حديث "الرايات السود": التوظيف والتوظيف المضادّ


فئة :  مقالات

حديث "الرايات السود": التوظيف والتوظيف المضادّ

 حديث "الرايات السود": التوظيف والتوظيف المضادّ*


الحديث النبوي نصّ مشكل. هذا ما يمكن استنتاجه بصورة عامّة، إذا ما اطّلعنا على المجاميع الحديثيّة من جهة، وعلى الدراسات العلميّة الحديثة والمعاصرة الجادّة المتعلّقة بها من جهة أخرى. ووجه الإشكال في الحديث النبوي له أبعاد مختلفة، يضيق المقام بالتعرّض لها في هذه الورقة القصيرة، ويكفي أن نشير إلى أنّ الإشكال قد يرتبط بالأسانيد وقد يتعلّق بالمتون، وقد يتوجّه البحث إلى النظر في العوامل الّتي تقف وراء تشكّل مجموعة من الأحاديث ذات بعد سياسيّ بالأساس، لتصبح قراءة المرويّات في ضوء المعطيات التاريخيّة المتوفّرة للباحث أمرا لا مفرّ منه، ذلك أنّ منطلقنا المنهجيّ هو اعتبار الحديث النبويّ وليد عصر التدوين، وهو بالتالي واقع تحت تأثير الظرف الحضاري العام الّذي عرفه التاريخ الإسلامي بأبعاده الفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة.

في هذا السياق العامّ، يمكن تنزيل مئات الأحاديث النبويّة ذات البعد السياسي، وهي أحاديث تتخذ أشكالاً مختلفة تتراوح بين التعبير المباشر الواضح، لتصل إلى الترميز والصور أحياناً. ومن اللافت للنظر، أن يجد المتصارعون سياسيّا في المرويّات عن النبيّ ما يبرّر المواقف المتضاربة، وهو أمر بيّنه بشكل واضح، على سبيل المثال، المستشار عبد الجواد ياسين حين بحث فيما أسماه "التنصيص السياسي في العصر الأموي" و"التنصيص السياسي في العصر العبّاسي"، وهو تنصيص كما يلاحظ من العنوانين، يوحي بأنّ الخصوم السياسيين يجدون في الحديث النبوي ما يبرّر قيام دولتهم ويشرّع لها، ويردّ على الخصوم ويشوّههم[1]. والجدير بالملاحظة أنّ ذلك "التنصيص السياسي" يتجاوز ما خصّصه الرواة من أبواب الإمارة إلى أبواب أخرى في مجاميعهم، من بينها أبواب الفتن والملاحم، وهي أبواب في الحديث جمعت الكثير من المرويّات الّتي عُدّت إنذاراً من النبيّ أو تبشيراً منه بما سيقع في "آخر الزمان"، واعتبرت تلك الأحاديث من "علامات النبوّة"، غير أنّنا نحسب أنّ ذلك يندرج بامتياز ضمن التبريرات اللاحقة تاريخيّا، للتشريع لقيام خلافة أو دولة ما، أو تبرير ما وقع في التاريخ من حروب أو مقاتل[2]، فهي لها في الغالب طبيعة سياسيّة. ويمكن في هذا المجال أن نقدّم مثالاً من كتب القدامى، وتحديداً من كتاب علامات النبوّة للماوردي؛ فقد وضع الباب الثاني عشر من كتابه تحت عنوان "في إنذار النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلّم بما سيحدث بعده". وفي الباب أحاديث متعلّقة بإنذار النبيّ لعليّ بأنّه سيؤمّر ويقتل، وإنذار بولايتي أبي بكر وعمر، وبمقتل عثمان، وبشهادة طلحة بن عبيد الله، وبإعلام فاطمة بأنّها أوّل الملتحقين من أهل بيته به، وبمشاركة عائشة في حرب الجمل، وبصلح الحسن، وبمقتل الحسين بكربلاء، وبخروج المختار الثقفي، وإنذاره بالحجّاج بن يوسف، وإنذاره بولاية معاوية، وأخيرا إنذاره بولاية بني العبّاس.

وكما يمكن ملاحظته بسهولة، فإنّ الأحاديث التي نقلها الماوردي في هذا الباب مرتبطة بأمرين أساسيّين: الفتن والسياسة، هذا إضافة إلى تبرير المتناقضات من قبيل التشريع لخلافة الأمويين والتشريع لخلافة العبّاسيين في الآن نفسه.

في هذا الإطار، يمكننا تنزيل حديث مرفوع إلى النبيّ نقف عليه في مجاميع الحديث، وهو مرويّ بطرق مختلفة سندا ومتنا وسنصطلح عليه بحديث "الرايات السود"، وهو حديث عاد بقوّة اليوم إلى المنتديات الإعلاميّة والتحليليّة بحكم ما تعرفه بعض المجتمعات الإسلاميّة من ظهور جماعات تنتسب إلى ذلك الحديث، وتعتبر نفسها معنيّة به أو ببعض طرقه كما سنرى لاحقا، ونقصد جماعات من قبيل ما يسمّى "تنظيم الدولة الإسلاميّة بالعراق والشام" المعروف اختصارا بـ "داعش"، وكذلك جماعات "أنصار الشريعة"، و"جبهة النصرة" وغيرها ممّن يشتركون في "الرايات السود" التي اتّخذوها شعاراً لهم.

وقبل التعرّض إلى الروايات المتعلّقة بذلك وتوظيفها، رأينا المفيد الإشارة سريعا إلى شيء من تاريخ اتّخاذ "الرايات السود"، ودون إطناب كثير في التفصيل التاريخي، يمكن الاطمئنان إلى أنّ إبراهيم بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس، المعروف بإبراهيم الإمام، أحد قادة الكيسانيّة الثائرين على الأمويّين، هو من اتّخذ السواد شعارا للعبّاسيين سنة 125 هـ، لا أسوة بما يروى عن راية النبيّ السوداء في فتح مكّة، ولا اقتداء بما براية عليّ بن طالب في حروبه فحسب، وإنّما انسجاما أيضا مع بعض الروايات المؤكّدة لقدوم رايات سود من الشرق لمقاومة الظلم الأمويّ، وكان الشرق مدقّقا في بعض الروايات: خراسان، ذلك أنّ قائد إبراهيم الإمام كان أبا مسلم الخراساني المعروف أيضا باسم "صاحب الدعوة"، لما كان له من دور حاسم في قيام الدولة العبّاسيّة. وتعلمنا الأخبار أنّ إبراهيم خفّف من المعارضة التي قامت ضدّ أبي مسلم الخراساني بتقديمه على أنّه "من أهل البيت".

إنّ العناصر الأساسيّة هنا هي الرايات السود، والخروج من خراسان أي من الشرق، والانتساب إلى أهل البيت. وهذه العناصر هي ما تشكّل العمود الفقري لحديث "الرايات السود" الّذي كان في البداية يمجّد أصحاب تلك الرايات، بل يحثّ على اتّباعهم، باعتبارهم على الحقّ. والملاحظ أيضا أنّ أغلب تلك الأحاديث تدقّق بعض الأمور الّتي تجعلنا نذهب إلى أنّه وليد الثورة العبّاسيّة الشيعيّة في البداية، ومن الأمثلة العديدة على ذلك الحديث التالي:

"عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أتينا رسول الله (ص)، فخرج إلينا مستبشرا يعرف السرور في وجهه فما سألناه عن شيء إلا أخبرنا به، ولا سكتنا إلا ابتدأنا حتّى مرّت فتية من بني هاشم فيهم الحسن والحسين، فلمّا رآهم التزمهم وانهملت عيناه، فقلنا: يا رسول الله، ما نزال نرى في وجهك شيئا نكرهه؟ فقال: إنّا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وأنّه سيلقى أهل بيتي من بعدي تطريداً وتشريداً في البلاد، حتى ترتفع رايات سود من المشرق، فيسألون الحق فلا يعطونه، ثمّ يسألونه فلا يعطونه، ثمّ يسألونه فلا يعطونه، فيقاتلون فينصرون فمن أدركه منكم أو من أعقابكم، فليأت إمام أهل بيتي ولو حبوا على الثلج، فإنّها رايات هدى يدفعونها إلى رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، فيملك الأرض فيملؤها قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما"[3].

هذا الحديث المرويّ في أحد أهمّ مجاميع الحديث السنيّة "الصحيحة"، ينطق بتشيّعه في كلّ تفاصيله ليُختم بالإشارة إلى فكرة المهدي المنتظر من أهل البيت ويكاد يفصح عن اسمه، فاسم محمّد (يواطئ اسمه اسمي)، واسم أبيه عبد الله (واسم أبيه أبي)، هو إذن محمّد بن عبد الله، من أهل البيت، ويدّعي أنّه المهدي المنتظر؛ بيسر كبير يمكننا القول إنّ الشخص المشار إليه هو محمّد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين المعروف باسم ذي النفس الزكيّة، وهو الّذي اعتبر نفسه المهديّ المنتظر، وكان العبّاسيّون ومن بينهم أبو العبّاس السفّاح وأبو جعفر المنصور والشيعة قد بايعوه[4].

قد لا يدع البحث التاريخي مجالا للشكّ في أنّ هذا الحديث هو نتاج الثورة العبّاسيّة على الأموييّن، تلك الثورة الّتي بدأت في التبلور شيئا فشيئا مع التوّابين، ثمّ مع المختار الثقفي الّذي تنسب إليه الكيسانيّة في بعض كتب الفرق والمقالات والعقائد، ومن المعلوم أنّ الحركتين تنسبان إلى الشيعة المطالبين بدم الحسين مع التركيز على فكرتي الاضطهاد والمنقذ الإلهي المتجسّد في نظريّة المهدي المنتظر. ونحسب أنّ الأمور ستتغيّر كلّيّا بعد قيام الدولة العبّاسيّة آخذة شرعيّتها الروحيّة من القرابة من النبيّ، فرغم بقاء فكرة المهدي المنتظر، فإنّها في أحاديث عديدة أخرى ستغيب التفصيلات الموحية باسم ذلك المهدي المشار إليه في خبر الحاكم النيسابوري، إذ ستتولّد أحاديث تشيد بأصحاب الرايات السود، وتلمّح إلى العبّاسيين وأنّ المهديّ منهم، لكن مع تغييب التلميح إلى ذي النفس الزكيّة الّذي خرج هو بدوره على بني العبّاس لاحقاً، فقتله أبو جعفر المنصور.

هذه الأحداث لم تترك في صيغ الحديث إلاّ ما يلمّع صورة العبّاسيين ويدعمهم، فروي الحديث بطريقة أخرى عن ابن مسعود ونصّه: "عن عبد الله قال: بينما نحن عند رسول الله (ص) إذ أقبل فتية من بني هاشم فلمّا رآهم النبي (ص) اغرورقت عيناه وتغيّر لونه، قال: فقلت: ما نزال نرى في وجهك شيئا نكرهه. فقال: إنّا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإنّ أهل بيتي سيلقون بعدي بلاء، حتى يأتي قوم من قبل المشرق معهم رايات سود، فيسألون الخير فلا يعطونه فيقاتلون فينصرون فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه، حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي فيملؤها قسطا كما ملؤوها جورا فمن أدرك ذلك ولو حبوا على الثلج"[5]. ويروى الحديث بطرق أخرى مختصرة، ولكن يشار فيه إلى الشام بطريقة أو بأخرى؛ أي مركز حكم الأمويين، ممّا يدعم أنّها عبّاسيّة بامتياز من قبيل ما روي "عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص): تخرج من خراسان رايات سود لا يردها شيء، حتى تنصب بإيلياء"[6]. ونقف على صنف آخر من الروايات، يشير إلى مكان انطلاق الرايات السود؛ أي خراسان، ويؤكّد أنّها رايات المهدي، ولكن لا يبيّن مكان وصولها، وهذا ما نقف عليه في رواية ابن حنبل: "عن ثوبان قال: قال رسول الله (ص): إذا رأيتم الرايات السود قد جاءت من قبل خراسان فأتوها، فإنّ فيها خليفة الله المهدي"[7].

لم يدع قسم من المسلمين المعاصرين، مثل هذه الأحاديث "التمجيديّة" لأصحاب الرايات السود تمرّ دون استغلالها تبريراً لانتماءاتهم وتوجّهاتهم. ولنا على ذلك أمثلة متعدّدة، نذكر من بينها قضيّة محمّد بن عبد الله القحطاني الّذي أعلن سنة 1980 بالمملكة العربيّة السعوديّة أنّه المهدي المنتظر، مستندا إلى الحديث السابق الوارد في "المستدرك على الصحيحين" للحاكم النيسابوري، وجاء فيه مرفوعا إلى النبيّ أنّ المهديّ "يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي". وفي بداية التسعينيات تمّ استغلال هذه الأحاديث نفسها، للتأكيد أنّ أصحاب الرايات السود الممدوحين هم طالبان وأتباع أسامة بن لادن، خاصّة وأنّ راياتهم سود ومنطلقهم من خراسان أي من أفغانستان اليوم.

ما يمكن ملاحظته في مجاميع الحديث، أنّ المرويّات تدور كلّها تقريبا في هذا الفلك، وهي ذات منحى إيجابيّ لصالح "الرايات السود"، وقد تمّ استغلالها استغلالا كبيراً لدى الجماعات والتنظيمات "الجهاديّة" للاستقطاب والتعبئة والتجييش.

وعلى عكس مجاميع الحديث النبوي المشار إليها أعلاه، يبدو أنّ التحوّل الحقيقي في هذه الروايات، كان بالأساس في كتاب "الفتن" لنعيم بن حمّاد المروزي (ت 228 هـ أو 229 هـ).

لقد كان حضور "حديث الرايات السود" في كتاب نعيم بن حمّاد حضوراً لافتاً للنظر؛ ذلك أنّه خصّص له حيّزا كبيرا جدّا من كتابه ذلك أنّ المرويّات المتعلّقة بالرايات السود، لم تغب منذ بدء الحديث عن "خروج بني العبّاس" إلى بداية الحديث عن "ظهور المهديّ"[8]. ومن اللافت للنظر أيضا، أنّ الروايات المذكورة حول الرايات السود كانت سلبيّة جدّا، إذ ينطلق الحديث عن أصحابها بالخبر التالي: "عن الزهري قال: بلغني أنّ الرايات السود تخرج من خراسان، فإذا هبطت من عقبة خراسان تنفي الإسلام فلا تردّها إلاّ رايات الأعاجم من أهل المغرب (ص 115). ويشار إلى أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة العبّاسيّة بالحديث التالي: "عن الزهري قال: قال رسول الله (ص): يغلب على الدنيا لكع بن لكع. قال عبد الرزّاق: قال معمر: وهو أبو مسلم" (ص 115). ثمّ يروي عن أبي هريرة مرفوعا إلى النبيّ الحديث التالي: "إذا خرجت الرايات السود، فإنّ أوّلها فتنة، وأوسطها ضلالة، وآخرها كفر" (ص 116). وفي النفس الصفحة يروى "عن مكحول قال: قال رسول الله (ص): ما لي ولبني العبّاس، شيّعوا أمّتي وألبسوهم ثياب السواد ألبسهم الله ثياب النار".

لا نريد التمادي في هذا السرد، ولكن حسبنا الإشارة إلى وقوفنا على عشرات المرويّات في هذا الاتّجاه الساخط على أصحاب الرايات السود، وهم العبّاسيّون. وهنا نتساءل عن سرّ هذا التحوّل الكلّي في المرويّات من المديح إلى الهجاء.

الحقيقة أنّنا لا نقف على مرويّات تذمّ أصحاب الرايات السود أقدم من روايات نعيم بن حمّاد، أو على الأقلّ تعود إلى نفس الفترة، ونرجّح أنّ الانقلاب في الرواية حصل بعد تبنّي الخلفاء العبّاسيّين القول بخلق القرآن بداية من عصر المأمون، وكان نعيم بن حمّاد من أشدّ المعارضين لذلك، إلى الحدّ الّذي جعل المعتصم العبّاسي يأمر باعتقاله سنة 223 هـ، وتذكر الأخبار أنّه توفّي في سجنه مقيّداً ورافضاً القول بخلق القرآن[9]. ومن اللافت للنظر فيما يتعلّق بهذه الشخصيّة المشكلة أنّ علماء الجرح والتعديل مختلفون في شأنه اختلافا بيّناً، بل آراؤهم في توثيقه مضطربة حدّ التضارب؛ فمنهم من يدرجه ضمن الثقات، ومنهم من يجعله في عداد الضعفاء[10].

ما يهمّنا الآن، أثر عاد ليفرض نفسه اليوم، رواه نعيم بن حمّاد جاء فيه: "عن أبي رومان عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إذا رأيتم الرايات السود فالزموا الأرض، فلا تحرّكوا أيديكم ولا أرجلكم، ثمّ يظهر قوم ضعفاء لا يؤبه لهم، قلوبهم كزبر الحديد، هم أصحاب الدولة، لا يوفون بعهد ولا ميثاق، يدعون إلى الحقّ وليسوا من أهله، أسماؤهم الكنى ونسبتهم القرى وشعورهم مرخاة كشعور النساء حتّى يختلفوا فيما بينهم ثمّ يؤتي الله الحقّ من يشاء"[11].

ما جعل هذا الأثر يعود اليوم بقوّة على الساحة الإعلاميّة، وعلى شبكات التواصل الاجتماعي وغيرها من وسائل الإعلام، معارضة ما يسمّى بالدولة الإسلامية في العراق والشام: "داعش"، فقد وجد الكثيرون في هذا الأثر ما ينطبق على المنتمين إلى هذا التنظيم، فطابقوا بين الأوصاف المذكورة في الخبر، وما هو مشاهد من هيأتهم ودعوتهم وألقابهم وتسميتهم لتنظيمهم بالدولة، ومن الطريف مثلا أن تتمّ مطابقة ما جاء في الخبر من أنّ "أسماءهم الكنى وألقابهم القرى" على أبي بكر البغدادي وأبي مصعب الزرقاوي وغيرهما، وأن تقدّم صورهم مبرزة شعورهم المرخاة، ويتمّ الإلحاح على اختلافهم إلى قاعدة وجبهة نصرة وداعش، إلى غير ذلك من المطابقات.

والحقيقة، لا ينبغي أن نغفل أنّ اختيار هذا الأثر المرويّ عن عليّ بن أبي طالب هو اختيار انتقائيّ بامتياز، لأنّه يغيّب أثراً آخر يضع الخبر في سياقه التاريخيّ المخصوص، ويجعله خاصّا بظهور الدعوة العبّاسيّة، وذلك عن طريق ما يذكره من تفاصيل غابت عن أثر عليّ، فقد روي "عن أبي جعفر قال: إذا بلغت سنة تسع وعشرين ومئة واختلفت سيوف بني أميّة، ووثب حمار الجزيرة، فغلب على الشام ظهرت الرايات السود [...] ويظهر الأكبش مع قوم لا يؤبه بهم، قلوبهم كزبر الحديد، شعورهم إلى المناكب ليست لهم رأفة ولا رحمة على عدوّهم، أسماؤهم الكنى وألقابهم القرى عليهم ثياب كلون الليل المظلم يعود بهم آل العبّاس، وهي دولتهم فيقتلون أعلام ذلك الزمان..."[12].

لا مجال للشكّ في أنّ الخبر في ذمّ ظهور الدعوة العبّاسيّة سنة 129 هـ[13]، ولا شكّ أيضا أنّ المقصود بحمار الجزيرة، هو مروان الحمار، آخر خلفاء بني أميّة، وانظر اسم أبا مسلم الخراساني "صاحب الدعوة أو الدولة" تجده مطابقا للوصف: "أسماؤهم الكنى وألقابهم القرى".

لقد رغبنا هنا عن التدقيق الكبير في مسألة الأسانيد ومدى ضعفها أو قوّتها، وتبيّن الصحيح من الموضوع والمرسل والمنقطع إلى غير ذلك، ممّا دأب عليه أهل الجرح والتعديل والمنتمون إلى المؤسّسة الدينيّة، فلا نرى في ذلك حاجة، ونعتبر أنّ مثل تلك التقنية لاتاريخيّة بامتياز، تلك اللاتاريخيّة الّتي ميّزت المعاصرين من كلا الطرفين، كلاهما يقوم بعمليّة إسقاط لا تستقيم البتّة، ولا نرى في معارضة الجماعات العنيفة بإسقاطات تاريخيّة أيّ جدوى، وقد استمعنا على اليوتوب إلى العديد من معارضي داعش وغيرها يكرّرون الأثر المرويّ عن عليّ لبيان مروقهم من الدين، وهذا في حدّ ذاته إشكال، لأنّ المسألة في اعتقادنا، وبكلّ تواضع، يجب أن تتجاوز السعي الدائم إلى تبرئة الإسلام من شناعات وفظائع، نشاهدها يوميّا على شبكات التواصل الاجتماعي وعلى الفضائيّات، وهي تبرئة نلمسها في أغلب الخطابات السائدة، ممّا يجعل المسلمين دائما في موقع المدافع المنفعل "الخائف على دينه" قبل الخوف على إنسانيته، إنسانيته الّتي تفرض عليه أن ينخرط في الإنسانية بالفعل؛ أي بإنتاج المعرفة والفكر والانفتاح عوض العيش في "عالم عدائي"، لا يكون فيه الأعداء دائما من الخارج، بل أصبح اليوم أكثر من وقت مضى من داخله.


*نشرت هذه المقالة في مجلة ذوات، العدد 11، الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث

[1]- عبد الجواد ياسين، السلطة في الإسلام، العقل الفقهي السلفي بين النصّ والتاريخ، المركز الثقافي العربي، ط2، ص ص 258- 292، والأمثلة هناك كثيرة على "التنصيص السياسي"، وبأشكال مختلفة.

[2]- الماوردي، أعلام النبوّة، بيروت، دار إحياء العلوم، 1992، ص ص 153-157

[3]- الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، (كتاب الفتن والملاحم)، بيروت، دار الكتب العلميّة، 1990، ج4، ص 511

[4]- زهير هوّاري، السلطة والمعارضة في الإسلام، بيروت، المؤسسّة العربيّة للدراسات والنشر، 2003، ص 396

[5]- سنن ابن ماجة، كتاب الفتن، باب خروج المهدي، بيروت، دار الفكر [د-ت]، الحديث رقم 4082، ج2، ص 1366

[6]- سنن الترمذي، كتاب الفتن، بيروت، دار إحياء التراث العربي [د-ت]، الحديث رقم 2269، ج4، ص 531. وانظر نفس المتن في مسند أحمد بن حنبل، القاهرة، مؤسسة قرطبة، [د-ت]، الحديث رقم 8760، ج2، ص 365

[7]- مسند ابن حنبل، الحديث 22441

[8]- نعيم بن حمّاد، كتاب الفتن، تحقيق سهيل زكّار، بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1993، ص ص 115-199. (هذا الحيّز يقارب ربع الكتاب).

[9]- راجع في ترجمة نعيم بن حمّاد على سبيل المثال: الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، (د-ت)، ج 12، ص ص 306-315؛ الذهبي، سير أعلام النبلاء، بيروت، 1982، ج 10، ص ص 595-612

[10]- راجع للمقارنة: البستي، الثقات، حيدر آباد، الدكن، 1983، ج9، ص 319؛ ابن عديّ الجرجاني، الكامل في ضعفاء الرجال، بيروت، 1984، ص ص 2486-2492

[11]- نعيم بن حمّاد، الفتن، ص 120

[12]- نعيم بن حمّاد، الفتن، ص 118

[13]- راجع: الطبري، تاريخ الأمم والملوك، بيروت، دار صادر، ط2، 2005، م4، ص 1496