمبرياليّة. فكأنّنا لم نخرج بعد من زمن الجدال الذي ظل متطابقًا مع زمانيّته، بين الأفغاني وأرنست رينان، أو بين محمّد عبده وفرح أنطون، أو بين علي عبد الرازق ومحمّد الخضر حسين ومحمّد الطاهر بن عاشور، بل كأنّنا "لم نودّع السقيفة بعد".

ليست خطورة هذا التحويل الجاري فيما يكلّفه من ضحايا في الأرواح، أو تهديد، في أقصى الحالات، لوحدة الكيانات المجتمعيّة التي أنشأتها الدولة، وإن جرت تلك الوحدة بفعل التقسيم الاستعماري، إنّما كانت في مواصلة إهدار الوقت الذي يفصلنا نحن العرب المسلمين عن التفطّن إلى تغيّر المنوال الحضاري الذي مكّننا من أن نحكم العالم في تاريخ غير بعيد. وأكثر من هذا في إهدار الوقت الذي يفصلنا عن التفطّن إلى أنّ استمرار الطلب على الدين من قبل الأغلبيّة، لا يعني بالضرورة أنّ فئة منّا هي المهتديّة إلى الحقيقة، وشرط الخلاص والقوّة، فيتعيّن عليها أن تقود الأخرى إلى خلاصها بقوّة الدولة، ولو جرّها ذلك إلى شتّى أصناف العنف.

بالنظر إلى الخطاب العربيّ المعاصر، يبدو أنّ هذا الاعتقاد المضلّل عن حقيقة الحاجيّات الراهنة، قد ساهمت فيه كثرة من التحليلات المنجزة لأسباب الظاهرة الإسلاميّة، فغالبها أوجد له من المبرّرات ما يكرّس الوهم العامّ بشرعيّة انحساره في بوتقة ما، تمثّلها الدولة، أو الثقافة، أو المجتمع. فكما تصنع اللّغة العالم، أرنست كاسير، وميشال فوكو، كذا يصنع الخطاب في الوعي أفكارًا تتحوّل إلى حقائق، حتّى وهو ينقدها ويفضح تهاويها. تجوز مطابقة هذا مع مجمل الخطابات الشارحة لنشأة الحركات الإسلاميّة في علاقة بمشكلة الدولة المفسّرة لهذه النشأة بهجانة الدولة الوطنيّة، أو غرابتها عن المجتمع، أو انفصالها عنه وتعاليها عليه أثناء ممارستها السلطة، أو أدائها السلبيّ، أو فشلها في تحقيق وعود الاستقلال والتنمية (سمير أمين، وضّاح شرارة، حامد ربيع، مسعود ظاهر)، أو المفسّرة لها بتعارض ثقافي وفكري بنيوي أصلي بين عقل سياسي أسسه العقيدة والقبيلة والغنيمة (الجابري)، وعقل آخر أسسه العقل، والأمّة، وتقسيم العمل، أو بين ذهنيّة مسكونة بصورة الزعيم المطلق (محمّد الجويلي)، وأخرى لا زعامة فيها إلاّ للإنسان الطبيعي، أو بين منظومة أسسها الجماعة، والعدل، والقيادة، ومنظومة أسسها الأخرى هي: الفرد، والحريّة، والدولة (رضوان السيّد). ثمّة تحليلات شتى، فضلاً عن هذه الأمثلة، تساهم بالقدر نفسه، الذي تتميّز به من الصلاحيّة في تحليل هذه الظاهرة، في تكريس الوعي بحتميّتها، وحتميّة معالجة المعطيات المفسّرة لنشأتها، بل بانحسار المشكل الحضاري في الأسئلة التي تختزل فيها كلّ مشكلاتنا الحضاريّة، وتطرحها. فالخطاب الناقد لها، يشرّعها الخطاب نفسه، تمامًا كما تصنع اللغة الوعي وتشكّله، بل تقنعه بمخلوقاتها التي لا توجد إلاّ في مستواها التمثّلي التمثيلي للواقع.

إنّ ما ينسّب هذه التحليلات ويلحق بها تهمة المساهمة في انحباس الخطاب الإسلاميّ في إشكاليّاته المتجاوزة، وارتكاسه في موقع انعزالي مقسّم للمجتمع، يرى نفسه في النصف الماسك منه بالحقيقة، ويرى الطلب على الديني دالاًّ على شرعيّة دوره التخليصي للمجتمع، هو أنّ هذا الطلب ليس حكرًا على المجتمعات الإسلاميّة، "المحرومة من ممارسة دينها" بفعل "دولة جلبتها الحداثة الملحدة"، في كنف الاستعمار الغازي، "بغية القضاء على ما يميّز الذات". لقد بيّنت شعب البحث العلمي المختصّة ببحث الشأنين الديني والسياسيّ أنّ الطلب على الدين لم ينقطع في المجتمعات الحديثة، وأنّ اللاّئكيّة القانونيّة المؤسّساتيّة، والعلمانيّة الثقافيّة، ليستا عامّتين، ولا منجزتين حتّى في بلدانها التي ابتكرتها، وأنّ الحداثة لم تؤدّ إلى تحقّق المخطّط الوضعي (أوغست كونت) أو التطوّري، أو "نازع السحر عن العالم" (ماكس فيبر، مارسيل غوشي) أو المصفّي للميتافيزيقا (نيتشه، هايدغر) المتصوّر.

هذا يعني أنّ علينا لحلّ السؤال الديني السياسي أن نغيّر طبيعة أسئلتنا، حتّى نتمكّن من تغيير تعريفنا للواقع، ونتمكّن من العثور على مداخل أخرى لحلّ إشكاليّاتنا، بعد أن كنّا مدّة طيلة نتداول أسئلة حدّدتها تشخيصاتنا للواقع، والأغلب أنّها من حدّد تلك التشخيصات. هكذا نقدّر أن يكون مسار تفكيرنا مبتدئًا بالأسئلة قبل توصيف الواقع، إنّ في طبيعة الأسئلة التي نطرحها على الواقع، يكمن إدراكنا الفعليّ له، وحلّ مشاكله. تتمتّع الأسئلة بقدرة تعريفيّة للواقع هي نفس القدرة التي للّغة في صناعة العالم، أو هي متولّدة عنها. السؤال كاللغة، صادر عن مسبّقات أو قبليات تشي بالأصل الإيديولوجي لكلّ مناهج تفكيرنا، لذا فإنّ التغيير في مسار التفكير، يعني عندنا أن نغيّر وجهة مقاربتنا للواقع من النظريّ إلى العمليّ؛ أي من المعرفة النظريّة أو من وهم المعرفة إلى المعرفة العمليّة؛ أي الإيديولوجيّة، الإيديولوجيا المدركة لذاتها ولنسبيّتها على وجه الخصوص.

ليس المطلوب تغيير العالم بل المطلوب جعله أكثر قابليّة للتحمّل، من هذا المنظور نستعيد الجدل بين الليبراليين والليبرتاريين من جهة، و الجماعاتيين من جهة أخرى بوصفه هذا هو التعبير عن نوع من الجدل بين المرجعيّات؛ كالجدل بين الإسلاميين والعلمانيين، يجري من منظور الفلسفة العمليّة المغيّرة لطريقة ابتكار حلول الواقع، من البداية بالمعرفة، إلى البداية بالأسئلة؛ فالسؤال الذي يتساءله الفريقان هو: كيف نتعايش؟ هذا هو جوهر السؤال المطلوب طرحه عندنا.

في كتابه الذي كتبه بالفرنسية "الدولة الجديدة والفلسفة السياسيّة والقانونيّة الغربيّة" يعيّن عياض بن عاشور جوهر الخلاف العلماني الإسلامي الذي نعيشه الآن، في أثناء وصفه لمجموعة عناصر التقابل بين الفلسفتين الدولتيّتين، الغربيّة، والناشئة عندنا على إثر الاستقلال. جوهر الخلاف عنده كامن في اختلاف في تحديد موقع الحقّ بالنسبة إلى السياسيّ؛ ففي حين يرى العلماني أنّ العقل، الفرد والدولة، هو الصانع الجديد للحقّ، ولهذا فهو يصنع دولة مقيّدة سياسيًّا لكنّها مطلقة قانونيًّا، فإنّ الذهنيّة الإسلاميّة تعتبر أنّ الحقّ سابق على الفرد وعلى الدولة، متعالٍ عليهما. ومن ثمّ، فهم يتحدّثون عن دولة مقيّدة قانونيًا، ومطلقة سياسيًّا.

هذا النزاع بين رؤيتين للحقّ شبيه، إذا ما تجاوزنا مسألة علمنيّتهما المبدئيّة، بالجدال القائم بين الليبراليين من مثل جون راولس (ت2002م)، ورونالد دفوركين (ت2013م)...)، وبين سليليلهم الليبرتاريين روبار نوتزيك (ت2002) من جهة، والجماعاتيّين من مثل ألادير ماكنتاير (1929م)، وميكائيل ساندل (1953م)، وميكائيل والتزر(1935م)...إلخ، من جهة أخرى. ولكنّه متميّز بكونه يطرح سؤال التعايش، بدل سؤال الأحقيّة.

فالليبراليّون والليبرتاريين ينطلقون في نظريّتهم السياسيّة والأخلاقيّة الحقوقيّة من أنثربولوجيا فردانيّة، شبيهة إلى حدّ بعيد بنظريّة الحق الطبيعي، تعتبر أنّ الفرد، منظورًا إليه ذاتًا مستقلّة ومكتملة، هو الواقعة الموضوعيّة الأولى المتعالية عن أيّة غايات، وأيّ وجود اجتماعيّ، وهي ذات تحكمها حتميّة واحدة، هي تحقيق مصلحتها أو منفعتها. هذا هو حقّها الأصليّ السابق على وجودها الاجتماعيّ والسياسيّ. ومن هذه الزاوية ينظر إلى الاجتماع السياسيّ والالتزام الأخلاقيّ على أنه حصيلة عمل تعاقديّ إراديّ للفرد، لذا يتعيّن فيهما أن يكونا مستجيبين لشروط الوضعيّة الأنثروبولوجيّة الأصليّة، راعيين لحقّ الفرد واستقلاليّته. ومن هنا تقلب النظريّة الأخلاقيّة الليبراليّة التراتبيّة لأخلاق كليّة سابقة على الفرد، ومحدّدة للفعل الصحيح بأنّه الفعل المتطابق مع مثال أعلى للفضيلة، إلى تراتبيّة جديدة تضع العادل والصحيح في موضع أولويّة بالنسبة إلى الفضيلة أو الخير، بل تصبح محدّدة لها.

يعني هذا التصوّر أنّ المطلوب في الاجتماع السياسيّ أن ينشغل بالكيفيّة التي يحمي بها استقلال الفرد وحقوقه وقدرته على أن يحدّد لنفسه ما هو جيد، وما هو سيّء، ويتولّد عن ذلك أنّ العدالة تصبح هي الفضيلة الأولى للمؤسّسات الاجتماعيّة، وأنّ دور الدولة يتلخّص في تحقيق شروطها بصرف النظر عن مفاهيم الخير المتنوّعة.

هذا الحياد الدولتي الفرداني تجاه الغائيّات والمسبّقات، عدا مسبّقة الفرد، الآيل إلى نوع من التضحية بالبعد الاجتماعيّ، وخاصّة بالبعد الأخلاقي للسياسيّ الذي فتح طريقه جون راولس، وإن بنوع من المصالحة بين فردانيّة الإنسان وجماعيّته، في سعيه إلى الصالح العام، تجاوزًا لنفعيّة جريمي بنتام، وأكمله ر. نوتزيك، يمثّل جوهر الاحتجاج الجماعاتي، فالجماعاتيون ينطلقون من تعريف مختلف للإنسان، يبنون عليه تصوّرهم للاجتماع السياسيّ، ولأهدافه وقيمه المؤسّسة، فالإنسان أولاً، في نظرهم، هو أوّلا وقبل كلّ شيء، حيوان سياسيّ غائيّ تتحدّد خصائصه وغاياته قبليًّا، من قبل النسق الاجتماعي والتاريخي الذي يعيش فيه. والمجتمع ليس حصيلة تجمّع أفراد، إنّما هو سياق تداول قيم ومعايير مشتركة تحدّد تصوّرات الأفراد عن الحياة، لذلك فالحقوق خصائص أصليّة، لكنّها ليست مستقلّة عن الوجود الاجتماعي، أصالتها من أصالته، وهي انعكاس لنظريّة أخلاقيّة عامّة تحدّد فيها الجماعة معاني الفضيلة والخير، لذلك فالعدالة أمر ناتج عن هذا التصوّر الأخلاقيّ الجماعيّ للحياة الجيّدة، وليست سابقة عليها.

إنّ الحريّة الواسعة التي ينادي بها الليبراليون والليبرتاريون للفرد توشك أن تؤدّي إلى تعميم اللامعنى، وتحقير الاجتماع السياسيّ، وإفراغه من مضمونه المجتمعيّ، فتذيب الروابط الاجتماعيّة بل تقضي عليها.

والمؤكّد أنّ في هذا التقريب بين الليبراليين والجماعاتيين من جهة، والعلمانيين والإسلاميين من جهة أخرى قدر من الاختزاليّة، تتجاوز عن تعلّق الفكر الليبرالي بالمسألة الاقتصاديّة، وانشغال الفكر الجماعاتي بحلّ مشكلة الأقلّيات، كما أنّ الفرق بين التيارين، الليبرالي والجماعاتي، جار من داخل الموقف العلماني المبدئيّ، فلا علاقة من هذا المنظور بين الإسلاميين والجماعاتيين أصلاً، لا سيما وهم يعدّون استمرار للاشتراكيين والشيوعيين، كما أنّه يجب ألاّ يغيب عنّا أنّنا نتحدّث عن خصوصيّة أمريكيّة. ولكنّ ما يشرّع هذا التقريب مبادئ فلسفة الحقّ المتولّدة عن هذا التصوّر المتشابه للإنسان، وما تنتجه في مستوى الوظائف القانونيّة والسياسيّة للدولة؛ فالليبراليون كالعلمانيين عندنا يرفضون أن تكون مبادئ العدالة مبنيّة على مبادئ دينيّة أو أخلاقيّة قبليّة. مبادئهم الوحيدة في العدالة يشتقّونها من غائيّة فردانيّة تقوم على فرضيّة حالة طبيعة تعتبر الدين والأخلاق مضافات اجتماعيّة لا تدخل في تعريف حقّ الإنسان الجوهريّ، ولذا لا تكون الدولة إلاّ علمانيّة، ولا يتمثّل دورها إلاّ في صناعة القانون الضامن لمصالح الأفراد، ولإدارة الاختلاف في تصوّراتهم عن الخير والشر والحياة السعيدة. من أجل هذا تأرجح موقفهم بين القبول بالدولة الدنيا، إلى نفي الحاجة إليها أصلاً، والحاجة إلى السياسيّ. ويرى الجماعاتيّون بالمقابل ما يراه الإسلاميون عندنا تقريبًا من أنّ فكرة هذا الحياد الكامل للدولة تجاه العقائد والفلسفات ليست غير طوبى مضلّلة، فإنسانهم الأصلي هو الإنسان الاجتماعيّ بمكوّنه الديني والأخلاقيّ، ومن ثمّ فالحقّ محكوم بالتصوّر القبلي الجماعي عن الفضيلة، والعدالة تطابق مع هذا المثال الجماعيّ، كما أنّ الدولة ليست محايدة سياسيًّا، بل هي راعية للحقّ المطابق لمثال أعلى عن الفضيلة والخير.

وفضلاً عن هذا، فإنّ ما يشرّع هذا التقريب بين هذين الممثلين الغربي والعربي هو الظرفيّة النظريّة السياسيّة المتشابهة أو المشتركة، وهي الوعي بمشكلة الدولة الحديثة. يراها الليبراليون والليبرتاريون في تهديدها للحريّة لا سيما الحريّة الاقتصاديّة، بينما يبدي الجماعاتيون قلّة ثقة فيها، في فردانيّتها، وعقلانيّتها الجافّة المؤدّية إلى ريبيّة شاملة وتحرّر من القيم، والفصل الجاري فيها بين السياسيّ والأخلاقي، بل في لائكيّتها. هذا الوعي هو ذاته عندنا، إذ تواجه به الدولة الأمّة المخترقة من قبل العولمة منذ السبعينيات، والتي تمثّل دولة رعاية تعيش حالة تراجع عن أداء دورها الاجتماعيّ في توزيع الثروة، وأزمة ثقة في قدرتها على إيجاد حلول للمشكلات الاقتصاديّة والاجتماعيّة. هذه الأوضاع شبيهة بالأوضاع التي أنتجت التطويرات الليبراليّة والجماعاتيّة منذ السبعينيات، فترة أزمة دولة الرعاية بعد سنوات الازدهار الثلاثين (1945- 1970)، والتشكيك المتزايد في نموذج الدولة الأمّة بفعل العولمة، وبروز أشكال التعدّد الثقافي في أمريكا الشماليّة خاصّة، وفي أوروبا لاحقًا.

أما أهميّة تفكيرهم، فتكمن في كونهم يفكّرون من خارج منطق امتلاك الحقيقة، وفي سياق عمليّ يبحث عن الممكن فعله لا عمّا يجب فعله، فجميعهم، الليبراليون والجماعاتيون، ينطلقون من تصوّر تعاقدي للحياة السياسيّة، يعني أنّ الوجود الاجتماعي يتأسّس على التعايش، وينصرفون بعد ذلك إلى البحث عن السبل الكفيلة بتحقيقه. فسواء انطلق الليبراليّون من فردانيّة حادّة، أو انطلق الجماعاتيّون من إيمان بالمجموعات الاجتماعيّة، فإنّهما يشتركان في العمق في الإيمان بمبدإ التعايش بين الجميع، يقول الجماعاتيون بضرورة الاعتراف بتعدّد الانتماءات الأقليّة، ولكنّهم يفكّرون في ذلك من داخل ميثاق جماعي يوحّد الجميع، ويقول الليبراليون والليبرتاريون بأنّ الفرد هو الأساس، فيذهبون بذلك إلى أبعد أسس التعايش؛ أي الفرد، وهم جميعًا متّفقون على أنّ المجتمع يجب أن يؤسّس على الأهداف الأساسيّة للإنسان، وجميعهم يبنون هذا التعايش على الحق والقانون.

يشغل سؤال التعايش وضمان حقّ الاختلاف للآخر الليبراليين والليبرتاريين من جهة، والجماعاتيين من جهة أخرى، ويكمن الاختلاف بينهما في النواة الأساسيّة الممثّلة لهذا الآخر، يعتبره الليبراليون الفرد، ويعتبره الجماعاتيون المجموعة الاجتماعيّة أو الأقليّة. هذا ما يعنينا من استحضارهم في دراسة حوارنا الإسلامي العلماني.

حين نعود إلى مقارنتنا التي أنجزناها بين العلمانيين والإسلامويين من جهة، والليبراليين والليبرتاريين والجماعاتيين من جهة أخرى، فإنّ السؤال الذي يجب أن يتحوّل الجهد نحوه هو: كيف نتعايش؟ وليس: من منّا صاحب الحق؟ فإذا كان من يمتلك السلطة يمتلك الحق وتأويله، كما يقول ابن عاشور، فإنّ هذا الحقّ يجب أن يوجّه نحو تنظيم التعايش، بين الأفراد، والمجموعات، بل الطوائف، هذا هو السؤال.